القائمة الرئيسة

الصوم تدريب عملي على جهاد النفس وتزكية الأخلاق

الصوم تدريب عملي على جهاد النفس وتزكية الأخلاق

تقديم حول جهاد النفس وتزكية الأخلاق.

جهاد النفس هو الجهاد الأكبر؛ والجهاد الحربي هو الجهاد الأصغر كما قال الرسول (ص)؛ وعندما يجاهد الإنسان نفسه تترقى أخلاقه، بل تسمو وتتواضع، ثم يكون مؤهلًا ليجاهد العدو.

إن جهاد النفس مقدّم على جهاد العدو؛ ولذا لا بدّ من تدريب عملي على جهاد النفس؛ ومن ضمنها الصوم كما فرضه الله على المسلمين في شهر رمضان من كل عام.

الصوم والصبر.

الصوم في معاجم اللغة العربية هو الإمساك بصورة عامة؛ الإمساك عن السير أو الحركة أو النوم، أو عن الكلام أو الطعام؛ واصطلاح الصوم على أنه شعيرة دينية مطلوبة لله من البشر؛ فالصوم قصد إلهي؛ بشري التكليف، ولأن الله غني عن العالمين؛ يكون القصد الإلهي هو لخدمة الناس؛ يفرض عليهم الفروض من صلاة وزكاة وغيرها لصالحهم ليكونوا أفرادًا صالحين؛ ويشكلون المجتمع الصالح ككل من مجموع الأفراد المثاليين.

ولقد فرض الله الصوم بوجه عام على الأمم السابقة، كما قال تعالى في سورة البقرة، الآية 183: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ والصوم هو من أجل التقوى؛ والتقوى المطلوبة هي البعد الإنساني عن المعاصي؛ والصبر جزء من الصوم.

والصوم أنواع؛ منه الصوم عن الكلام، والصوم عن الطعام والشراب في سبيل تدريب النفس وتطهير الروح.

وقد أشار القرآن الكريم إلى صوم مريم العذراء عن الكلام في سورة مريم، الآية 26: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾، وهو في ظاهره الإمساك عن الكلام، وهو ما حدث مع زكريا عندما أعطاه الله آية؛ فلم يستطع الكلام إلا بالرمز في حالة أشبه بالصيام القسري.

الصوم في اليهودية والمسيحية.

في أسفار العهدين القديم والجديد، نجد أن قدماء اليهود كانوا لا يكتفون في صيامهم بالامتناع عن الطعام والشراب من المساء إلى المساء، بل كانوا يمضون الصيام مضطجعين على الحصا والتراب في حزن عميق.

وفي سفر الخروج أن موسى (ع)؛ كان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماءً.

وجاء في كلام النبي حزقيال أن صيامه كان عن اللحوم وما ينتج عن الحيوان، وكان النبي دانيال يمتنع عن اللحوم وعن الأطعمة الشهية مدة ثلاثة أسابيع، وجاء في الترجمة السبعينية أن داوود النبي (ع) قال: ركبتاي ضعفتا من الصوم، ولحمي تغيّر من أكل الزيت، وفي إنجيل متى أن المسيح صام أربعين يومًا في البرية، والمسيحيون يصومون اليوم كل سنة أربعين يومًا أو خمسة وخمسن يومًا حسب المذهب الذي يدينون به؛ وهو صوم عن أكل الحيوان وما ينتج منه.

فالصوم إذن من ضمن الفطرة، ولا نجد دينًا من الأديان ليس فيه عبادة الصوم، وحتى أولئك الذين لا يدينون بدين سماوي كان وما زال عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين في الهند والتبت، ومن طقوسهم الامتناع عن تناول أي شيء حتى ابتلاع الريق لمدة أربع وعشرين ساعة، وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحًا من الماء.

الصوم الإسلامي خدمة للبشرية.

إن عبادة الصوم إذن عبادة إلهية لخدمة البشر، وختم الله الشرائع بالإسلام، فاستقر الصوم على ما يصومه المسلمون منذ البعثة النبوية الشريفة حتى اليوم.

والصوم في الإسلام ليس فيه عنت ولا تفريط، وهو خلال شهر من العام يتفق فيه كل المسلمين في كل بقاع الأرض يتراحمون بينهم ويؤدون الزكاة العامة وزكاة الفطرة، ومقدار الخمس، ونجد نفوس المسلمين مطمئنة مستبشرة تهفو للتراحم.

وليت المسلمون اليوم يتركون في شهر الصوم المشاحنات السياسية ويتفقون على أن يكون شهر رمضان شهرًا للوحدة الإسلامية؛ وعدم تناسي مناسك الحج لتأكيد الوحدة؛ مع العلم أن فريضة الصوم تعني الصبر؛ كما هو الحال مع فريضة الحج؛ وكلاهما مناسبتان للوحدة المنشودة.

الصوم الرمضاني تدريب على طهارة النفس وتزكية الروح.

إن شهر رمضان هو شهر فرضه الله عز وجل للتدريب، أي يدرب الإنسان نفسه شهرًا كاملًا في كل سنة، وهذا التدريب يشمل: الصوم عن الغذاء والماء، والصوم عن الغرائز، والصوم عن المنكرات.

ولهذا التدريب فوائد ضخمة للإنسان والصحة والبيئة وكذلك للمجتمع، وما فرض الله أمرًا إلا فيه منفعة للإنسان، والفوائد المرجوة من الصيام هي فوائد صحية للإنسان، وفوائد روحية تهيء الإنسان وتدربه، لكي يكون عنصرًا متماسكًا ملتزمًا قادرًا على مكافحة النفس وغرائزها التي تداعب خياله ليلًا ونهارًا.

شهر رمضان جهاد النفس وضمير الدين.

وعد الله عز وجل الإنسان في شهر رمضان كثيرًا من الأجر والثواب، وكلما تعلق الإنسان بربه وتقرّب منه قيامًا وجلوسًا وعبادةً، وانقطع إليه وتلذذ بحلاوة حب الله والاعتماد عليه، فإن الإنسان سيكون محصّنًا نفسيًّا ضد عوادي الزمان. 

فالصوم هو جهاد للنفس وتربية للنفس البشرية، فيزداد الإنسان قناعة وسكونًا ولطفًا ورقة وحسن معاملة مع الناس؛ فيكون شهر الصوم هو ضمير الدين وملاذ الصابرين.

إنّ شهر رمضان أيضًا هو علاج للقلق والشد النفسي، وهو ابتعاد عن الحسد والكراهية والبغضاء، وهو التسامي بالروح الإنسانية من المادة وشد الحياة والضغوط النفسية إلى عالم الروحانيات المليء بالقناعة والرضا والحب والابتسامة، والشعور بالأمل والرغبة في الحياة والعطاء، واستغلال الزمن المحسوب من عمر الإنسان.

عن نبي الله المصطفى (ص) قال: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”[1]، كما بشر بأن لشهر رمضان عتقاء من النار، وهذه ميزة كبيرة لذلك الشهر الفضيل، ولكن كيف يمكن أن نكون عتقاء من النار في شهر رمضان، أليس ذلك يكون في الصيام الصحيح كما فرضه الله تعالى، وكما صامه الرسول الأكرم (ص)؟

التدريب العملي من خلال الصوم.

إن الصوم الصحيح هو الطريق للتدريب على الطاعات، وهو الوسيلة لنيل مرضاة الله في الدنيا، وهو السبيل الأمثل للعتق من النار، فصيام رمضان صيامًا صحيحًا هو تدريب على العطاء والأريحية والقوة النفسية والجسدية، فعندما فرض الله عز وجل الصيام على بني البشر أراد لهم خير دينهم وخير دنياهم؛ وخير دينهم معناه خير دنياهم؛ وخير الدنيا معناه جسدًا معافًى وعقلًا متزنًا وأمانًا متواصلًا وعطاءه ناجح ومتعة بالجسد والمحيط؛ وخير دينهم هو الأمانة والقناعة والرضا والراحة النفسية، وهذا يأتي من تطبيق أوامر الله عز وجل ونبيه الكريم (ص)، هذه المكاسب يمكن الحصول عليها فقط عند قيامنا بالصيام الصحيح.

ومن خطبة الإمام علي (ع): “إِنَّ أفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلاَمِ، وَكَلِمَةُ الْإِخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ…”[2].

فالصوم كما قال أمير المؤمنين جنة من العقاب؛ ونرى أن معظم أئمة أهل البيت (ع) استشهدوا وهم صائمون وأولهم أمير المؤمنين نفسه الذي استشهد في مسجد الكوفة وهو صائم في شهر رمضان، وغيره من الأئمة استشهدوا وهم صائمون في شهر رمضان أو تطوعًا.

إن الصوم الصحيح يجب أن يكون فيه الإنسان أكثر عطاءً وعملًا وأقل أكلًا وشرابًا، وأوسع صدرًا وأريح نفسًا، وأنفع لنفسه وعائلته ومجتمعه، الصيام هو كبح النفس عن غرائزها بالدرجة الأولى ودفعها نحو الفضيلة والإحسان، وتدريبها على الزهد والتحمل وحب الآخرين. الصيام الصحيح يجلب الصحة للإنسان بكل المقاييس البايولوجية والطبية. 

عندما تريد أن يبقى القوي قويًّا، لا بدّ لك من أن تعطي هذا القوي مقوّيات أو محفّزات بين فترة وأخرى، لكي يستمر بقوته، بل يزداد قوة ونشاطًا.

صوم الأمم والدول.

كما أن الصوم تدريب للفرد على تحمل المشاق؛ فإن روح الصوم مطلوبة على مستوى الأمة؛ من أجل استلهام روحها في حياته؛ فإذا أرادت الدول على سبيل المثال أن يكون لهم معلمون أقوياء بالعلم والتطوير لا بدّ أن تدخلهم دورات تدريبية على أساليب التعليم، وكل ما يستجد من تقدم في طرقه ومناهجه، وإذا أرادت الدول أن يكون لها جيش قوي متوثب لا بدّ أن تدخل منتسبي الجيش دورات بانتظام لزيادة لياقتهم البدنية ومعرفتهم بكل شيء حديث. هذه أمثلة بسيطة يمكن من خلالها إدراك أهمية الدورات التدريبية لكل مناهج الحياة وأقسامها وأعمالها، فالدين والعقيدة أيضًا تحتاج إلى دورات تدريب بين فترة وأخرى لتزداد العقيدة رسوخًا، والجسد يحتاج إلى تدريب وصيانة لكي يبقى قويًّا معافى، فالصوم هو الصيانة المثالية للجسد، والنفس تحتاج إلى تدريب لكي تبقى راضية فرحة ومسرورة ومنتصرة.                          

وفي النهاية، فإن الصوم بالكيفية التي حددها الله تعالى القائمة على التقوى هي السبيل للانتصار على أعداء الأمة؛ وهي أيضًا السبيل للفوز في الدنيا والنجاة من النار في الآخرة .

[1] أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760)

[2] نهج البلاغة، الخطبة 110.



المقالات المرتبطة

الshهيد شمران وقصة البطولة في كردستان إيران

تاريخ الثورة الإسلامية حافل بالكثير من الشخصيات العظيمة والبارزة صاحبة التأثير الكبير ليومنا هذا في مختلف المجالات.

الفكر العربي الحديث والمعاصر | حضور التصوف في فكر الدكتور علي زيعور

يشكّل التصوف نقطة محورية في فكر الدكتور زيعور، فهو قاعدة ارتكاز، يشتغل عليها في أكثر من كتاب، ويستخدمها في الكشف

الاتجاه الفلسفيّ في البحث العقائدي

اعتادت ميادين البحث العقائدي أن تلتزم في معالجاتها خصائص ومناهج ومسائل ولغة علم الكلام. مما أرسى في الذهن عَقدَ علاقة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<