مقدمة
الإنسان اجتماعي بالطبع يميل دائمًا إلى تكوين مجتمع مترابط ومنسجم مع أبناء جنسه، في عملية أنسنة الفرد من خلال دمجه عن طريق مقصود أو غير مقصود بالمجتمع بعلاقة تفاعلية تتبلور خلالها شخصية المنشأ، فينشد باتجاه حركة غائية لتحقيق كمالاته الإنسانية بمعتقدات إلهية أو وضعية، حيث يرى “إريكسون” بأن النمو الإنساني هو حصيلة التفاعل بين العوامل البيولوجية الغريزية، والعوامل الاجتماعية، وفاعليات الأنا[1]، وأهم مؤسسة انتظم فيها الإنسان عبر التاريخ الاجتماعي كانت مؤسسة الزواج، حيث انتظمت هذه المؤسسة في بنية المجتمعات الإنسانية على مدى التاريخ باتجاهين أصليين، وكل اتجاه أعد أرضية موضعية مؤهلة لتتناسب مع مجموعة سلوكيات ودوافع إلى جانب الحاجات الذهنية التي ارتكزت على أسس ومبادئ دينية، أو على أسس التنمية المادية.
أهمية الموضوع وعلاقته بمحاور المؤتمر.
نعيش اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية غزو الأنمطة الغربية وفق منطق السوق والاستهلاك بفعل العولمة التي تتصرف فيها الدول المسيطرة من موقعها العالمي المهيمن، متجاوزة كل الخصوصيات الثقافية والبيئية للمجتمعات، حتى أصبحت السلوكيات المجتمعية بوجه العموم، والأسرية على وجه التحديد والتخصيص، تتشكل وفق مزاج مجتمعي عام، تتجاوز الكثير من قيمنا وأعرافنا الدينية وغير الدينية، هذا ما دفعني لأطرح موضوع الزواج كمؤسسة مجتمعية لازمة لكل فرد (أنثى وذكر) في مسيرة تكامله الإنساني على الأرض، المتعلقة في المحور الثاني ضمن بحوث العلوم الإنسانية والاجتماعية، لمقاربة التغييرات التي تطرأ اليوم على هذه المؤسسة المجتمعية من ناحية المبادئ التي ترتكز عليها لاعتبارات عدة، منها بأن هذه المبادئ هي الأساس والمنطلق لمنظومة الحقوق والواجبات داخل هذه المؤسسة، التي باتت تتأثر بفعل الغزو الثقافي الغربي بجملة مستجدات عصرية تتناقض ومبادئ وقيم هذه المؤسسة المجتمعية.
الإشكالية والمنهج.
باعتبار أن “السلوك الإنساني ليس فطريًّا إنما عادات مكتسبة، ينشأ من جراء تغيير الظروف الاجتماعية ومستجدات التطور والخلفية الفكرية لفلسفة الحياة، ويتأثر بكثير من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية[2]. حيث يرى “أريكسون” بأن الإنسان كائن متغير يعيش في عالم متغير في ظل نظام من المواقف الثقافية التي ترجع إلى عملية التنشئة للأطفال، وتساهم الاجتماعية في حل المشاكل التي تواجهه في كل مرحلة وتؤثر فيها[3]. نجد فلاسفة النهضة وما بعدها (الحداثة)، أحالت الإنسان إلى المنظور المادي، وأصبح يقيس مجمل سلوكياته الاجتماعية على قاعدة الربح والخسارة المادية، فأفرغت الكثير من المؤسسات المجتمعية من مضمونها المعنوي والروحي، ومن أهم هذه المؤسسات “مؤسسة الزواج”، حيث انتفت فيها غاية وجود الفرد (الذكر والأنثى) المعنوي (الروحي)، واقتصرت حياته على المنفعة الذاتية واللذات، ما فرض منظومة حقوق وواجبات زوجية تنطلق من التشارك المادي بين المرأة والرجل وصولًا إلى تأمين المناصفة لتحقيق المساوامة مع مراعاة المنفعة واللذة الفردية التي لم يسع لهم تجاوزها لأنها فطرية على حساب مصلحة مبادئ مؤسسة الزواج وأهدافه الاجتماعية والتكاملية. هذه المقاربة ارتأت بنا إلى استخدام المنهج الوصفي التحليلي في معالجة موضوع الزواج مؤسسة مجتمعية، كما دفعتنا لطرح تساؤلنا حول أي اتجاه لمؤسسات الزواج نبغيه لمجتمعاتنا الإسلامية والعربية، الزواج القائم على المشاركة والمناصفة، أم الزواج القائم على المودة والرحمة؟ فضلًا عن أن هذه المقاربة تكشف منظومة الحقوق والواجبات التي نسعى لتبنيها بصورة علنية أو مضمرة، المتعلقة بالزواج والأسرة.
من السهل أن تؤول الإشكالية في سياق تسويغ بعض التساؤلات، ولكن مدى تطابق الفرضيات هو ما يعكس الصوابية في التحليل والربط، التي يشار إليها بفكرة تأسيسية، وتبقى عملية قراءة وفهم الوقائع الاجتماعية وتحليلها وفهمها هي التي تسهم في حسم الصورة المعرفية ما يجعلنا نتوقف عند بعض الفرضيات:
- الزواج هو نمط اجتماعي يتم على أساسه الاتفاق بين شخصين أو أكثر على تكوين أسرة، وهو يختلف باختلاف منظوره الثقافي الاجتماعي.
- الزواج مؤسسة مجتمعية قائمة على المناصفة والمشاركة من المنظور المادي، ومؤسسة مجتمعية قائمة على المودة والرحمة من المنظور المعنوي.
- الغرب من موقعه العالمي يعمل على تنميط المجتمعات العربية والإسلامية بنمط الزواج الديمقراطي.
هيكل البحث.
مقدمة.
أولًا: مفهوم الزواج لغة واصطلاحًا.
ثانيًا: مؤسسة الزوج مشاركة ومناصفة.
ثالثًا: مؤسسة الزواج مودة ورحمة.
رابعًا: عولمة نموذج الزواج الديمقراطي.
خاتمة ونتائج البحث.
المراجع والمصادر.
تمهيد
الزواج بنظامه الاجتماعي الخاص مهما اختلف شكله أو نمطه قد أخرج البشرية من الوحشية إلى الحضارة، ومستوى حفاظها أو تخليها عن هذا النظام تقرب البشرية من الحضارة الإنسانية أو تبعدها عنها. فإخراج نظام الزواج في الغرب من الدائرة الدينية “السر الإلهي” في المسيحية إلى الدائرة المدنية بأنظمتها المضطرة، أفرغ هذه المؤسسة من مضمونها الأخلاقي الإنساني، لتقتصر على الماديات من نسب وسكن مشترك ووحدة اقتصادية، فضلًا عن إسقاط نتائج مقاربات الزواج وتعميم مقاربات مفكري المدارس المادية لمؤسسة الزواج على كافة المجتمعات دون لحاظ الاختلافات المجتمعية البنيوية والظرفية، أسس لتباينات معرفية حول هذه المقاربات.
أولًا: الزواج لغة واصطلاحًا.
كثيرة هي المصطلحات التي تختلف في ماهيتها بين مفكري علم الاجتماع الغربي والإسلامي، ولم تُنقح بعد، ويترتب على هذا الاختلاف النظرة المعرفية والسلوك الاجتماعي منها، ومصطلح الزواج واحد من هذه المصطلحات التي لا زالت تشكل تحدٍّ اجتماعي. كما ترتب على الخلط بين التحولات التي تصيب الأساس والبنى للزواج، والمتغيرات الناتجة عن التطور العمراني البشري الذي طرأ على هذه المؤسسة في عصر العولمة، فرض انبناء مواقف وسلوكيات اجتماعية في المجتمعات العربية والإسلامية جعلت مؤسسة الزواج تشكل اليوم تحدٍّ اجتماعي.
الزواج لغة: اقتران الزوج بالزوجة أو الذكر بالأنثى[4].
واصطلاحًا: هو عقد يفيد حق استمتاع كل من الزوجين بالآخر على الوجه المشروع[5]. ويُعرّف مفهوم الزواج بأنه الإجراء الذي أنشأه المجتمع لتكوين الأسرة، أو أنه علاقة جنسية دائمة نسبيًّا بين فردين أو أكثر على أن تكون هذه الوحدة مقبولة من الناحية الاجتماعية. بينما يرى فريق آخر من علماء الاجتماع الزواج بأنه النمط الاجتماعي الذي على أساسه يتم الاتفاق بين شخصين أو أكثر على تكوين أسرة، ويعرف في هذا الصدد “وستر مارك” الزواج على أنَّه علاقة ثابته نسبيًّا بين رجل واحد أو أكثر، وامرأة واحدة أو أكثر تتضمن الإشباع الجنسي والتعاون الاقتصادي، وتتضمن حقوق وواجبات معينة تظهر في حالة دخول الطرفين إلى الاتحاد وإنجاب الأطفال والتي يعترف بها من قبل التقاليد أو الأعراف أو القوانين. ووفق هذا التعريف يمكن اعتبار الزواج عبارة عن علاقات متعددة الوجوه، مركبة تتضمن النواحي البيولوجية والدينية والاقتصادية والقانونية والأنثروبولوجية والنفسية والاجتماعية.. إلخ، فمفهوم الزواج يختلف باختلاف الوجوه التي يبنى عليها الزواج:
- فمن الناحية البيولوجية ينظر إلى الزواج على أنَّه نظام يتضمن الإنجاب والتكاثر والحفاظ على الجنس البشري واستمراره.
- ومن الناحية الدينية ينظر إلى الزواج على أنَّه سنة الله تعالى للحفاظ على الاستقرار الروحي والأخلاقي.
- ومن الناحية الاقتصادية ينظر للزواج على أنَّه يؤدي إلى تكوين نظام لتقسيم العمل، ويتضمن التعاون الذي يؤدي إلى تكوين وحدة إنتاجية استهلاكية.
- ومن الناحية الأنثروبولوجية ينظر للزواج على أنَّه ظاهرة حضارية تطورت منذ بداية البشرية بمراحل متلاحقة.
- ومن الناحية القانونية ينظر للزواج على أنَّه منظومة قواعد وأساليب محدّدة للسلوك هدفها الحفاظ على النظام العائلي بصورة خاصة والنظام العام بصورة عامة.
- ومن الناحية النفسية ينظر إلى الزواج على أنه تفاعل بين شخصين من جنسين مختلفين، ويقوم بإشباع الحاجات العاطفية والنفسية الشخصية الأساسية وهدفه الوصول إلى السعادة الشخصية[6].
- ومن الناحية الاجتماعية ينظر إلى الزواج على أنَّه نظام اجتماعي محدّد وهو الأساس للتكوين العائلي، فيعدّ الزواج علاقة اجتماعية وتفاعل ديناميكي مستمر مع القوى الحضارية والاجتماعية الأخرى، وهو ارتباط ثابت نسبيًّا ومحدّد حضاريًّا وجد لاستقرار الفرد والعائلة والمجتمع.
ثانيًا: مؤسسة الزوج مشاركة ومناصفة.
اعتبر الزواج سر من الأسرار السبعة المقدسة في الكنيسة الكاثولكية والأرثوذكسية. وقد رفعت المسيحية من قيمة الزواج والأسرة، فبحسب الكتاب المقدس تعدّ الأسرة الوحدة المركزيّة للمجتمع المسيحي، وهي في المفهوم المسيحي كنيسة صغيرة، وذلك لكونه يشكل أساس العائلة، بحيث يصبح به الزوجان جسدًا واحدًا. ويعلن المتقدمان لسر الزواج نيتهما تأسيس عائلة، ثم يعلن كل منهما قبوله العلني، ويطلبا بركة الرب “كما بارك إبراهيم وسارة؛ إسحق ورفقة؛ يعقوب وراحيل“، ثم يتم تثبيت الزواج[7]. إلى أن أنهت الثورة الأوروبية مع أفكار “أوغست كونت” البعد الديني في الزواج، وأصبح عقدًا بين طرفين متساويين، يحق لكل منهما إنهاء العقد إما بالتوافق، وإما باللجوء إلى القضاء، ليصبح الزواج رابطة مدنية.
نشير هنا إلى جملة دوافع وعوامل متداخلة دفعت بمفكري عصر التنوير لهذا التحول في النظام الاجتماعي، منها ما هو ذاتي، لإشكالية ناتجة عن تداعيات منع الطلاق وعدم السماح لتعدد الزيجات وإن بالظروف الاستثنائية، إلى جانب الذهنية الفكرية التي كانت سائدة مجتمعيًّا حول النظرة الدونية والاحتقارية للمرأة وموقعها المهمش داخل الأسرة وصل إلى التفكير بكونها إنسان أم حيوان، حيث “إن الثقافة الأوروبية منذ القرون الوسطى وما سبقها إلى أواخر القرن الحالي كانت تنظر إلى المرأة على أنها موجود من الدرجة الثانية”[8]، فالمرأة عند الفراعنة حيث أعطت الحضارة المصرية القديمة “مركزًا شرعيًّا” للمرأة تنال فيه حقوقها في الأسرة والمجتمع عرفه عهد (أخناتون الثاني) بعد اعتماده التوحيد دين للبلاد. أما المرأة في بابل وآشور: في شريعة حمورابي تحتسب المرأة في عداد الماشية المملوكة، فضلًا عن طقوسيات هيكل(ميليتا) التي تحدد مصيرها.
ولم يختلف كثيرًا واقع المرأة عند اليونان، بالرغم من أنها أقدم المدن القديمة حضارة ومدنية، ينظرون إلى المرأة بأنها رجس شيطاني (سقط المتاع) تباع وتشترى في الأسواق، والمرأة عند الرومان، أداة إغواء يستخدمها الشيطان لإفساد القلوب، فينزلوا بها العقوبات، ودون في الألواح الاثنى عشر(المجمع العلمي) من يكن أنثى يفقد الأهلية الحقوقية.
والمرأة عند الفرس، من حقوق الرجل وممتلكاته (له الحق بقتلها والحكم عليها بالموت) ينظر إليها باحتقار مهضومة الحق ومظلومة المعاملة، وحياتها متعلقة بإرادة الرجل. فضلًا عن المرأة عند الأتراك، حيث ينصرف النساء للحرث وزراعة الحقول نهارًا، ولقضاء الشهوة وخادمات لأمهات الزعماء وحتى زوجاتهم يكن خادمات لأمهاتهم فالأم كانت محترمة.
ناهيك عن المرأة في الهند التي كانت عبدة للرجل (لا يجوز أن تكلمه أو تأكل معه على مائدة) ويقدمن الزوجات أنفسهن للنار بعد وفاة الزوج، كما في الديانة الهندوسية، يعتبر الرجل إله المرأة، تحرق وتدفن معه، ومن عاداتهم تزويج البنت في السنة الأولى من عمرها، فضلًا عن المرأة في شريعة بوذا الذي لم يكن وضعها بأفضل من الهندوس، وبالرغم من ضم بوذا في آخر عمره النساء إلى جماعته، كان يرى ذلك خطرًا على المجتمع البوذي. كما يعتبرونها في اليابان متاعًا من أمتعة الدنيا للرجل يبيعها ويشتريها (أبوها وزوجها) بقيت هذه العادة حتى سنة 1875. ويجمع الرجل في الصين بين ثلاثين أو مائة زوجة، كونفوشيوس يرى بأن الرجل يأمر والمرأة عليها الطاعة، فسلطة الأب مطلقة من حقه بيع زوجاته وأولاده.
هذا وقد كانت المرأة في الجاهلية جزءًا من الثروة، وميراث لابن الموروث الأكبر من غير الزوجة، يبقى أن المرأة في العقيدة اليهودية، تتهم بالاعوجاج لمكانتها الدنيا والهامشية مقارنة بالرجل (لأنها خلقت من ضلع آدم)، ويحمل سفر التكوين المرأة وحدها خطيئة الأكل من الشجرة، وفق هذه الرؤية تعتبر المرأة جنس هش قابل للإغواء، وغضب الرب عليها الذي أخرجها وأخرج كل الإنسانية من الجنة، فهي دون قيمة في أغلب مظاهر الحياة (يمنع عليها دراسة التوراة).
وبالرغم من مكانة مريم العذراء (ع) في الديانة المسيحية، مع ذلك لم نجد ما يكرِّم المرأة في الأسرة في الإنجيل الكاثوليكي، فالنظرة للمرأة لم تختلف كثيرًا عنها عما في اليهودية، لقد كانت المرأة بالمفهوم الديني بالنسبة للديانة اليهودية والمسيحية هي ملك من أملاك الرجل وتنتقل ملكيتها من الأب إلى الزوج، حدث التغيير فيما بعد ليس من الناحية اللاهوتية، بل من الناحية المدنية في بدايات القرن التاسع عشر حيث بدء التغيير بالقوانين، التي أقرت بعد نزاعات طويلة، تبنت بعضها الكنيسة وفي طليعتها الكنيسة البروتستانتية وفي مجمل أحكامها تبنت الأطروحات المدنية التي تساوي المرأة بالرجل كما أعطت المرأة حقَّ الطلاق تكون لها صلاحية الكاهن الأول في الكنيسة كالرجل تمامًا، بعدما كانت في إنجيل متى لا يحق لها بالزواج إذا طلقت (من طلق إمرأته فليعطها كتاب طلاق)!
هذه النظرة إلى المرأة التي تأرجحت بين تصويرها ككائنٍ منحطٍّ وشيطانيٍّ(الخطيئة)، وبين رؤيتها كمملوكة للرجل(الأب والزوج)، والعاملة والمربية وأداة لانتفاع الرجل (ينتفع الرجل بالزوجات انتفاعه برأس المال)، كما عدت السيدة والحاكمة في أقدار المجتمع، وتراكم هذه النظرة من مجمل الأمم السابقة التي غذتها المدرسة الدينية المسيحية، فضلًا عن الظروف الموضوعية الناتجة عن التحولات الاقتصادية وحاجة السوق إلى اليد العاملة النسائية الرخيصة بعد الحربين العالميتين، وما رافقهما من حركات تحرر في العالم أدت إلى حركات نسوية لتحرير المرأة من قيود الأنظمة الاجتماعية التي كانت سائدة أبرزها نظام الزواج الذي أصبح مدنيًّا وضعيًّا.
ووفق التحول باتجاه الزواج المدني دعت اتفاقية القضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة الصادر عام (1979) إلى المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة بغض النظر عن حالتها الزوجية، في جميع الميادين المدنية والسياسية والثقافية، كما أنها تدعو إلى سن القوانين التي تحظر التمييز ضد المرأة وتوصي باتخاذ تدابير خاصة مؤقتة للتعجيل بالمساواة بين الرجل والمرأة، وباتخاذ خطوات لتعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية التي تجعل من التمييز عرفًا متماديًا.
وقد نصّت بعض بنود هذه الاتفاقية على الدعوة إلى إبطال العمل بالتشريعات الدينية واستبدالها بالقوانين الدولية بحسب ما ورد في المادة (2-و) “اتخاذ جميع التدابير المناسبة بما في ذلك التشريع، لتعديل أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة التي تشكل تمييزًا ضد المرأة”.
كما نصّت المادة 16 على المطلوب بما يلي:
- نفس الحق في عقد الزواج.
- نفس الحق في حرية اختيار الزوج، وفي عدم عقد الزواج إلا برضاها الحر الكامل.
- نفس الحقوق والمساواة أثناء الزواج وعند فسخه.
- نفس الحقوق والمسؤوليات كوالدة، بغض النظر عن حالتها الزوجية، في الأمور المتعلقة بأطفالها، وفي جميع الأحوال، تكون مصالح الأطفال هي الراجحة.
- نفس الحقوق في أن تقرر بحرية وبشعور من المسؤولية عدد أطفالها والفترة بين إنجاب طفل وآخر، وفي الحصول على المعلومات والتثقيف والوسائل الكفيلة بتمكينها من ممارسة هذه الحقوق.
- نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، أو ما شابه ذلك من الأنظمة المؤسسية الاجتماعية.
- نفس الحقوق للزوج والزوجة بما في ذلك الحق في اختيار اسم الأسرة والمهنة والوظيفة.
- إلزامية النفقة بين المرأة والرجل بالتساوي. (عدم القيام بالمساهمة بالإنفاق يلزم العقوبة القانونية فضلًا عن أن خطورة القانون بأن يصبح نمط اجتماعي).
إن الإنسان الغربي قد انسحب كلية من النظام الديني، ومن أي تأثير له، وتبنّى منهج حياة جديد يدور حول المادة وإشباع اللذة والتمركز حول الذات. لذلك فمن وجهة نظر علمانية شاملة، فإن الزواج يشكل عقبة في التمتع بالحياة والوصول إلى تحقيق أي أهداف مادية أو مهنية. وتغير بموجبه مفهوم المسؤولية داخل الزواج مما أثار حفيظة الكثيرين من أصحاب الفكر الغربي المحافظين أمثال “إدموند بيرك” الذي وصم هذا العقد بقذارة المساواة لأن الزواج ما عاد بموجبها هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة للسعادة الفردية.
بالرغم من أن (روبرت لوي)، يقر “بأن الأسرة هي الوحدة الاجتماعية القائمة على الزواج، ما يعني تطور نظرة المجتمع الغربي إلى تنظيم الأسرة والاعتراف بأن أساس استقرار المجتمع يقوم على استقرار الأسرة، وأفضل استقرار لها يكون عن طريق عملية الأخذ والعطاء ونظم الزواج هي بداية تكوينها في المجتمع”[9]، كما لم يبتعد كل من عالمي الاجتماع (هارولد كريستين)، و(جورج ميروك)، حيث يرى الأول في الأسرة مجموعة من المكانات والأدوار المكتسبة عن طريق الزواج أو الولادة، ويعتبرها الثاني وحدة اجتماعية تتميز بمكان إقامة مشترك وتعاون اقتصادي ووظيفة تكاثرية كما تتكون من نسلها أو عن طرق التبني.
بالمحصلة، ركز علماء الاجتماع مؤخرًا على ثلاثة شروط يجب توفرها بالأسرة:
الشرط الأول: رابطة الدم التي تتحدد تبعًا لنمط العائلة فهي تارة أبوية، أو أمومية، أو خيالية كما هي الحال بالتبني.
الشرط الثاني: المسكن الواحد ويعني المساحة التي تشغلها الأسرة لتعيش معًا.
الشرط الثالث: فهو المشاركة في الخدمات (وحدة اقتصادية) وحلقة متصلة من الاستغلال الجماعي للمال المشترك..
نجد بأن الإشكالية التي وقعت بها المدارس الاجتماعية الغربية بأنها حصرت دور العائلة كوحدة أو مؤسسة اجتماعية تقوم بدور الإعالة، وبالتالي تقوم على مبدأ التشارك والمناصفة لإنجاح هذا الدور وربط نجاحه بنجاح الزواج، وبطبيعة الحال نحن لا ننفي دور الإعالة ولوازمها، ولكنها من عوامل نجاح الحياة الزوجية وركائزها الأساسية إلا أنها ليست كل محور وهدف الحياة الزوجية.
وها هو العالم الاجتماعي اليوم يعيش تحت تأثير المجتمع الصناعي الاستهلاكي تحت تأثير الدعاية الإعلانية التي نَمّت فيهم حب التملك المادي على حساب المعنويات، وقد عبر “أريك فروم” المفكر الغربي عنها في أسلوب الحياة التملكي تكون علاقتي بالعالم ملكية وحيازة علاقة أريد بها أن يكون كل شخص ملكًا لي، وهذا ما جعل الكثيرون يعيشون بأسلوب التملك للزوجة والابن وغيره.
وبالعودة إلى مفهوم الحرية الفضفاض في الغرب الذي يقصد به التحرر من العبودية بحسب نظرية “أوغست كونت” المشرّع الأول للمدنية الغربية الذي حرّر مجتمعاتها من العبودية الإقطاعية والملكية، فبعد توسع هذا المفهوم ليقصد به التحرر من استغلال رب العمل الذي يستثمر جهود المرأة بأجور زهيدة، إلى الانعتاق من القوانين التي تكبل إرادة المرأة أمام الزوج، وصولًا إلى التحرر من الأخلاق لأنها تمثل نوعًا من القيود والحدود، الذي انسحب إلى التحرر من المسؤوليات الأسرية لكلا الطرفين من خلال التفلت من التزامات الزواج وتشكيل الأسرة بعدما أصبحت الكثير من مهام رعاية الأطفال وتنشئتهم تقع على عاتق الدولة ومؤسساتها، وأطلق العنان والشرعنة القانونية للعلاقات خارج إطار الأسرة.
ففي الجانب الاقتصادي المرأة الغربية اليوم مستقلة تمامًا عن الرجل، ولم تعد تحتاج للزوج ليعيلها، أو أن تحمل اسمه لتستطيع تملك منزل أو لفتح حساب مصرفي، وحتى الأصول المالية والعقارية اليوم، وكذلك حقوق الأبناء تكون محفوظة بين الشريكين وموثقة، بغض النظر عن وجود الزواج من عدمه. كما شكّلت ظاهرة عزوف الغربيين عن الزواج بسبب مفهوم الجماعات “communities”، والذي أصبح يشكل لُب العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الغربي. فالمجتمع الغربي، بفعل العلمنة، لم يعد كتلة متجانسة إنما أصبح عبارة عن جماعات متفرقة، بين مجتمعي الرجل والمرأة يحكمهما الواقع التحدي، وقد انفصلت المرأة عن المجتمع ككل، وكونت حياة خاصة بها مستقلة عن الرجل وأصبح مجتمع المرأة مواز ومنافس لمجتمع الرجل.
ومن هنا كثر الحديث عن المساواة بين الجنسين لا باعتبارهما مخلوق لخالق أعطى لكلٍّ طبيعته وحريته، بل باعتبارهما مجتمعين متوازيين ومتساويين في البيولوجيا والخصائص المادية، وتحاول “جماعة المرأة” جاهدة الاستقلال تمامًا عن جماعة الرجل، ومن تمام الاستقلال الاكتفاء داخليًّا ذاتيًّا حتى جنسيًّا، وهذا في نظري هو منطلق لانتشار الشذوذ الجنسي في الغرب، فباعتبار المرأة والرجل جماعتين منفصلتين، الزواج بينهما يصبح زواجًا مختلطًا كزواج شخصين من ديانتين مختلفتين أو عرقين مختلفين؛ أي إنه يصبح الاستثناء لا الأصل، ويصبح السلوك الطبيعي في ظل هذه المجتمعات المكتفية ذاتيًّا هو الانحراف الجنسي وما عاداه يصبح شذوذًا وخروجًا عن القاعدة، بل قد يصبح ارتباط الرجل بالمرأة خطرًا؛ ليس فقط لأنه قد ينتج عنه أطفال، بل لأنه ينذر بتفسخ العقد والانسجام داخل كل جماعة على حدة، وإذابة الفوارق والحدود بينهما.
كما أن وقوع الغرب بنظرة متضادة للمرأة والأسرة من الإفراط والتفريط، قائمة بحد ذاتها على عدم المساواة بالرغم من طرحهم هذا الشعار في محافلهم وقوانينهم الأسرية، نفس الإفراط في الحرية يقابله التفريط في تطبيقها، لهذا يلاحظ الفساد والتحلّل الذي تفشى في الغرب على مدى عقود، بحيث أهلع المفكريين الغربيين وأوجد الرعب والاستياء لدى الحريصين والمصلحين والعقلاء في البلدان الغربية، إلّا أنهم باتوا عاجزين عن الوقوف بوجهه. وبسبب هذا الإفراط والتفريط اضطروا بعد سبعين سنة أو أكثر إلى القيام بنهضات جديدة تطالب بحقوق المرأة؛ ذلك لأن حركة الدفاع عن حقوق المرأة في الغرب كانت حركة مضطربة وبعيدة عن المنطق وقائمة على الجهل، والأهم بأنها مجردة من القيم الدينية والفطرية لكلا الجنسين، فألحقت أضرارًا بالجميع المرأة والرجل ومؤسسة الزواج، وأكثر ما لحق ضررها بالنساء.
وبالتالي “إن زوال الحضارات كظهورها أمر تدريجي، وليس بالأمر الدفعي والفوري، وهذا الزوال التدريجي آخذ بالحدوث”[10]. والأهم بالنسبة إلينا هو أن سبب هذا الانهيار الحضاري المجتمعي التدريجي هو انهيار مؤسسة الزواج، فهذا ما ننبه له في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. لذا فالأخطر هو ما لحق بمؤسسة الزواج من تغييرات مجتمعية نشهدها في العالم الغربي اليوم التي تشكل ظواهر اجتماعية، فلم يعد للزواج المفهوم المجتمعي العام للاقتران بين جنسين لهدف اجتماعي فطري، بل حل محله زيجات عديدة بأنمطة وأشكال منحرفة عن الفطرة الإنسانية بهدف إشباع لذات إنسانية.
غير أن ارتفاع صوت المصلحين في الغرب والدعوة إلى استمرار حالات الزواج في الغرب، وهي بالمناسبة في تناقض مضطرد، الذي يشمل عمل جيد وبيت وزوجة. ولعله تعبير عن بحث الإنسان الغربي عن حنان وسكينة تخرجه، ولو ظرفيًّا، من غابة المجتمع التعاقدي الصارمة ومن وحشة الاستغراب. ولعله حالة من الثورة على المجتمع المادي الذي يستعبده ويحد من حريته ويشكل له اختيارات حياته كلها، أو لعله القبس الإلهي الذي يدفع الإنسان فطريًّا إلى أمر يذكره بأصله وبراءته التي فقدها، ويذكره بضعفه الإنساني، ويوقظه من أكذوبة الرجل الخارق.
ثالثًا: مؤسسة الزواج مودة ورحمة.
ينظر الإسلام إلى المرأة من زاوية الكرامة، من هنا ينظر الإسلام إلى المرأة من ثلاثة أبعاد:
- البعد الإنساني التكاملي: فالقرآن الكريم يساوي في مكانة المرأة ودورها في المجتمع: قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[11].
وقال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[12].
لا يوجد فرق بين الرجل والمرأة في القرآن الكريم، وقد خلقهم الله ليعبدوه ويقوموا بالأعمال الصالحة، وينتهوا عن المنكر وكلاهما سيحاسب على أعماله.
- البعد الاجتماعي: المرأة ريحانة وليست بقهرمانة*؛ أوضح القرآن الكريم أن دور المرأة لا يقتصر على الإنجاب فقط، بل عليها أن تقوم بالأعمال الصالحة مثلها مثل الرجل، كما أكد بأن المرأة الصالحة تصلح أن تكون مثلًا وقدوة للرجال والنساء معًا، فقد جاء في القرآن الكريم: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّ ةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنْت َفرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾[13]. إن تصور بأن المرأة في البيت موجودٌ من الدرجة الثانية، وهي مكلفة بخدمة الآخرين هو تصور رائج بين الكثير في مجتمعاتنا، البعض يقوله بالعلن، وبعضهم يستحي ولا يقوله لكنه يضمره في قلبه، هذا التصور هو تمامًا النقطة المقابلة والمخالفة لما بيّنه الإسلام.
ورأي الإسلام رأي وسط “نحن أمة وسط”؛ فالإسلام لا يمنع المرأة من النشاط الاجتماعي والاقتصادي، وبنفس الوقت لا يرغمها على مزاولة أعمال ثقيلة وتكاليف باهظة، ويشترط عليها النفقة الأسرية كما يرد في القوانين المدنية الغربية.
وقد عبّر القرآن الكريم بأجمل وأفصح العبارات عن العلاقة الزوجية، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [14]. فالمرأة هي زوج الرجل ووجودها الأساس في توفير السكن الروحي له فيأنس بها، وتنمى روح المودة والرحمة والرأفة بينهما، فلا يوجد ملكية أو معايير مزدوجة، فتتشكل الأسرة الهادئة ويستقيم المجتمع الإنساني، والقيمومة ليست انتقاصًا من موقع المرأة العقلي أو الاجتماعي، بل هي مسؤولية للرجل على الأسرة كافة من باب كمال الحكمة والمصلحة لاستقامة الأسرة كما باستقامة نفس الرجل، حيث إن الله تعالى سيحاسبه على هذه المسؤولية. وعليه، فإن الدين الإسلامي قد أكرم المرأة ومنحها الحقوق والحرية والاحترام والكرامة، كما أنه منحها كل احتياجاتها الروحية والفكرية والمادية والعاطفية، وهناك الكثير من الآيات القرآنية لا يسع ذكرها وشرحها في هذا المقام نتركه لمباحث أخرى.
- الولادة الثانية.
نتأمل في هذه المفردة القرآنية ﴿ومن آياته﴾ تدخل في مفردة أساسية باعتبار أن الآية هي العلامة ومن العلامات الدالة على الله تعالى، حيث نستدل من هذه الآية بأن الله تعالى جعل الزواج من آياته الدالة عليه، فعلينا التأمل بها في إطار الإعجاز القرآني والكرامة لماذا يعتبرها الله آية من آياته.
هذه الآية تتحدث عن الخلق الجديد ولا يقصد بها بحسب بعض التأويلات الخلق التكويني الجسدي خلق حواء من ضلع آدم..، بل يتحدث عن خلق الأنفس والناس، فجاء في بعض التفسيرات للآية بأنه خلق نفسي ثانٍ بعد الخلق التكويني، حيث إن الإنسان يولد في أسرة ليس باختياره، ويعيش مع أبويه أكثر من عشرين عامًّا، ويطلب منهما على أساس أنه فرد من الأسرة، أما بالزواج فهو ينتقل إليه باختياره، ويطلب الزوج أو الزوجة ما لا يطلباه من أبويهما ما يدلل على ولادة نفسية اجتماعية ثانية من تلاقح حياتين ودمجهما لتصبح حياة واحدة بلون مختلف، تمامًا يعبر عنها بأنها أشبه بالعلاقة الكيميائية بين تركيبين مختلفين أو متجانسين، بحيث نحصل على تركيبة جديدة بنكهة قد لا يكون لها سابقة فيصبحان نفس جديدة.
- السكينة.
الزواج من آيات الله تشير هذه المفردة ﴿لتسكنوا إليها﴾ إلى الهدف من هذا الزواج هو تحقيق السكينة والاطمئان، وهذه من الألطاف الإلهية بالبشرية لهدايتهم إلى مواقع السعادة ومنشئها، صحيح بأن عوامل عدة تؤدي إلى السعادة؛ المال والشهرة والعلم والنجاح وغيره، هذه كلها قد تكون من لوازم السعادة، بمعنى آخر عوامل مساعدة للسعادة، أما السعادة الفعلية فمنشؤها في تحقيق السكينة والاطمئنان في الحياة الزوجية؛ لأن فقد هذا الاطمئنان والسكينة لا يمكن تعويضه من أي مصدر من مصادر السعادة الأخرى وعلى العكس، فوجود الاطمئنان والسكينة يسمح بتجاوز الكثير من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية وغيرها، هذا الاطمئنان والسكينة لازمين لهذه المؤسسة لأنها مركز خلافة الله على وجه الأرض؛ إذ إن هذه الخلافة لا تحصل على مستوى العلاقة الفردية بل على أساس علاقة تكاملية بين الذكر والأنثى وعلاقتهما مع الله. من هنا يرتبط الزواج بالعبادة والسكينة مع الله إذا كان الزواج لله وفيه رضا الله، فالزواج هو مرتكز لتفاعل الإنسان وتكامله الإنساني باتجاه كمالاته وسنأتي بتفصيل ذلك.
- المودة.
انتقى القرآن الكريم من بين آلاف الكلمات العربية واللغوية كلمتين: المودة والرحمة.
﴿وجعل بينكم مودة ورحمة﴾، هذا الانتقاء يستدعي التفكر بكل تفاصيله، فلنتأمل في هاتين المفردتين، ففيهما تنبيه الإنسان إلى الإعجاز أو المسلك، فمن الآيات العظمى التي قد تكون من الإعجاز القرآني هي اجتماع المودة والرحمة في نفس الإنسان (في نفس واحدة)، عبر القرآن من لوازم الزواج المودة الذي هو مرحلة متقدمة عن الحب، فالمودة هو إبراز هذا الحب بمسالك سلوكية عملية لا تقتصر على المشاعر القلبية الداخلية، صحيح بأنها من أعمال القلب إلا أنه يمكن تفعيلها بالسلوك كانجذاب الحبيب إلى المحبوب بسبب الكمالات التي يراها فيه، وهذا له علاقة بدائرة التفكير والتحكم بهذه السلوكيات، والمقصود هنا القناعة التي ينميها الزوج أو الزوجة عن بعضهما، فالمودة هي انجذاب الطرف المفعل.
عندما يحب الإنسان أحدًا تارة يحبه لإشباع عريزته، وتارة يحبه لتقديم تضحية، هذا هو الفارق أو المائز بين الحب واللذة، إن الحب هو انجذاب لدفع الثمن لهذا الحب، أو تقديم التضحية أو البذل، أما اللذة فهي انجذاب لتوقع الشهوة والرغبة من الآخر، وهذا فارق أساسي بين الحب في الله المنطلق من أفعال القلب الإلهية، وبين مسمّيات الحب التي تعارفت عليها المجتمعات المدنية التي تأتي بمعنى اللذة بعد إفراغها من مضمونها ومحتواها الروحي بالاتجاه المادي.
إن الحب بالواقع ليس أمر اختياري، في الأصل هو أمر قهري، إلّا أن له أسباب ليتحقق فيه الحب السليم، فالحب السليم عبارة عن توجه القلب من المحبوب باتجاه الحبيب بفعل الكمالات التي يراها في المحبوب، فالإنسان بطبيعته البشرية الإنسانية مفطور على حب الكمال، هذه الفطرة لا تحتاج إلى النقاش فيها، حيث إن مطلق الإنسان بمختلف انتماءاته الثقافية والدينية والأيديولوجية مفطور على حب الصدق، الأمانة، الجمال…
بالتالي تشير الآية الكريمة إلى أنك إذا أردت أن تسعد في زواجك عليك أن تبرز الحب، أو أن تبرزي الحب في الزواج، فالواحد منهما ليحقق الاطمئنان والسعادة الزوجية عليه أن يقنع نفسه بكمالات الطرف الآخر بعد أن حدد اختياره وحقق كافة تدابير الزواج. قد يصطدم بعد الزواج بفروقات طبيعية لم يحسب لها، هنا يأتي دور المودة بأن يلحظ الكمالات التي تجذبه إلى الآخر ليتجاوز بها النواقص التي من الطبيعي أن توجد، هذه المسألة لها علاقة بنمط التفكير الإنساني ومستوى تفاؤله وفهمه للجمال والكمال، فعلى سبيل المثال: إذا نظر أحدنا إلى كوب فيه ماء، قد ينظر أحد ما إلى الجزء المليء من الكوب، فيبعث فيه هذا النمط الفكري التفاؤل والإيجابية في النظر للأمور، وبالتالي هذا لا يعني بأنه لا يرى الجزء الفارغ منه إلا أنه ينجذب إلى الجزء المملوء، وممكن أن يتغافل عن الجزء الفارع أو يغفل عنه، وبالمقابل الطرف الذي ينظر مباشرة إلى الجزء الفارغ من الكوب، ينطبع عنده وعلى المستوى النفسي، النظرة التشاؤمية التي قد تجعله يغفل عن الجمال والكمال الموجود في الكوب، وبالتالي قد تصل هذه النظرة التشاؤمية إلى العجز عن أصل رؤية الجزء المملوء، وتنطبع عليه النظرة التشاؤمية بالرغم من أن الموضعين للكوب هو نفسه إلّا أن نظرتنا ونمط تفكيرنا اتجاهه اختلفت.
د. الرحمة.
الرحمة من أفعال القلب أيضًا، فلماذا قرن الله تعالى المودة بالرحمة، بالتأمل نجد بأن كلمة المودة سبقت كلمة الرحمة، والرحمة ألحقت بها، لتتكامل فيهما أفعال القلب، فمن الناحية العملية من الصعب أن نجد علاقة زوجية خالصة بالمودة في كامل مراحل حياتها ولم يعترِها أي اضطراب باستثناء نموذج النورين (مولاتنا الزهراء، ومولانا الأمير (ع))، لذا أتت الرحمة القلبية لتملأ الفراغ الذي يمكن أن يحدثه النقص في الكمالات، والذي يؤدي بنتيجة حتمية إلى قلة وضعف الانجذاب، وبالتالي اهتزاز المودة التي هي من لوازم العلاقة الزوجية، كما أنها جزء لا يتجزأ من العلاقة التعبدية لله كما أسلفنا.
فالرحمة هي رقة القلب وتفعيله بسبب النقص الذي يراه المحبوب في الحبيب، فمقاربة هذه النواقص بالرحمة لها تجليات سلوكية أبرزها التغافل؛ وهنا التغافل يأتي بمعنى التسامح، والعمل لملء هذه النواقص دون المساس بمشاعر المودة أو التأثير فيها، دون أن تنتقص مشاعر المودة العاطفية كأن يفصل الفرد (الزوج أو الزوجة) في حال الاختلاف في بعض المواقف أو السلوكيات بين الرأي والعاطفة بينهم.
فالرحمة تأتي هنا بمعنى مناقض للمودة، فهي انجذاب للنقص الموجود في المحبوب برحمة تسمح للمساعدة في ترميم النقص الموجود في الآخر، كما أن انجذاب الطرف الآخر برحمة للنقص الموجود عندي يؤدي إلى تكامل الطرفين، فالزوجان متكاملان في التكوين وفي العاطفة.
يريد الله تعالى لنا أن نتكامل بتعويض النقص في غيرنا، وأن نتكامل بتغيير غيرنا بالنقص الذي فينا، فإن الأسر التي لا تستفيد من المودة والرحمة هي الأسر التي لم تكتشف نفسها، بل تتوقع دائمًا من الغير أن يكون كاملًا، خاصة إذا اعتبرنا بأن السعادة الكاملة لا يمكن أن تتوفر في الدنيا، فقليل منها في هذه الدنيا يكفي لإشباعنا، ولعل مشكلة بعض الأزواج (الزوج والزوجة) أنهم يتعاملون مع الدنيا بأنها دار السعادة، وهذه شبهة في الواقع. هذه الدنيا دار التجربة ودار ابتلاء لنتكامل بإنسانيتنا، ودار إثبات الجدارة في ترميم النفس وإثبات الجمال.
ه. خطوات عملية لتفعيل المودة والرحمة.
الحياة الزوجية التي يريدها الله تعالى لا يريدها على أساس اللوازم القانونية بقدر ما يريدها على أساس الآداب السلوكية التي تفعل المودة والرحمة لتؤدي إلى الاطمئنان والاستقرار، من هنا استخلصت جملة آداب مسلكية لكلا الطرفين للتوفيق في تفعيل المودة الأسرية:
- البشاشة: عن الإمام علي (ع): “البشاشة فخ المودة”[15]، وعنه (ع): “البشاشة حبالة المودة”[16]، ولو بالتطبع بأن يتطبع الإنسان بإظهار البشاشة للطرف الآخر، وإن كان مرهقًا من الناحية النفسية، عليه وعليها إظهار البشاشة، عن الرسول الأكرم (ص): “إذا نظر إليها سرته”[17]. وفي حديث الأمير عن الزهراء (ع): “كنت إذا نظرت إليها انجلت عني الهموم والأحزان”[18].
- حسن الخلق: “حسن الخلق يورث المحبة، ويؤكد المودة”[19]؛ التعامل الحسن يجعل الآخر في مقام صناعة الحب بعد الزواج، يمكن لحسن الخلق أن يحل الكثير من المشاكل الزوجية، ومن حسن الخلق الكلمة الطيبة، ونحتاج لثقافة معرفة وتطبيق في هذا المجال.
- الهدية: قال رسول الله (ص): “تهادوا تحابوا”[20]. جرت العادة بأن تكون الهدية في مجتمعاتنا من لوازم المقيدات الاجتماعية بلزومها في مناسبات عديدة، وهذا قد يفقد الهدية الكثير من مفاعيلها النفسية والعاطفية، هنا أشير إلى ضرورة تثقيف الشباب بمفاعيل الهدية النفسية بين الأزواج التي تحمل أكثر من قيمة مادية، فالهدية في المناسبات الإسلامية للزوجة، أو للزوج يحمل قيم دينية واجتماعية وتعبدية كما يعزز المحبة بين الطرفين، فضلًا عن هدية المسافر الذي غاب عن عائلته، فالهدية ليست بقيمتها المادية، حيث ورد الحديث عن الإمام الصادق(ع) “إذا سافر أحدكم وقدم من سفره فليأتي أهله بما تيسر”[21]. هنا الإشارة إلى الانطباع والاستقرار النفسي، حيث تقول الزوجة في نفسها تذكرني وهو في سفره، فهذه الهدية دلالة على اهتمامه به، وهذا المقصد من هذه الآداب.
- التعبير العاطفي: وهنا أشار القرآن إلى التمييز بين الحب والمودة، بأن الثاني هو تجسيد هذا الحب بإظهاره بالتعبير، وهو من لوازم الحاجات النفسية التي أقرتها الكثير من الدراسات النفسية اليوم عن حاجات المرأة تحديدًا لأنها مجبولة تكوينيًّا على العاطفة أكثر من الرجل، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي حاجات الرجل النفسية لإظهار العاطفة من قبل المرأة إلّا أن المرأة أكثر حساسية اتجاه هذا الأمر، وهنا يأتي قول الإمام علي (ع): “مودة الآباء قرابة بين الأبناء”[22]، كدلالة على انعكاس إبراز وظهور العاطفة بين الآباء على الأبناء، فإشباع الحاجات العاطفية فطرية وهي ستعكسها عاطفة جياشة على الأبناء ورحمة على الأهل، بالتالي نحن أمام حلقة متكاملة من تبادل العاطفة. قالرسول الله (ص): “قول الرجل للمرأة: إني أحبك لا يذهب من قلبها أبدًا”[23]. فهي لا تنساها في الوقت الذي قد تتغافل أو تنسى الكثير من الكلمات.
- ملاحظة الكمالات في الآخر: الإنسان حينما يلاحظ الكمال ينشدُّ إليه بشكل غير إرادي، ولا يحتاج إلى جهد يبذله، وحينما يلحظ النواقص ينفر منه، أقترح (نشاط) لكل زوج وزوجة إدراج جدول للكمالات الموجودة في الطرف الآخر، وإدراج جدول للنواقص، وإجراء مقاربة بسيطة للعمل على تجاوز النواقص بمساعدة الطرف الآخر بشفافية وصدق وصراحة؛ لأن الصدق والوضوح وفهم الآخر سر من أهم أسرار السعادة الزوجية واستدامتها.
- تقدير الآخر: وهذا يحتاج إلى تثقيف توعوي لشبابنا وشاباتنا بأن يقدّر الزوج زوجته وبالعكس، ولا يستهين بأي عمل يقوم به الطرف الأول اتجاه الآخر، فإذا كان الله يقدر عمل المرأة في خدمة زوجها ويعطيها عليه الكثير من النعم الدنيوية والآخروية على سبيل المثال لا الحصر، “أي إمرأة خدمت زوجها سبعة أيام يعني أسبوع من حياتها، غلق الله عنها سبعة أبواب النار وفتح أمامها ثمانية أبواب الجنة تدخل من أي شاءت”[24].
كما يرد الحديث أيضًا في تقدير الله لعمل الزوج بالحديث التالي: “يا علي لا يخدم العيال إلّا صديق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة”[25]. هذه الشهادة من الله تعالى تعظيم شأن الزوجة والزوج في خدمة بعضهما البعض فمن نحن الفقراء إلى الله لا نقدر الآخر ونعظمه.
رابعًا: عولمة نموذج الزواج الديمقراطي.
فرض الغرب من موقعه العالمي المهيمن معادلةٍ جديدة مفادها: أن الغرب قادر على تنميط المجتمعات العربية، تحت أساليبٍ، وحججٍ، وذرائع وهمية؛ يرادُ منها تحسين واقعهم المعاش والانتقال بهم من التخلف إلى الحضارة، ومن البداوة إلى التحضر، تحت شعارات الحرية والتحرر والاختلاط والإباحية المطلقة، والتصور الخاطئ لمفهوم المرأة، وإطلاق العنان للشهوات بدون أيّ قيود أو حدودٍ من شأنها أن تخلق واقعًا جديدًا مغايرًا للواقع العربيّ والإسلامي المحافظ الذي اعتاد عليه أبناؤه منذ سنوات مضت.
وأبرز تجلي للعولمة يظهر في سعي المنظمات العالمية الاجتماعية إلى تظهير قضايا المرأة بأنها قضايا عالمية تستلزم رزنامة حلول واحدة ترعاها المنظمات العالمية لحقوق المرأة بقوانين وضعية نتجت عن تحولات للظروف الاقتصادية والسياسية ولخدمة تداعيات هذه التحولات مستبعدين الدين (الإسلامي والمسيحي)، وحتى كل القيم الإنسانية الفطرية. بكل موضوعية علمية، تتباين البيئات الاجتماعية من مجتمع لآخر، فالتحديات التي تعتلي المرأة في لبنان تختلف عن تحديات المرأة الفلسطينية في فلسطين، كما تختلف عن تحديات المرأة السورية فضلًا عن الخليجية والإيرانية، فكيف بالتباين مع المرأة الغربية التي نختلف معها اختلافًا جذريًّا في العقيدة والثقافة والظروف البيئية والسياسية والاقتصادية. وقد شهد أول تجلي لعولمة قضايا المرأة في مؤتمر بكين في الصين 1995، حين خلعت سيدة مسلمة لحجابها على المنبر، وتصفيق الجميع لها دلالة واضحة على هدفية هذه المنظمات تحت شعار التحرر من التخلف الديني بحسب توصيفهم.
كما نستشهد هنا بشاهد عيان[26] من نفس المؤتمر تعليقًا على هدف رئيسي في البند الرابع منها:
“تبنى قاعدة عمل تركّز على نقض القضايا الأساسية التي يمكن اعتبارها عقد رئيسية أمام تقدم غالبية النساء في العالم”. إن من القضايا الأساسية التي جرى التأكيد على ضرورة نقضها: قوانين الأحوال الشخصية السائدة في البلدان العربية والإسلامية باعتبارها من أهم المعوقات التي تحول دون تقدم المرأة في هذه البلدان ووصولها -كما يزعمون- إلى مواقع صنع القرار.
كما نشهد اليوم استدامة هذه المنظمات من خلال طرح الزواج المدني بديلًا عن الزواج الديني تمهيدًا للترويج إلى أشكال الأسرة التي يعترف بها الغرب اليوم ويشرعها ويقدمها للعالم كنموذج يحتذى به، ومؤخرًا شهدنا تجلي آخر لعولمة قضايا المرأة والأسرة في تظهير نموذج الأسرة الديمقراطية كنموذج للعالم، وباختصار هي المنظومة الاجتماعية القائمة على مرتكزي (الحرية والمساواة)، بحسب الفلسفة الوضعية، وتتجه للفردية الأسرية في علاقتها الاجتماعية مع تطور مفهوم الأسرة.
على المستوى النظري نجد العرب والمسلمين في مجتمعاتنا يتبنون المفهوم المعنوي للزواج، إلّا أنه في التطبيق العملي تتم ممارسة التطبيقات الاستهلاكية، إذ يتعاطى الزوج مع الزوجة بأنها ملك له، كما أن الزوجات في مجتمعاتنا ينجذبن لأفكار التحرر النسوي، والدعوة للاقتدار غير مدروس المفاعيل أسريًّا واجتماعيًّا، كما نشهد مؤخرًا دعوات مضمرة ومعلنة للنمط الديمقراطي في العلاقة الزوجية وحتى الأسرية، مع علمنا وإدراكنا بأن تربية الأولاد على مبدأ الحرية بالمطلق تحت شعار الديمقراطية داخل الأسرة يؤدي إلى ظاهرة الفردانية الأسرية التي تفتقد الأسرة فيه هويتها الاجتماعية المتكاملة بمراتبها الثلاث، التي تعطي العصمة والاطمئنان، فشأنية الأسرة في إشباع الحاجات النفسية والانفعالية والتربوية وإغناء التجربة الاجتماعية.
وعلى سبيل المثال أنا أربي إبني بعيدًا عن الأعمام والأخوال لأنه لدي ملاحظات على طريقة تربيتهم، هذا الفصل بحد ذاته يوقع في أزمة الهوية الأسرية لأن الحاجات الإنسانية الإشباعية فطرية عند الإنسان وسيأخذها من الجيران والأصدقاء والمحيط لتكوين الخبرات إذا لم يأخذها من أسرته ووسائل التواصل والإنترنت، وهنا يصعب الإحاطة بالأمور ومعالجتها نتيجة تشتت المحيط الاجتماعي، أما الفرد الذي ينشأ في أسرة متكاملة بالخبرات المتنوعة، من السهل الإحاطة بتأثيراتها الجانبية ومعالجتها، فيشبع حاجاته الاجتماعية ويواجه المجتمع ببصيرة وقدرة وإرادة. فضلًا عن أن الدعوة للمساواة بين الرجل والمرأة في منظومة الحقوق والواجبات الأسرية دون لحاظ الاختلاف التكويني، يعرض هذه المنظومة للتفكك والانحراف عن غايتها الإنسانية.
خاتمة ونتائج البحث.
الإنسان دائمًا في حالة سيرورة وتحول، وسياق التحول التاريخي الاجتماعي يحتاج إلى ميزان، ومؤسسة الزواج هي الميزان في هذا التحول، وكل ميزان يحتاج إلى معيار نقيس عليه، وحين تكون الأسرة أساس وجود المجتمع هي في الواقع أساس الأخلاق والمعنويات والبعد الروحاني والتدين، ولقياسها لا بدّ من معيار أو نموذج، هنا يظهر الفارق بين علم الاجتماع الغربي وعلم الاجتماع الإسلامي في المعيار والنموذج الذي نقيس عليه، الناتج عن الاختلافات في الاتجاهات الفكرية العقيدية والثقافية.
فالباحثون في علم الاجتماع الغربي يعتمدون على الاتجاهات التجريبية والميدانية التي تقوم على دراسة المجتمعات وتعميم النتائج لانتظامها في قوننة وضعية من صنع البشر، أما الاتجاه الإسلامي فهو يتمحور بين نمطين فضلًا عن النمط الحداثوي عند بعض المفكرين المسلمين:
- نمط محافظ يستند إلى المباني الشرعية ليعالج المشكلة.
- نمط إصلاحي ينطلق من الإشكاليات أو المشكلة ليعالجها وفق تجربة الغرب بما يتوافق مع الرؤية الشرعية.
إذن، هناك اتجاهين:
الاتجاه التأصيلي: الذي يحافظ على الأصول والقيم وينطلق منها لمعالجة المشاكل أو التغييرات الاجتماعية. والاتجاه الإصلاحي: الذي يمسك بالمشكلة ويظهرها أو يضيء عليها ويفتش عن حل لها مع مراعاة التشريع الإسلامي، ونحن هنا نشير إلى أن القراءة في التجربة الغربية مفيدة ولكن ليست للتأسيس عليها، بل لتوسيع الأفق وليس لاجتراح الحلول، فنحن في الأصل لا يوجد عندنا أزمة مع النص الحقوقي، كما لا يوجد أزمة مع النموذج أو المعيار للأسرة، والمدرسة الاجتهادية في الإسلام كفيلة بحل إشكالية التغييرات الاجتماعية، حيث إن تغيير الأحكام يتم بسبب تغيير الموضوعات، فموضوع أي حكم بمجرد أن يزداد فيه قيد أو ينتفي قيد يتغير الحكم فيه، فلديه حالة من البسط والتعدد للأحكام ونسب تتحدد في ضوئها أحكام الموضوع.
كما نجد بأن منظومة الحقوق الزوجية معدودة في الطرح القرآني، أما الآداب والسنن نجدها وفيرة، وهذه دلالة واضحة على أن الحياة الزوجية التي يريدها الله لنا التي هي مركز لتكاملنا الإنساني الدنيوي والآخروي يريدها على قاعدة التراحم والأخلاق بعد المودة، وليس على قاعدة اللوازم الحقوقية القانونية. فالقانون والغرب اليوم يحاول إعادة نسج العلاقة الزوجية لأنها بنيت على أسس قانونية. كما يستدل من هذه المنظومة الحقوقية تباين في النمط السلوكي للتعاطي المجتمعي بين مؤسسة الزواج والمؤسسات التجارية والاقتصادية وغيرها. ففي مؤسسة الزواج مكيال ثلثه فطنة وثلثاه تغافل، بينما نجد النمط السلوكي لنجاح المؤسسات الأخرى يقوم على مكيال ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل أو تسامح.
تبقى قوننة العلاقة الزوجية في إطار من التدبيرات التي يفرضها الزمن ومقتضيات العصر المحك الاجتماعي، هنا يبرز النقاش بين نموذجين واتجاهين: النموذج الإسلامي باتجاهيه الأصيل والإصلاحي، والنموذج العلماني باتجاهيه الإنسانوي مقابل الدين، والعقلاني مقابل المقدس، وإذ إن هذا التفرد الغربي بحاجة للكثير من النقاش، فبالإشارة إلى أن أصل امتداد الأنسنة من حيث الوجود والمصدر هي الهدف الأول في الخطاب الديني، فمشروع الإسلام إنساني، والعلمنة بنتائجها تفصل بين الأصل والفرع، كما أن تماهي العقلانية مع المعنوية تعمق الرباط الديني الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ليصبح فصل العقلانية عن الدين هو فصل الإنسان عن فطرته الإنسانية. لذا الإسلام يدعو إلى التكامل بين العقل والروح بحسب اللوازم الضرورية المجتمعية، ومن هنا فصل في المسالك الاجتماعية التي تتعاطى مع ما يمكن تسميته مؤسسات مجتمعية، بالتالي حدّد منظومة مسلكية للتعاطي مع مؤسسة الزواج تختلف عن التعاطي مع المؤسسات التربوية والإنتاجية والإعلامية والاقتصادية وغيرها.
* بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الدولي الإفتراضي: البحث العلمي يتحدى الظروف الصعبة. جامعة بابل.
[1] صفاء سعيد عبد الحميد، إريك أريكسون ونظريته النمو النفسي-اجتماعي (20/10/2017) أنظر الرابط: https://www.new-educ.com/%D8%A5%D8%B1%D9%8A% تاريخ الدخول: 10/6/2020
[2] ناريمان غنام، الأنماط الاستهلاكية المترفة عادات مجتمعية غريبة. أنظر الرابط: www.Thawra.syتاريخ الدخول: 2/1/2018.
[3] صفاء سعيد عبد الحميد، إريك أريكسون ونظريته النمو النفسي-اجتماعي (20/10/2017)، مصدر سابق.
[4] محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1956، الصفحات 2-29.
[5] محمد أمين الشهير بابن عابدين، الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، بيروت، مكتب البحوث والدراسات دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995، الجزء 3، الصفحة 43.
[6] ناصر حسين القريشي، تعريف الزواج وماهيته،كلية الآداب قسم الاجتماع (أستاذ المادة)، 15/11/2012
[7] انظر الرسالة الأولى إلى كورنتس 14/6.
[8] مركز المعارف للتأليف والتحقيق، المرأة والأسرة في فكر الإمام الخامنئي، بيروت، دار المعارف الإسلامية الثقافية، 2018، الطبعة 2، الصفحة 15.
[9] كمال دسوقي، الاجتماع ودراسة المجتمع، القاهرة، مكتبة الإنجلو المصرية، الطبعة1، 1971، الصفحة 445.
[10] المرأة والأسرة في فكر الإمام الخامنئي، مصدر سابق، الصفحة 39.
[11] سورة الأحزاب، الآية 35.
[12] سورة آل عمران، الآية 195.
* القهرمان يعني الكادح والخادم المجد.
[13] سورة التحريم، الآيتان 11و 12.
[14] سورة الروم، الآية 21.
[15] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء1، الصفحة 262.
[16] المصدر نفسه، الجزء1، الصفحة 262.
[17] الشيخ الكليني، الكافي، الجزء 5، الصفحة 327.
[18] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 43، الصفحة 134.
[19] محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، الجزء 10، الصفحة 216.
[20] الشيخ الكليني، الكافي، الجزء 5، الصفحة 144.
[21] السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، الجزء 16، الصفحة 517.
[22] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، الجزء 71، الصفحة 264.
[23] الشيخ الكليني، الكافي، الجزء 5، الصفحة 569.
[24] الحر العاملي، وسائل الشيعة، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة 2، جمادى الآخرة 1414 ه. ق، الجزء14، الصفحة 123.
[25] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، طهران، دار الكتب الإسلامية، 2017، الجزء 101، الصفحة 134.
[26] عفاف الحكيم رئيسة رابطة النهضة الاجتماعية، موقع ممهدات. أنظر الرابط: http://momahidat.org/index.php
تاريخ الدخول: 4\5\2020.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
