الشيعة الاثني عشرية، والإسماعيلية

تأليف: د. السيد حسين نصر

تعريب: موسى حسين صفوان

حيث إن كل دين يجمع في أتباعه خليطًا من أمزجة متفاوتة روحية Spirtual، ونفسية Psychological، فمن الطبيعي أن يمتلك القابلية الذاتية للتفسيرات المختلفة، فمن خلال حمله، في ذاته، وجهات متعددة في التفسير لنفس الحقيقة (أو النص)، فإنه يستطيع بفضل العناية الإلهية أن ينشئ الكثرة من الوحدة، ويخلق بذلك ما يُعرف بالحضارة الدينية.

في التاريخ المسيحي، نجد الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، فضلًا عن الكنائس الصغيرة مثل القبطية والمارونية. أما خارج العائلة الدينية الإبراهيمية فإننا نجد البوذية Buddhism في مدرستيها الكبيرتين، الماهايانا Mahayana، والتيرافادا Theravada، وذلك بالإضافة إلى النموذج التيبتاني Tibetan، وبدون المايانا، أو المدرسة الشمالية، فإنه من غير المعلوم إن كانت هذه الحضارة ستجد طريقها للانتشار في الشرق الأقصى.

على نفس المنوال نجد الهندوسية Hinduism والتي تشبه البحر المتلاطم في أنماطها الروحية العديدة، وهي بدورها تقسم إلى الشافيت Shavite، والڤايشناڤيت Vaishnavite، لتلائم بذلك الأمزجة الروحية المختلفة.

في الإسلام الذي هو الدين المترامي الأطراف، والذي يعني العديد من الأعراق والقوميات، هناك منذ البداية، إمكانية متوفرة لإثنين من وجهات النظر التأويلية، السنّة، والشيعة، وكلاهما يعتبران بمثابة تأويلات اجتهادية للوحي الإسلامي، موجودة لحسن التقدير في (النصوص) الإسلامية، وذلك من أجل أن تمكّنه من ضم الشعوب المختلفة في تكوينها النفسي.

كلا المدرستين الشيعية والسنية يشكّلان قطاعًا واسعًا من الديانة الإسلامية، وهما موجودتان، منذ البداية، والشيعة في هذا المجال ليست دينًا هجينًا، ولا هي طائفة رغم أنه يوجد في عالم التشيّع جماعات (أو طوائف) انحرفت عن الثوابت الأساسية للدين، وهي (بهذا الاعتبار) طوائف بكل ما تعنيه الكلمة.

من جانب آخر، فلا الشيعة ولا السنة يمكن اعتبارهما بحال خارجتين عن المؤسسة الدينية الإسلامية، ولذلك فلا ينبغي مقارنتهما مع الحركات المحدثة في المسيحية واليهودية. فالشيعة والسنة حقيقة ينتميان إلى البنيان الإسلامي العام، وهما لا يهدّدان أو يسيئان إلى وحدته على الإطلاق؛ وذلك أن وحدة دين ما لا تفسد بسبب التطبيقات المختلفة لمفاهيمه، ولكنها تتضرر بسبب المساس بمبادئها ونماذجها الأساسية، كذلك أيضًا بسبب (ما يؤدي إلى) إعاقة استمرارها، وباعتباره “دين التوحيد”، فإن الإسلام يظهر الكثير من الانسجام، والقليل من الفروق بخلاف الأديان العالمية الأخرى، فالشيعة والسنة يمثلان بعدين في داخل الجسم الإسلامي الواحد، وهما موجودان، ليس من أجل تحطيم وحدته، بل من أجل تأهيله، لضم الجزء الأكبر من الإنسانية كما ومختلف النماذج الروحية (أو النفسية).

بيد أن القول بأن الشيعة والسنة موجودان، ومعنيان بشكل جازم بموضوع المواءمة مع أمزجة روحية مختلفة، فإن ذلك لا يعني تفسيره بشكل حاد على أساس عرقي أو قومي، فلا ينبغي لأحد الاعتقاد بأن شعبًا أو أمّة (قومية ما)، سوف تكون دائمًا وبشكل لا يقبل التغيير سنيّة، وأخرى شيعية… بالطبع نحن اليوم، نجد أن الأمة الفارسية تقريبًا شيعية كلها، بينما معظم العرب والأتراك سنيّين، وهذه التقسيمات العرقية يمكن أن يكون لها علاقة في توزيع التشيع والتسنّن في العالم الإسلامي، ولكن يجب علينا أن نذكر أيضًا أنه خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر، كان الحضور الشيعي القوي في جنوب سوريا وفي شمال أفريقيا، بينما كانت خراسان (إيران اليوم) موطن التسنن. فعلماء سنّة كبار مثل الغزالي، وفخر الدين الرازي كانا فارسيين، كما أن العلوم التشريعية، والتي تسمّى في الغالب (العلوم النقلية)، فقد تأسّست في وقت مبكر، وتطورت إلى حد كبير على أيدي علماء مسلمين من بلاد فارس، ورغم ذلك، ومع الانتباه لما توحيه هذه النقطة بالذات[1]، فإنه يمكن القول بأمان: إن الفرس كانوا منذ البداية ميّالين ومتعاطفين مع مذهب التشيّع، غير أن التشيّع وجد هناك بعد التوسّع التدريجي للغزو المغولي وحتى عهد الصفويين، حيث أصبح التشيّع دين الدولة الرسمي. كل ذلك دون أن ننسى العدد الكبير من الشيعة العرب والهندو – باكستانيين، ويمكن القول أيضًا: إن الفرس يشكّلون الجسم الأكبر للتشيّع في العالم، وأن الإسلام الشيعي له اتصال حميم مع جوهر الروح الفارسية.

في تعاطينا مع الشيعية والسنية في هذا المبحث، سنتكلم عن الشيعية، في حين نتقبّل السنية كأساس وخلفية نقارن بها، وسبب هذا النهج، هو أن الإسلام السني معروف عالميًّا أكثر من الإسلام الشيعي، وذلك أن الغرب كان له اتصال تاريخي أكبر مع السنّة، والحقيقة فإن غالبية الكتب المهتمة بالإسلام في اللغات الأوروبية درست الثقافة الإسلامية من خلال المصادر السنية، رغم أن تلك الكتب لا تخلو عادة من التحريف والتعصّب (ضد الإسلام).

إن الشيعة، وخاصة المدرسة الاثني عشرية عرفت حديثًا في الأعمال الأوروبية، التي قدمتها كتابات عدد قليل من الأساتذة ومنهم الأكثر شهرة، هنري كوربان Henry Corbin.. فبعد تقدم شرح موجز عن السنية، سوف نحوّل اهتمامنا إلى التشيّع الذي نحاول توضيح اعتقاداته، سواء الخاصة (بعقائده)، أو في علاقاته مع المدرسة السنية.

ومن أجل فهم التسنّن والتشيّع، نجد من الضروري أن نلقي نظرة على التاريخ الإسلامي، وتطور هاتين المدرستين، وتفرّعهما عن مصدرهما الواحد وتاريخهما فيما بعد، فمن وجهة نظر خارجة؛ (خارجة عن الإطار المذهبي)، فإن الفرق بين الشيعة والسنة يُعنى بمشكلة “الخلافة”؛ خلافة النبي “كقائد للجماعة” وذلك بعد وفاته (ص)، ويمكن أن يقال: إن المدرستين ظهرتا بمعالمهما الواضحة بعد أن أنهى النبي (ص) مهمته الأرضية، لأنه، بالتحديد عند هذه اللحظة، ظهر إلى السطح ذلك الخلاف في الرأي حول موضوع “الخليفة”.

هناك مجموعة صغيرة (من الصحابة) اعتقدت أن مثل هذه المهمة يجب أن تبقى في عائلة النبي (ص)، وتعود (على وجه الخصوص) إلى علي الذي يعتقد من أنه تم ترشيحه لهذا الدور من خلال (التعيين) والنص عليه. هؤلاء أصبحوا يُعرفون بشيعته؛ (شيعة علي)، بينما وافق الأكثرية على “أبو بكر” على افتراض أن النبي (ص) لم يترك أية تعليمات بخصوص هذه المسألة، وهؤلاء حصلوا على لقب (أهل السنة والجماعة). وهكذا، بشكل عام، فإن شيعة علي، بمعنى أولئك الذين اتبعوه ورجعوا إليه من بين الصحابة، كانوا موجودين في حياة النبي (ص)، وهناك أدلّة عدة على وجودهم في كلام النبي (ص)، بيد أنهم لم يصبحوا فئة مميزة عن السنّة، إلا بعد وفاة النبي (ص).

والسؤال يتضمن أيضًا، وظيفة الشخص الذي سيخلف الرسول (ص)، فمن المؤكّد أن مثل هذا الشخص لا يستطيع الاستمرار بامتلاك نفس قدرة النبي (ص)، ولذلك فإن المدرسة السنية تعتبر خليفة النبي (ص) هو مسؤول فقط في قدرته على تنظيم المجتمع الإسلامي الموجود حديثًا… بينما يعتقد الشيعة أن الخليفة يجب أن يكون أيضًا (الوصي) الذي يرث معارفه الباطنية، والمفسّر للعلوم الدينية، ولهذا السبب ظهر الخلاف بين الشيعة والسنّة على أنه خلاف سياسي فقط. في الحقيقة، إنه أكثر من ذلك، إنه أيضًا خلاف عقائدي، فهناك إلى مسألة الخلافة السياسية، السلطة الدينية[2].

بعض الأعمال المتأخرة للمستشرقين حاولت حصر الفرق بين السنّة والشيعة بالخلافات السياسية، ورغم أن هذه النظرة صحيحة إلى حدّ ما، فإنها تدع جانبًا الاعتبارات الدينية الأكثر أهمية، والسؤال، عمّن يخلف الرسول (ص) كقائد للجماعة كان يرتبط باعتبارين اثنين: أحدهما توصيف الخليفة، والآخر في معنى السلطة الدينية نفسها… ويعتبر الإسلام السني الخليفة بمثابة الحارس للشريعة في الجماعة، بينما يعتبر الشيعة مقام الخلافة بمثابة الوظيفة الروحية المرتبطة بتأويل الوحي، ووراثة العلم النبوي الباطني[3]، ومن هناك ظهر التفسيران المختلفان للرسالة الإلهية الواحدة. تفسيران ولكنهما على أي حال بقيا في إطار الفهم الإجمالي، والمضمون الديني للإسلام، بحيث بقيا متوحدّين إلى حد بعيد في أصول الدين، وفي العبادات الدينية، التي هي وسائط الرحمة لنجاة الإنسان وإيصاله إلى نعيم العالم الآخر.

بالنسبة للسنية، فإن تطور بعض مبادئها المختلفة، فقد تأسّست المذاهب التشريعية الأربعة في أواخر القرن الثالث الهجري، وبقيت حتى أيامنا هذه، في حين أن بعض المدارس الأخرى انقرضت تدريجيًّا. أما علم الحديث فقد بدأ كعلم مستقل في (أوائل) القرن الثاني الهجري في تصانيف مكتوبة في مجاميعه الأولى المروية عن أقوال النبي (ص) في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وهو الآخر أصبح علمًا منجزًا كليًّا في أواخر القرن الثالث الهجري عندما تمّ تجميع تصانيف الرواة (والمحدثين)، كذلك الحال بالنسبة للدراسات الدينية والقواعدية للنص القرآني، والتي انطلقت دون تعمُّل منذ البداية، فقد أصبحت هي الأخرى علمًا مستقلًّا منذ القرن الثاني الهجري وحتى الآن.

أما بالنسبة لعلم أصول الدين (أو ما عرف بعلم الكلام)، فقد بدأ هو الآخر في القرن الثاني الهجري من خلال المناظرات الحرة كما والمواقف العلمية حول طبيعية القرآن الكريم، ويجب أيضًا اعتبار تفاسير المرجئة والخوارج حول علاقة الإيمان بالعمل في القرن الهجري الثاني بمثابة البداية لتطور علم أصول الدين.

بيد أن علم الأصول في العالم السني أصبح في القرن الهجري الثالث واضح المعالم على يد “المعتزلة” الذين كانوا منتشرين في العصر العباسي. وكما هو معلوم فإن المعتزلة اعتمدوا العقل في فهم نصوص الوحي ووصلوا إلى تصوّر عقلي لصفات الله وللقرآن، وقد لاقى ذلك اعتراضًا شديدًا من المجتمع الديني، بحيث إنهم في غضون قرون قليلة اختفوا كمدرسة أصولية مؤثرة.

في نفس الوقت، وقرابة أواخر القرن الثالث، ظهر “أبو الحسن الأشعري” الذي كان نفسه معتزليًّا، ثم انقلب عليهم وأسّس المدرسة الأشعرية الكبيرة في الأصول. مع أن سيطرة المدرسة الأشعرية لم تكن كاملة كما يتبادر إلى الذهن.

على الرغم من ذلك، فقد انتشرت في العالم السني لتصبح قوة مهمة. وفي مقابل النزعة العقلية عند المعتزلة فإن الأشعرية يعتقدون بخضوع العقل للوحي، مع أنهم حثوا على فهم عقلاني للعقيدة الإيمانية. (كذلك) المدرسة (الماتريدية) التي تبنّت قولًا وسطًا بين المعتزلة والأشعرية، مع أنها أبدًا لم تنتشر انتشارًا واسعًا إلا أنها لا تزال موجودة إلى يومنا هذا.

إضافة إلى هذه المدارس العقائدية التي ترعرعت في العالم السني وتم تدريسها في المدارس التقليدية، فعلينا أن نذكر أيضًا دور التعليمات الصوفية حتى في هذا المجال، ولم يكن بعض الصوفيين الأوائل (متكلّمين) فحسب، مثل “المحاسبي”، ولكن وبشكل تدريجي بعد القرن السادس الهجري- الثاني عشر ميلادي دخل ما يمكن تسميته (العقائد الباطنية) Mystical theology المعتمدة على تعليمات الصوفية إلى ساحة العقائد السنية. خاصة بعد الغزو المغولي، عندما قدم الصوفيون الكثير من الثقافة الدينية بواسطة المؤسسات الصوفية، هذا النوع من التعليمات للعقائد الروحية دخلت من مناهج العديد من المدارس الدينية. ومذاك بدأت التعليمات الصوفية تدرس في مفاهيمها العقلية بمعية الشكل الأكثر ظهورًا للعقيدة الأشعرية.

هناك حتى يومنا هذا العديد من السادة الصوفية الذين يجمعون شروحات العقيدة الصوفية إلى العقيدة الأصولية وخاصة الأشعرية، وفي مجال مقارنة العقيدة السنية مع الشيعية هناك جانب مهم يحظى بالاهتمام ألا وهو النظرية السياسية. فالسنة جميعهم يقبلون الخلفاء الأربعة الأوائل، أبو بكر، عمر، عثمان، وعلي كخلفاء حقيقيين للنبي (ص)، حيث أتمّوا هذه المهمة على الصورة المثلى، ولذلك فإنهم يدعون الخلفاء الراشدين.

ومع تأسيس الخلافة الأموية، فقد استمر اسم مؤسسة الخلافة، بينما في الحقيقة، فإن الخليفة تحوّل إلى ملك العرب، ولذلك نرى أن علماء السنّة قبلوا فقط الخلفاء الأربعة الأوائل كممثلين كاملين للخلافة النموذجية.

إن النظرية السياسية للخلافة على أي حال تطورت بعناية وبشكل تدريجي، وإن لم تكن قد تحقّقت عمليًّا على وجهها الأكمل حتى هذا الوقت. كما أن المنظرين السياسيين السنيين عندما يناقشون نظرية الخلافة يرجعون عادة إليها على أنها الإمامة التي يعنون بها موقع ذلك الشخص الذي تنحصر مهمته في إجراء القوانين التشريعية والعمل في القضاء. وحيث إن مصطلح الإمامة مرتبط بالتشيّع، ومن أجل تجنب الخلط، من الأفضل أن نطلق على المؤسسة السنية الخلافة، ونستعمل كلمة الإمامة عند الحديث عن الشيعة.

إن منظّري السنة الأوائل اعتبروا الخلافة بمثابة المؤسسة القانونية السياسية للأمة الإسلامية. وكما يوجد أمة واحدة، وقانون تشريعي واحد، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون هناك خليفة واحد، وهو الذي يدبّر أمر الجماعة وتكون مهمته في حماية المجتمع وإدارة أمور الشريعة بالاستئناس بوجهات نظر العلماء. وفيما بعد، عندما أصبح الخليفة مستضعفًا سياسيًّا، وحكم الأمة الإسلامية في العالم الإسلامي ملوك أقوياء، فإن هذه النظرية تمّت مراجعتها لتشمل الخليفة، والسلطان، والشريعة.

إن الخليفة يمثل وحدة الأمة وسيادة الشريعة الإلهية، بينما يمثل السلطان السلطة الزمنية الفعلية والقوة العسكرية والقوة السياسية، ومن المفروض أيضًا أن يحافظ على النظام ويحمي المجتمع (الإسلامي). وتتميز النظرية السياسية السنية بوجهها بحقيقة أن الخلافة في مهمتها ليست لتفسير الوحي الإلهي والمسائل الدينية بوجه عام، بل في تطبيق القانون والعمل في القضاء على أساس هذه الشريعة.

إن التشيّع، يجب أن يفهم على أساس المفهوم العام للثقافة الإسلامية، فالشيعة هم الذين يعتقدون أن حق خلافة الرسول (ص) هو فقط لأهل بيته ومن يخلفهم، باعتبارهم مصدر الإلهام والإرشاد لفهم الوحي القرآني الذي جاء به النبي (ص)، وأن أفراد أهله (ص) كانوا يشكّلون القناة التي تعبر من خلالها التعاليم والبركة المستمدة من الوحي لتصل إلى الشيعة. وباعتبار ما يمكن القول: إن التشيع هو إسلام “علي”، كما يمكن القول: إن التسنّن هو إسلام “أبو بكر”.

وفي إطار هذا القطاع من المجتمع الإسلامي الذي يسمّى الشيعة، هناك مميزات أبعد يمكن أن تلحظ مستمدة من عدد الأئمة الذين قبلوا بعد النبي (ص). إن الجسم الرئيس للتشيّع في كل من العدد والخصوصية في إطار الطيف الثقافي الديني هو “الإمامية الاثني عشرية”. ومن ثم تجد هناك الشيعة الذين يعتقدون بأئمة سبعة، وهم “الإسماعيلية”، والشيعة الذين يعتقدون بأئمة خمسة، وهم “الشيعة الزيدية”.

الشيعة الاثني عشرية هو الدين الرسمي في بلاد فارس، ومعظم الشعب هناك ينتمي إلى هذه المدرسة. وهم أيضًا يشكّلون (أكثر) من نصف الشعب العراقي، ولهم أيضًا وجود معتبر في الهند، وباكستان وأفغانستان ولبنان وبعض بلدان شرق أفريقيا.

الإسماعيلية هي أكثر انتشارًا في توزعها الجغرافي، إن لها أتباعًا بحجم معتبر في الهند وباكستان وشرق أفريقيا، وهناك جماعات إسماعيلية أصغر موجودة في عدة بلدان مثل إيران، سوريا، مصر، أما بالنسبة إلى الزيدية فهم موجودون اليوم في اليمن، حيث معظم أفراد الطائفة الزيدية. هناك أيضًا فئات صغيرة مثل “العلويين” في سوريا، “والدروز” في سوريا ولبنان، والذين تفرّعوا عن الجسم الأساسي للشيعة لتصبح طوائف مبتدعة. ويشكّل الشيعة حوالي خمس إجمالي المسلمين، رغم أن تأثير الشيعة على مجمل الحياة الفكرية والروحية في الإسلام أكبر بكثير مما توحي به نسبتها من حيث الكم.

لذا، سوف نحصر اهتمامنا ومعالجاتنا في الإمامية الاثني عشرية، والإسماعيلية، اللذين يشكّلان أهم فرعين (في التشيع)، الرقم اثني عشر، والرقم سبعة، يشبهان أشهر السنة وأيام الأسبوع، أو إشارات الكواكب وأبراج الفلك (Zodiac) وأعدادها الثابتة التي تحدّد نمط الوجود الإنساني.

وعلى أي حال، فمن أجل فهم عقائد هاتين الطائفتين، فمن المفيد الاستعانة بشيء من الإلمام بمسيرتهما التاريخية.

بعد وفاة الرسول (ص)، كانت هناك مجموعة صغيرة من رجال الصحابة مثل “سلمان، أبو ذر، والمقداد”، وقفوا بجانب علي، بينما غالبية المكّيين أقسموا يمين الوفاء (بايعوا) أبو بكر الذي تم بناءً لذلك اختياره كخليفة الرسول (ص)، وأثناء فترة خلافته، وخلافة عمر وعثمان أيضًا، كان الشيعة، أو أتباع “علي” يعيشون حياة هادية، بينما كان علي نفسه معتزلًا النشاط السياسي، ومكرّسًا وقته لتعليم وتوجيه أتباعه الذين في ذلك الحين، أصبحوا أكثر عددًا. ثم أصبح خليفة لفترة قصيرة حوالي خمس سنوات فحقق الشيعة أهدافهم التي كانوا يتطلعون إليها باستمرار، رغم أن فترة خلافة علي (ع) كانت مليئة بالمشاكل.

ومع قيام دولة الأسرة الأموية، دخلت الشيعية في الفترة الأشد صعوبة في تاريخهم والتي كانت خلالها تعارض سرًّا وعلانية، وكانت غالبًا ما تضطهد. فقط، كانت فترة عمر بن عبد العزيز، تشكّل استثناءً لهذا الاتجاه العام. وأكثر من ذلك، فخلال هذه المرحلة؛ (أي المرحلة الأموية) استشهد حفيد رسول الله (ص) الحسين (ع) في كربلاء مسجّلًا المأساة التي صبغت التاريخ الإسلامي اللاحق، وبشكل خاص التاريخ الشيعي. وخلال هذه الفترة أيضًا، حصلت العديد من الحركات الثورية والتي على أي حال كانت تقمع دائمًا، ورغم ذلك فإن مثل تلك الحركات أثقلت كاهل الأمويين، ولعبت دورًا أساسيًّا في سقوطهم.

أما حركة أبو مسلم الخراساني في خراسان، فقد اعتمدت على المشاعر الشيعية القوية، وفي الحقيقة، فقد كان يطلب من الناس الولاء لأهل البيت النبوي، لذلك فإن العباسيين عندما وصلوا إلى السلطة، كانت معارضتهم للشيعة أقل خطورة من الأمويين. ولكن ذلك كان فقط في بداية القرن الثالث الهجري، وخاصة خلال فترة المأمون، حيث أتيحت الفرصة للشيعة للعمل بحرية نسبيًّا، لدرجة أن الإمام الثامن “علي الرضا (ع)” تمّ اختياره كخليفة للمأمون، (وليًّا للعهد)، ولكن بعد سمّه، ووفاة المأمون فيما بعد أصبح الوضع صعبًا من جديد، لدرجة أن الخليفة الجديد أمر بهدم مقام الإمام الحسين (ع)، في كربلاء وتحويله إلى حقل.

في القرن الرابع الهجري، كانت المرحلة الأولى التي انتعش فيها التشيع، فقد سيطر “البويهيين” على بلاد فارس بمجملها كما امتدت سلطتهم إلى بغداد، في تلك الأثناء غلب الفاطميون على مصر وأقاموا خليفة إسماعيلي في شمال أفريقيا كان يضاهي الخليفة العباسي في القوة. ومنذ ذلك الحين استمر الشيعة بالانتشار حتى بعد مجيء الأيوبيين والسلاجقة – واللذين كانا داعمين للتسنّن.

ويمكن القول: إن فشل الفاطميين في مواجهة الصليبيين في سوريا ولبنان، والنجاح الفريد الذي حققه الأيوبيون خاصة صلاح الدين أمام تلك القوى عينها أدّى إلى تراجع التشيع في أماكن خاصة لمصلحة التسنّن، ولكن بشكل عام في فترة ما بين القرن الخامس والتاسع، انتشر التشيع تدريجيًّا خاصة في بلاد فارس، بينما كان قد انحسر في مصر، وشمال أفريقيا.

ويجب أيضًا أن نذكّر أن الحركة الإسماعيلية في قلعة الموت في هذا المجال رغم أنها بعد الغزو المغولي تحطمت ظاهرية، وتحولت إلى الخفاء. في هذه الأثناء فإن نجاح الشيعة الإمامية الاثني عشرية عُرِف من خلال تحول الملك الخانيد، محمود خودابندا إلى التشيع، وهكذا تهيأت الأرضية للصفويين الذين تغلبوا على جميع بلاد فارس في القرن العاشر الهجري- السادس عشر ميلادي، وقد جعلوا الشيعة دين الدولة الرسمي. وفي ظل حكمهم تحولت البلاد تدريجيًّا إلى التشيع، وما زالت كذلك إلى يومنا هذا. وفي هذه الأثناء كان التشيع يستمر في اليمن الذي كان بعيدًا عن الأحداث السياسية في البلدان الإسلامية الأخرى، أيضًا في الهند، فقد نشأت جماعات شيعية اثني عشرية، وحكمت أحيانًا في جنوب البلاد لفترات محددة، وأمّنت الهند أيضًا قاعدة للإسماعيلية، حيث وجدت أخيرًا موطنها الروحي في تلك الأرض.

وفي دراسة الشيعة يبدو أنه من المنطقي أن نبدأ في شرح المدرسة الاثني عشرية، بسبب مركزيتها، والتوازن الذي تتضمنه بين الأبعاد الظاهرية والباطنية للتنزيل.

فبالنسبة إلى الحياة الفكرية للإمامية الاثني عشرية، فإنه يمكن تقسيمها إلى أربع فترات لتسهيل دراستها، هذا التقسيم في الحقيقة قدّمه كوربان في دراساته عن الشيعة، الفترة الأولى هي فترة النبي (ص) والأئمة (ع)، حتى بداية مرحلة الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر أو الإمام المهدي (عج) في سنة 329 هـ، 940م. خلال هذه الفترة التي تعتبر فريدة في التاريخ، كان النبي والأئمة (ع) يعيشون بين الناس الذين كانوا يرشدونهم إلى المعاني التشريعية للوحي كما يرشدونهم أيضًا إلى المعاني الباطنة.

وعلى أساس خبرات ومعارف تلك الفترة اعتمدت مجمل الحياة الروحية والدينية للشيعة. فخلال تلك الفترة أنزل التشريع الإلهي على النبي وفسّر بواسطة النبي (ص) والأئمة (ع).

الفترة الثانية يمكن اعتبارها ممتدة من زمن الغيبة الكبرى للمهدي (عج) وحتى فترة الغزو المغولي، ولكن بسبب أن ذلك التاريخ يترافق مع حياة (الفيلسوف) الخواجا “نصير الدين الطوسي” مع هذا العبقري المتميّز الذي كان رياضيًّا وفلكيًّا وفيلسوفًا.. وصلت علوم العقيدة الشيعية إلى أعلى مستوى لها، ويمكن اعتباره من خلال اعتبارات عدة أعظم علماء الكلام الشيعة، هذه المرحلة عرفت بظهور المجموعات الحديثية، والأصول الدينية والتي تشكّل المادة الأهم في الحياة الشيعية الدينية. لقد بدأت “بالكليني” صاحب أصول الكافي، والذي يعتبر الأكثر شمولًا للثقافة الشيعية الإمامية. إنه أيضًا عصر ابن بابويه، والشيخ المفيد، ومحمد بن حسن الطوسي الذين كانوا أصحاب المراجع والمصادر الثقافية الأساسية للعلوم الدينية الشيعية. أيضًا في هذه الفترة كان السيد الشريف الرضي الذي جمع أحاديث الإمام علي (ع) في كتاب (نهج البلاغة)، والذي يعتبر بعد القرآن والحديث النبوي، العمل الأهم عند الشيعة.

المرحلة الثالثة تمتد من الغزو المغولي إلى تأسيس الدولة الصفوية، وهي الفترة الأكثر غموضًا؛ لأن مصادر هذه المرحلة لم تحظ بالقدر الكافي من الدراسة، وتمامًا كما أن التاريخ السياسي والاجتماعي لهذه الحقبة غير معروف بشكل جيد، بسبب كثرة الهرج الناجم عن وجود عدد كبير من الثورات المحلية، فإن تفاصيل الحياة الدينية للتشيع في هذا العصر هي الأخرى لا تزال غير معلومة. ويمكن على أي حال القول: إنه بشكل عام استمرت مدرسة الخواجا نصير الدين، سواء في أصول الدين أو الفلسفة، كما يمكن رؤية ذلك في بعض الظواهر مثل تلميذه العلّامة الحلي أحد المؤلفين الغزيري الإنتاج، وقطب الدين الشيرازي، الفيلسوف والعالم الشيعي المعروف، وأكثر من ذلك، فإن مدرسة التصوف في وسط أفريقيا كانت مرتبطة على الأغلب باسم نجم الدين الكوبرا، أصبحت مرتبطة بمدرسة ابن عربي الصديق الحميم للتشيع في الغالب. كما يمكن رؤية ذلك أيضًا في أعمال من هذا النمط لسعد الدين الحموية.

ابن عربي، السيد الصوفي الكبير، الأندلسيّ الأصل، والذي استقر ومات في دمشق، وهو يمارس الآن تأثيرًا هائلًا على العرفان الشيعي، قد حظيت عقيدته بأهمية بالغة على الصعيد الشيعي على أيدي رجال من أمثال السيد حيدر الآملي، وابن أبي جمهور، وابن تركه. وقد أثّرت الميتافيزيقا الصوفية بعلم الكلام الشيعي، فضلًا عن الحكمة الإلهية، والتي تنمو في هذا الوقت في بلاد فارس تحت تأثير المدرسة الإشراقية للسهروردي.

المرحلة الرابعة تمتد من العهد الصفوي حتى الوقت الحاضر، وبدأت مع النهضة الصفوية الرائدة. فالتشريع الشيعي وعلم الأصول الاعتقادية Theology أنعشت لتقود إلى وضع الموسوعة الدينية الكبيرة “بحار الأنوار” التي ألّفها محمد باقر المجلسي.

وقد وجدت العقيدة الدينية والميتافيزيقية الشيعية بعض مفسّريها اللامعين مثل السيد الداماد، وبهاء الدين العاملي، وهو واحد من الشيعة الكثر الذين قدموا من جبل عامل في لبنان إلى بلاد فارس، كذلك صدر الدين الشيرازي الذي يعرف باسم “الملا صدرا”، وهذا الأخير ربما كان أكبر الفلاسفة الإسلاميين، وبتسميته أصح، الحكيم (الإسلامي) Theosophat الذي أوجد أبعادًا فكرية جديدة في الإسلام جامعًا بين أفكار ابن عربي، والسهروردي، وابن سينا، ونصير الدين الطوسي، في عقائد التشيع. ومذ ذاك انتعشت التعاليم الشيعية في بلاد فارس والعراق، وكذلك في لبنان وفي بعض مراكز الهند. إن المرحلة البارزة للعهد الصفوي كان لها العديد من الثمار والتلامذة في القرون التالية أولئك الرجال هم الذين حفظوا دينهم وتعاليمهم الفكرية حيّة إلى يومنا هذا.

بالنسبة لتاريخ “الإسماعيلية” فإن دراستها أكثر صعوبة بسبب الطبيعة الباطنية للحركة نفسها، وبسبب النقص في المصادر المهتمة ببداية نشأتها. والمعلومات المتوفرة تاريخها معروف عادة ما يؤخذ من وجهات نظر أولئك المعارضين للإسماعيلية، بينما هناك عدد قليل من الإسماعيليين يعملون على تاريخهم المبكر، [من مثل كتاب] (عيون الأخبار)*، [والمؤرخان] محمد بن يحيى اليمني دائي*، وإدريس عماد الدين*، وأعمال متفرّقة أخرى، ذات طبيعة مماثلة، تمثل وجهة نظر الإسماعيلية أنفسهم. ولهذا فإن الباحثين المسلمين والغربيين على حد سواء غير قادرين على الموافقة على العديد من المشاكل للإسماعيلية المبكرة.

ومن الطبيعي، أن التاريخ المبكر للإسماعيلية هو نفسه تاريخ الاثني عشرية لأنه حتى الإمام السادس جعفر الصادق (ع) فقد كان هناك جسم واحد للشيعة. وبعد موت هذا الإمام فقد قبل الشيعة الاثني عشرية إمامة الإمام موسى الكاظم (ع) الذي اختاره الإمام الصادق نفسه كإمام (بعده)، بينما اتبع الإسماعيلية ابنه الأكبر إسماعيل الذي تم اختياره قبلًا ولكنه مات بينما كان الإمام جعفر الصادق لا يزال على قيد الحياة.

إن أتباع إسماعيل وابنه محمد كانوا الإسماعيليين الأوائل، مع أنه حتى فيما بينهم، فقد كانت توجد عدة وجهات نظر.

ومنذ ذلك الحين افترق الشيعة الإسماعيلية عن الاثني عشرية، وأصبح تاريخ كل منهما منفصلًا عن الآخر.

ومن المفيد الإلماح أنه كانت هناك مجموعات صغيرة وجدت بعد الإمام الثامن وبعض الأئمة الآخرين، إلا أنها كانت عاجزة عن تلقي الدعم الكافي، مما أدّى إلى انقراضها وزوالها كحركات مستقلة.

الإمامية الاثني عشرية، والإمامية السبعية استمرت كفرق للشيعة، كما لو أن نماذجها كانت محمية بطبيعتها، وبالأعداد التي استمرت بها.

لقد ميّز الباحثون في فرق الإسماعيلية على الأقل أربع فرق:

الفرقة الأولى: الدعوة الأولى: والذي يمثل مصطلح إسماعيلي خاص للنشاط الديني والرسالي، وقد أدّت “الدعوة” في اليمن وشمال أفريقيا إلى الخلافة الفاطمية اعتمادًا على شخصية إسماعيل وابنه محمد، والحركة (الإسماعيلية) في سوريا وأرض ما بين النهرين في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، وأخيرًا حركة القرامطة في البحرين أيضًا. وطبعًا كل هذه الحركات كان لها اتصال ما فيما بينها، على قدر ما أنتجت عقائد ومفاهيم دينية متعلقة بالإسماعيلية. ولكن، في المجال السياسي والاجتماعي لا يمكن بأي شكل تصنيفها مع بعضها.

في أي حال، فإن بعض الحركات انقرضت تدريجيًّا، وما ظهر منها كان الفرقة المعروفة جيدًا وهي الفاطمية في شمالي أفريقيا.

الفرقة الثانية: الإسماعيلية المشهورة في بلاد فارس “النزارية”، وفي بعض المناطق الشرقية من بلاد الإسلام.

بالنسبة إلى تاريخ الإسماعيلية، فقد كان كوربان Corbin أحد أهم المفسّرين للعقيدة الإسماعيلية في الغرب، وقد قسّمه إلى خمسة مراحل، والتي سوف نذكرها فيما يلي لنسهّل فهم تطور هذه المدرسة:

  1. فترة الأئمة الأوائل للإسماعيلية، محمد وأبو الخطاب.
  2. الفترة الممتدة من محمد إلى عبيد الله المهدي مؤسّس الخلافة الفاطمية، وخلال هذه المرحلة، فإن أئمة الإسماعيلية الذين هم ثلاثة أو أربعة كانوا متوارين عن الأنظار (مستورين)، رغم أنه كان هناك نشاط كبير في اليمن وشرق أفريقيا من أجل تهيئة الطريق للخلافة الفاطمية. ومفهوم (الإمام المستور) هذا يجب أن لا يختلط مع مفهوم الغيبة عند الإمامية الاثني عشرية. فالأول يعني ببساطة أن الإمام مستور عن أعين الناس، لكنه يعطي توجيهاته، بينما الثاني يعني الاختفاء عن العالم المادي.
  3. مرحلة تأسيس الدولة الفاطمية حتى عهد الخليفة الثامن “المستنير بالله”، وخلال هذه الفترة كان للإسماعيليين خليفتهم الخاص الذي كان يشكّل قوة عظمى تنافس الخلافة العباسية على سيادة العالم الإسلامي. هذه الفترة سجّلت أيضًا، ظهور الأعمال العقائدية الكبرى للإسماعيليين بواسطة أعمال كبيرة لأمثال أبو حاتم الرازي، القاضي نعمان، أبو يعقوب السجستاني، وحميد الدين الكرماني، والشاعر الفارسي المشهور والفيلسوف الإسماعيلي نصيري كسروي.
  4. الفترة الممتدة من الخليفة الثامن إلى زمن الغزو المغولي، وخلالها انقسمت الإسماعيلية إلى فرعين، فبعد الخليفة الفاطمي الثامن الإسماعيلية الشرقية الذين كانوا مرتبطين بحركة “حسن الصباح” والموت[4]، Alamut أتباع “نزار” ابن الخليفة المستنصر الذين أصبحوا يعرفون باسم “النزارية”، بينما أولئك الذين كانوا في مصر واليمن قبلوا ابنه المستعلي بالله. وأصبحوا يعرفون “بالمستعلية”. ومن المفيد أن نعرف أيضًا أن حركة “الدروز” انفصلت عن الإسماعيلية قبل هذه المرحلة بقليل واتبعوا الخليفة السابع الحاكم بالله كتجسيد لله.

الفرقة الثالثة: فرقة “المستعلية” من الإسماعيلية تعتقد بإمام مستور مثل الاثني عشرية، وزعيمها المستنصر بالله المستقر في اليمن حتى القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي حيث هاجر إلى الهند، وحيث لا يزال زعيم المجموعة موجودًا هناك، ومفضل سيف الدين هو الزعيم الروحي والإمام لهذه الفرقة من الإسماعيلية.

  1. فترة الغزو المغولي، التي سجلت نهاية القوة الإسماعيلية في بلاد فارس، خلال هذه الفترة التي لا يعرف تاريخها جيدًا، أصبحت الإسماعيلية مغمورة وظهرت في عدة أماكن في أنظمة صوفية، هناك في الحقيقة تلاقٍ بين الإسماعيليين وبعض طرق الصوفية، في هذا الوقت بالذات، وهي على أي حال لم تدرس بشكل كاف. ومنذ ذلك الحين استمرت الإسماعيلية كفكرة دينية بدون قوة سياسية مقارنة بأيامها الأولى. وهي كجماعة دينية مستمرة في القارة الهندو باكستانية وشرق أفريقيا، وسوريا وبعض المناطق الأخرى.

 الفرقة الرابعة: الفرقة النزارية تحت قيادة الآغاخان، أما مصطلح المستغلون تحت الزعيم دايي dac في الهند.

بالنسبة للعقيدة والمبادئ الشيعية، فمن المناسب مرة أخرى أن نبدأ بالاثني عشرية، ثم ننتقل إلى الإسماعيلية. وأخيرًا ندرس الفروقات بينهما، كما ندرس أيضًا أوجه التشابه والاختلاف بين الإسلام الشيعي والسني.

إن المفهوم الأساسي الذي يلخص كل الرؤية الشيعية – وهو في الحقيقة يشترك مع الإسماعيلي – هو التفريق بين الظاهر والباطن الذي ألمحنا سابقًا. كل تعليم يجب أن يكون تعليمًا لشيء ما، وكل ظهور أو مظهر يتضمن حقيقة ما، والتي “تظهر”. وكل حقيقة موضوعية تمتلك، مفهومًا ظاهرًا وآخر باطنًا. وهذه الحقيقة لا تشمل عالم الطبيعة، بل تشمل أيضًا الوحي المنزل، والذي صدر عن نفس المصدر تمامًا كالطبيعة، وهو بالتحديد الأصل الإلهي لكل الأشياء.

الإمامية الاثني عشرية تؤكد قبل كل شيء الظاهر والباطن، وفي هذا كما في أمثلة أخرى تلتقي مع الصوفية في وجهة نظرها[5]، والباطن لا يستطيع أن يصبح واقعًا أو موحى به بدون الظاهر، في هذه العلاقة يكمن السر في وجود الإمام. فالنبي في الدين يأتي بالشريعة من السماء ليرشد حياة الناس، وبعده ينقطع الوحي، والناس يتركون مع قانون أو شريعة تطابق مفاهيم الوحي، لذلك يجب أن يأتي أولئك القادرين على تفسير المعاني الداخلية للشريعة والمضمون الباطني للوحي.

بشكل خاص، في الإسلام، يغلق باب النبوة بالنبي محمد (ص) الذي كان المصدر الظاهري والباطني للوحي. ولكنه في وظيفته كناقل للوحي الإلهي فهو يمثل المفهوم الظاهري، وبعده يجب أن يكون أولئك الذين يرثون الوظيفة الباطنية، والتي تكون وظيفتهم توضيح المعنى الداخلي للشريعة الإلهية.

إن دائرة النبوة ختمت بالنبي، الذي هو “خاتم الأنبياء”، ومنذ ذلك الوقت لن يكون هناك وحي جديد في الدورة الحالية للإنسان. وباستكمال هذه الدائرة (دائرة النبوة) فقد بدأت ما نطلق عليه دائرة الولاية، ومع أن هذا التفسير ليس وافيًا بما يكفي ليوضح مفهوم الولاية (أو ولايت)، كما يستعمل هذا التعبير في الأعمال الفارسية عن الشيعة، وما تتضمنه هذه الدائرة الثانية، هو بداية سلسلة من العلماء تُعنى بالتفسير الباطن للوحي المستمدة مباشرة من النبي نفسه (ص)، والذي هو مصدر لكل من الأبعاد الباطنة والظاهرة. أكثر من ذلك، فإن هذه الدائرة سوف تستمر إلى يوم القيامة عندما تنتهي دورة التاريخ عينها. ولكن ما دام الإنسان يعيش في هذه الحياة فإن دورة الولاية باقية لتفور قناة مباشرة إلى مصدر الوحي نفسه، والمعاني التي ينجز الإنسان بها عملية التأويل الأساسية للتفسير الهرمنطيقي Hermeneutic، للغور من الظاهر باتجاه الباطن. هذه العملية الأساسية من التأويل، أو السفر من الظاهر إلى الباطن هي ممكنة فقط من خلال وجود دائرة الولاية، وبدون (الولاية) فلن تكون هناك إمكانية للخروج من سجن الأشكال المحدودة إلى حيث الماهيات السماوية العليا.

إن الشخص الذي ينصب دائرة الولاية، والذي تكون مهمته في كل زمن أن يملأ وظيفة الولاية هو الإمام، الذي تعتبر صورته محورية في العقيدة الشيعية، ولذلك فإن الإمام الأول علي (ع) يسمى “وليُّ الله”. وبشكل عام، فالإمام يعني الشخص الذي يقف في المقدمة ويكون قائد المصلّين في صلاة الجماعة. ولهذا، فإن هذا التعبير يستعمل في اللغة اليومية عند السنّة والشيعة على السواء. كما لو أن إمام المسجد الفلاني هو كذا وكذا… وللفظ أيضًا معنى تشريفي وهو الشخص الذي على رأس المجموعة الدينية. إنها بهذا المعنى لقب يُعطى للعلماء المتفوقين مثل الإمام الغزالي، أو الإمام الشافعي إلخ… وكما ذكرنا، فإن اللقب هذا يستعمل في النظرية السنية السياسية ليدلّل على الحاكم في المجتمع الإسلامي، والإمام بهذا المعنى مرادفة للخلافة.

ولكن، كما يستعمل اللفظ عند الشيعة فإن الإمامة تعني ذلك الشخص الذي يعتبر الحاكم الحقيقي للأمة، وبشكل خاص الوريث للتعاليم الباطنة التي عند النبي. إنه الشخص الذي ينقل النور المحمّدي في كيانه، والذي يملأ وظيفة الولاية. وكما ذكر، وحسب الشيعة والسنة (سواء بسواء)، هناك نور نبوي، كان موجودًا أصلًا منذ البداية في كيان كل نبي منذ آدم وهلم جرّا… إن ذلك النور هو مصدر كل المعارف النبوية، ويعبّر عنه باسم “النور المحمدي”، أو “الحقيقة المحمدية”، والتي هي Logos (الروح القدس)، إنها الضوء الذي يسري من دائرة نبوّة إلى أخرى، وإنه الضوء الذي يوجد مع الإمام، والذي ببركة حضوره يصبح حامله إمامًا…

إن الإمام الذي هو أهل للولاية هو الذي يحمل الشريعة الإسلامية أو القانون الديني، وهو الضمان لاستمرارها. النبي (ص) هو الذي يحضر القانون الإلهي ثم يترك هذا العالم، وعليه فهناك فترات يكون فيها العالم بدون نبي، ولكن الإمام حاضر دائمًا، فالأرض لا يمكن أن تخلو من إمام حتى لو كان مستورًا أو مجهولًا. لذلك، فعندما يغادر نبي الإسلام هذا العالم، فإن الإمام هو الذي يتابع الحضور، ويحفظ وينقل الدين من مرحلة إلى أخرى، فالإمام في الحقيقة هو مفسر وحامل الوحي الممتاز، ومهمته بشكل أساسي ذات ثلاثة أبعاد:

البعد الأول:حاكم للأمة الإسلامية، كممثل للرسول (ص).

البعد الثاني: مفسّر العلوم الدينية والشريعة للناس، خاصة معانيها الباطنة.

البعد الثالث: وأخيرًا ليقود الناس في حياتهم الروحية.

 كل هذه المهمات يستطيع الإمام أن ينجزها بسبب وجود “النور” في كيانه. وكنتيجة لوجود هذا النور، يمتلك الإمام صفة العصمة في المسائل الروحية والدينية. إنه في طبيعته الداخلية نقيًّا كنقاء النبي (ص) الذي يعتبر مصدر هذا النور كما تعتبر ابنته فاطمة (ع) مصدرًا له، والتي هي أم الأئمة (ع) من علي (ع)، ولذلك فإن النبي (ص) وفاطمة (ع) والأئمة الاثني عشر يعتبرون جميعًا الأربعة عشر الأطهار المعصومون.

العصمة في النبي والإمام هي النتيجة المنطقية لحضور النور المحمدي فيهم، لأن هذا النور هو المصدر لكل وحي وبشكل حاسم لكل المعارف، ومن يكون مهتديًا بهذا النور فهو بشكل مؤكّد محروس من الأخطاء. وفي حقيقة الأمر، فإن واحدًا فقط من بين أبناء كل إمام الكثيرين يصبح إمامًا، لأن واحدًا فقط يحمل النور المحمدي في ذاته. إن العلاقة بين الأئمة هي ليست علاقة جسمانية، ولكنه في معظمه ارتباط روحي يعتمد على عبور هذا النور من إمام إلى آخر، والذي ببركته يصبح كل إمام معصومًا وتصبح له سلطة حمل وتفسير الوحي الإلهي والشريعة الإلهية.

الأئمة هم أيضًا الوسطاء بين الإنسان والله، يطلبون الغوث منه سبحانه، ويلتمسون الطريق التي وضعها الله أمام الإنسان لتمكّن الإنسان للعودة إليه. إنهم بهذا الاعتبار امتداد لشخصية النبي ومقاماتهم ومقامات أبنائهم أيضًا الذين يطلقون عليهم في بلاد فارس (إمام زادة) تقصد من قبل الحجاج أو الزوار، وهي مراكز للحياة الدينية. فالشيعة من كل أنحاء الأرض يزورون هذه المقامات، مقام علي (ع) في النجف، والحسين (ع) في كربلاء، والإمامين السابع والتاسع في الكاظمية، ومقام الإمام الأخير الثاني عشر في سامراء، والإمام الرضا (ع) في مشهد، وأخته السيدة المعصومة في قم، وأخت الإمام الحسين (ع) السيدة زينب وابنته السيدة رقية في دمشق، وفي مواقع أخرى عديدة. في الحياة الشعبية اليومية للشيعة، فإن هذه المواقع تؤدي دور أو وظيفة الأولياء العظام عند السنة مثل الملاي إدريس في (فيز)، ومقام الشيخ محي الدين بن عربي في (دمشق)، ومقام المولوي جلال الدين الرومي في (قونيا)، وذاك الذي (لحجويري) في لابور، ومقام معين الدين شيشتي في (أجمر)، أو مزار الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد. وبشكل طبيعي فإن أماكن المقامات المقدسة هذه مندمجة. فمثلًا في العالم الشيعي فإن مقامات أولياء الصوفية الذين يعتبرون الأبناء الروحيين للأئمة يزارون بشكل دائم، أما في عالم السنة فإن مقامات الأئمة وأبنائهم نادرًا ما تزار كمقامات لأولياء عظام.

أما الأئمة الاثني عشر عند الشيعة فهم:

  1. علي بن أبي طالب، ابن عم وربيب النبي (ص)، وهو أصل الإمامة والممثل للبعد الباطن للإسلام، حسب عقيدة الشيعة، فقد اختُير في غدير خم من قبل النبي (ص) كوصي وخليفته.
  2. ابن علي الأكبر، الإمام الحسن (ع)، والذي كان خليفة إلى وقت قصير بعد أبيه، توفي في المدينة بعد اعتزاله الحياة السياسية.
  3. ابن علي الأصغر، الإمام الحسين (ع) الذي خرج في وجه يزيد الخليفة الأموي الثاني، وقد قتل مع جميع أفراد عائلته تقريبًا في كربلاء، وكانت شهادته في العاشر من محرّم العام 61 للهجرة. ويعود لهذا اليوم رأس السنة الدينية، ولموته المأساوي الذي يلخّص بشكل تام أعراف الشيعة “ethos of shiism” .
  4. الإمام علي المعروف بزين العابدين والسجّاد، والذي كان الابن الوحيد للإمام الحسين الذي بقي بعد واقعة كربلاء، وأمه كانت ابنة آخر ملوك الساسانيين يزدجرد، وكان معروفًا بشكل خاص بأدعيته في الصحيفة السجادية والتي هي بعد نهج البلاغة للإمام علي (ع) العمل الأدبي المشهور للأئمة، والذي يحتوي بعض أكثر الخطوط حركة في الأدب الديني العربي لدرجة أنه يدعى زبور آل محمد.
  5. الإمام محمد الباقر ابن الإمام الرابع، الذي سكن مثل أبيه في المدينة، لأنه في هذا الوقت واجهت الخلافة الأموية العديد من الثورات، مما أتاح للشيعة فسحة أكبر من الحرية لبث تعاليمهم الدينية. ولذلك سافر العديد من طلاب العلم إلى المدينة للدراسة على الإمام الخامس والعديد من العلوم تم إحياؤها به.
  6. الإمام جعفر الصادق (ع) ابن الإمام الباقر (ع) الذي تابع نشر العلوم الشيعية إلى درجة أن الفقه الشيعي تمّت تسميته باسمه[6]، وقد سجّل من الأحكام عنه وعن الإمام الخامس (الباقر) أكثر مما سجّل عن الأئمة الآخرين مجتمعًا، الآلاف الذين أمّوا دروسه الدينية بما فيهم أشخاص معروفون جيدًا عند الشيعة مثل هشام بن الحكم، والكيميائي جابر بن حيان، حتى أبو حنيفة مؤسّس أحد المذاهب السنية الأربعة للفقه، إضافة إلى العديد من علماء السنّة درسوا عليه، وأيضًا يمكن القول: إن الإسماعيلية تفرّعت في عهد الإمام جعفر الصادق (ع) عن الإمامية الاثني عشرية، ومسألة خلافة الإمام السادس كانت صعبة بشكل خاص بسبب أن الخليفة العباسي المنصور كان قد قرّر ليقتل أي شخص يتم اختياره من قبل الإمام السادس ليكون خليفته من أجل أن يضع نهاية للحركة الشيعية.
  7. الإمام موسى الكاظم (ع) ابن الإمام جعفر، الذي واجه صعوبات بالغة بسبب المعارضة المتجددة للخلافة، ومعارضة العباسيين للشيعة هذه المرة. لقد عاش معظم حياته مختبئًا في المدينة حتى سجنه هارون الرشيد وأحضره إلى بغداد ليكون قريبًا منه، حيث مات هناك (في السجن)، ومنذ ذلك الوقت عاش الأئمة مجاورين للخليفة وتركوا المدينة مكان إقامتهم الدائم.
  8. الإمام الرضا (ع) ابن الإمام موسى الكاظم (ع)، وهو الذي دعاه المأمون إلى مرو في خراسان، حيث تم اختياره كولي عهد للخليفة، ولكن الشعبية الهائلة ونمو الشيعة السريع في ذلك المكان حوّل الخليفة ضده، ثم أزيح أخيرًا ودفن في طوس أو المدينة الحديثة “مشهد” والتي هي اليوم المدينة الدينية الأولى في بلاد فارس، وقد شارك الإمام الرضا (ع) في اجتماعات علمائية مع المأمون ومحاوريه مع علماء الدين من أديان أخرى، وهي مسجّلة في المصادر الشيعية. وهو أيضًا المصدر للعديد من الأوامر الصوفية حتى أنه دعي “إمام البدأة” “Imam of initiation”.
  9. الإمام محمد النقي ابن الإمام الرضا الذي أمضى حياته في المدينة طوال حياة المأمون، رغم أن المأمون زوّجه ابنته من أجل أن يبقيه قريبًا منه في بغداد، وبعد وفاة المأمون عاد إلى بغداد حيث توفي هناك.
  10. الإمام علي النقي، ابن الإمام التاسع، والذي عاش في المدينة حتى أصبح المتوكل هو الخليفة، ودعاه ليعيش بجواره في سامرّاء التي كانت مركز الخلافة، وقد ضيّق كثيرًا على الإمام بسبب سياسته المعادية إلى حد بعيد للشيعة، وتحمّل الإمام تلك العداوة حتى مات الخليفة، ولكنه لم يرجع إلى المدينة بعد ذلك، فقد توفي في سامراء حيث لا يزال مقامه ومقام ولده موجودان هناك.
  11. الإمام حسن العسكري ابن الإمام علي النقي، الذي عاش في سرية تامّة في سامراء، وقد كان محروسًا بإحكام من قبل عمّال الخليفة، لأنه كان معلومًا حينها أن الشيعة يعتبرون أن ابنه سيكون هو المهدي، لقد تزوج ابنة الإمبراطور البيزنطي، نرجس خاتون، والتي دخلت في الإسلام، وسترت نفسها مع الجواري من أجل أن تدخل في عائلة الإمام، ومن هذا الزواج ولد الإمام الثاني عشر.
  12. الإمام محمد المهدي (عج)، ويلقب بصاحب الزمان، وهو الإمام الشيعي الأخير الذي مضى في غيبة صغرى بعد وفاة والده، وهي من تاريخ 260هـ/ 873م، وحتى 329هـ/ 940م، وقد كان له أربعة نواب، الذين كان يظهر لهم بين الحين والحين، ومن خلالهم كان يدبّر أمر الشيعة، وقد أطلق على تلك المرحلة، مرحلة الغيبة الصغرى، ومن ذلك الوقت بدأت الغيبة الكبرى، والتي لا تزال مستمرة. أثناء هذا الوقت، وحسب معتقد الشيعة، فإن الإمام المهدي حي ولكنه بعيد عن الأنظار. إنه محور الدنيا axis munde، المدبّر غير المرئي للكون، وقبل نهاية الزمن سوف يظهر من جديد في الأرض من أجل أن يملأ الدنيا قسطًا وعدلًا، ويملأها سلامًا بعد أن تكون مليئة بالحروب والظلم، المهدي هو كائن روحي حي دائمًا، وهو يقود إلى الحياة الروحية لكل من يسأله، ويغيث أولئك القانتين في صلواتهم اليومية، وكل الذين يرتقون روحيًّا فإنهم يكونون في الحقيقة في حالة تواصل داخلية مع الإمام المهدي.

الأئمة الاثني عشر يشبهون الكواكب الاثني عشر للفلك في السماء الروحية. وفي الوسط يقف النبي (ص)، كالشمس الذي يضيء هذه الكواكب، يمثل الأئمة بالنسبة للشيعة جزء من استمرار الحقيقة الروحية للنبي، وهم جميعًا معه، حيث يمثل المصدر بالنسبة إليه في الناحية البيولوجية والميتافيزيقية. يمثلون خطوط ذلك الوجود الروحي الذي يعيش الشيعة فيه.

بالنسبة للمبادئ السياسية للشيعة الاثني عشرية واهتمامها فإنها متصلة مباشرة بشخصية الإمام، فالحكومة الكاملة، هي تلك التي للإمام التي ستتحقق عند مجيء الإمام المهدي الذي يمثل الآن الحاكم غير المرئي للعالم، ولكنه لا يظهر نفسه مباشرة في المجتمع الإنساني، وفي فترة غيابه، فإن كل شكل من أشكال الحكومات، إنما هو من فعل الضرورة، وهو غير كامل؛ لأن نقص الكمال في الناس ينعكس على مؤسساتهم السياسية. الشيعة، وخاصة في بلاد فارس، ومنذ فترة الصفويين وحتى من قبل اعتبروا الملكية من أقل أشكال الحكومات نقصًا في مثل هذه الشروط. ولكن هناك حتى عند البعض مثل شيعة الهند، الأمير علي والطيبي الذي دعم الخليفة السني على قاعدة سياسية محضة رغم أن الشيعة لا توافق الخلافة في اعتبارها المتعارف كسلطة سياسية إسلامية شرعية. وهنا يجب أن نميز بين النظام السياسي النموذجي الذي تراه الشيعة في شخص الإمام، وبين النظام السني في الخلافة وقبول الوضع الموجود. في الحالة الأسبق كان هناك شيعة دانوا بالولاء للخلافة وحتى أنهم دعموها، ولكن شكل النظرية السياسية هي مختلفة في الحالتين خاصة فيما يتعلق بالخلافة.

إن فساد الحكومات في شتى أنحاء العالم بعد غياب الإمام المهدي والتجربة المبكرة للمجتمع الشيعي جعل الشيعة الاثني عشرية غير مهتمين بالحياة السياسية، وهذه من الظواهر التي تميزهم عن السنة والإسماعيلية، فالاثني عشرية أو الإمامية لا يزالون يعتبرون مراقبين للأحداث السياسية بدلًا من كونهم مؤسسين للحركات السياسية.

ويجب أن لا يغيب عن الذاكرة أن حركة الصفويين نفسها والتي تمثل النموذج السياسي الأكبر لانتصار الإمامية الاثني عشرية لم تبدأ كحركة شيعية صرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، فالصفوية كانوا أصحاب طريقة صوفية والتي أصبحت فيما بعد منظمة بشكل جيد، وقوية بما يكفي لتمارس السلطة السياسية، وأخيرًا غلبت على جميع بلاد فارس. طبعًا، لقد جعل الصفويين فيما بعد المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي للدولة، ولكن الحركة نفسها بدأت من نظام صوفي، أكثر من ذلك فحتى أن انخراط الشيعة الإمامية في الحياة السياسية ضروريًّا في الوضع الجديد في بلاد فارس الصفوية، لم ينزع كليًّا سوء ظن علماء الشيعة اتجاه الحكومة، إنها الحقيقة الموجودة في دوائر معينة حتى هذا اليوم.

إن انسحاب الشيعة من الحياة السياسية يجب أن لا يفسّر على أي حال على صورة انسحاب من الحياة الجماعية. بالمقابل، فإن هذا المسلك الواضح اتجاه السياسة كثّف النشاط العلمي والديني للشيعة. ولقرون خلت كانوا فيها متخففين من أعباء المسؤولية السياسية. كرّس علماء الشيعة أنفسهم بكل إخلاص لخدمة العلوم الدينية والعلوم والفنون بشكل عام. فمعظم المؤسسات الثقافية الإسلامية المبكرة تأسست بجهود الشيعة، وكذلك العديد من الفروع العلمية، ولذلك، رغم أنهم كانوا بعيدين عن السياسة، فقد قدّم الشيعة إسهامات هائلة للحياة الاجتماعية الإسلامية في مجالات مرتبطة غالبًا بالعلوم والقضايا البعيدة وقيادة الناس.

من ناحية أخرى، فإن القسم المهم الآخر من الشيعة، تحديدًا الإسماعيلية، تميّزوا منذ البداية باهتمام بالغ في الحياة السياسية حتى أنهم شكّلوا قوة ثورية. في هذا المجال، يمكن القول: إنهم وقفوا في صف المعارضة للشيعة الاثني عشرية في هذا المجال، ولكنهم في مسائل أخرى عديدة شاركوا الاثني عشرية في نظرتهم إلى العالم[7]؛ فالإسماعيلية أكّدوا أيضًا وجود مفهومين لكل الأشياء، الظاهر والباطن، وقد ميّزوا بين النبي والولي، فالأول يمثل القانون، والثاني يمثل معناه الباطن، ولكن بينما حافظ الشيعة الاثني عشرية على التوازن بين الظاهر والباطن كان الإسماعيلية ينزعون إلى تغليب الباطن على الظاهر، ويرفعون من مقام الولي إلى درجة لم تكن موجودة عند الاثني عشرية. فلقب الباطني التي تعطى أحيانًا للإسماعيلية ما هي إلا نتيجة لتأكيدهم على الباطن.

ومن المهم جدًّا تعريف البعد الباطني للدين عند الإسماعيليين بالحكمة والتي تسمى أيضًا “دين الحق” في الفارسية، وإذا كان التعبير الفارسي هو المستعمل، فذلك لأن معظم الإسماعيليين عملوا على الحكمة في بلاد فارس، فناصر الخسروي الذي هو من أكبر فلاسفة الإسماعيليين كتب كل أعماله في بلاد فارس. في الحقيقة، فإن الفلسفة الإسماعيلية هي أحد الفروع القليلة للفلسفة الإسلامية التي تجد نصوصها الفارسية متوفرة أكثر من العربية.

ويعتقد الإسماعيلية أن هذه الفلسفة أو الحكمة الموجودة في باطن الدين تقود إلى الولادة الروحانية والتي ينتقل فيها الإنسان ويكرّم. وما يعنونه بالفلسفة يعتبر على هذا الأساس مختلفًا إلى حد ما عن ما يفهم منها في هذه الأيام. فإن الكثير من الفلسفة الحديثة هي ليست على الإطلاق (دخلت تحت عنوان) حب الحكمة، ولكنها تعاديها، ولذلك فمن المناسب أن تسمى Misosophy أي عدوة الفلسفة.

بالفلسفة الصوفية Sophia والتي لم تكن مجرّد عملية عقلية، ولكنها كانت عقيدة ميتافيزيقية، ونظام كوني متصلة بشكل حثيث بمعانيها الحقيقية.

وليس مصادفة أنه حيثما كانت الإسماعيلية قوية، كان هناك انفجار مفاجئ للنشاط والفنون والعلوم، وخاصة العلوم العقلية، هذا الارتباط يمكن ملاحظته بوضوح بالنسبة للشيعة بشكل عام. فجامعة الأزهر الشريف، والذي يعتبر اليوم المكان الأكثر شهرة للعلوم في العالم السني تم تأسيسه بواسطة الفاطميين، والنشاط المكثف في العلوم العقلية في مصر الفاطمية ظهر من خلال تألّق العديد من رجال العلوم مثل ابن الهيثم، وابن يونس، يرتبط مباشرة بالبنيان الديني للإسماعيلية نفسها، إن ذلك يرتبط بمفهوم الحكمة في الإسماعيلية وعلاقتها المباشرة مع الوحي.

تحتوي الإسماعيلية تفاصيل دقيقة حول الميتافيزيقا وعلم الكون وعلم الأنسنة الروحي. فعلى المستوى الميتافيزيقي تؤكّد الوحدة لتحفظ موقعًا متوسّطًا بين التعطيل والتبطيل، وذلك بين اعتبار الإله كوحدة مطلقة عن طريق رفض الإنسان القدرة على فهم معاني صفاته وما ينسب إليه، أو عن طريق وصف الإله التشبيهي بمعنى نسبة الصفات الإنسانية إلى الله Anthropomorphically، وفي هذه النقطة الأساسية بالذات، لذلك فإنها تتصل بوجهة نظر بقية العقائد الإسلامية.

وحسب العقيدة الإسماعيلية، فإن أصل كل الأشياء هو ليس الوجود الخالص، ولكنها الحقيقة التي تتجاوز حتى الوجود ويطلق عليها “المبدي”، إنه هو الذي من خلال فعله الأصلي خلقت سلسلة الوجود. الفلسفة الإسلامية بشكل عام تبدأ بالخلق، وتهتم بطبيعة الله، أو أصل الكون كوجود خالص. وفي الميتافيزيقا الصوفية على أي حال تعتبر الذات الإلهية مطلقة ولا نهائية فوق كل وصف حتى تلك التي للوجود، والذي هو تعيّنه الأول ومبدأ الخلق.

إن العقيدة الإسماعيلية على هذا الأساس تصل بين الميتافيزيقا الصوفية والميتافيزيقا الشرقية بشكل عام، ذلك باعتبار المبادئ العليا لتكون في آن معًا، الوجود وما فوق الوجود. إنه فعل قديم (أزلي) يخلق النظام الكوني للوجود.

إن الموجود الأول في نظام الخلق هو العقل الأول، أو العقل العام Universal intellect، والذي يتم تعيينه بكلمة الله، إنه الحقيقة التي تحجب وتكشف الاسم الأعظم “لله” في ذات الوقت.

من هذه الحقيقة الروحية السامية والتي لها حدّها الخاص، يأتي إلى الوجود العقل الثاني، ومن العقل الثاني العقل الثالث، الذي هو عند الإسماعيلية يتحدد بآدم الروحاني، هذا العقل هو النموذج الملائكي للإنسانية، إنه الإمام السماوي الذي يمثّل النموذج الأصلي لآدم الأرضي ولكافة الناس. فحياة ومسيرة الإنسان على هذه الأرض ما هي إلا انعكاس لحقيقته السماوية.

العقل الثالث، أو آدم الروحي ينشد الوصول إلى المبدأ الأعلى بدون النظر إلى المرتبة المناسبة لعالم الملائكة فوقه.

وهو بذلك يجترم فعلًا صنميًّا من وجهة النظر الميتافيزيقية. كنتيجة لسقوطه في حالة النسيان التام ودهشته. وعندما يعود إلى نفسه يتيقن بأنه نال عقابه من الله، وترك إلى مرتبة العقل العاشر، لقد أزيح عن مقامه الأصل عبر عشرة عوالم روحية والتي كانت نتيجة لدهشته ونسيانه[8]، هذه العوالم السبعة هي أنموذج عالمه، ولذلك فإن كل شيء محكوم بدائرة “السبعة”، فهذا العالم خلق من أجل أن يؤهل الإنسان ليستعيد حالته الضائعة، وليتخلص من حجبه، واعتماده على النموذج السماوي، فإنه يتكوّن من سبع سماوات، سبع أرضين، سبع دوائر للنبوة، وسبع أئمة.

إن الزمن الذي وجد فيه الإنسان هو عينه “التردّي الأزلي”، وهو صورة للتخلف المتسبب عن سقوط الإنسان من العقل الثالث إلى العقل العاشر، وبهذا العلم الإنساني الروحي، فإن الزمن يتخذ أهمية فوق – تاريخية – بمعنى أنها تتجاوز التاريخ – لأنها تتأسّس على قاعدة النسيان التام للإنسان الذي هو السبب في سقوط نفسه في قبضة الزمن. فيتحلل ويموت، منفصلًا عن الله، جاء من نسيان الإنسان التام، إنها وجهة نظر مركزية في الإسلام بشكل عام وهي مؤكدة في الصوفية.

وللإسماعيلية تصور دائري للتاريخ، متحالف بشكل أكيد مع تصورهم الميتافيزيقي للزمن، وهكذا فالتصور الدائري للزمن موجود في بعض مصادر الإمامية الاثني عشرية، والدوائر لا تعني بالضرورة التكرار الدائم لسلسلة الأحداث، ولكنه تكرار لدوائر تاريخية أخرى مختلفة عن الدائرة الحالية، ولن تجد مكانًا أكثر تأكيدًا من الإسماعيلية لهذه الفكرة، وتذكر الأعمال الإسماعيلية لدورات زمنية كبيرة جدًّا، فتذكر أحيانًا حوالي 360 ألف سنة تتضمن سبعة دوائر من دوائر النبوة. وكل دائرة تبدأ بنبي، والذي له ممثله الباطن أو الإمام، والذي يكون حاكمًا أثناء الدائرة، والسابع يقود الدائرة إلى النهاية.

أما أنبياء الدائرة الحاضرة للإنسانية فإنهم مذكورون كما يلي:

  • آدم ووصيه شيث.
  • نوح ووصيه شيم.
  • إبراهيم ووصيه إسماعيل.
  • موسى ووصيه هارون.
  • المسيح ووصيه سيمون أو شمعون.
  • محمد ووصيه علي.

أما السابع فهو المهدي، أو “إمام القيامة”، والذي لا يأتي بشريعة جديدة، ولكنه يوضح المعاني الداخلية للوحي، ويحضر لمجيء الدائرة الجديدة. وأكثر من ذلك فإن الدوائر التاريخية تتناوب ما بين الدوائر الظاهرة والدوائر المستورة، وبين مرحلة تكون فيها الحقيقة مكشوفة، وأخرى تكون فيها مخبّأة. هذا التبادل يكون مستمرًا حتى نهاية الدائرة الكبيرة، وفي هذه اللحظة تأتي القيامة الكبرى أو قيامة القيامة. وبموجبها يكون الإنسان بنموذجه السماوي قد استعاد طبيعته الأصلية… وهكذا يستعيد الإنسان الحالة التي فقدها خلال نسيانه ودهشته.

 وإذا أراد أحد ما أن يقارن بين الشيعة الإمامية والإسماعيلية، يمكن القول: إنهم يتشاركون معًا إضافة للمفاهيم العامة للإسلام مفهومهم وتصورهم عن الإمام، البعد الظاهري والباطني للدين والتأويل المعتمد عليهم.

الأئمة الستة الأوائل هم بشكل طبيعي مشتركين بينهما بكل ما يحمله ذلك الاشتراك من أرضية مشتركة.

أما بالنسبة للفروقات بينهما، فهي تعتبر بداية أن أحدهم يقبل اثني عشر إمامًا، والآخر يقبل سبعة فقط، فمثلًا شخص مثل شخصية الإمام الرضا (ع)، والذي لعب دورًا في الحياة الشيعية، فهو غير موجود بنفس الفعالية عند الإسماعيلية. أيضًا بالنسبة للاثني عشرية، فإن الإمام الثاني عشر “المهدي” فهو في حالة غيبة رغم أنه حي، بينما إمام الإسماعيلية، وعلى الأقل طائفة النزارية، هو حي دائمًا وحاضر بين الناس، وأن فكرة انتظار ظهور الإمام المهدي والتي تعتبر مهمة جدًّا في علم النفس الديني للإمامية الاثني عشرية، غير موجودة بنفس القوة عند الإسماعيلية.

إن الطبيعة السياسية للإسماعيلية والطبيعة غير السياسية للشيعة الاثني عشرية هما فارقان آخران لهذين الفريقين (كما مرّ منذ قليل). وإنها لمن مفارقات التاريخ، ذاك أن الإسماعيلية التي لعبت دورًا مهمًّا في الحركات السياسية والاجتماعية خلال القرون الأولى للتاريخ الإسلامي، أصبحت اليوم معفية من المشاركة مباشرة في السياسة، بينما الإمامية الاثني عشرية والتي بقيت بعيدة عن الحياة السياسية قذفت إلى وسط ميدان السياسة مع تأسيس الدولة الصفوية، ولذلك ومع أخذ أعمالهما التاريخية بالحسبان فإن كل من الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية مارسوا الحياة السياسية المباشرة، ولكن النظام العقائدي للعمل السياسي، (أو نظريتي العمل السياسي) في المجموعتين لا يزالان مختلفتين، تمامًا كاختلافهما بشأن الإمام المهدي، حيث يقول الشيعة إنه غائب، ويقول الإسماعيلية إنه موجود بين الناس.

وأخيرًا، هناك فارق آخر، وهو دور الظاهر والباطن، فالشيعة الاثني عشرية، تذهب إلى حد بعيد في تأكيدها ضرورة وجود توازن بين الاثنين، حتى دور الإمام يعتبر في مفهومه الظاهر والباطن.

أما الإسماعيلية خاصة طائفة “الموت” ينزعون لتأكيد البعد الباطني فوق غيره من الأبعاد. وطبعًا في الحياة اليومية للجماعة، فإن العناصر الظاهرية موجودة بسبب أنه ببساطة لا توجد جماعة عامة من الناس باطنية. بيد أن اللهجة مختلفة بعض الشيء، حيث إن المفهوم الأساسي للإمامية موجودة في هذين الفرعين الكبيرين للشيعة الذين يلتقون في اعتقادهم بالإمام، وبتقديرهم وتعظيمهم الخاص لأهل بيت النبي (ص).

وفيما يتعلق بالفروقات ومواضع التشابه بين الشيعة والسنة، يمكن القول أولًا، هناك الفرق في النظرة فيما يتعلق بالنظام السياسي، من مسألة الخليفة السياسي للنبي، إلى آخر تشريع يتناول الوضع العام للشيعة، وموقفها من القوى الأخرى في هذا العالم وخاصة فيما يتعلق بموقف العلماء اتجاه السلطات السياسية القائمة. إن علماء السنة كانوا خلال التاريخ ينزعون إلى دعم الوجود السياسي القائم خوفًا من خلق حالة عصيان مدني[9]، بينما علماء الشيعة كانوا دائمًا معتمدين في وجهة نظرهم على دور الإمامة، والدور الرائد للإمام، فقد اتهموا كل المؤسسات السياسية، وأبقوا أنفسهم بعيدين عن السلطة السياسية.

هناك علامة فارقة في مسألة الوسطاء بين الله والإنسان، حيث إن حركة “الطهريين المحدثين” في العالم الإسلامي التي تؤكد فكرة تسامي الإله، وتحط من كل فكرة تتحدث عن وسطاء بين الله والإنسان، تخلق وجهة نظر مخالفة (أو مضادة) لعلوم النفس الدينية لدى الشيعة. بينما في العالم السني التقليدي، هناك وسطاء في الحياة الدينية اليومية، فدور الوسيط هذا بلغ كماله بواسطة النبي (ص) وكذلك بواسطة الأولياء. ولكن عند الشيعة، فإن النبي والإمام يكملون معًا هذه المهمة. في الحقيقة، فإن ما يراه الإنسان السني العادي، خاصة ذاك الذي تأثر بالروح الصوفية، في شخصية النبي، هو عينه ما يراه الشيعي في شخصية النبي والإمام معًا. وهذا يمكن رؤيته بوضوح من خلال الصلوات والتحيات لإسم النبي (ص) المستعملة في العالم السني والتي تتطابق حتى في المحتوى، لتلك التي يؤديها الشيعة للنبي والإمام معًا. ومع ذلك، فهناك على المستوى العقائدي Theological level، بعض الفروق فيما يخص الدور الذي يلعبه الوسطاء بين الله والإنسان، وهو لا يعني بالطبع أن الإنسان الشيعي يصلي لأي شخص غير الله، ولا حتى الإنسان السني يفعل ذلك.

في الإسلام، يقف الإنسان أمام الله باعتباره خليفته على الأرض، إنه على أي حال في بحثه للوصول إليه يحتاج إلى الوسيط الروحي (أو المرشد الروحي) الذي هو النبي (ص)، والإمام والأولياء. والمؤمن الشيعي في حياته الدينية اليومية لا يحتاج إلى الوسيط الإنساني بينه، وبين الله أكثر مما يحتاجه السني.

فكل مسلم هو عابد؛ سنيًّا كان أو شيعيًّا، ولهذا فإن وجود الوسائط عند الشيعة أو السنة هو أمر يُعنى بالحياة الداخلية الدينية بدون طقوس خاصة، أو مراسم دينية خاصة لتعمل كوسائط بين الإنسان والله في العبادات والأفعال الدينية والإيمانية.

في مجال الشريعة، فإن الفرق بين السنة والشيعة يكمن في مسألة الاجتهاد، فحيث إن الإمام عند الشيعة حي، فإن إمكانية تطبيق الشريعة الإلهية على الأوضاع الجديدة موجودة دائمًا في الحقيقة، فإن المجتهد (الذي يمكن أن يعطي رأيه) الذي هو في تواصل داخلي مع الإمام[10]، يجب عليه تطبيق الشريعة الإسلامية في كل جيل على الظروف أو المسائل المستحدثة التي يواجهها ذلك الجيل. وهذا لا يعني بالضرورة تغيير الشريعة لمصلحة الظروف الطارئة، بل لتوسيعه ليغطي أي وضعية جديدة يمكن أن تبرز إلى الواقع. ومن وظيفة كل شيعي أن يتبع فتاوى المجتهد (الأعلم الحي). أما في الإسلام السني فقد أقفل باب الاجتهاد منذ القرن الثالث الهجري، ولكن، هنا أيضًا نجد أن آراء أو فتاوى العلماء على مدى العصور أمّنت إلى حد ما تعليقات متواصلة على الشريعة.

في البناء العقائدي المعتمد للسنّة والشيعة نجد بعض الفروقات في المحتوى والأهداف. فالعقائد السنية مهتمة أكثر بالمفاهيم العقلية للإيمان، أما الشيعة فإن العقائد عندهم تهتم أكثر بالمسائل الغامضة Mystical، باعتبار أن السنة في عقائدهم لا يقحمون أنفسهم في المسائل الباطنية كما يفعل الشيعة.

وهنا يمكن القول: إن العقائد الصوفية والتي تدخل في الموروث الديني عند السنة تؤمن بعدًا باطنيًّا حتى في الوسط الظاهري، كذلك فإن الثقافة الدينية الشيعية متجانسة ومتوائمة أكثر مع الفنون والعلوم العقلية من الثقافة الدينية الأشعرية. هذا الفارق يمكن رؤيته في الصعود والنزول لوظيفة هذه العلوم على امتداد القرون والتي كان يعتمد على السيطرة السياسية لهذه المجموعة أو تلك.

وأخيرًا، بالنسبة للفروق بين السنة والشيعة، يمكن القول: إنه في إحداها نجد البركة والفيوضات النبوية موجودة ومتحققة من خلال جميع أصحاب النبي (ص) بما في ذلك أهل بيته، بينما عند الشيعة فإنها موجودة بشكل أساسي عند أهل البيت النبوي (ع)، وما تعني كلمة صحابة وآله عند السنة هي نفسها ما تعنيه عند الشيعة، وهذا ما يمكن أن نراه في شكلي البركة التي تظهر سلطة النبي (ص) في المجموعتين.

وهذا لا يعني أن أهل البيت النبوي (ص) لا يحظون باحترام السنة، أو أن الصحابة ليس لهم مكانتهم عند الشيعة، ولكن في الحالة الأولى يرى (السنة) الإسلام من خلال كل المجموعة التي كانت محيطة بالمؤسس الرسول (ص)، وفي الحالة الثانية يرى الشيعة الإسلام من خلال نخبة خاصة التي هي أهل بيته وأولئك الأصحاب الذين كانوا يرتبطون روحيًّا بهم مثل سلمان الفارسي الذي قال عنه النبي (ص): “سلمان منا أهل البيت”. هنا تبرز المسألة على أنها بشكل مؤكّد مسألة فروقات في التفسير للحقيقة الواحدة، بدلًا من الاختلاف الكلي.

وفي مواجهة هذه الفروقات هناك نقاط كثيرة من التشابه بين السنة والشيعة، والتي ترجح كفتها كثيرًا على الخلافات، وتبرهن أن الفريقين ما هما سوى فرعين لشجرة واحدة.

فالسنة والشيعة متحدين في القرآن الكريم، والنبي (ص) واللذين هما أساس الإسلام، وهم يتشاركان في مبادئ الدين، تحديدًا في العقيدة الأساسية، التوحيد، والنبوة والمعاد، وكلاهما يوافقان على حقيقة بأن الله يجب أن يكون عادلًا، رغم أن أحدهما (السنة) يؤكّد مبدأ الحرية، والآخر مبدأ الضرورة، أحدهما يعتقد بأن ما يفعله الله مهما كان فذلك هو العدل، بينما يؤكّد الآخر أن الله يمكن أن يظلم، أو أن يكون غير عادل.

إن توافق السنة والشيعة على المبادئ هو ما يجعلهم ضمن إطار المفهوم الديني للإسلام يضمن حضور المبادئ الأساسية للعقيدة في تكوين كلا الفريقين.

على صعيد الأعمال الدينية، يمكن القول: إن السنة والشيعة تقريبًا متطابقين.. فالأعمال اليومية للشريعة هي نفسها في كلا العالمين. ما عدا نقطة أو نقطتين، مثلًا حصة الأنثى في الإرث، والزواج المؤقت، وفيما تبقى فإن قواعد الشريعة مشتركة فيما بينهما. وعلى صعيد الأعمال، فالصلاة، الطهارة، الصوم، الحج، إلخ… كلها نفسها، ما عدا بعض الفروقات الطفيفة في التفاصيل، والتي لا تزيد عن الفروقات بين المذاهب السنية الأربعة.. والشيعة يضيفون فقط عبارتين للآذان، إحداهما تؤكد الولاية لعلي (ع)، والأخرى تؤكد أهمية العمل الصالح. كذلك، وبسبب غياب الإمام، فإن الشيعة لا يؤمّون صلاة الجماعة بنفس المستوى الذي عند السنة، حيث فقدَ أهميته السياسية الذي يمتلكها في عالم السنة. وهكذا فالتشابه في الأعمال اليومية قائمة على الشريعة، ومن تحريم الكحول ولحم الخنزير، إلى طريقة ذبح الحيوانات، وكل ذلك كثير لدرجة لا يمكن ذكرها هنا.

إن التشابه بين السنة والشيعة في الأعمال اليومية هو أكبر بكثير من أن نعرضه هنا. فإذا كان الشيعة هو إسلام علي، فبركة علي تمتد أيضًا في عالم السنة من خلال وجود الطرق الصوفية الذي يعتبر إمامهم حتى عند السنة، وفي التشعبات الاجتماعية لهذه الطرق والجمعيات، وأنظمة الجهاد… إلخ..

[1]  المقصود عدم الربط اللازم بين العرقية أو القومية، والتوزع المذهبي.

[2] الحقيقة أن هذا الرأي يعود للاختلاف في فهم وظيفة الخليفة، فعند السنة، الوظيفة سياسية فقط، لذلك اعتبروا الخلاف سياسيًّا.

[3] (الباطني) حيثما ذكرت في هذا البحث لا تذهب إلى المعنى المذهبي المعروف تاريخيًّا، بل تعني فقط المعاني العميقة وغير الظاهرة للآيات….

* كتاب تاريخي إسماعيلي هام يوثق تاريخ الإسماعيلية. (المحرر).

* مؤرخ إسماعيلي، وهو أحد كتّاب “عيون الأخبار”. (المحرر).

* مؤرخ آخر بارز من الحركة الإسماعيلية، كتب عن تاريخ الإسماعيلية. (المحرر).

[4] قلعة في إيران كان يتحصّن فيها حسن الصباح وأتباعه.

[5] ليس كل علماء الشيعة متفقين على هذا التفسير الصوفي للعقيدة الشيعية.

[6] الفقه الجعفري.

[7] في الحقيقة هناك فروقات عديدة ينبغي التنبّه لها في هذا المجال.

[8] هذا الكلام يوحي بأصالة الخطيئة في حياة الإنسان، وهو خلاف عقيدة الإسلام بأن الناس يولدون على الفطرة…

[9] هذا الأمر بناء على الاعتقاد المتأسّس على طاعة ولي الأمر برًّا كان أو فاجرًا ما دام يقيم الصلاة بالمعنى الظاهر للكلمة.

[10] لا يجب الظن أن هذا التواصل مباشر، فإن القليل من علمائنا عبر التاريخ الطويل للغيبة ادعى ذلك، بل هو تواصل عن طريق الاستعدادات.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.