يلتمس الناس النور في الظلام، والتائه الضائع في الصحراء يبحث عن دليل يسلكه لطريق السلامة، وقد ينخدع في لمعان الشراب فيهلك. وهذا المثل ينطبق على الحياة وعلى الإنسان وما يتخذه من طريق، فمنهم من يسلك طريق الحق وهو طريق الله سبحانه وتعالى، ومن يتبع شهواته أو الشبهات فيضيع ويضل، وطريق الله المستقيم النوراني قد أوضحه وبيّنه عز وجل، حاشاه يترك عباده دون بيان. وقد جاءت هذه الأدلة على طريق الحق في كتاب الله وعلى لسان نبيه (ص)، وفي بعض الأحيان كان الدليل على الطريق الإلهي تضحية كبرى أو استشهاد لأحد الأئمة أو الأولياء.
ومع تواتر الروايات التي تحدثت عن هذا الأمر يبقى التطبيق العملي هو خير مثال، ويمكننا القول: إن الثورة الحسينية كانت أوضح مثال ودليل على هذا الطريق إلى الله، وهذا النور الإلهي الذي يهدي البشرية الذي تحدثنا عنه في المقدمة، فالحسين (ع) قدّم حالة فريدة لم تتكرر عبر التاريخ، يمكن تشبيه هذه الحالة بالنجم الذي يسري في السماء ليضيء لأهل الأرض ما هم فيه من ظلام، وبعدها يمضي هذا النجم ولا يعود إلى الأبد، بينما أثره يبقى موجودًا ويتذكره أهل البصيرة.
المدرسة الحسينية وسماتها الفريدة.
انفردت المدرسة الحسينية عن غيرها من التجارب الإنسانية بأن الإمام الحسين (ع) اختار ما عند الله، وكانت أمامه خيارات الدنيا وزينتها وزخرفها، وكانت أمامه خيارات المساومة والمهادنة، أو حتى التقية أو المعارضة الآمنة، إلّا أن اختار أن يمثل الخير كله ليكون لمن خلفه من المؤمنين آية، فحتى اليوم يعتبر موقف الإمام الحسين مثالًا واضحًا على التضحية والفداء، وعدم النفاق والرضا بالظلم، ولذلك دلّت الثورة الحسينية على أن طريق الله سبحانه وتعالى هو طريق الفداء والوفاء والإخلاص، كما أن النهج الحسيني الفريد قد شهد التضحية بالنفس والمال والولد، لم يدخر الإمام شيئًا للحياة الدنيا، بل أعطى وقدّم كل شيء لينال الجزاء الأوفى في الآخرة، وهي الحياة الحقيقية كما أشار القرآن الكريم.
فتجربة الإمام الحسين(ع) غير مسبوقة كما أنها لم تتكرّر في أهدافها المنشودة وفي أساليبها، وبالتالي في النتائج المترتبة عليها ومنها بالقطع الجزاء والنعيم في الجنة.
ويتضح لصاحب النظرة الفاحصة، أن الثورة الحسينية تمتاز عن غيرها من التجارب التاريخية بالسمة الربانية، فلم يطلب الإمام الحسين (ع) الملك أو امتيازات مالية أو قبلية، وإن كان هذا الجانب لا يمثل انتقاصًا، ولكنه يعطي أفضلية نسبية للثورة الحسينية عن غيرها ويمنحها السمة الربانية، فموسى (ع) طلب من فرعون الخروج ببني إسرائيل لينجو قومه من عذاب فرعون، وهي بالقطع فائدة لقومه، صحيح أن كل شيء بأمر الله وما فعله موسى (ع) بوحي من الله، ولكن بالمقارنة مع ثورة الإمام الحسين(ع) كحركة اجتماعية تاريخية، فإن الثورة الحسينية ترجح كفتها، والدليل على ذلك أن موسى (ع) طلب من الله سبحانه وتعالى أن يبعث أخيه هارون ليعينه، بينما ضحى الحسين بنفسه وجاد بآل بيته. وبالنظر في قصة نوح (ع) وولده الكافر نجدها دعوى ربانية، ولكن شابها ودخلها أغراض دنيوية، وكذلك قصة إبراهيم (ع) فقد كان لخليل الرحمن همًّا عائليًّا، كما أن الوسط المحيط بدعوة الخليل (ع) لم يساعده على تحقيق التغيير الاجتماعي المرجو من الرسالة الإلهية بجانب تأثيرها الديني بالطبع.
وبالإضافة إلى السمة الربانية فإننا نجد المطالبة بإقامة العدل والإصلاح سمة أساسية أخرى، فقد عاهد الإمام علي معاوية بن أبي سفيان، وصالح الإمام الحسن معاوية على شروط منها أن يكون الأمر شورى بين المسلمين كما أنزل الله في كتابه الكريم، ولما نقض معاوية العهود والمواثيق وقدّم ابنه الفاجر لولاية الأمر، فكان لا بدّ من تصدي له وإظهار الحق، فالتوريث بدعة والشورى أمر قرآني، ولو قبل الحسين (ع) بحكم الظالمين لكان ذلك مسوغًا لمن بعده أن يقبل بالظلم ويخضع ويستسلم، وهذه الأمور ليست في قاموس الثورة الحسينية التي نبتت على مبادئ التربية المحمدية.
سمات مدرسة عاشوراء.
أحدثت موقعة كربلاء زلزالًا مدوّيًا في الفكر الإسلامي وقف أمامها الباحثون طويلًا، فكيف لرجل ادّعى الإسلام كيزيد الطاغية الفاسق أن يأمر أو حتى يحرّض على قتل سبط النبي (ص)، والأدهى من ذلك أنه وجد له أعوانًا من شياطين الإنس أمثال ابن مرجانة والشمر وغيرهم من القائمة الإجرامية الجهنمية، وقد ذهب بعض الباحثين لفكرة سطوة السلطة وزهوة الحكم والقبلية، وربطوا بينها وبين الطلقاء من بني أمية، إلا أن المحققين في تلك المسألة وجدوا أن بني أمية قد سوّغوا أفعالهم المناقضة للشرع الشريف بمذهب اعتقادي باطل انتحلوه وهو “القدرية”؛ أي إن كل شيء مقدّر ومكتوب من الله عز وجل، وبهذا الفكر السقيم أصبح المحسن لا فضل له، والمسيء لا ذنب له، ودخول الجنة والنار والحساب أمر لا قيمة له ما دام المرء بلا اختيار فكيف يحاسبه الله، وهذا إن لم يكن خلل في أصل الاعتقاد فإنه انتقاص من قدر الله عز وجل وحكمته وعدالته، ولو مددنا الخط على استقامته فإن ضعيف الإيمان لن يدرك حكمة الله في خلقه. وفساد الاعتقاد كان سببًا رئيسيًّا فيما قام به الأمويين من جرائم، وما أحدثوا من بدع وضلالات، فكثير منهم مضطرب غير سوي نفسيًّا، فضلًا عن الانحراف العقائدي والفساد السلوكي.
ولكل هذه الأسباب يمكننا اعتبار أن حكمة الله اقتضت خروج الإمام الحسين (ع) ومعه آل بيته وما قدموا من تضحيات عظيمة لتصويب الانحراف في مسار الاعتقاد الذي طرأ على المجتمع المسلم بسبب ما أحدثه بني أمية من بدع عقائدية وتشوهات في البنية الاجتماعية للمجتمع المسلم.
ولم تكن عاشوراء مجرد حادثة نتألم فيها لمصاب آل البيت (ع)، أو نفرح باستشهاد الإمام الحسين (ع) ونيله الشهادة وأعلى درجات الجنة، بل إن عاشوراء مدرسة نتعلم منها كيف نحيا، وكيف نعيش، وكيف نواجه مشكلاتنا، وكيف نقاوم، هل نتعامل بالمنطق الأموي القائم على المصلحة، أم نتعامل بالمبادئ والقيم العليا الحسينية؟
ولذلك فإن التوقف عند حادثة عاشوراء ومجرد التركيز على طقوس وشعائر يعد فهمًا قاصرًا ينمّ عن عقل لم يستوعب الثورة الحسينية بشكل كامل وما صاحبها من تغيير اجتماعي. ومن السلبيات المترتبة على ذلك مخالفة سلوك كثير من الناس وتذبذب في الأفكار والممارسات، فهؤلاء لم يدخلوا مدرسة عاشوراء ولم ينتهوا من فهم المنهج الحسيني بشكل كامل، ولو حدث ذلك كنا سنرى في مجتمعاتنا النماذج الحسينية التي تخرجت من مدرسة عاشوراء مثل سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله، وشهداء المقاومة في لبنان وفلسطين.
ومن أهم سمات مدرسة عاشوراء أنها متجددة، فقد تخرّج رعيلها الأول من أمثال الحر الرياحي، والمختار الثقفي، وسليمان بن صرد الخزاعي قائد التوابين في مواجهة نماذج مثل شبث بن ربعي وأمثاله الذين كره الله انبعاثهم فثبطهم.
وقد تابع السير على المنهج الحسيني ومدرسة عاشوراء كثير من الصادقين والصالحين مثل زيد بن الإمام زين العابدين وقد صلبه بنو أمية في عهد هشام بن عبد الملك، وكما يقال بضدها تتميز الأشياء فسلالة مروان بن الحَكم قد فعلت بآل البيت مثل ما فعل مروان ويزيد وغيرهم من النواصب، وهو منهج الشر في مواجهة منهج الحسين (ع) وأصحابه كأبي الفضل العباس ومسلم بن عقيل وغيرهم من المؤمنين الأولياء الصالحين.
دروس عاشوراء في حياتنا المعاصرة.
علمتنا مدرسة عاشوراء التضحية والفداء والإيثار، فكما يقول الفقهاء والعلماء إن الاقتداء بالحسين (ع) وبزينب (ع) في مأساتهم يهوّن على الإنسان أي مصيبة، فمهما عظمت مصيبته لن تكون بقدر ما كابده أهل البيت من آلام، وكذلك نخرج من عاشوراء بدرس هام أن محبة آل البيت (ع) تتخطى حدود الزمان والمكان، ومثال على ذلك الذين هاجروا مع الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، ومن تبعهم لزيارة مرقده الشريف، وبعض أهل مصر من الأولياء والصالحين المحبين لأهل البيت يقولون إذا اشتقنا لزيارة رسول الله (ص) في المدينة المنورة زرنا مساجد آل البيت.
وعلى كل فرد مسلم أن ينظر إلى عاشوراء كحالة متجددة كل يوم، ويوطّن نفسه بشكل يومي أن يكون في صف الحسين بقول كلمة الحق، وعمل الخير والإيثار ونصرة المظلوم والصبر على المكاره في سبيل الله، وصلة الأرحام.
هذه الأخلاق الحسينية والتي يتعلمها المؤمن من مدرسة عاشوراء هي التي منحت أهل جنوب لبنان الثبات والصمود في وجه العدو الصهيوني، الثورة الحسينية وحب الشهادة والصبر على الأذى في سبيل الله هي كلمة السر في صمود المجاهدين في غزة. هذه الدروس والعبر تظهر في صمود الشعب اليمني الذي أعلن تقاسم رغيف الخبز مع الفلسطينيين، وقد تعجب من ذلك سماحة الشهيد السيد حسن نصر الله مخاطبًا السيد عبد الملك الحوثي أثناء خطابه في أيار عام 2021 بمناسبة ذكرى عيد المقاومة والتحرير (عام 2000): “يا سيدنا هل لديكم أنتم الخبز أصلًا حتى تقسموه بينكم وبين الشعب الفلسطيني وأنتم محاصرون ومحاربون؟…”.
وقد أظهر الشعب الإيراني روحًا حسينية في مواجهاته الأخيرة مع الاحتلال وثباته خلف قيادته.
وتمتد دروس مدرسة الحسين في عاشوراء لتشمل كل دقائق حياتنا اليومية، ويجب أن نضع أنفسنا أمام أسئلة عاشوراء وسيرة الإمام الحسين (ع) لنلزم أنفسنا بالسير عليها، أو تقويم أنفسنا إذا انحرفنا عن هذا الطريق وخرجنا عن جادة الصواب.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
