من التهميش إلى المشاركة الفاعلة*
انتقال الشيعة في لبنان من موقع التهميش إلى موقع المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية اللبنانية، وعبرها، في الحياة السياسية لمجمل المنطقة، طرح عددًا من الأسئلة التي شكّلت محاولات الإجابة عليها، موضوع اهتمام عدد من الباحثين في مراكز الأبحاث الأكاديمية والاستراتيجية، ولدى كافة المعنيين بمصير المنطقة من السياسيين المحليين والإقليميين والدوليين. وإذا كان من المفترض، مبدئيًّا، أن يكون الهدف المباشر لكل من الباحثين الأكاديميين والاستراتيجيين تكون فهم موضوعي ومجرّد لتلك الظاهرة، خدمة للحقيقة المجزأة، مبدئيًّا، بالنسبة للأكاديميين، ولعدم خداع المعنيين بالتعاطي مع هذه الظاهرة من وزارات خارجية وإعلام وثقافة ودفاع في بلدان معينة، من موقعها الاستكباري والاستحواذي، بمصير المنطقة، بالنسبة للباحثين الاستراتيجيين… نقول: إذا كان ذلك كذلك، ودائمًا من حيث المبدإ، فإن ما يخرج إلى العلن من هذه الأبحاث، ليس ما توصلت إليه، من حقائق، بصرف النظر عن مدى توفيقها في تصوير الواقع كما هو، وإنما ما توصلت دوائر طبخ السياسات والاستراتيجيات في البلدان المعنية من كيفيات للتعاطي عمليًّا مع هذه الظاهرة، باتجاه تشويهها موقعًا وأهدافًا واستراتيجيات وتكتيكات في نظر أصحابها، وفي نظر من لهم علاقة بها، مقدّمة لمحاصرتها وعزلها والتأليب عليها في محيطها وعلى مستوى العالم، وكان من ثمرة جهود تلك الدوائر ما عايشه العالمان العربي والإسلامي، راهنًا، من انقسامات وصراعات يتقدّم فيها الانقسام المذهبي والطائفي ليغطي على الفحوى السياسي لتلك الظاهرة بما يشوّهها ويحول بينها وبين تحقيق أهدافها في الوحدة والاستقلال والتقدّم والعدالة لمجمل أبناء المنطقة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والمذهبية والثقافية وإلى ما هنالك…
مهما يكن من أمر، فإن هذا الاهتمام هو استكمال لاهتمام سابق ومستمر ومرتبط بقيادة الإسلامي الشيعي لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وإنشائها نظامًا أثبت قدرته على الاستجابة بفاعلية عالية لحاجات الاستقلال والسيادة والتقدم في مختلف المجالات، وفي ظروف هيمنة استكبارية طاغية ومزوّدة بأنياب ذاتية ودولية وإقليمية، وأحيانًا محلّية يطول الكلام على وصفها، وإذا كان هذا الاهتمام السابق قد تمحور حول قدرة الإسلام، بقراءته الشيعية، على الانتصار في الثورة، وعلى، وهذا هو الأهم، قيادة ناجحة لدولة سيدة ومستقلة في الظروف المشار إليها، فإن الاهتمام اللاحق قد تمحور حول قدرة هذا الإسلام على إنشاء مقاومة تحقق انتصارًا غير مسبوق وغير متوقع وفي ظروف انقسام داخلي حاد، وعلى عدو ذي قوة ذاتية متفوّقة أصلًا، ومدعومة بكل قوى الاستكبار، ومؤازرة بتخاذل من يفترض أن يكونوا في موقع مناوأتها من القوى الإقليمية والمحلية.
إذا كان الاهتمام قد تركّز على الإسلام بقراءته الشيعية بوصفه المرجعية الأيديولوجية لقيادة هذه الأحداث، فإنه لا ينفصل عن الاهتمام بكيفية التخطيط (قراءة الواقع وما يكتنفه من صعوبات وتقصيرات، وما يتيحه من فرص وإمكانات، وعلى ضوء ذلك، تحديد الأهداف والأولويات والوسائل والسياسات والتحالفات…). ومثل هذه المهمات، تتطلب استنطاقًا ضعيفًا للمرجعية الأيديولوجية، وقدرة على المزاوجة بين النظر والممارسة… وقراءة الممكن والمستحيل على ضوء الواقع مقروءًا بمنحى ثوري (غير استسلامي).
وهذا ما يربط الظاهرة، ليس فقط بمرجعيتها الأيديولوجية، وإنما أيضًا، وبصورة أولى، بالقيادات البشرية وتحقيقها الشروط الآنفة الذكر، بالإضافة إلى الحدس السياسي المتوقّد المعبّر عنه بالإلهام والتوفيق الإلهي، والذي هو ثمرة جهاد في الله ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(1)، حيث الجهاد يعني التفكّر وتقليب الأمور، ووضع الاحتمالات والمفاضلة بينها، من قبل ذلك وبعد الدعاء المخلص طلبًا للتسديد والتوفيق وإيمانًا بأن من يهدي الله فهو المهتدي.
هذا الكتاب، الذي يتشرّف معهد المعارف الحكمية بوضعه بين يدي القرّاء، هو على صلة وثيقة بالإجابة على الأسئلة التي يثيرها انتقال الشيعة في لبنان من موقع التهميش إلى موقع المشاركة الفاعلة من خلال أبحاث كتبها عدد من المتخصصين الذين عاشوا تجربة التهميش مباشرة وعبر استرجاع وقائع التاريخ، كما عاشوا تجربة الانتقال إلى المشاركة الفاعلة من داخلها، وفي تطلعاتها ومخاوفها وتعرّجاتها وصعوباتها وفرصها… وتمحورت (الأبحاث) في ثلاثة أبواب تتكامل في ما بينها وتتآزر في تحقيق الهدف من الكتاب ممثلًا في:
- تصويب وتأصيل النظرة إلى “تحولات الجغرافيا والتاريخ” التي أفضت إلى توزّع الشيعة على المناطق اللبنانية بالصورة المعروفة راهنًا، وذلك في سياق تحليل يسعى إلى فهم تلك التحولات على ضوء الظروف والعلاقات السياسية العامّة وتقلّباتها، وما تعلّق منها بالعلاقات بين مكوّنات ما سيعرف لاحقًا باسم دولة لبنان الكبير. وفي قراءة هذه التحولات سعي لإيضاح العلاقة بين ماضي الشيعة وحاضرهم.
- في تصويب وتأصيل النظرة إلى العلاقات بين الشيعة وكل من إيران والعراق، وذلك عبر عرض تحليلي لوقائع هذا التفاعل وعوامله ونتائجه على كل من طرفي العلاقة، ودحض تهمتي التبعية و”النقص” في لبنانيتهم (الشيعة).
- في تصويب وتأصيل النظرة إلى الباعث الحقيقي الذي جعل الشيعة في لبنان موضع اهتمام سياسي أو بحثي أو إعلامي بعد الغياب الطويل لهذا الاهتمام، وما هو دور الإمام الصدر في التأسيس لتلك التحولات، ودور حزب الله في متابعتها، ودور مجاورة الشيعة في جبل عامل للكيان الصهيوني؟ ولماذا تأصّلت هوية الاجتماع الشيعي على الثابت الديني – المذهبي، والتعاطي من خلاله مع المتغير القومي والوطني المستجد على هوية المنطقة؟ وما هو دور عاشوراء في إحياء التغيير والمساهمة في تلك التحولات؟ ولماذا يسيطر همّ وحدة الطائفة وحماية المقاومة على ممارسة كل من حزب الله وحركة أمل للانتخابات النيابية إن من حيث تحالفهم مع بعضهم، وإن من حيث تحالفهم مع الآخرين؟
عمليات التصويب والتأصيل هذه، اقتضت توزيع الكتاب تبعًا لها، إلى ثلاثة أبواب، كل منها يتناول جانبًا: الباب الأول حمل عنوان: “تحولات الجغرافيا والتاريخ”، والباب الثاني: “التفاعل مع العراق وإيران”، والباب الثالث: “قراءات في التجربة المعاصرة”.
ونشير أخيرًا، إلى أن بعض التكرار الذي سيلاحظه القارئ يعود إلى أن أبحاث الكتاب تتمحور حول موضوع الشيعة، وكل بحث منها لا يستغني عن إيراد بعض الوقائع استكمالًا للتحليل أو للعرض الذي يقوم به.
ويبقى الأمل في أن يحقّق هذا الكتاب المرجوَّ منه في تصويب وتأصيل النظرة إلى الشيعة في لبنان، وإلى تجربتهم وتطلّعاتهم، كما هي.. لا كما يصورها المعادون أو يتوهمها بعض المحايدين…
والله ولي التوفيق
* هذا المقال تم نشره سابقًا، ونعيد نشره على الموقع تخليدًا لذكرى الراحل الأستاذ علي يوسف (رحمه الله).
(1) سورة العنكبوت، الآية 69.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
