التواصل الفكري الإسلامي مع الحضارة الإغريقية (1)

مقدّمة الدراسة
مثلت الحضارات السابقة على الإسلام أحد العوامل الهامة في تشكيل المنجزات الفكرية للحضارة الإسلامية، فمع توسع الدولة الإسلامية الجغرافي والسياسي، أصبحت هناك شعوب غير عربية ذات حضارات سابقة مغرقة في عراقتها، وتجربتها محكومة بواسطة المسلمين، واعتنق بعضهم الإسلام دون أن ينفصل – بكل تأكيد – عن تراثه الحضاري السابق بالكامل، هذا التداخل الإنساني الجديد بين المسلمين العرب وغيرهم من مسلمي القوميات الأخرى، وحتى التعامل مع غير المسلمين، أدى إلى طرح العديد من التساؤلات العقائدية والفلسفية التي دفعت المفكرين المسلمين للبحث عن إجاباتها، سواء في الكتاب أو السنة، أو من خلال مناهج أخرى لا تتعارض من ناحية الجوهر مع الأصول الإسلامية في إطار المناقشات الفكرية والثقافية التي اتسم بها واقع الحضارة الإسلامية بشكل عام.
من ناحية أخرى، أجبر هذا التوسع الدولة الإسلامية على ضرورة تطوير أوضاعها الإدارية والعلمية في مواجهتها للعدو البيزنطي الخارجي، وقد اعتمد العلماء المسلمون في البداية على المنجزات العلمية التي خلفتها هذه الحضارات، وقاموا بتكييفها بحيث تناسب القواعد والواقع الإسلامي الجديد، وهو ما دفعهم في مرحلة لاحقة إلى أخذ زمام المبادرة في تطوير هذه العلوم القديمة، والتوصل إلى قوانين جديدة اعتمدوا فيها على أبحاثهم وتجربتهم الخاصة.
لقد كانت الحضارة الإغريقية أو اليونانية هي الأكثر تأثيرًا في المفكرين المسلمين، منذ بداية العصر العباسي، حيث اتسمت المرحلة الأولى للدولة العباسية بحالة الاستقرار السياسي التي سمحت للخليفة المأمون باتخاذ إجراءات ضخمة في ترجمة الفكر الإغريقي، وذلك في محاولته إشاعة الحكمة والعلوم القديمة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية لتحقيق أكبر قدر من الفائدة والوعي بين المسلمين لمواجهة التيارات المعادية للإسلام من أصحاب الحضارات الأخرى، ولقد أدت الخطوة الأخيرة إلى الانفتاح الكامل على الحضارة الإغريقية، ومع امتلاك المفكرين المسلمين لعقلية نقدية إزاء هذه النصوص في إطار حرصهم على التوفيق بينها وبين النصوص الشرعية الإسلامية، فقد ظهرت الاتجاهات العلمية والفلسفية المتنوعة في تبنيها لمثل هذه المناهج، وتطور الأمر أخيرًا إلى بروز الآراء الفلسفية والعلمية المستقلة في الوسط الإسلامي، ونبغ فلاسفة مسلمون كان لهم الفضل الأكبر في نقل التراث اليوناني، كما أن هؤلاء الفلاسفة كان لهم الدور الأكبر في نقل الحضارة الإسلامية لتكون نواة الحضارة الأوروبية الحديثة.
إن دراسة التواصل بين الفكر الإسلامي والحضارة الإغريقية يجب أن يعتمد في الأساس على تحديد بداية التأثير الإغريقي في الحضارة الإسلامية، كما لا بدّ من مناقشة مراحل تطوره، وأخيرًا النتائج التي ترتبت على هذا التواصل المعرفي في الوسط الإسلامي، وخاصة من الناحيتين العقائدية والفلسفية، وتناقش هذه الدراسة المباحث الأربعة الآتية:
المبحث الأول: أثر الحضارة الإسلامية في النهضة الأوروبية.
المبحث الثاني: الحضارة الإغريقية وتأثرها بالحضارات السابقة.
المبحث الثالث: ترجمة العلوم الإغريقية في العهد العباسي.
المبحث الرابع: نتائج التأثير الإغريقي في العلوم الإسلامية وأبرز علماء المسلمين.
المبحث الأول: أثر الثقافة العربية في النهضة الأوروبية.
قبل أن نكتب عن التواصل بين الحضارة الإسلامية وحضارة اليونان، وما أسهمت به الحضارة الإسلامية في الحضارة الغربية المعاصرة، لا بدّ من ذكر الأثر الفعّال الذي تركه المسلمون للإنسانية من فكر وثقافة، في العلوم والمعارف والعمران والفلسفة، ولا غرو، فإن المسلمين قدّموا للبشرية روعة العلم، وأيضًا منهج الروح، والتواصل الحضاري قضية مسلّمة بها في تاريخ البشرية.
إن التاريخ سلسلة من الحلقات المتصلة بعضها ببعض، وكما أن الثقافة اليونانية أو الإغريقية القديمة كان لها أثر في الفكر الإنساني، فإنها أيضًا تأثّرت بما قبلها من الفكر القديم عنها، والحضارة الإسلامية كان لها أثر فاعل وكبير ومؤثر في الفكر الإنساني، بعد أن تفاعلت مع الثقافات السابقة عليها ومن ضمنها الفكر الإغريقي، فقد أخذت من الفكر اليوناني ما يتفق مع الإسلام، ورفضت من يخالفه، لأن الحضارة الإسلامية تميزت بأنها حضارة وحي، وحضارة عقل، فكان أن هضمت الفكر اليوناني، وتأثرت به، ثم أنتجت فكرًا إسلاميًّا إنسانيًّا خالصًا، كان له الفضل والأثر في الحضارة المعاصرة بداية من عصر النهضة الأوروبية، وذلك بعد ترجمة كتب علماء المسلمين للغات الأوروبية وتقديمه للغرب، فكانت النواة التي بدأت بعصر النهضة وما تلاها من فكر غربي سائد اليوم، وقد شهد المنصفون من مفكري الغرب بحقيقة الأثر الفعّال للحضارة الإسلامية في الحضارة الغربية برمتها، ففي بحثه عن أثر الثقافة الإسلامية في الغرب المسيحي، يقول الكاتب ت. كولريونج (T. C. young): “إن الدَّين الثقافيَّ العظيم الذي ندين به للإسلام، منذ أن كنا نحن المسيحيين، داخل هذه الألف سنة، نُسافر إلى العواصم الإسلامية، وإلى المعلمين المسلمين ندرس عليهم الفنون والعلوم وفلسفة الحياة الإنسانية، يجب التذكيرُ به دائمًا، وفي جملة ذلك تراثنا الكلاسيكي الذي قام الإسلام على رعايته خير قيام، حتى استطاعت أوروبا مرةً أخرى، أن تتفهمه وترعاه، كل هذا يجب أن يمازج الروحَ التي نتجه بها ـ نحن المسيحيين ـ نحو الإسلام، نحمل إليه هدايانا الثقافية الروحية، فلنذهب إليه في شعورٍ بالمساواة نؤدي إليه الدَّين القديم، ولن نتجاوز حدود العدالة إذا نحن أدّينا ما علينا بربحه، ولكننا سنكون مسيحيين حقًّا إذا نحن تناسينا شروط التبادل، وأعطينا في حبّ واعتراف بالجميل”(1)، لقد قامت الثقافة العربية الإسلامية بدورها الطليعي خير قيام في بناء النهضة العلمية العالمية، وقد نقل العلماء العرب والمسلمون التراث الإغريقي وغيره من ألوان التراث العلمي الذي تقدّم عليهم في التاريخ، نقلوه إلى اللغة العربية، التي كانت لغة علم وثقافة، وأثّر العلماء العرب والمسلمون في النهضة الأوروبية، وكان طابع الثقافة العربية الإسلامية غالبًا وواضحًا ومؤثّرًا في عديد من المجالات العلمية والفكرية والثقافية، مثل ابتكار نظام الترقيم والصفر والنظام العشري، ونظرية التطور قبل “داروين” بمئات السنين، والدورة الدموية الصغرى قبل “هارفي” بأربعة قرون، والجاذبية والعلاقة بين الثقل والسرعة والمسافة قبل نيوتن بقرون متطاولة، وقياس سرعة الضوء وتقدير زوايا الانعكاس والانكسار، وتقدير محيط الأرض، وتحديد أبعاد الأجرام السماوية، وابتكار الآلات الفلكية، واكتشاف أعالي البحار، ووضع أسس علم الكيمياء، ويمكن القول إجمالًا: إن الثقافة العربية الإسلامية كانت واسطة العقد بين العلوم والثقافات القديمة وبين النهضة الأوروبية؛ فالفكر العربي الإسلامي، والثقافة العربية الإسلامية، سلسلة متّصلة الحلقات، امتدّت من الحضارات القديمة، من مصرية، وآشورية، وبابلية، وصينية، إلى حضارة الإغريق والإسكندرية، إلى العصر الإسلامي الذي تأثّر علماؤه بمن تقدّمهم، وأثّروا بدورهم فيمن لحقهم من علماء النهضة الأوروبية، الذين قرأوا أعمال العلماء العرب في كتبهم المترجمة إلى اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية.
لقد حافظت الثقافة العربية الإسلامية على الثقافة اليونانية من الضياع (2)، إذ لولا المثقفون والعلماء العرب، لما وصلت إلى أيدي الناس مؤلفات يونانية كثيرة مفقودة في أصلها اليوناني ومحفوظة بالعربية، ولقد ظلّ الغرب يشتغل على الثقافة العربية، حتى بعد أن تقلّص ظلّها في الأندلس بجيلين أو أكثر حتى وصل إلى العصور الحديثة، وظلت الثقافة العربية الإسلامية تستهوي الكثيرين من أبناء العالم الغربي، إذ لم تتوقف الترجمة عن العربية في عصر النهضة وما بعد عصر النهضة، رغم الاتصال المباشر بالعالم اليوناني والحضارة اليونانية اعتبارًا من منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، عندما بدأت الكتب اليونانية تُنقل رأسًا إلى اللاتينية من دون الاستعانة بالترجمات العربية، فالثقافة العربية لها قيمتُها وشخصيتها، فقد أنتجت الكثير مما لم تستطع الثقافة اليونانية إنتاجه في الحقول كافّة: إضافات وتعليقات وابتكارات واكتشافات عربية لم يعرفها اليونان.
إن حركة النقل من الثقافة العربية الإسلامية، التي خرجت بها أوروبا من عصورها المتوسطة المظلمة إلى عصورها الحديثة المتنورة، لم تقتصر على “نقل” المعارف القديمة من يونانية وهندية وبابلية ومصرية، من كتب باللغة العربية إلى اللغة اللاتينية فحسب.
إن أوروبا المسيحية قد “نقلت” أيضًا معارف عربية خالصة، كما نقلت أنماطًا من الحضارة الإسلامية، ومن الإيمان الإسلامي إلى حياتها العامة وحياتها الخاصّة، ولو أن الكنيسة الكاثوليكية لم تضع ثقلها إلى جانب الفِرنجة في معركة تُورَ سنة 114هـ (732م)، لعمَّت الحضارةُ الإسلامية والثقافةُ العربية الإسلامية في أوروبا منذ ذلك الزمن الباكر، ولوفَّرت الكنيسة الكاثوليكية على العالم نِزاعًا طويلًا، وشقاءً مريرًا.
لقد انتشرت الثقافة العربية الإسلامية في العالم الغربي، ونهل علماء أوروبا من المصادر العربية الأصلية، ووجدوا أنها تراثٌ علميٌّ عظيمٌ، فاشتغلوا بدراسته وتحليله، ولقد كان العرب والمسلمون يمثّلون العلم الحديث بكل معنى الكلمة، كانوا روّادًا في المناهج العلمية الحديثة، وقد اكتسب المثقفون والعلماء في أوروبا من الثقافة العربية الإسلامية، أكثر من مجرد المعلومات، إنهم اكتسبوا العقلية العلمية ذاتَها بكل طابعها التجريبي والاستقرائي، بحيث وجد الأوروبيون في التراث العربي الإسلامي وفي الثقافة العربية الإسلامية ضالتهم المنشودة، فعكفوا على نشره.
إن الانبهار بحجم تأثير الثقافة العربية الإسلامية في النهضة الأوروبية، وفي الثقافة والعلوم الأوروبيَيْن، جعل مفكرةً عالمةً ألمانيةً تصدع بهذه الحقيقة بقولها: “إن تلك الحضارة الزاهرة التي غمرت بأشعتها أوروبا عدّة قرون، تجعلنا نعجب أشدّ العجب؛ إذ هي لم تكن امتدادًا حضاريًّا لبقايا حضارات غابرة، أو لهياكل حضارية محلية على قدر من الأهمية، أو أخذًا لنمط حضاري موجود، أو تقليدًا يُنسج على منواله المعهود، كما نعرف في الأقطار الأخرى مهد الحضارات في الشرق، إن العرب بثقافتهم هم الذين أبدعوا هذه الروعة الحضارية إبداعًا”(3).
وبينما كانت أوروبا ترتع في غياهب العصور الوسطى، كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها، لقد أسهم الإسلام كثيرًا في تقدّم العلم والطب والفلسفة، وقال (ويل ديورانت Will Durant) في كتابه “عصر الإيمان” (The Age Of Faith): “إن المسلمين قد ساهموا مساهمة فعّالة في كل المجالات، وكان ابن سينا من أكبر العلماء في الطب، والرازي أعظم الأطباء، والبيروني أعظم الجغرافيين، وابن الهيثم أكبر علماء البصريات، وابن جبير أشهر الكيميائيين”(4). وكان العرب روّادًا في التربية والتعليم، وقال ديورانت في هذا الشأن أيضًا: “عندما تقدّم (روجر بيكون Roger Bacon) بنظريته في أوروبا بعد 500 عام من ابن جبير، قال إنه مَدينٌ بعلمه إلى المغاربة في إسبانيا الذين أخذوا علمهم من المسلمين في الشرق، وعندما ظهر النوابغ والعلماء في عصر النهضة الأوروبية، فإن نبوغهم وتقدّمهم كانا راجعين إلى أنهم وقفوا على أكتاف العمالقة من العالم الإسلامي”(5). وأكد (بريفولت) المؤرخ المشهور، على الفارق الكبير بين طبيعة الحضارة اليونانية التي كانت في عمومها نظرية تجريدية، وبين أثر هذه الأخيرة على أوروبا وعلى الإنسانية عامة.
يوضح ذلك فيقول: “إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين لهم بوجوده نفسه، فالعالم القديم ـ كما رأينا ـ لم يكن للعلم فيه وجود.. وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، أما ما ندعوه “العلم” فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة..، وهذه الروح وتلك المناهج أوصلها العرب إلى العالم الأوروبي..” (6).
ويؤكد (كارادفو) رأي سارتون المعظم لإسهام العرب في التطور، وهو يقر بأنهم المعلمون الكبار في العلم، إنه يقول بأن هؤلاء المعلمين كانوا أمناء على التراث اليوناني والروماني، وأن أمانتهم تتجلى في ثلاث ظواهر بارزة: إتقانهم لجوهر هذا التراث، وتحسينه بالتصويب والتنمية، وتسليمه للعصور الحديثة(7).
وقد كان من تأثير ابن سينا وحده في الفلسفة المسيحية قول “جورج ساتون”: “إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة، ربما لا نجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي.. إن فكر ابن سينا يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى”(8).. وكذلك يقول (دي بور): “كان ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، واعتبر في المقام كأرسطو..(9)”. ويقول أيضًا (أوبرفيل): “إن ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى وتردد اسمه على كل شفة ولسان، ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره.. وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق..” (10). وقد كان أكبر المتأثرين بالفلسفة الإسلامية؛ القديس توما الإكويني أكبر الفلاسفة الأوروبيين في القرن الثالث عشر؛ إذ كانت آثار الفلسفة العربية عنده أعمق وأنضج وإن كانت أخفى في الظاهر، لأنه لم يكن يذكر مصادره بشكل مباشر واضح.
وأول شيء يتجلى فيه تأثير الفلاسفة العرب المسلمين في القديس توما الإكويني هو البراهين التي أوردها لإثبات وجود الله بطريق العقل، لقد أخذ من الفارابي برهانه كما ورد في (آراء أهل المدينة الفاضلة)، وأخذ عن ابن سينا براهينه كما هي في كتابيه (النجاة والشفاء)، ومن الثابت بيقين كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي أن توما قد قرأ الفارابي وابن سينا؛ لأنه يشير إلى مؤلفاته صراحة، ويذكر كتابي ابن رشد (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، و(الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة)(11).
وهذا يفضي بنا إلى التحدث عن تأثير هذا الفيلسوف العربي المسلم العظيم (ابن رشد)، وهو تأثير لا يجاريه فيه أي فيلسوف عربي آخر؛ لأننا لا نستطيع أن نتحدث مثلًا عن (فارابية)، أو (سيناوية) لاتينية، ولكننا نجد مقابل ذلك (رشدية) لاتينية قوية جدًّا، توافر لها أنصار في أوروبا وأتباع أكثر من قرنين من الزمان.
وقد بدأت حركة الرشدية اللاتينية، أي أتباع ابن رشد من الأوروبيين، منذ أن ترجم ميخائيل سكوت شروح ابن رشد على مؤلفات أرسطو، في الفترة الواقعة بين سنة 1228 وسنة 1235م، حينما كان فلكيًّا في بلاط فريديريك الثاني في باليرمو بصقلية، وتزعم سيجر البرابنتي (1235 -1281)م الحركة الرشدية، ورأى فيها الحقيقة العلمية الفلسفية، واحتل مكانة سامية رفيعة في جامعة باريس، فاستصدرت الكنيسة حكمًا بطرده من تلك الجامعة، ولكن ذلك لم يبدل رأيه، وعلى الرغم مما لقيته الرشدية اللاتينية من هجوم واضطهاد من جانب السلطات الكنسية في أواخر القرن الثالث عشر، فإنها استمرت تنمو وتنتشر وتكسب الأنصار طوال القرن الرابع عشر، فنجد جان دي جاندان المتوفى سنة 1328م يخلص كل الإخلاص لمذهب ابن رشد، واستمر تأثير ابن رشد في نمو مطرد في الأوساط الفلسفية حتى القرن السابع عشر، حتى إن روفائيل في لوحته الشهيرة (مدرسة أثينا) رسم ابن رشد واضحًا في اللوحة بعمامة بيضاء(12).
إن المذاهب الفلسفية الرئيسية، والتيارات الكبرى في الفكر الفلسفي الأوروبي في القرون الثالث عشر حتى السادس عشر، تدين بوجودها وآرائها الجديدة الأصيلة للفلاسفة العرب المسلمين.
ولقد كانت صرخة مدوية ومفاجأة هائلة أذهلت الناس، عندما وقف المستشرق الإسباني (أسين بلاثيوس) وهو يلقي خطاب استقباله في الأكاديمية الملكية الإسبانية في جلسة 26 كانون الثاني 1919م، لما أعلن أن دانتي في (الكوميديا الإلهية) قد تأثر بالإسلام تأثرًا عميقًا واسع المدى، يتغلغل حتى في تفاصيل تصويره للجحيم والجنة؛ إذ تبين للمستشرق الإسباني (أسين بلاثيوس) أن ثمة متشابهات وثيقة بين ما ورد في بعض الكتب الإسلامية عن معراج النبي (ص)، وما في (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، وبعض كتب الشيخ محي الدين بن عربي(13).
وراح (أسين بلاثيوس) يعدد نقاط التشابه والاقتباس هذه، استنادًا إلى المصادر الإسلامية، مقارنًا إياها بما ورد في الكوميديا الإلهية، وكل ذلك بعلم غزير، ومنهج علمي دقيق.
وقد قوبل هذا الرأي بهجوم شديد من الباحثين الإيطاليين الذي عزّ عليهم أن يُفجَعوا في عَلَمِهم الأكبر ومناط فخارهم، وقام (أسين بلاثيوس) بالرد على هؤلاء جميعًا مقنعًا مفحمًا في كتاب نشره في مدريد بعنوان: (الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية)، وفي ست مئة وتسع صفحات من القطع الكبير(14).
وما هي إلا سنوات حتى قدم الباحث الإيطالي (أنريكو أتشرولي) عام 1949م الترجمتين اللاتينية والفرنسية لكتاب عربي في (المعراج) كان قد ترجم من العربية في أوائل القرن الثالث عشر، ومنه نسختان حاليًّا في مكتبة بولدي بأكسفورد، والثانية في المكتبة الأهلية بباريس.
وكان للفارابي أيضًا أثره في اتجاه التفكير الأوروبي، يقول (جورج سارتون) في (تاريخ العلم): “إن الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون، فالفارابي أعظم الفلاسفة.. “(15)، وقد نقلت كتبه إلى اللاتينية وطبعت جملة واحدة في باريس عام 1638م، وكان من فلاسفة أوروبا الذين تأثروا بفلسفة الفارابي الراهب (فنسان دو بوفيه) المتوفي 1264م، والذي ضم أجزاء من فلسفة الفارابي برمتها إلى كتابه (16).
وهذا (كاردانو) يصف الكندي أول فيلسوف عربي مسلم بقوله: “كان واحدًا من الإثني عشر عبقريًّا الذين هم من الطراز الأول في الذكاء في العالم كله”(17).
وهذا (سارتون) أشهر مؤرخي العلم، يقول عن ابن سينا: “يعتبر ابن سينا من أعظم علماء الإسلام، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين”(18).
وقد استنكر الدكتور (سارتون) موقف إخوانه الغربيين الذين أرادوا أن يسلبوا عن مفكري الإسلام صفة الأصالة فيقول: “إن بعض الغربيين الذين يجربون أن يستخفوا بما أسداه الشرق إلى العمران يصرحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئًا ما.. هذا الرأي خطأ”.. وهو يقرر أن العرب كانوا أعظم معلمين في العالم في القرون الثلاثة، الثامن والحادي عشر والثاني عشر (19).
والعرب باعتراف (وايد مان) أكبّوا على التراث اليوناني ونظرياته، فأدركوا جوهرها وسبروا غورها وأفادوا منها، لكنهم لم يقفوا عند حدودها، بل استحدثوا الجديد من النظريات واستنبطوا الكثير من الحقائق، ولم تكن هذه المعطيات والجهود أقل شأنًا من مكتشفات فاراداي ونيوتن ورنتيجن(20).
من ذلك العرض الذي قدمناه لآراء بعض المنصفين من أبناء الغرب اتجاه الحضارة الغربية، وبعد أن علمنا بأن التاريخ هو سلسلة الأيام والسنين المتصلة المتواصلة، وأن المسلمين حملوا مشعل الحضارة في العالم، نكتب في المبحث الثاني عن الحضارة الإغريقية وتأثرها بما سبقها من الحضارات القديمة، ثم كيف استلم المسلمون راية النور بعد ترجمة كتب اليونان ثم الإضافة إليها.
المصادر
(1). د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، الثقافة العربية والثقافات الأخرى، بحث منشور في كتاب المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، 1995.
(2). د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، مصدر سابق.
(3). د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، مصدر سابق.
(4). ويل ديورانت، موسوعة قصة الحضارة – عصر الإيمان، ترجمة: محمد بدران، القاهرة، مكتبة الأسرة، 1998، الصفحة 245.
(5). ويل ديورانت، موسوعة قصة الحضارة – عصر الإيمان، مصدر سابق، الصفحة 249.
(6). دكتور راغب السرجاني، نقلًا عن: بريفولت، بناء الإنسانية، فصول ترجمها عن هذا الكتاب إلى العربية السيد أبو النصر الحسيني تحت عنوان: أثر الثقافة الإسلامية في تكوين الإنسانية، مصر، طبعة دار الكتب الحديثة، سنة 1337هـ، الصفحة71، نقلًا عن مدخل إلى الفلسفة، الصفحة 130.
(7). عمر فاروق الطباع، ابن خلدون، بيروت، دار الفكر الإسلامي، 2000، الصفحة 13.
(8). موقع إسلام أون لاين.
(9) . موقع إسلام أون لاين.
(10). موقع إسلام أون لاين.
(11). راغب السرجاني، مصدر سابق، الصفحة 135.
(12). راغب السرجاني، مصدر سابق، الصفحة 141.
(13). راغب السرجاني، مصدر سابق، الصفحة 153.
(14). راغب السرجاني، مصدر سابق، الصفحة 155.
(15). راغب السرجاني، مصدر سابق، الصفحة 156.
(16). هاني المبارك، شوقي أبو خليل، دور الحضارة العربية الإسلامية في النهضة الأوروبية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 2000، الصفحة 40 وما بعدها.
(17). قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي، الصفحة27، والدكتورة فوقية محمود، مقالات في أصالة المفكر المسلم، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987، الصفحة 49 وما بعدها.
(18). قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي، مصدر سابق، الصفحات 322- 324.
(19). قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي، مصدر سابق، الصفحة 26.
(20). عمر فاروق الطباع، ابن خلدون، مصدر سابق، الصفحتان 13و 14.
المقالات المرتبطة
هيرمنيوطيقا القرآن عند شبستري – قـراءة نـقـديـة –
يستفز العنوان المعطى لهذه المقالة أكثر من تساؤل ينجر إلى طبيعة الهيرمنيوطيقا المتحدث عنها، وإمكانية تطبيق هكذا نظريات على الكتاب
الفقر في لبنان: نظرة في الأسباب والتخطي
أظهرت -كورونا- حالات من التعاون والتعاطف غير مسبوقة، لكن الأهم أنها أظهرت إلى العلن حالات التخطيط والتنظيم عالي الدقة، الذي شمل إحصاء الفقراء بحيث “لا يبقى أحد خلفنا”، وكذلك ظهر في حالات التعبئة العامة المنظمة لخدمة الأفراد والأسر المحجورين بسبب الوباء.
الفكر الإصلاحي بين محمد عبده وفرح أنطون
عاش العالم العربي/الإسلامي صدمة حضارية مروعة، عندما وصل الجيش الفرنسي بقيادة “نابليون بونابرت” مصر واحتلها عام 1798