برهان الصدّيقين؛ هو برهان فلسفي عميق يستند إلى مبدأ الوجود ذاته في إثبات وجود الله.

وبرغم أن هذا البرهان يُعدّ من أكثر البراهين تجريدًا وتعقيدًا من الناحية العقلية، إلا أنني حرصت على تبسيط طرحه، وتقديمه بلغة ميسّرة، ليكون في متناول القارئ العام، وليعمّ النفع والفهم بإذن الله.

وفي السطور التالية، نحاول أن نقترب من هذا البرهان شيئًا فشيئًا، ببساطة لا تخلّ بالمعنى، وبدون تعقيد لا حاجة له.

الوجود الذي لا يفرُّ منه العقل: كشف النقاب عن أعمق برهان.

رحلةٌ تتجاوز الحواس والتجربة، لتغوص بك في قلب الحقيقة الوجودية التي لا مهرب منها.

مقدمة.

من أين يبدأ الطريق إلى الله؟

من أنا؟ ولماذا هذا الوجود؟ هل يمكن أن يكون كل ما نراه ونعيشه مجرّد صدفة؟

هذه ليست مجرد أسئلة عابرة. إنها تساؤلات فكّر فيها الأذكياء، وتعمّق فيها الحكماء، وأرشد إليها الأنبياء. وكل من طرق باب العقل بصدق، وجد نفسه أمام سؤال مركزي: هل هناك وجود لا يقوم بغيره؟ وهل يمكن الوصول إلى الله بالعقل وحده، دون حاجة إلى مشاهدة أو إحساس؟

من بين البراهين التي سعى الفلاسفة عبر العصور إلى صياغتها، برز برهان الصدّيقين. هذا البرهان يختلف عن غيره، لأنه لا يبدأ من النظر إلى العالم، بل من حقيقة الوجود ذاته. إنه طريق لا يبحث عن الله خارجًا، بل يرى أنه حاضر في صميم الحقيقة نفسها.

فما هو هذا البرهان؟ وكيف صاغه ابن سينا؟ وماذا أضاف عليه صدر المتألهين؟ وكيف بسطه العلامة الطباطبائي؟ لنبدأ رحلتنا نحو الوجود الذي لا يفرّ منه العقل.

الوجود: الحقيقة الأولى التي لا يمكن إنكارها.

عندما نتأمل في الأشياء من حولنا، ندرك أنها موجودة، لكن هذه الموجودات، من أنا وأنت، إلى الجبال والنجوم، كلها يمكن أن لا تكون. كانت في العدم ثم وجدت، وقد تزول بعد حين. فوجودها ليس ذاتيًّا، بل عارض.

الفلاسفة يسمون هذا النوع من الأشياء “ممكن الوجود”؛ أي يمكن أن يوجد أو لا يوجد. وكل ممكن يحتاج إلى من يمنحه الوجود.

لكن لو تتبعنا هذه الحاجة إلى سبب، فإما أن نصل إلى حلقة مفرغة لا تنتهي وهو محال عقلًا، أو أن ننتهي إلى وجود ليس ممكنًا، بل واجب الوجود، أي لا يمكن أن لا يكون، ولا يعتمد على غيره في وجوده.

بعض الفلاسفة يسمّون هذا الطريق “برهان الإمكان والوجوب”، لكنه ليس ما نقصده تمامًا هنا. نحن الآن على أعتاب برهان أعمق.

ما هو برهان الصدّيقين؟

ابن سينا هو أوّل من أطلق اسم “برهان الصدّيقين”، وذكر أنه الطريق الذي لا يحتاج إلى المرور بالمخلوقات، بل ينطلق من حقيقة الوجود نفسه. قال: “كل ما سوى الله، إن وُجد، فوجوده من غيره، لا من ذاته، إذن لا بد من واجبٍ للوجود بذاته.”

لكن في عرض ابن سينا، ما زال هناك نوع من التأمل في الموجودات الممكنة، والانتقال منها إلى الواجب.

طوّر صدر المتألهين الشيرازي، مؤسس مدرسة الحكمة المتعالية، هذا البرهان جذريًّا. انطلق من أن الوجود نفسه هو أوضح الواضحات. لسنا نحتاج إلى تعريف الوجود، بل كل شيء نعرفه قائم عليه.

ثم بيّن أن الوجود الحقيقي الكامل لا يمكن أن يكون متغيّرًا، محتاجًا، ناقصًا، أو محدودًا. بل لا بد أن يكون وجودًا صرفًا، لا شائبة فيه، ولا تركيب، ولا إمكان.

هكذا يصل صدر المتألهين إلى أن: “وجود الموجودات فقرٌ محض، وربطٌ محض، وهو بنفسه دليل على واجب الوجود.”

فالواجب لا يُعرف من طريق الممكن، بل الوجود الفقير يدل بنفسه على الغني، لا باعتباره شيئًا آخر، بل باعتبار كونه لا يملك من ذاته شيئًا.

العلّامة الطباطبائي وتقرير البرهان بلغة معاصرة.

قرّر العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي، في كتابه “بداية الحكمة”، هذا البرهان بشكل موجز وواضح.

قال: إن حقيقة الوجود لا تقبل النفي، ولا يمكن أن يُتصور أن لا يكون الوجود. وكل ما سواه، من مفاهيم وحدود، إنما يُعرف به.

ثم أضاف: “الوجود الواجب هو عين الحقيقة، وسائر الموجودات إشعاعات منه، لا تملك من ذاتها شيئًا.”

وفي موضع آخر قال: “الله لا يُعرف من طريق خلقه، بل يُعرف الخلق من نوره.”

وبهذا المعنى، يكون الله أقرب إلينا من كل شيء، لأنه أصل كل شيء.

نور القرآن وكلام العترة.

هذا البرهان الفلسفي لا يُناقض الوحي، بل يكشف بعض ما فيه من عمق. فالله في القرآن الكريم يُعرف نفسه بقوله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (سورة النور، الآية 35)؛ أي إنه المظهر لكل شيء، والنور الذي ترى به كل الأنوار.

وفي كلام الإمام علي (ع) نقرأ: “أوَّلُ الدِّين مَعرفتُه، وكمالُ معرفتِه التَّصدِيقُ به، وكمالُ التَّصدِيقِ به توحيدُه…”

ويقول (ع) أيضًا: “لم يُطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته.”

وفي دعاء عرفة لسيد الشهداء (ع): “كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المُظهر لك؟”.

هذا هو مضمون برهان الصدّيقين، بلغة العارفين.

الخلاصة:

طريق لا يحتاج إلى دليل خارجي.

برهان الصدّيقين لا يبدأ من الخارج، بل من داخل العقل. من إدراك أن الوجود لا يمكن نفيه، وأن كل ما سواه ناقص محتاج. فالوجود الكامل، الغني، البسيط، الأزلي، هو الذي يمنح كل شيء ما له من حقيقة.

لسنا بحاجة إلى التأمل في الكواكب والجبال لمعرفة الله، وإن كانت تلك آياته، بل نحن في حضرته دومًا، لأننا لا نملك من أنفسنا شيئًا إلا بما أفاضه علينا.

إنه الوجود الذي لا يفرّ منه العقل، ولا يتجاوزه الفكر، بل كل فكرٍ يرجع إليه، وكل وجودٍ يصدر عنه.

اللهم يا من كان وجودك برهانًا على ذاتك، ويا من دللت على نفسك بنفسك، اجعلنا ممن عرفك بحق وجودك، لا بغيرك. اللهم افتح لنا أبواب المعرفة، واجعل عقولنا مرايا لنورك، وقلوبنا مواطن لشهودك، بحق محمد وآله الطاهرين، يا أرحم الراحمين.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.