روحانيات الصوم لجهاد النفس وتزكية الأخلاق

مقدمة
جاء الإسلام بالتوحيد والعدل ومكارم الأخلاق؛ ولا دين لمن لا أخلاق له؛ وكما أن الصلاة الركن الأول في الإسلام؛ يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم؛ وعبادة الصوم شهر كل عام؛ ويتطوع من يشاء ويجتهد في الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج والعمرة.
والصوم عبادة فردية وجماعية؛ يتطهر بها المسلم الفرد لتصير الجماعة صالحة؛ وكل عبادة تحتاج للإخلاص وتطهير النفس وتزكية الروح؛ ومنها شعيرة الصوم.
حول شهر الصوم.
شهر رمضان ليس مجرد شهر للصيام عن الطعام والشراب، بل هو رحلة روحية يتجدد فيها الإيمان، وتتطهر فيها النفوس، ويتقرب العبد من ربه عبر العبادة والطاعات.
فالصوم أكثر من امتناع عن الطعام: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 183).
فالصيام في جوهره ليس مجرد امتناع عن الأكل والشرب من الفجر حتى المغرب، بل هو تهذيب للنفس وارتقاء بالروح، فهو يعلّم الصبر، ويذكّر الإنسان بنعم الله، ويقوي الإرادة والعزيمة.
وفي هذا الشهر، يجد المسلم فرصة لمراجعة ذاته وتصحيح مساره، حيث يقلل من الانشغال بالدنيا وينشغل أكثر بالعبادات والتأمل في الحكمة من الصيام، ثم يلزم بعد رمضان بالأسس الإيمانية الروحية، وفوق ذلك يكون الفرد نواة للجهاد بالنفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الحق ونصرة الأمة.
ليالي شهر رمضان.. نفحات إيمانية لا تُنسى.
من أبرز ما يميز شهر رمضان هي لياليه التي تفيض بالروحانية، حيث تمتلئ المساجد بالمصلين، وتعلو الأصوات بقراءة القرآن والدعاء، في مشهد مهيب يعكس وحدة المسلمين وتآزرهم. كما تُعد ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، محطة إيمانية عظيمة يسعى فيها المسلمون للاغتنام من رحمات الله وبركاته.
القرآن في شهر رمضان.. نورٌ يضيء القلوب.
يُعرف شهر رمضان بأنه “شهر القرآن”، فقد نزل فيه كلام الله على نبيه محمد (ص)، ما يجعل تلاوة القرآن وتدبر معانيه من أهم العبادات التي يحرص عليها المسلمون. ويُلاحظ أن الأجواء الرمضانية تخلق بيئة مناسبة لختم القرآن أكثر من مرة، سواء في الصلاة أو أثناء الجلوس مع العائلة أو حتى عبر الاستماع إليه في المجالس الهادئة.
الزكاة والصدقات.. طهارة للمال والنفس.
تتجلى في شهر رمضان أروع صور التكافل الاجتماعي، حيث يحرص المسلمون على دفع الزكاة وإخراج الصدقات للفقراء والمحتاجين. وهذا الشعور بالمسؤولية اتجاه الآخرين يعزّز الرحمة والتراحم بين أفراد المجتمع، ويجعل من شهر رمضان شهرًا للتضامن والتعاون.
روحانيات الإفطار والسحور.
لا تخلو لحظات الإفطار والسحور من أجواء روحانية خاصة، فمع أذان المغرب، يرفع الصائمون أيديهم بالدعاء، شكرًا لله على إتمام يوم من الصيام، في لحظة يفيض فيها القلب بخشوع وسكينة.
أما السحور، فيحمل طابعًا روحانيًّا مختلفًا، حيث يستشعر المسلمون بركة هذه الوجبة التي تعينهم على الصوم، مع الأجواء الهادئة التي تسبق آذان الفجر.
الصوم.. فرصة للتغيير والتوبة.
من أعظم النعم في شهر رمضان، أنه يُمثل فرصة للتغيير والتوبة، حيث يُقبل الكثيرون على تصفية قلوبهم من الأحقاد، وترك العادات السيئة، والسعي إلى حياة أقرب إلى الله. فالأبواب مفتوحة، والرحمة واسعة، والدعاء مستجاب، مما يجعل شهر رمضان شهر الانطلاقة الحقيقية نحو حياة مليئة بالإيمان والتقوى. قال النبي (ص): “إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين” (رواه البخاري).
الصوم مدرسة للروح.
شهر رمضان ليس مجرد ثلاثين يومًا، بل هو مدرسة إيمانية وروحية تمتد آثارها لما بعد انتهائه. فمن استطاع أن يستشعر روحانياته ويعيشها بصدق، سيجد نفسه أكثر صفاءً، وأقرب إلى الله، وأكثر حرصًا على الخير بعد رحيله. فهنيئًا لمن أدرك شهر رمضان بروحه قبل جسده، وجعل منه نقطة تحول نحو الأفضل.
حتى لا يتحول صيام شهر رمضان من عبادة إلى عادة.
مع حلول شهر رمضان المبارك، تتزين الأجواء بنفحات إيمانية، وتتجدد القلوب بذكر الله، وتهفو النفوس إلى الطاعات، لكن في خضم هذا الاستعداد الروحاني، قد يقع البعض في خطأ تحويل الصيام إلى مجرد عادة سنوية، يؤديها دون استشعار لمقاصدها العظيمة. فالصيام مدرسة تربوية وروحية، تهدف إلى تهذيب النفس والارتقاء بالروح.
الصيام بين العادة والعبادة.
العادة – كما ذكرنا – هي ما يفعله الإنسان بشكل تلقائي ومتكرر، دون وعي عميق بمقاصده أو دوافعه، وعندما تتكرر العادة يتلاشى الخشوع وتبقى العادة في الطاعات جنبًا إلى جنب مع الذنوب والمعاصي، فيعيش المرء مزدوج الروح والعقل والوجدان.
أما العبادة، فهي عمل يُقصد به التقرب إلى الله، مع استحضار النية والإخلاص، والشعور بمدى تأثيره على القلب والسلوك.
إن أخطر ما قد يقع فيه الصائم أن يصبح صيامه طقسًا شكليًّا، يؤديه كما اعتاده منذ الصغر، دون أن يلامس جوهره الحقيقي. فترى البعض يصوم كما يصوم الجميع، يفطر كما يفطر الجميع، ويؤدي العبادات كما اعتاد عليها، دون أن يُسائل نفسه: هل تغيرتُ في شهر رمضان؟ هل قربني صومي من الله؟ هل تحققت معاني التقوى في حياتي؟
مقاصد الصوم في الإسلام.
شرّع الله سبحانه وتعالى الصوم لحكمة عظيمة، وجعل غايته تحقيق التقوى، فالتقوى هي الغاية الكبرى من الصيام، وهي التي تميز الصائم الذي يصوم عبادةً عن الذي يصوم عادةً.
فالمسلم الذي يستشعر هذه الغاية، ستنعكس على أخلاقه وسلوكياته، وسيشعر بأن صيامه يهذب نفسه، ويقوي إرادته، ويعلمه الصبر والانضباط.
علامات تحول الصوم إلى عادة.
هناك بعض العلامات التي تدل على أن الصيام أصبح عادة لا عبادة، ومنها:
- غياب النية الصادقة: أن يصوم الإنسان دون استشعار أنه يفعل ذلك امتثالًا لأمر الله وتقرّبًا إليه.
- الانشغال بالمظاهر أكثر من الجوهر: كأن يصبح شهر رمضان شهر الولائم والمسلسلات، بدلًا من شهر الطاعات والتقرب إلى الله.
- عدم التأثر بالصيام أخلاقيًّا: فالصيام ليس فقط عن الطعام، بل عن الغيبة والنميمة والغضب، فحين يصوم الإنسان ولا يتغير سلوكه، فهذا مؤشر على غياب روح العبادة.
- الشعور بأن الصوم مجرد روتين؛ فإذا لم يكن هناك شغف بالقيام، ولا لذة في قراءة القرآن، ولا إحساس بالسكينة، فهذا يعني أن الصيام تحول إلى عادة فاقدة للروحانية.
كيف نجعل صومنا عبادة خاشعة؟
لكي نحافظ على روحانية الصيام، ونجعل منه محطة إيمانية متجددة، لا بدّ من اتباع بعض الخطوات التي تعيد للصيام معناه الحقيقي:
- تجديد النية والإخلاص: قال النبي (ص): “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” [متفق عليه]. فليكن صيامنا ابتغاء مرضاة الله، وليس مجرد تقليد للمجتمع.
- التدبر في معاني الصيام: علينا أن نتأمل في حكمة الصيام، وكيف أنه يعلمنا الصبر، ويذكرنا بنعم الله، ويجعلنا نشعر بمعاناة الفقراء.
- الاجتهاد في العبادات: فشهر رمضان فرصة عظيمة لمضاعفة الأجر، فلا ينبغي أن نكتفي بالصيام فقط، بل نسعى إلى قراءة القرآن، والقيام، والدعاء، والاستغفار.
- تحقيق التقوى في السلوك: قال النبي (ص): “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم” [متفق عليه]. فالصيام الحق هو الذي ينعكس على أخلاقنا وتعاملاتنا.
- عدم الانشغال بالمظاهر الدنيوية: للأسف، تحول شهر رمضان عند البعض إلى موسم للطعام والمسلسلات والتسوق ووسائل الترفيه الأخرى، بينما كان السلف الصالح ينشغلون فيه بالعبادة والذكر والقرآن.
كان أهل البيت (ع) والصحابة يعيشون شهر رمضان بروحانية خاصة، فكان أحدهم يقول: “كنا نعدّ شهر رمضان فرصة للمغفرة والعتق، فكيف لا نبذل فيه كل الجهد؟”. وكانوا يقولون: “إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.
أما الإمام مالك فكان إذا دخل شهر رمضان، ترك مجالس العلم، وتفرّغ للعبادة وتلاوة القرآن، وكان يقول: “رمضان شهر القرآن، فلا يليق أن يُشغل فيه القلب بغيره”.
شهر رمضان شهر المقاومة.
من الفضائل الرمضانية أن كل المعارك الحاسمة التي خاضها النبي (ص) كانت في شهر رمضان؛ مثل غزوتي أحد وفتح مكة المكرمة؛ وكانت من دلائل القوة الإيمانية؛ مثلما حمل الإمام علي بن أبي طالب (ع) باب حصن خيبر بقوة الإيمان ورسوخ العقيدة.
وفي النهاية، شهر رمضان فرصة لا تتكرر.
شهر رمضان ليس مجرد أيام تمضي، بل هو هدية من الله، وفرصة للتغيير والإصلاح. فمن أدرك معانيه الحقيقية، خرج منه بروح نقية، وإيمان متجدد، وسلوك أرقى.
أما من جعله عادة بلا عبادة، فقد فاته خير كثير.
المقالات المرتبطة
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه 5 –
إنّ الفقهاء لا يتميزون عن الناس في خضوعهم لسياسات الحكومة المنتخبة وينحصر دورهم في استنباط الأحكام، وفي القضاء الصلحي بين الناس، والدعوة إلى الخير…
قراءة في كتاب “القوانين القرآنيّة للحضارات”
أولًا: الشكل الخارجي للكتاب إنّ الكتاب الذي بين أيدينا هو كتاب معنون بـ “القوانين القرآنية للحضارات” كعنوانِ أصلي، بالإضافة إلى
الروحانيّة المعاصرة (1)
من ضمن الوصايا التي دعا إليها دميتري إتسكوف رجل الأعمال الرّوسي “أن يتجاوز الإنسان طبيعته البشريّة، ويصبح إنسانًا خارقًا، خالدًا، فضائيًّا، ثم يصبح (الإنسان الإله) و (مبدع الأكوان والعالم)