التواصل الفكري الإسلامي مع الحضارة الإغريقية (2)

الحضارة الإغريقية
كما ذكرنا، فإن التواصل البشري يأخذ فيه اللاحق عن السابق، ويضيف إليه ويميزه عن غيره، فلا بدّ لأي حضارة أن تستفيد – ولا سيما في انطلاقتها الأولى – من إنجازات الحضارات السابقة، ويمكن لها أن تتجاوزها بعد ذلك، فالتراكم الحضاري هو الذخيرة، والرصيد الذي تنهل منه كل الحضارات.
وقد أخذت الحضارة الإغريقية أو اليونانية عن الحضارات السابقة عليها، ثم أضافت إليها، ونكتب عن تقسيم الفلسفة اليونانية زمنيًّا قبل الكتابة عن أثر الحضارات السابقة عليها، لأن هذا يفيد الباحث في البحث عن التأثير الفعلي على الحضارة اليونانية، وتقسيم الفلسفة اليونانية القديمة بصورة عامة إلى مرحلتين[1]:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة ما قبل العقل، أو ما قبل سقراط التي اتسمت برفضها للتحليلات الميثولوجية التقليدية للظواهر الطبيعية، وكان نوع التساؤل في حينها (من أين أتى كل شيء؟)، وهل يمكن وصف الطبيعة باستعمال قوانين الرياضيات، وكان من أشهرهم طاليس الذي يعتبره البعض أول فيلسوف يوناني حاول إيجاد تفسيرات طبيعية للكون والحياة، لا علاقة لها بقوى إلهية خارقة، فعلى سبيل المثال قال: إن الزلازل ليس من صنيعة إله وإنما بسبب كون الأرض اليابسة محاطة بالمياه، وكان أناكسيماندر أيضًا من ضمن هذا الرعيل، وكان يؤمن بالقياسات والتجربة والتحليل المنطقي للظواهر، وكان يعتقد أن بداية كل شيء هي كينونة لا متناهية وغير قابلة للزوال وتتجدد باستمرار، ومن الفلاسفة الآخرين في هذا الجيل، بارمنيدس، ديمقراطيس، أناكسيمين ميلتوسي[2].
المرحلة الثانية: وهي مرحلة العقل، أو مرحلة سقراط وما بعده، والتي تميزت باستعمال طريقة الجدل والمناقشة في الوصول إلى تعريف وتحليل وصياغة أفكار جديدة، وكان هذا الجدل عادة ما يتم بين طرفين، يطرح كل طرف فيهما نظريته بقبول أو رفض فكرة معينة، وبالرغم من أن سقراط نفسه لم يكتب شيئًا ملموسًا، إلا أن طريقته أثرت بشكل كبير على كتابات تلميذه أفلاطون، ومن بعده أرسطو، ومن وجهة نظر أفلاطون فإن هناك فرقًا جوهريًّا بين المعرفة والإيمان؛ فالمعرفة هي الحقيقة الخالدة، أما الإيمان فهو احتمالية مؤقتة[3]، أما أرسطو، فقد قال: إنه لمعرفة وجود شيء ما علينا معرفة سبب وجوده ووجود أو كينونة فكرة الخالق الأعظم، وحسب أرسطو: هو فكرة التكامل والمعرفة على عكس فكرة المخلوق الباحث عن الكمال، لقد استفاد أرسطو من نظرية سقراط القائلة: إن كل شيء غرضه مفيد، لا بدّ وأن يكون نتيجة لفكرة تتسم بالذكاء، واستنادًا إلى هذه الفكرة استنتج أرسطو أن الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات، وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حوّلت الثبات إلى حركة، وهذه الكينونة الأولية هي انطباع أرسطو عن فكرة الخالق الأعظم، أو السبب الأول الذي شرحه أرسطو[4]، ولم تكن فكرة الحديث عن الخالق الأعظم أو السبب الأول إلا نتيجة عن قراءة ما سبق من المرحلة الأولى، وما أتى من فكر الحضارات السالفة، حيث إن كل الشعوب عرفت الخالق أو منشئ الكون، ولكن اختلطت هذه المعرفة بضباب الوثنية، حتى داخل الحضارة اليونانية العقلية نفسها.
المؤثرات الأولى في الحضارة الإغريقية.
إن حضارات الشرق الأدنى القديم كانت قد انطلقت نحو الألف الرابع قبل الميلاد؛ أي قبل بزوغ الحضارة اليونانية القديمة بأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولم تكن حضارات هذا الشرق حضارات مغلقة على نفسها، بل امتد تأثيرها شرقًا وغربًا، كما أن المجتمع اليوناني القديم نفسه لم يكن، بدوره، مجتمعًا مغلقًا على نفسه، بل كان منفتحًا على غيره من المجتمعات، وبالتالي كان اتصاله بحضارات الشرق القديم أمرًا لا مفر منه، ولا سيما أن هذه الحضارات كانت الأكثر تطورًا وازدهارًا في عالم البحر المتوسط.
الأثر المصري.. فجر الضمير.
إن الميادين التي أفادت منها الحضارة اليونانية القديمة هي من تراث الشرق الأدنى القديم فهي كثيرة وعميقة، ويمكن أن نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر، فقد أفاد اليونانيون من الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية) في ميادين كثيرة منها: الرياضيات والهندسة، وتؤكد وثائق البردي، التي تعود في أصولها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، تفوق المصريون القدماء في هذين العلمين، ولا سيما أن بناء الأهرام يتطلب دقة في القياس، لا يمكن الوصول إليها من دون معرفة واسعة بالهندسة والعلوم الرياضية، كما تطلبت عمليات مسح الأراضي، بعد فيضان النيل وانخفاضه، إجراء عمليات حسابية واسعة ودقيقة، كما تفوق المصريون فكريًّا، أو كما وصفهم المؤرخ جون برستيد بأنهم عرفوا فجر الضمير، حتى لو جاء بعد هذا الفجر تعدد للآلهة، ويقول برستيد: إن أعظم ظاهرة أساسية في تقدم حياة الإنسان هي نشوء المبادئ الخلقية وظهور عنصر “الأخلاق”، وهو تحول في حياة الإنسان، يدلنا التاريخ على أنه وليد الأمس فقط، وقد يكون من الخير أن نعيد الإشادة بتلك القيم القديمة التي أصبحت في زوايا الإهمال لاستخفافنا بها، وبخاصة في هذا الوقت الذي أصبح فيه الجيل الحديث ينبذ الأخلاق الموروثة، ولكي نتمثل صورة حقه لقيمة الأخلاق الفاضلة وتأثيرها في الحياة الإنسانية يجب أن نجتهد في الكشف على الطريقة التي وصل بها الإنسان للمرة الأولى إلى إدراك الأخلاق وتقدير قيمتها.
فالوثائق القديمة تكشف لنا عن أصول مثلنا الوراثية، وتكشف عن فجر الضمير ونشوء أقدم مثل للسلوك، وما نتج عن ذلك من ظهور عصر الأخلاق، وهو ما وُجد في الحضارة المصرية القديمة، فقد سبقت الحضارة الفرعونية كل الحضارات بآلاف السنين، وليس صحيحًا أن العبرانيين كانوا أسبق في المعرفة والحكمة من المصريين، بل كانوا وسطاء بين الحضارة اليونانية القديمة والمصرية الأقدم[5].
ومن تلك الحضارة أخذ الإغريق، ليس العلوم والرياضيات فقط، ولكن أيضًا أخذت الأخلاق والمثل العليا، ففي ميدان العلوم البحتة أشار أرسطو إلى نشأة الرياضيات العملية في مصر، وأكد هيرودوت انتقال علم الهندسة من مصر إلى بلاد اليونان، وكشفت المراجع أن فيثاغورث عاد من مصر إلى بلاده وهو يحمل معه مبادئ علم الهندسة، كما أفاد اليونانيون من علوم المصريين القدماء وخبراتهم في ميدان الطب والتشريح، فقد تحدث هيرودوت عن براعة المصريين وتقدمهم في هذا الميدان، وتؤكد وثائق البردي الطبية، التي تعود إلى العصر الفرعوني المبكر هذه الحقائق كلها، ومن الثابت أيضًا أن اليونانيين قد تأثروا بعقائد المصريين وطقوسهم الدينية تأثرًا بالغًا، فقد حظيت آلهة المصريين باحترام اليونانيين، بل اعتبر هيرودوت أن أصل معظم أسماء الآلهة اليونانية إنما جاء من مصر، فآمون المصري هو زيوس (كبير آلهة اليونان)، وإيزيس المصرية هي ديميتر اليونانية، وأوزيريس المصري هو ديونيوس اليوناني… إلخ، وتحتوي الجزر اليونانية على معابد ونقوش مخصصة لإيزيس وغيرها من الآلهة المصرية. كما بين هيرودوت أن كثيرًا من طقوس اليونان الدينية ذات أصول مصرية مثل عادة النوم في المعبد، اعتقادًا منهم أن الذي ينام في المعبد – كما يقول سارتون- يعتبر ضيفًا في العالم الآخر ورفيقًا للموتى، وأحلامه في المعبد لها قيمة خاصة. كما تأثر اليونانيون بدعوة إخناتون (ت1350 ق. م.) الذي دعا إلى إله واحد، وجاهد لرفع مستوى وعي الإنسان الديني، وظل للآلهة المصرية مكانة كبيرة في بلاد اليونان على امتداد قرون طويلة، وعندما احتل الإسكندر المقدوني مصر عام 332 ق.م، نُصِّب فرعونًا حسب الطقوس الدينية المصرية، كما ارتحل بنفسه إلى قلب الصحراء الغربية لزيارة معبد الإله آمون الذي كان قد ذاع صيته وانتشرت عبادته في العالم اليوناني.
ولم يقف تأثر اليونانيين بالحضارة المصرية القديمة عند الميادين السابقة، بل امتد إلى ميدان الأدب والأساطير، حيث تسرب، بصفة خاصة، الأدب الأسطوري المصري إلى ثقافة اليونان، مثل أسطورة أوزيريس المصرية، التي تعد رمزًا لعلاقات الإنسان بالطبيعة والآلهة[6].
الأثر السوري.
استفادت الحضارة اليونانية من الحضارة السورية القديمة، التي ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد، فائدة مزدوجة، فقد أفادت من إنجازات هذه الحضارة وإبداعات أهلها المادية منها والفكرية من ناحية، ومما نقله التجار الفينيقيون (الكنعانيون) من متاجر وأفكار بلدان الشرقين الأدنى والأقصى إلى بلاد اليونان من ناحية أخرى، والواقع أن أعظم هدية قدمها الفينيقيون للحضارة الإنسانية كانت اختراع الحروف الأبجدية منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد، وقد اقتبس اليونانيون هذه الأبجدية الفينيقية منذ أواخر القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا، وقد أكّد هذه الحقيقة المؤرخون اليونان أنفسهم، فهذا هيرودوت يقول إن الفينيقيين علموا اليونانيين كثيرًا من العلوم والمعارف، وفي مقدمتها الحروف الأبجدية التي لم يكن هؤلاء على علم بها، ومن خلال اليونانيين والفينيقيين دخلت هذه الحروف إلى إيطاليا، ثم إلى الغرب الأوروبي عامة، فقد أخذ الرومان من اليونانيين كثيرًا من العناصر الحضارية، وكان من أهمها الأبجدية الفينيقية، وقد أظهر اليونانيون براعة في تطوير هذه الأبجدية بحيث تلائم خصائص لغتهم، حيث أضافوا إليها الحروف الصوتية وأخذوا يكتبونها من اليسار إلى اليمين بعكس الفينيقيين، ولا شك في أن الحروف الأبجدية الأوروبية هي أثر باق من الدين العظيم المدين به، لا اليونانيون فقط، بل الغرب الأوروبي كله للفينيقيين[7].
أثر بلاد الرافدين.
أما الميادين التي أفادت منها الحضارة اليونانية من حضارة بلاد الرافدين- التي يعدها المؤرخون بحق مهد الحضارة الإنسانية- فقد كانت كثيرة، وفي مقدمتها الكتابة المسمارية، التي شكّل اختراع السومريين لها (نحو 3200 ق. م.) نقطة الانطلاق الحاسمة في تقدم الحضارة الإنسانية، لأن جميع الشعوب استخدمت المسمارية في كتابة لغاتها، كما أفاد اليونانيون من تراث الرافدين في ميدان الرياضيات، العملية منها والنظرية.
وتؤكد المراجع أن العالم الرياضي فيثاغورث اعتمد كثيرًا في بناء نظرياته الرياضية على ما كان قد توصل إليه علماء الرافدين من نظريات، وتعلم اليونانيون من البابليين، ومن ثم الكلدانيين، مبادئ علم الفلك وطرائق رصد الأجرام السماوية وأدواته، والجداول الفلكية والخرائط الجغرافية والتقاويم الفلكية، حتى أن التقويم البابلي والكلداني صار نموذجًا للتقاويم الإغريقية والرومانية قبل إدخال التقويم اليوناني، وكان العالم اليوناني طاليس قد تنبأ بكسوف الشمس الذي حدث في الثامن والعشرين من شهر مايو عام 585 ق.م. بعد أن اطلع على علوم البابليين الفلكية، ولا شك في أن اليونانيين قد أفادوا من البابليين في ميدان القانون ولا سيما أن قانون حمورابي (1750 ق. م.) غدا نموذجًا لكل القوانين التي سادت في الغرب والشرق في العصور القديمة[8].
من هنا نجد أن الحضارة اليونانية نتيجة عن تفاعلها مع الحضارات السابقة عليها، وقد ظلّت أثينا قائدة العالم العلمية، حتى أثناء سيادة الرومان ظلت الحضارة الإغريقية هي التي تسود الفكر الغربي، حتى دخلت في طور الانحدار، في الوقت الذي صعدت فيه الحضارة الإسلامية لتقود العالم منفردة أكثر من سبعة قرون طوال.
[1] عادل زيتون، مجلة العربي الكويتية، عدد يوليو 1987، ببعض التصرف.
[2] قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي، مصدر سابق، الصفحة 29.
[3] جون برستيد، فجر الضمير، ترجمة: الدكتور سليم حسن، وقد طُبع الكتاب عدة مرات، آخرها عام 1999 في مكتبة الأسرة بالقاهرة، وجون برستيد من المستشرقين المنصفين القلائل، وانصب اهتمامه على مصر الفرعونية، وله أيضًا كتاب “تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي” .
[4] عادل زيتون، ابن خلدون، مصدر سابق، ببعض تصرف.
[5] عادل زيتون، ابن خلدون، مصدر سابق، ببعض تصرف.
[6] عادل زيتون، ابن خلدون، مصدر سابق، ببعض تصرف.
[7] المصدر نفسه، ببعض تصرف.
[8] البروفيسور ديمتري غوتاس، الفلاسفة الإغريق في الترجمات العربية، 2000، نقلًا عن رحيم العراقي في موقع الحوار المتدين.
المقالات المرتبطة
المسلمون في الهند بين التهديدات والتأثير (5) التحديات
تهتم أكثر التحديات بالحديث عن جوانب الاحتكاك الفكري بين المسلمين والهندوس. ولا ريب أن التواصل العلمي بين المجتمعين الدينيين كان يلعب دورًا تاريخيًّا للتفاهم، يحسّن العلاقات متسامحة.
الفكر العربي الحديث والمعاصر | حسين مروة والقراءة الماركسية للتراث الإسلاميّ
قد يكون الحديث عن القراءة الماركسية للتراث الإسلاميّ مستغربًا، فهذا التيار اعتبر الدين أفيون الشعوب بالتالي قام برفضه، وعندما وصل
الإدارة العقائدية للصبر عند الإمام جعفر الصادق (ع)
في عالم تموج به الأزمات وتتصارع فيه العواصف الذهنية والفكرية والاجتماعية، يظهر الصبر كقيمة محورية ليس فقط كفضيلة أخلاقية