(قراءة مطهريّة في تقاطعات الدلالة والبرهان)

 

يُعَدّ الشهيد آية الله مرتضى مطهري (1920-1979م) من أبرز المفكّرين الذين جمعوا بين العمق الفلسفي والقدرة البلاغية على إيصال الفكرة بلغة واضحة، فهو لم يحصر الفكر في دائرة النخبة الفلسفية، ولم يتركه كذلك لسطحية التعبيرات العامة. في نظره، تتأسس العلاقة بين اللغة والفلسفة على توازنٍ حيوي، اللغة تمنح الفكر طريقه إلى المخاطَب، فيما تمنح الفلسفة الفكرةَ معيارها البرهاني. من هنا، يتضح كيف أسّس مطهري لرؤيةٍ تجعل “منطق اللغة”، و”منطق الفلسفة” مجالين متكاملين لا متنافرين. (مطهري، المنطق، ص. 13؛ مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج1، ص. 27).

يُعرّف مطهري المنطق الفلسفي بأنه العلم الذي يُعنى بقوانين التفكير السليم، بينما يُشير إلى أن اللغة هي الحامل الطبيعي للأفكار والمعاني. لذلك فاللغة تمتلك (منطقها) الخاص القائم على التراكيب والدلالات والبلاغة، أما الفلسفة فتمتلك منطقًا قائمًا على مبادئ العقل، شروط البرهان، ومناهج الاستدلال. (مطهري، المنطق، ص. 22-23؛ مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج1، ص. 35).

ويرى مطهري أن اللغة هي (الجسر الذي يربط الفكر بالناس)، فهي أداة لانتقال المعنى من حيّز الفرد إلى فضاء الاجتماع. لذا، فإن أي تفكير فلسفي يبقى معلّقًا إن لم يجد لنفسه لسانًا لغويًّا يوصله. لكنه في الوقت نفسه يحذّر من أن اللغة إذا استُخدمت دون معيار فلسفي فقد تتحول إلى خطاب شعاراتي لا يحمل عمقًا حقيقيًّا. (مطهري، مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج1، ص. 45؛ المنطق، ص. 50).

كما وأن وظيفة الفلسفة في منظور مطهري ليست مجرد إنتاج كلمات مترفة، بل (تطهير المفاهيم) من الغموض. فعندما تُستخدم كلمة مثل (حرية)، فاللغة تحملها بدلالاتها الاجتماعية والتاريخية، لكن الفلسفة تُطالب بتحديد شروطها العقلية وحدودها النظرية. هنا يظهر التكامل بين المنطقين، اللغة تجعل المفهوم مألوفًا، والفلسفة تجعله مضبوطًا. (مطهري، المنطق، ص. 78؛ مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج1، ص. 120).

 وفي الخطاب الديني والسياسي، تتجلّى ضرورة الجمع بين قوة اللغة ورصانة الفلسفة. فالكلمة المؤثرة تلامس العاطفة، لكنها تحتاج دعمًا برهانيًّا كي لا تكون عابرة. لذلك يؤكد مطهري أن الخطاب الحق هو الذي يوازن بين جاذبية اللغة ودقة التحليل العقلي. (مطهري، مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج1، ص. 86؛ المنطق، ص. 110).

كذلك، فإن آية الله مطهري يُحذّر من خطرين: (عزلة الفلسفة) إذا انغلقت في لغة تقنية معقدة، فإنها تفقد جمهورها وتتحول إلى نقاش نخبوي عقيم. و(انفلات اللغة) إذا بقيت بلا ضبط فلسفي، فإنها تتحول إلى خطاب عاطفي قد يُستغل في التزييف أو التضليل. الحل هو في أن يسند أحد المنطقين الآخر في توازن بنّاء. (مطهري، مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج1، ص. 150؛ المنطق، ص. 130).

يضرب مطهري مثالًا في موضوع العدالة الاجتماعية؛ اللغة العامة تستخدم شعارات جذابة، لكن من دون برهان فلسفي يُحدد معنى العدالة ومعاييرها تبقى مجرد كلمات. وفي المقابل، الفيلسوف الذي يضع نظرية في العدالة دون لغة مبسطة يعجز عن إيصالها للناس. (مطهري، المجتمع والتاريخ، ص. 95؛ القيادة في الإسلام، ص. 67). ويولي مطهري أهمية كبرى للتربية التي تُعنى بتدريب الطالب على الجمع بين التفكير الفلسفي والقدرة التعبيرية. لذلك دعا إلى مناهج تعليمية توازن بين أدوات التحليل العقلي ودروس البلاغة والتعبير. فهو يرى أن الطالب إن امتلك لغة بلا تفكير كان سطحيًّا، وإن امتلك فلسفة بلا لغة كان معزولًا. (مطهري، مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج2، ص. 200-201؛ دروس في الفلسفة الإسلامية، ج1، ص. 34).

لا يمنح مطهري أولوية مطلقة لمنطق على آخر، بل يحدد الأولوية بحسب الغرض، إن كان الهدف التأثير العام فالأولوية للغة، وإن كان الهدف بناء نظرية دقيقة فالأولوية للفلسفة. هذه المرونة تمثل سمة بارزة لفكره، فهي تجعله أقرب إلى الواقع وأكثر قدرة على التكيف مع حاجات المجتمع. (مطهري، مدخل إلى العلوم الإسلامية، ج2، ص. 260؛ دروس في الفلسفة الإسلامية، ج2، ص. 78).

يقدّم مطهري تصورًا متماسكًا، (منطق اللغة)، و(منطق الفلسفة) وجهان متكاملان للحقيقة. اللغة تُقرّب الفكرة من الناس وتمنحها حياة اجتماعية، بينما الفلسفة تُنقّيها وتضبطها ضمن قواعد التفكير السليم. وفي زمن تغلب فيه الشعارات على التحليل، أو يغرق فيه الفكر في تجريدٍ معزول، تبدو دعوته أكثر راهنية، أن نُعلّم أنفسنا كيف نتكلم بلغة واضحة مدعومة بفكر عميق، وكيف نفكر فلسفيًّا دون أن نقطع الصلة بالناس.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.