الفلسفة والرجاء

دراسة تحليلية مقارنة في ضوء الفكر الإسلامي والغربي
المقدمة والمشائية (1)
ملخص البحث
أهداف البحث: يركز هذا البحث على تحليل مفهوم الرجاء والخوف في الفكر الإسلامي، مستعرضًا المدارس المشائية، الإشراقية، والحكمة المتعالية. يقارن تطورات المفهوم بين الرؤية العرفانية للإمام الخميني والعرفاء المسلمين والطرح الفلسفي العقلي عند فلاسفة الإسلام، ويقارن الرجاء في الفلسفة الإسلامية والغربية مع تحديد أوجه الالتقاء والاختلاف. يدرس أبعاد الرجاء في علم النفس الحديث ويربطها بالدافعية، والمعنى، والتكيّف، ويبرز وظيفة الرجاء كقيمة وجودية وتربوية.
منهجية البحث: يعتمد البحث على المنهج التحليلي المقارن، متناولًا المفاهيم اللغوية والقرآنية والحديثية المرتبطة بالخوف والرجاء. تتضمن الدراسة نصوص الفلاسفة مثل ابن سينا والفارابي وملا صدرا، وتحليل أدبيات العرفاء والصوفية خاصة آثار الإمام الخميني. تشمل أدوات البحث مقارنة المفاهيم الفكرية وربط النظرية بالتطبيق لبناء الشخصية المؤمنة.
الإنجازات البحثية: توصل البحث إلى أن الرجاء في الفكر الإسلامي يتجاوز الأمل ليكون رؤية تكاملية تجمع المعرفة والعمل والسعي للكمال. قدم الفلاسفة المسلمون رؤية عقلانية للرجاء من خلال الاستعداد للاتصال بالعقل الفعّال. المدرسة العرفانية رفعت الرجاء إلى مقام وجداني توحيدي. في الفكر الغربي، انقسم المفهوم بين الرفض العقلاني والاحتفاء الوجودي. أعاد علم النفس الإيجابي المعاصر مكانة الرجاء كأداة علاجية وتحفيزية للصحة النفسية والمعنى الوجودي.
الخاتمة: يتضح من الدراسة أن الرجاء والخوف هما بُعدين مهمين في النفس الإنسانية، يؤسسان لوعي كوني وأخلاقي وتوحيدي، ويؤكدان أن الرجاء يتحقق عبر البصيرة والتربية ومجاهدة النفس، مشكّلًا أداة لفهم الوجود وتربية الذات وتحقيق المعنى في عالم معقّد ومستقبلي.
المقدمة.
البحث عن مفهوم الرجاء يحتل موقعًا رئيسيًّا في تشكيل الوعي الإنساني، حيث يعبّر عن حالة نفسية وروحية يتطلع فيها المرء إلى مستقبل أفضل، بالرغم من الغموض والقلق أو التحديات التي قد تواجهه. لا يُعتبر الرجاء مجرد شعور عابر، بل هو عنصر مؤثر في تشكيل الإرادة وتوجيه السلوك وتحقيق المعنى وبلوغ الكمال. لذا، حظي الرجاء بأهمية خاصة سواء في الفكر الديني أو الفلسفي، حيث يُنظر إليه كقيمة روحية وأداة معرفية وأخلاقية.
في التراث الفلسفي والعرفاني الإسلامي، يُنظر إلى الرجاء كفضيلة توازن بين اليأس والغرور، مستندة إلى العلم والعمل والتوكل كما لدى ابن سينا والفارابي وبهمنيار، أو كحالة وجودية تنبثق من حركة النفس نحو كمالها كما في فلسفة ملا صدرا.
في التصوف، يُعتبر الرجاء مقامًا توحيديًّا حيث لا يرجى إلا وجه الله. هذا المفهوم التربوي العميق تمثّل أيضًا في فكر الإمام الخميني الذي اعتبر الرجاء أحد جنود العقل شرط أن يترافق بالخوف والمعرفة.
على الجانب الآخر، تناول الفكر الغربي القديم والمعاصر الرجاء من زوايا مختلفة: حيث ظهر في الأساطير اليونانية كقوة غامضة، واعتبره أفلاطون وأرسطو حالة قد تكون نبيلة أو خادعة. في الفترات الحديثة، اعتبره سبينوزا انفعالًا غير عقلاني، بينما أعاد بلوخ صياغته كطاقة تحرّك التاريخ، ورآه بول ريكور كبُعد تأويلي موجود في الزمن والمعنى. احتضن علم النفس الإيجابي الرجاء كأداة علاجية مع مفكرين مثل فرانكل وسنايدر وسيلجمان.
استنادًا إلى هذا التنوع النظري والمنهجي، يسعى هذا البحث إلى تحليل مفهوم الرجاء من منظور مقارن بين أبرز المفكرين الإسلاميين والفلاسفة الغربيين عبر العصور، مع التركيز على مرجعياته ووظائفه والأبعاد النفسية والمعرفية والوجودية والتربوية. يهدف البحث لإبراز الخصوصيات المعرفية والأخلاقية التي تميز التصور الإسلامي للرجاء كقيمة متكاملة عقلية وروحية وأنطولوجية.
أولًا:المعنى اللغوي للرجاء وسياقاته القرآنية والحديثية.
في اللغة: الرجاء مشتق من مادة (ر-ج-و) التي تدل على التعلق بخير منتظر. ورد في “لسان العرب” (ابن منظور، ج14، ص312، دار صادر): الرجاء هو توقع الخير مع احتمال حصوله. أما في “المفردات” (الراغب الأصفهاني، ص356، دار القلم)، فَيُميّز الرجاء عن الطمع، بأن الأول مقترن بالعمل والثاني خالٍ من الاستعداد.
ويُلاحظ في تحليل المعاجم اللغوية أن الرجاء يقترن دائمًا بمستوى من الثقة والاحتمال، ما يجعله مختلفًا عن اليأس من جهة، وعن التمني من جهة أخرى. ولهذا فإنه يشكّل فعلًا معرفيًّا يحمل في طياته البعد العملي والمستقبلي معًا.
في القرآن الكريم: تتعدد دلالات الرجاء بين التعظيم كما في قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً﴾ (سورة نوح، الآية 13)، وبين الأمل في الرحمة: ﴿يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ﴾ (سورة البقرة، الآية 218). وقد فسّر الطباطبائي في “الميزان” (ج20، ص87، مؤسسة الأعلمي) الآية الأولى بمعنى التقدير والخشية، لا بمعنى التوقع.
يتّضح من السياقات القرآنية أن الرجاء لا يُفهم في عزلة عن العمل، بل هو دافعٌ نحو الفعل، وشكل من أشكال التوكل المرتبط بالبصيرة. لذلك جاء في آيات أخرى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾ (سورة الكهف، الآية 110).
في الحديث الشريف: ورد عن الإمام الصادق (ع): “لا يكون العبد مؤمنًا حتى يكون خائفًا راجيًا” (الكليني، الكافي، ج2، ص67، دار الكتب الإسلامية). وفي “نهج البلاغة” يقول الإمام علي (ع): “من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف شيئًا هرب منه”، مما يؤكّد أن الرجاء يشكّل محرّكًا داخليًّا للسلوك الإيماني.
ثانيًا: الرجاء في الفلسفة الإسلامية.
يندرج الرجاء ضمن القضايا الأساسية في الفلسفة الإسلامية لما له من علاقة مباشرة بمفهوم الكمال، وغاية الوجود الإنساني، وسير النفس نحو السعادة القصوى. وقد عالج الفلاسفة المسلمون هذا المفهوم ضمن سياق نظرهم في النفس، والسعادة، والمعاد، والتوحيد، كلٌّ بحسب مدرسته الفلسفية.
- الرجاء عند المشائين.
1.1 الرجاء عند الفارابي: بين النفس والعقل الفعّال.
1-1-1 خلفية المفهوم.
لم يفرد الفارابي (ت. 339هـ) بابًا خاصًّا للرجاء، لكنه تناول معناه ضمنيًّا من خلال حديثه عن سعي النفس الإنسانية إلى السعادة، وترتيب الأعمال الفاضلة التي تؤهل الإنسان للبلوغ إلى “الغاية القصوى”.
فالرجاء عنده يُفهم باعتباره توقّعًا عقلانيًّا للسعادة، نابعًا من استعداد النفس وتوجهها نحو الكمال.
يقول في تحصيل السعادة: “السعادة تُنال بالفضائل العلمية والأخلاقية، ومن عرف ذلك سعى إليه، ورجا تحققه إذا صدق في طلبه”. (الفارابي، تحصيل السعادة، ص41).
2-1-1 الرجاء كمظهر من مظاهر الحياة الفاضلة.
يرى الفارابي أن الرجاء الحق لا يقوم إلا في إطار المدينة الفاضلة، حيث تكون التربية العقلية والخلقية موجهة نحو تحقيق الكمال الإنساني.
وفي هذا السياق، يُعدّ الرجاء وظيفة للنفس التي “تتخيل الممكن على أنه قريب الحدوث” شرط أن يكون لها قوة عملية وعقلية تؤهلها لذلك.
وفي آراء أهل المدينة الفاضلة، يشير الفارابي إلى أن:
“النفس التي تُدرِك أن سعادتها في التوحّد مع العقل الفعّال، تترجّى الوصول إلى هذه الغاية، بما تملك من الفضائل النظرية والعملية”. (الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص93).
الرجاء هنا ليس شعورًا عاطفيًّا، بل هو تقدير عقلي لأفق النفس في الترقي الوجودي.
3-1-1 الرجاء والسعادة.
السعادة هي الغاية القصوى عند الفارابي، وهي التي تحدد “ميدان الرجاء الحقيقي”. فالإنسان الذي يتوفّر على الأسباب الفاضلة، من علم وعدالة واعتدال وشجاعة، هو الذي يستحق أن يرجو.
وأما من يطلب السعادة دون هذه الشروط، فرجاؤه باطل يشبه الغرور، تمامًا كما هو الحال في الرجاء السلبي عند الغزالي والأشاعرة.
4-1-1 الرجاء في مقابل الوهم والتمني.
الفارابي يحذر ضمنيًّا من الخلط بين الرجاء والتمني، ويجعل ذلك جزءًا من تمييزه بين “الإنسان العاقل”، و”الجاهل”، أو “العامي”.
ففي السياسة المدنية، يقول: “من ظن أن السعادة تأتيه دون تكميل النفس، فهو في وهم، لا في رجاء”. (الفارابي، السياسة المدنية، ص127).
فالرجاء الحق لا ينشأ إلا عن تصور عقلي مطابق لما يمكن للنفس أن تبلغه، وبالتالي هو أخلاقي – معرفي في آن.
5-1-1 الرجاء والمبدأ الأول.
وإن كان الفارابي لا يستخدم لفظ “الرجاء” صراحة في حديثه عن “العقل الفعّال”، أو “المبدأ الأول”، فإن مشروعه الفلسفي بأكمله مبني على أمل النفس في الاتصال بالعقل الفعّال، بوصفه أعلى غايات الوجود الإنساني.
وهذا الأمل هو ما يمكن أن نعتبره الرجاء الفلسفي الأعلى في رؤيته.
الرجاء عند الفارابي هو انتظار عقلاني للسعادة المتحققة عبر الفضائل.
ليس عاطفة محضة، ولا مقامًا وجدانيًّا، بل هو ثمرة من ثمار العقل العملي والنظر العقلي.
ويُشكّل الرجاء أحد المؤشرات على نضج النفس وبلوغها مرتبة الاستعداد للاتصال بالعقل الفعّال، الغاية القصوى للوجود الإنساني في فلسفته.
2-1 الرجاء عند ابن سينا: قراءة فلسفية في ضوء النفس والمعاد.
1-2-1 السياق العام.
لم يتناول ابن سينا (ت. 428هـ) الرجاء بوصفه مقامًا روحيًّا صرفًا، كما هو الحال في التصوف أو علم الكلام، بل نظر إليه من خلال عدّة مفاهيم مركزية في فلسفته، أبرزها: النفس، المعاد، السعادة، واللذة العقلية.
فالرجاء عنده يرتبط بـمعرفة النفس لحقيقتها، وبـسعيها إلى كمالها وعودتها إلى مبدئها الأول، أي العقل الفعّال.
2-2-1 تعريف الرجاء في فلسفة ابن سينا.
يرتبط الرجاء عند ابن سينا بـالغاية القصوى للنفس الناطقة، وهي بلوغ السعادة العقلية بعد مفارقة البدن. لذلك فإن الرجاء هو توقع النفس لتحقّق هذه السعادة، اعتمادًا على استعدادها النظري والعملي.
يقول في النجاة: “السعادة ليست في اللذات الحسية، بل في التحقق بالفعل للمعقولات، فكل نفس أدركت هذا، رجَتْ أن تصل إليه، وسعت إليه”. (ابن سينا، النجاة، ص298).
فالرجاء عنده ليس أملًا عاطفيًّا، بل معرفة مشفوعة بسعي عقلاني، وهو ما يجعل الرجاء نتيجة طبيعية للإدراك العقلي لمعنى السعادة والمصير الأخروي.
3-2-1 العلاقة بين الرجاء والعمل.
يؤكد ابن سينا أن الرجاء لا يصح إلا إذا كان مبنيًّا على الاستعداد الحقيقي للنفس، ويؤسس ذلك من خلال نظريته في الأخلاق التي تتضمن التزكية والترقي.
فيقول في الإشارات والتنبيهات: “الرجاء بغير استعداد من النفس باطل، كالزراعة في أرض سبخة”. (الإشارات والتنبيهات، ج3، النمط التاسع).
فكما لا يمكن تحقيق السعادة بمجرد التمني، لا يمكن الرجاء في الكمال العقلي دون مجاهدة للنفس.
4-2-1 الرجاء والمعاد.
يندرج الرجاء أيضًا ضمن نظريته في المعاد العقلي. فابن سينا يرى أن النفوس التي أقبلت على المعقولات وتطهّرت من الشهوات، تكون مؤهلة لنيل اللذة الدائمة في الآخرة، أي اللذة العقلية المحضة. والرجاء عند هؤلاء النفوس هو توقّع هذا النعيم الروحي.
أما النفوس التي انغمست في المحسوسات دون إدراك حقيقي، فإنها ترجو ما لا سبيل إليه، فينقلب رجاؤها إلى غفلة ووهم.
هذا يجعل الرجاء عند ابن سينا اختبارًا لدرجة عقلانية النفس، لا مجرد مقام وجداني.
5-2-1 الرجاء عند العوام والفلاسفة.
يميّز ابن سينا بين رجاء العامة ورجاء الخاصة:
رجاء العامة متعلق بالجنّة الحسية والثواب.
أما رجاء الفلاسفة، فمتعلّق بـ”الاتصال بالعقل الفعّال”، وهو الرجاء الحق من وجهة نظره.
ويقول في الشفاء: “المعرفة النظرية إذا اقترنت بالعمل، أورثت رجاءً حقًّا، وأملًا في السعادة العليا”. (الشفاء – الإلهيات، ج2، ص412).
الرجاء في فلسفة ابن سينا ليس مقامًا شعوريًّا كما هو في التصوف، ولا مقامًا تعبديًّا كما في الكلام، بل هو نتيجة عقلية لفهم النفس لمصيرها وكمالها، وهو مرآة لقدرتها على إدراك الغايات النهائية.
وهو لا يُفهم إلا ضمن نظريته في النفس والمعاد، حيث يصبح الرجاء تعبيرًا عن الحنين العقلي إلى المبدأ الأول.
3-1 الرجاء عند بهمنيار: بين الفلسفة السينية وتوجيه النفس.
1-3-1 الخلفية المعرفية.
بهمنيار هو من أبرز الفلاسفة المتأثرين بابن سينا، وقد نقل وشرح كثيرًا من أفكاره، لكنّه في كتابه التحصيل أظهر ميلًا نحو التبسيط التربوي والتقريب الأخلاقي.
وفي هذا السياق، يظهر مفهوم الرجاء لديه كجزء من الوظائف النفسية المرتبطة بالسعادة والسلوك العقلي.
يقول: “الرجاء إنما يصحّ للنفس التي تعرف وجه الخير، وتعتقد في نفسها الاستعداد له، وترومه بالفعل”. (بهمنيار، التحصيل، ص273).
2-3-1 تعريف الرجاء في ضوء نظرية النفس.
يربط بهمنيار الرجاء بـثلاثة عناصر أساسية:
- المعرفة بالخير الأعلى (وهو الكمال العقلي).
- الاستعداد الفعلي للنفس لتحصيله.
- حركة الإرادة نحو ذلك الخير.
ولذلك يقول: “الرجاء كمال للنفس، لا يكون إلا مع العلم والعمل، وإلا انقلب تمنيًا”. (بهمنيار، التحصيل، ص274).
وهذا يدل على أنه يتبنى التصور السيني للرجاء، لكنه يُعيد صيغته بصيغة أخلاقية مباشرة، أقرب إلى المعلم الأخلاقي منها إلى الفيلسوف الميتافيزيقي.
3-3-1 الرجاء والسعادة.
السعادة عند بهمنيار هي الغاية القصوى للنفس، والرجاء هو توقّع تحقّق تلك السعادة إذا كانت النفس مهذبة، عاقلة، معتدلة.
ولا معنى للرجاء -عنده- في سياق الشهوة والغفلة.
يقول: “من لم يُهذّب نفسه، ولم يُعدّها للخير، فلا رجاء له إلا في الوهم”. (بهمنيار، التحصيل، ص275).
4-3-1 الرجاء مقابل الخوف.
يوازن بهمنيار بين الرجاء والخوف، ويرى أنهما قوتان ضروريتان لضبط سلوك النفس، فهما بمثابة كفّتين لا بدّ من توازنهما:
الرجاء يدفع النفس للعمل.
والخوف يمنعها من الانحراف.
ويعلّق: “كما لا يصحّ سير من لا يرجو، كذلك لا يأمن من لا يخاف”. (بهمنيار، التحصيل، ص276).
5-3-1 الرجاء في التربية الأخلاقية.
يتبنّى بهمنيار منهجًا أخلاقيًّا واضحًا في استعماله لمفهوم الرجاء، ويبدو ذلك في سياق توجيه الإنسان نحو الاعتدال والتفكّر والسعي.
ويرى أن “الرجاء أحد أركان تربية النفس”، إذ بدون هذا البعد النفسي-العقلي، تبهت الحركة الإرادية نحو الكمال.
الرجاء عند بهمنيار هو مفهوم أخلاقي – عقلي، يُعاد تشكيله انطلاقًا من النظرية السينية للنفس والمعاد، لكنه يُبسَّط ليكون أداة لتقويم السلوك وتحقيق السعادة.
وهو عنده ليس انفعالًا عاطفيًّا، بل ثمرة من ثمار المعرفة بالنفس والغاية، مقرونٌ بالاستعداد الفعلي والتحوّل الإرادي نحو الكمال.
4-1 الرجاء عند ابن رشد: بين العقل والشرع.
1-4-1 الخلفية المنهجية.
يؤمن ابن رشد (ت. 595هـ) بأن الحقيقة واحدة، وأن الشرع والعقل لا يتعارضان. ومن هنا، فإن مفهوم الرجاء عنده يُفهم ضمن هذا الإطار المزدوج الذي يجمع بين:
البُعد العقلي الفلسفي (المتعلق بالسعادة القصوى والاتصال بالعقل الفعّال).
والبُعد الشرعي (المتعلق بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب).
يقول في فصل المقال: “الشرع كلّه دعوة إلى السعادة، ولا يكون ذلك إلا بعمل يكون معه رجاء”. (فصل المقال، ص58).
2-4-1 الرجاء كدافع أخلاقي وعقلي.
يرى ابن رشد أن الرجاء دافع أساسي في تهذيب السلوك البشري، شرط أن يكون مقترنًا بالعلم والعمل.
ويقول في الضروري في السياسة: “إذا عرّف الإنسان أن الجزاء الأخروي مرتبط بأعماله، ورجا ثوابًا، خشي عقابًا، صار سلوكه متهذبًا”. (ابن رشد، الضروري في السياسة، ص113).
إذن، الرجاء ليس تمنيًّا خاليًا من السبب، بل هو نتيجة لمعرفة الغاية والعمل على تحصيلها.
3-4-1 الرجاء في إطار الشرع والفلسفة.
يُدافع ابن رشد عن الفلاسفة ضد اتهامهم بإهمال مقامات القلب كالخوف والرجاء، ويُظهر أن الفلسفة لا تُقصي هذه المفاهيم، بل تؤسسها على أسس عقلية متماسكة.
وفي تهافت التهافت، يردّ على الغزالي، قائلًا: “إن الرجاء والخوف مقامات نفسية مشروعة، وإنما يُفهمان على وجه صادق إذا قاما على علم بالغاية والسبب الموصل إليها”. (ابن رشد، تهافت التهافت، ج1، ص202).
وبذلك، يتبيّن أن الرجاء عند ابن رشد يرتبط ارتباطًا عقلانيًّا بالسلوك الأخلاقي، لا ينفصل فيه الدين عن الفلسفة.
4-4-1 الرجاء والسعادة.
في رؤيته للسعادة، يُقسّم ابن رشد البشر إلى طبقات:
العوام، الذين يرجون الجنة الحسية.
والخواص، الذين يرجون السعادة العقلية: أي الاتحاد بالعقل الفعّال.
وهنا يقترب من ابن سينا، وإن ظل أكثر ارتباطًا بالمعطى الشرعي.
يقول في تهافت التهافت: “الفلاسفة يرون أن السعادة القصوى لا تكون إلا في المعرفة، وأن من رجا سعادة غير ذلك، فهو غالط”. (نفس المصدر، ص206).
5-4-1 نقد الرجاء السلبي.
ابن رشد يحذر من الرجاء غير المؤسس، وهو الرجاء القائم على الجهل، والغفلة، والتواكل.
ويُشيد بالشرع لكونه يحذر من الغرور، ويأمر بالعمل المقرون بالرجاء.
وفي فصل المقال، يقول: “الذي يرجو دون عمل، فهو من الخاسرين، كالذي يسعى في غير طريق”. (ابن رشد، فصل المقال، ص60).
الرجاء عند ابن رشد هو حالة عقلية – دينية متوازنة، تنبع من إدراك الإنسان للثواب الأخروي، ولقيمة السعادة العقلية، بشرط أن يكون الرجاء مقرونًا بالعمل والمعرفة.
وهو عنده ليس مجرّد عاطفة دينية، بل وظيفة تربوية عقلانية تساهم في تهذيب النفس، وبناء المدينة الفاضلة.
المقالات المرتبطة
النبي الأكرم رافعة بناء القيم الحضارية والإنسانية
تقوم الثقافة الحضارية في عالم اليوم، على إعادة إحياء مبحث القيم، كرافعة إنسانية لكل معالم الوفرة العلمية…
الفكر العربي الحديث والمعاصر | الأخلاق وموقعيتها في فكر الدكتور علي زيعور
بعد أن ألقينا نظرة على البعد النظري في فكر علي زيعور في الفلسفة والتصوف، ورأينا موقفه منهما، ندخل في المجال العمليّ والحكمة العملية لديه، هذا الجانب الذي شغل مساحة كبيرة
مواجهة الخوف في القرآن*
إن الخوف من الموضوعات التي يكثر الحديث عنها في أوقات الحروب وفي الأزمات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والأمراض