نتائج التأثير الإغريقي وأبرز فلاسفة المسلمين

نشأة علم الكلام.

جاء التأثير المتبادل بين الثقافتين الإغريقية والإسلامية، من خلال الترجمة التي حدثت للعلوم اليونانية، سواء في صورتها الفلسفية، أو في أنماط التفكير، وفي نفس الوقت، نستطيع القول: إن علم الكلام بدأ مبكرًا قبل ترجمة العلوم، ولكنه اتخذ صورته الفلسفية تأثرًا بعلوم اليونان فيما بعد، وإذا اعتبرنا تعريف الفلسفة على أنها محاولة بناء تصور ورؤية شمولية للكون والحياة، فإن بدايات هذه الأعمال في الحضارة الإسلامية، بدأت كتيار فكري في البدايات المبكرة للدولة الإسلامية، حيث بدأ بعلم الكلام، ووصل الذروة في القرن التاسع عندما أصبح المسلمون على إطلاع بالفلسفة اليونانية القديمة، والذي أدّى إلى نشوء رعيل من الفلاسفة المسلمين الذين كانوا يختلفون عن علماء الكلام.                                                   

كان علم الكلام مختصًّا بموضوع الإيمان العقلي بالله، وكان غرضه الانتقال بالمسلم من التقليد إلى اليقين، وإثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلة المفيدة لليقين بها.                          

إن علم الكلام كان محاولة للتصدي للتحديات التي فرضتها الالتقاء بالديانات القديمة التي كانت موجودة في بلاد الرافدين أساسًا (مثل المانوية والزرادشتية والحركات الشعوبية). وعليه، فإن علم الكلام كان منشأه الإيمان على عكس الفلسفة التي لا تبدأ من الإيمان التسليمي، أو من الطبيعة، بل تحلّل هذه البدايات نفسها إلى مبادئها الأولى[1]، فهناك مؤشرات على أن بداية علم الكلام كان سببه ظهور فرق عديدة بعد وفاة الرسول (ص).      

 كان نشأة علم الكلام إذن في التاريخ الإسلامي نتيجة ما اعتبره المسلمون ضرورة للرد على ما اعتبروه بدعة من قبل بعض “‏الفرق الضالة”، وكان الهدف الرئيسي هو إقامة الأدلة وإزالة الشبه، ويعتقد البعض أن جذور علم الكلام يرجع إلى الصحابة والتابعين، ويورد البعض على سبيل المثال رد ابن عباس، وابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، والحسن بن محمد بن الحنفية على المعتزلة، ورد علي بن أبي طالب [ع] على الخوارج، ورد إياس بن معاوية المزني على القدرية والتي كانت شبيهة بفرضية الحتمية.                                        

كان علم الكلام عبارة عن دراسة “أصول الدين” التي كانت بدورها تتمركز على 4 محاور رئيسية وهي[2]:                      

1 ـ الألوهية: البحث عن إثبات الذات والصفات الإلهية.                                              

2 ـ النبوة: عصمة الأنبياء وحكم النبوة بين الوجوب عقلًا، وهو مذهب المعتزلة، والجواز عقلًا، وهو مذهب الأشاعرة.                                                                                   

 3 ـ الإمامة: الآراء المتضاربة حول رئاسة العامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي محمد [ص].                                                                                   

4 ـ المعاد: فكرة يوم القيامة وإمكان حشر الأجسام. ويدرج البعض عناوين فرعية أخرى مثل “العدل”، و”الوعد”، و”الوعيد”، و”القدر”، و “المنزلة”[3].                                                         

إن علم الكلام كان يستند أساسًا على النصوص الشرعية من قرآن وسنة وأساليب منطقية لغوية، لبناء أسلوب احتجاجي يواجه به من يحاول الطعن في حقائق الإسلام، في حين أن الفلاسفة المشائين، وهم الفلاسفة المسلمين الذين تبنوا الفلسفة اليونانية، فقد كان مرجعهم الأول هو التصور الأرسطي أو التصور الأفلاطوني الذي كانوا يعتبرونه متوافقًا مع نصوص وروح الإسلام، ومن خلال محاولتهم لاستخدام المنطق لتحليل ما اعتبروه قوانين كونية ثابتة ناشئة من إرادة الله، قاموا بداية بأول محاولات توفيقية لردم بعض الهوة التي كانت موجودة أساسًا في التصور لطبيعة الخالق بين المفهوم الإسلامي لله، والمفهوم الفلسفي اليوناني للمبدأ الأول أو العقل الأول.      

ثم تطورت الفلسفة الإسلامية من مرحلة دراسة المسائل، التي لا تثبت إلا بالنقل والتعبّد، إلى مرحلة دراسة المسائل التي ينحصر إثباتها بالأدلة العقلية، ولكن النقطة المشتركة عبر هذا الامتداد التاريخي كان معرفة الله وإثبات الخالق[4].                                               

لقد بلغ هذا التيار الفلسفي منعطفًا بالغ الأهمية على يد ابن رشد من خلال تمسكه بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة[5].                                   

أما أول من برز من فلاسفة العرب، كان الكندي الذي يلقب بالمعلم الأول عند العرب، من ثم كان الفارابي الذي تبنى الكثير من الفكر الأرسطي من العقل الفعال، وقدّم العالم ومفهوم اللغة الطبيعية. أسس الفارابي مدرسة فكرية كان من أهم أعلامها: الأميري، والسجستاني، والتوحيدي، وكان الغزالي أول من أقام صلحًا بين المنطق والعلوم الإسلامية، حين بيّن أن أساليب المنطق اليوناني يمكن أن تكون محايدة ومفصولة عن التصورات الميتافيزيقية اليونانية، وتوسع الغزالي في شرح المنطق واستخدمه في علم أصول الفقه، لكنه بالمقابل شنّ هجومًا عنيفًا على الرؤى الفلسفية للفلاسفة المسلمين المشائين في كتاب تهافت الفلاسفة، رد عليه لاحقًا ابن رشد في كتاب تهافت التهافت.                                  

في إطار هذا المشهد كان هناك دومًا اتجاه قوي يرفض الخوض في مسائل البحث في الإلهيات، وطبيعة الخالق والمخلوق، وتفضل الاكتفاء بما هو وارد في نصوص الكتاب والسنة، هذا التيار الذي يعرف “بأهل الحديث”، والذي ينسب له معظم من عمل بالفقه الإسلامي والاجتهاد، كان دومًا يشكّك في جدوى أساليب الحجاج الكلامية والمنطق الفلسفية، وما زال هناك بعض التيارات الإسلامية التي تؤمن بأنه “لا يوجد فلاسفة للإسلام”، ويقولون: “إنه لا يصح إطلاق هذه العبارة، فالإسلام له علماؤه الذين يتبعون الكتاب والسنة، أما من اشتغل بالفلسفة فهو من المبتدعة الضُّلال”[6].

أبرز فلاسفة المسلمين.

برز مفكرون إسلاميون خلال عصر النهضة الإسلامية الكبرى، بل وبرزت تيارات كبرى عقلية فلسفية، مثل إخوان الصفا الذين كانوا أكثر تأثرًا بالأسلوب الإغريقي الأرسطي، وقبلهم جماعة المعتزلة التي كانت أخف تأثرًا من إخوان الصفا، كما ظهر فلاسفة مسلمون كبار أثروا الحياة البشرية عندما وصّلوا الفكر الإسلامي إلى العالم بأسره، ومن جملة فلاسفة الإسلام: يعقوب بن إسحق الكندي، وحنين بن إسحاق، ويحيى النحوي، وأبي الفرج المفسر، وأبي سليمان السجزي، وأبي سليمان محمد بن معشر المقدسي، وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني، وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري، وأبي زيد بن سهل البلخي، وأبي محارب الحسن بن سهل بن محارب القمي، وأحمد بن الطيب السرخسي، وطلحة بن محمد النسفي، وأبي حامد أحمد بن محمد الإسفرايني، وعيسى بن علي بن عيسى الوزير، وأبي علي أحمد بن محمد بن مسكويه، وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري، وأبي الحسن محمد بن يوسف العامري، وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي، وغيرهم[7].                                                                          

أما أبرز وأشهر فلاسفة المسلمين، الذين أثّروا في النهضة الأوروبية، وما زال تأثيرهم ممتدًّا، فهم كالتالي:

الكندي.

هو أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي، ينتهي نسبه إلى ملوك كندة، فهو عربي الأصل، ولد بالكوفة سنة 185 هـ/801م، وكان أبوه إسحاق بن الصباح أميرًا عليها للمهدي والرشيد.                               

نشأته: كانت الكوفة مدرسة الكندي الأولى، فقد مات أبوه وهو طفلٌ صغيرٌ، فلم يستمتع بالعزِّ الذي كان عليه أجدادُه، لا سيما وقد هاجر معظم بني الأشعث وتشتتوا في البلاد، ولكن أُمَّه الواعية الحصيفة لم تشأ أن يضيع ابنها مع ما ضاع من أُبَّهةٍ ومجدٍ، فرأت أن العلم خير لهذا الفتى من ترف الحُكْم وعزِّ السياسة، فدفعته إلى تعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم الحديث الشريف، وأصول الفقه، ومبادئ النحو، ومهدت له الطريق إلى قراءة الشعر العربي، وإتقان لغة العرب لمعرفة أسرار البلاغة وأسباب الفصاحة[8].           

لقد كان يلقب بفيلسوف العرب؛ فقد خلّف وراءه مجموعة من المصنّفات تبلغ مئتين وأربعين مصنفًا بين كتاب ورسالة، عهد إليه المأمون بترجمة مؤلفات أرسطو فكان له كتاب (إلهيات أرسطو)، وغيره من فلاسفة اليونان، كما درس ما نُقِل من كتب أبقراط وجالينوس في علوم الطب، ثم درس هندسة إقليدس، وهكذا كان للكندي فضل كبير في ترجمة العلوم من اللغة اليونانية، وجعلها ميسّرة أمام القارئ العربي، بعد أن أخضع هذه الترجمات إلى الذوق العربي ومقتضى التفكير الشرقي، ملبسًا إياها ثوبًا من العبارات الفصيحة والتراكيب المبسطة، وفهم أبعاده ومراميه، ووفّق بين الصياغة اليونانية والصياغة العربية، إلا أن الكندي كثيرًا ما كان يغني هذه الترجمات بالشرح والتفسير، غير أنه لقي عنتًا من المتوكل، فقد وشى به حسّاده واتهموه بالأخذ بمذهب المعتزلة، فأمر المتوكل بضربه ومصادرة كتبه، ثم تبين له الحق؛ فرضي عنه ووصله وردَّ إليه كتبه.                                            

استحق الكندي إذن عن جدارة ومقدرة لقب: “فيلسوف العرب” اعتمادًا على كتابه القيِّم (في الفلسفة الأولى) الذي أهداه إلى الخليفة المعتصم، وفي هذا الكتاب نجد عمق آرائه الفلسفية التي عالجت مختلف شؤون المعرفة، وقد وصفه بعض المستشرقين بقولهم: يعدُّ الكندي واحدًا من اثنتي عشرة شخصية تمثل قمة الفكر الإنساني، ذلك بسبب ذهاب الكندي للقول بنسبية الحواس. آمن الكندي بجدوى الفلسفة وضرورة التفكير في وقت كان علماء الشريعة يخشون أن تتعارض هذه الفلسفة مع العقيدة، وتناقض مبادئ الدين الحنيف، فسعى سعيه إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، ونفي تهمة الكفر والإلحاد عن الفلاسفة؛ إذ كان يرى أن موضوع الفلسفة هو معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة الفضائل النافعة لاتباعها، والرذائل الضارة لاجتنابها، وهذا هو عينه موضوع الدين وجوهره الحقيقي[9].                                 

وكذلك اهتم الكندي بالرياضيات وذهب فيها مذهب أفلاطون فقال: إن الفلسفة لا تفهم إلا بالرياضيات، والرياضيات تكون بالبراهين لا بالاقتناع الشخصي ولا بالظن، وأخذ من أرسطو التفريق بين العقل الفعال وهو إلهي، والعقل المنفعل وهو إنساني، ولا يتخطى القدرة على التفكير[10].                                                                                 

الفارابي.

كان الفارابي فيلسوفًا ورياضيًّا فذًّا ذائع الصيت، وهو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لدراسته كتب أرسطو (المعلم الأول) وشرحه لها، ويعرف الفارابي في اللاتينية باسم Alpharabius. ولد في مدينة “فاراب” في تركستان حيث كان والده تركيًّا من قواد الجيش.                                                          

يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي[11]: إنه لا يُعرَف شيء يقيني عن طفولة الفارابي الأولى أو مراحل حياته التالية، وكل ما يعرف عنه أنه درس في مسقط رأسه مجموعة من المواد المختلفة كالعلوم، والرياضيات، والآداب، والفلسفة، واللغات خاصة التركية، والفارسية، واليونانية، والعربية، وفي سن متقدمة غادر مسقط رأسه وذهب إلى العراق لمتابعة دراساته العليا؛ فدرس الفلسفة، والمنطق، والطب على يد الطبيب المسيحي يوحنا بن حيلان، كما درس العلوم اللسانية العربية والموسيقى، ومن العراق انتقل إلى مصر والشام، حيث التحق بقصر سيف الدولة في حلب واحتل مكانة بارزة بين العلماء، والأدباء، والفلاسفة، وبعد حياة حافلة بالعطاء في شتى علوم المعرفة طوال ثمانين سنة، توفي الفارابي أعزب، بمدينة دمشق سنة 339هـ/950م[12].                                          

ويعدّ الفارابي (339-257هـ/950-870م) أكبر فلاسفة المسلمين، وقد أطلق عليه معاصروه لقب: “المعلم الثاني” لاهتمامه الكبير بمؤلفات أرسطو “المعلم الأول”، وتفسيرها، وإضافة الحواشي والتعليقات عليها، ومن خصائص فلسفة الفارابي أنه حاول التوفيق من جهة، بين فلسفة أرسطو وفلسفة أفلاطون، ومن جهة أخرى بين الدين والفلسفة، كما أنه أدخل مذهب الفيض في الفلسفة الإسلامية ووضع بدايات التصوف الفلسفي.                       

ورغم شهرة الفارابي في الفلسفة والمنطق، فقد كانت له إسهامات مهمة في علوم أخرى كالرياضيات والطب والفيزياء. يقول كارا دي فو Carra de Vaux: أما الفارابي الأستاذ الثاني بعد أرسطو وأحد أساطين الأفلاطونية الحديثة، ذو العقلية التي وعت فلسفة الأقدمين، ومن أهم كتب الفارابي في الفلسفة والمنطق: “آراء أهل المدينة الفاضلة”، “الجمع بين رأي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس”؛ وهو كتاب يوفق فيه الفارابي بين آراء أفلاطون وأرسطو، وكان من بين أهم الشروح والكتب التي ألّفها في العلوم الأخرى ما يلي: شرح كتاب “المجسطي” في علم الهيئة لبطليموس، شرح المقالتين الأولى والخامسة من كتاب إقليدس في الهندسة، كتاب في المدخل إلى الهندسة الوهمية، كلام في حركة الفلك، مقالة في صناعة الكيمياء، كتاب إحصاء العلوم: قسّم الفارابي في هذا الكتاب العلوم إلى ثماني مجموعات، ثم ذكر فروع كل مجموعة، وموضوع كل فرع منها وأغراضه وفوائده، وترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية، وكتاب صناعة علم الموسيقى: شرح فيه الفارابي مبادئ النغم والإيقاع[13].

ابن سينا.

إنه الشيخ الرئيس والمعلم الثالث.. عاش ابن سينا في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس من الهجرة، وقد نشأ في أوزبكستان، حيث ولد في “أفشنة” إحدى قرى “بخارى” في شهر صفر (370 هـ- أغسطس 980م).                                            

 وحرص أبو عبد الله بن سينا على تنشئته تنشئة علمية ودينية منذ صغره، فحفظ القرآن ودرس شيئًا من علوم عصره، حتى إذا بلغ العشرين من عمره توفي والده، فرحل أبو علي الحسين بن سينا إلى جرجان، وأقام بها مدة، وألّف كتابه “القانون في الطب”، ولكنه ما لبث أن رحل إلى “همذان” فحقق شهرة كبيرة، وصار وزيرًا للأمير “شمس الدين البويهي”، إلّا أنه لم يطل به المقام بها؛ إذ رحل إلى “إصفهان”، وحظي برعاية أميرها “علاء الدولة”، وظل بها حتى خرج مع الأمير علاء الدولة في إحدى حملاته إلى همذان؛ حيث وافته المنية بها في رمضان (428 هـ- يونيو 1037م)[14].                                                               

وكان ابن سينا عالمًا وفيلسوفًا وطبيبًا وشاعرًا، ولُقِّب بالشيخ الرئيس، والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عُرِف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام، وكان سابقًا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.                                                                   

وكان لذلك كله أبلغ الأثر في إضفاء المسحة العقلية على آرائه ونظرياته، وقد انعكس ذلك أيضًا على أفكاره وآثاره ومؤلفاته، فلم يكن ابن سينا يتقيد بكل ما وصل إليه ممن سبقوه من نظريات، وإنما كان ينظر إليها ناقدًا ومحلّلًا، ويعرضها على مرآة عقله وتفكيره، فما وافق تفكيره وقبله عقله أخذه وزاد عليه ما توصل إليه واكتسبه بأبحاثه وخبراته ومشاهداته، وكان يقول: إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين عن الخطأ والزلل[15].                                                                

ابن رشد.

إنه الوليد محمد بن أحمد بن رشد الفقيه والفيلسوف الأندلسي المشهور، تربى في أحضان والده الذي كان من كبار القضاة في الأندلس، فجدُّه الذي عُرف مثله بـ”ابن رشد” كان عالمًا وفقيهًا على مذهب الإمام مالك، وقد تقلّد القضاء في قرطبة، وتوفي في العام الذي ولد فيه حفيده ابن رشد، وكذلك كان أبوه أحمد قاضيًا بارعًا في الفقه والعلم.                                                              

في مثل هذه البيئة نشأ ابن رشد الفقيه الفيلسوف، فاتجه منذ صغره إلى طلب العلم، فدرس الفقه وحفظ موطأ الإمام مالك، وروى عنه الحديث، وحصل على إجازة في ذلك من والده، كما درس علم الكلام من خلال مذهب الأشاعرة، ودرس الطب والرياضيات، والمنطق والفلسفة التي برع فيها وتفوق ودافع عنها ضد الخصوم، ودعا إلى دراستها إلى أن توفي في مراكش في شهر ديسمبر من سنة 595 هـ ـ 1198م، ليدفن في قرطبة. درس ابن رشد على أبرز علماء عصره من أمثال: أبي القاسم بن بشكوال، أبي مروان بن مسرة، وأبي بكر بن سحنون، وأبي جعفر هارون، كما تولى منصب “قاضي القضاة” بقرطبة، فلقب بـ”قاضي قرطبة”، كما كان من شُرَّاح المذهب المالكي، ولقب بـ”الشارح الأكبر” نظرًا لقيامه بشرح كتب أرسطو، ولخّص بعض مؤلفات أفلاطون مثل الجمهورية وغيرها. تفوق ابن رشد في شتى المجالات والعلوم التي ولج بابها، فكانت له شهرته، ومكانته العالية التي نال بسببها إعجاب الكثيرين، ولكن من المفارقات التاريخية حول ابن رشد (1126 – 1198)، هو اختلاف وجهات النظر حوله بين المسلمين المعاصرين له، وبين وجهة نظر الغرب له، فقد اعتبره الغرب من أهم الفلاسفة المسلمين على الإطلاق، حيث ترجمت أعماله إلى اللاتينية والعبرية، وأثّرت أفكاره بشكل واضح على كتابات الفلاسفة المسيحيين واليهود، ومنهم بالتحديد توماس أكويناس (1225 – 1274)، وألبرت الكبير (1206 – 1280)، وموسى بن ميمون (1135 – 1204)، وأيرنست رينان (1823 – 1892)، بينما لم يلق ابن رشد نفس الاهتمام من المعاصرين له، حيث فضّل الفيلسوفان المعاصران له، يحيى السهروردي ومؤيد الدين العربي اتباع منهج ابن سينا بدلًا من منهج ابن رشد[16]. كان ابن رشد متعمّقًا في الشريعة الإسلامية بحكم منصبه كقاضي أشبيلية، وحاول التقريب بين فلسفة أرسطو والعقيدة الإسلامية، حيث كان ابن رشد مقتنعًا أنه لا يوجد تناقض على الإطلاق بين الدين والفلسفة، وأن كلاهما يبحثان عن نفس الحقيقة، ولكن بأسلوبين مختلفين، وقام بالرد على كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي في كتابه المشهور “تهافت التهافت”، وأصرّ على عكس الغزالي على قدرة الفلسفة بإيصال الإنسان إلى اليقين الذي لا يقبل الجدل حول ماهية الله[17].  

شدّد ابن رشد على نقطة في غاية من الأهمية كانت غائبة عن بال من سبقوه، وهي أن الفلسفة وعلم الكلام والصوفية والباطنية وغيرها من التيارات الفكرية، تشكل خطرًا على الأشخاص الذين ليس لهم القدرة على التفكير الفلسفي، وأن الشخص غير المتعمّق، أو الذي يأخذ بقشرة الفكرة سوف يتعرض إلى صراعات نفسية وفكرية تؤدي به إلى الشك والتشتت بدلًا من اليقين والتنور[18].                                           

وفي محاولة من ابن رشد لتضييق الفجوة بين الدين والفلسفة، طرح ابن رشد فكرته حول أفضل وسيلة لتفسير الدين والخالق من وجهة نظر فلسفية، فقال: إن على الفيلسوف القبول ببعض الأفكار الدينية، لكي يصبح فعّالًا في الوصول إلى طبيعة الخالق، ومن هذه الأفكار وجود الله  – وحدانية الله – كون الله فريدًا من نوعه – عدالة الله – الحياة بعد الموت – خلق الله للكون[19].     

قام ابن رشد بتوضيح فكرته أكثر قائلًا: إن القرآن على سبيل المثال، قد ذكر أن الله قد خلق الكون، ولكنه لم يوضح كيف تم هذا الخلق؟ ومتى تم هذا الخلق؟ وبهذا فإن القرآن قد فتح الباب على مصراعيه للفيلسوف، بأن يستعمل العقل والمنطق للتعمق في هذه النقطة، وبهذا اعتبر ابن رشد التحليل الفلسفي لأمور الدين قمة التدين، وليس منافيًا لمفهوم الدين[20] . 

هذه سير بعض فلاسفة الإسلام، من الذين أثروا الحياة الفكرية، فقد كانوا أمناء مع أنفسهم ودينهم وإنسانيتهم عندما نقلوا تراث الإغريق، ثم أضافوا إليه بما يتفق مع روح الحضارة الإسلامية الإيمانية، ومن ثم فإنهم صاغوا منهج الحضارة الغربية المعاصرة، وإن قامت الحضارة الغربية على أسس العقل، دون النظر للمصدر الإلهي للمعرفة والكون والحياة الدنيا والآخرة، ومن ثم كانت الحضارة الغربية حضارة مادية بحتة تشبه كثيرًا الحضارة الإغريقية المادية، التي أخذ منها علماء المسلمين ما يتفق مع المصدر الإلهي، فكانت حضارة فقه وعبادة، وحضارة دنيا ودين، وحضارة تنظر للدنيا والآخرة بمنظار المعرفة الإلهية، لكون الإنسان هو الخليفة في الأرض كما ذكر الله ذلك في القرآن الكريم الذي نزل على نبيه محمد (ص).

خاتمة الدراسة.

الإسلام دين شامل لكل نواحي الحياة البشرية، ففيه الفقه العبادي وفقه المعاملات، وفيه فقه السلام الدولي، وفقه الحرب، وفيه كل ما ينفع الإنسان، وقد رأينا في البحث كيف كان التواصل الحضاري مع ثقافات الشعوب الأخرى، تواصل يعطي للعالم أسلوب التفكير، كما يعطي التسامح والسلام والعدل والأخوة بين البشر، ولذلك فقد أجمع العلماء من الشرق، والمنصفون في الغرب على أنَّ الحضارةَ الإسلاميةَ تحتل مكانةً رفيعةً بين الحضاراتِ الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمرًا، وأعظمها أثرًا في الحضارة الإنسانية.  

والحضارة الإسلامية هي نتاجٌ لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام، سواء إيمانًا وتصديقًا واعتقادًا، أو انتماءً وولاءً وانتسابًا، وهي خلاصةٌ لتلاقح هذه الثقافات والحضارات التي كانت قائمةً في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، ولانصهارها في بوتقة المبادئ والقيم والمُثل التي جاء بها الإسلام هدايةً للناس كافة، ولقد نجحت الحضارة الإسلامية في اختيار العناصر الصالحةِ منها، ثم مزجت بينها، وأكملت نواحي النقص، بحيث صار لها في النهايةِ نكهة خالصة، وشخصية مميزة استمرَّت على مدى قرون طويلة، بل ما زالت تعيش بين ظهرانَيْنا حتى الآن.        

والحضارة الإسلامية نوعان: النوع الأول: حضارة إسلامية أصيلة وتُسمَّى حضارة الخلق والإبداع، وقد كان الإسلام مصدرها الوحيد، وعرفها العالم لأول مرة عن طريق الإسلام، والنوع الثاني: حضارة قام بها المسلمون في الأمور التجريبية امتدادًا وتحسينًا، كما عرفها الفكر البشري من قبل، وتُسمَّى حضارة البعث والإحياء، فالحضارة الإسلامية بهذا المفهوم الجامع الشامل العميق هي إرثٌ مشترك بين جميع الشعوب والأمم، التي انضوت تحت لوائها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها، وهي الشعوب والأمم التي كوَّنت وشائج الأمة الإسلامية ونسيجَها المُحْكَم، فليست الحضارة الإسلامية حضارةَ جنسٍ معيَّن فتكون بذلك حضارةً قوميةً تنتمي إلى قوم مخصوصين، ولكنها حضارةٌ جامعةٌ شاملةٌ للأجناس والقوميات جميعًا، التي كان لها نصيبُها في قيام هذه الحضارة، ودورها في ازدهارها وتألقها، وفي امتداد تأثيرها ونفوذها إلى العالم الذي كان معروفًا خلال القرون التي سطع فيها نجمُها واتسع إشعاعها وامتدَّ نفوذها.   

وتنفرد الحضارة الإسلامية بخصائصَ وسماتٍ تكسبها الطابعَ المميزَ لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي والحاضر على السواء. ومن هذه الخصائص:

– أنها حضارة إيمانية روحية تؤمن بالله وكلماته ورسله.

– وهي حضارة عالمية متماسكة في مواجهة التحديات.

– وهي حضارة معطاءة باقية، كما أنها حضارة متوازنة، وازنت الجانب الروحي والجانب المادي في اعتدال، فلا تفريط ولا إفراط ولا غلو.

 هذه بعض سمات الحضارة الإسلامية، وهي سمات يجب أن تسود البشرية، لأنها في النهاية تعود للمصدر الإلهي، وبسبب هذا المصدر، فالحضارة الإسلامية حضارة تسامح وحرية إنسانية ومعرفة، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان، وطلب منه طلب العلم ونشره، لأنه الإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض.

 

[1] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مصدر سابق، الصفحة 82.

[2] المصدر نفسه، الصفحة86 وبتصرف.

[3] المصدر نفسه، الصفحة 97.

[4] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مصدر سابق، الصفحة98.

[5] المصدر نفسه، الصفحة 99 وبتصرف.

[6] المصدر نفسه، الصفحة101.

[7] الشهرستاني، الملل والنحل، الجزء2، الصفحة157، نسخة إلكترونية.

[8] موقع الكندي للدراسات، وموقع الفلسفة الإسلامية.

[9] موقع الكندي للدراسات، وموقع الفلسفة الإسلامية.

[10] موقع الكندي للدراسات، وموقع الفلسفة الإسلامية.

[11] موقع: “الإيسيسكو” للفارابي.

[12] موقع: “الإيسيسكو” للفارابي.

[13] موقع: “الإيسيسكو” للفارابي.

[14] عباس محمود العقاد، ابن سينا الشيخ الرئيس، القاهرة، سلسلة كتاب إقرأ، 1953، الصفحة 67.

[15] المصدر نفسه، الصفحة 61.

 [16] موقع إسلام أون لاين.

[17] موقع إسلام أون لاين.

[18] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مصدر سابق، الصفحة102، بتصرف.

[19] المصدر نفسه، الصفحة 103 بتصرف.

[20] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مصدر سابق، الصفحة 104.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.