لطائف بخصوص ليلة القدر

لطائف بخصوص ليلة القدر

“السَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”.

  1. وجه تسمية ليلة القدر

من بين التسليمات الواردة في دعاء شهر رمضان المبارك، قول الإمام (عليه السلام): “السَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”. كلّنا نُردّد كثيرًا عبارة “ليلة القدر”، لكن، قد لا تجدنا نلتفت جيّدًا إلى حقيقة هذه الليلة، وإلى السبب في تسميتهم إياها بليلة القدر.

لا يخفى أنّ هناك خلافًا في الرأي بين العلماء والمفسّرين بشأن وجه تسمية ليلة القدر، حيث قال بعض المحقّقين: إنّ “القدر” يعني المنزلة، كما يُستخدم في اللغة الفارسيّة أيضًا بهذا المعنى، فهذه الليلة سُمّيت بهذا الاسم بسبب امتلاكها لشرف ومقام ومنزلة عظيمة. واعتقد بعض آخر أنّ “القدر” مصدر بمعنى التقدير، وأنّ هذه الليلة سُمّيت بذلك لأنّ المقدّرات تُعيّن فيها، ويبدو أنّ هذا الاحتمال هو الأقرب والأكثر موافقةً لمفاد العديد من الروايات الواردة بشأن ليلة القدر وخصائصها. هذا، ويوجد احتمال آخر، لكنّه – بحسب ما يظهر – ضعيف جدًّا، يقول إنّ كلمة “القدر” مصدر بمعنى التضييق، وقد استُعمل هذا المعنى في ثلّة من الآيات القرآنيّة، نظير قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ﴾[1]، والقائلون بهذا الاحتمال يرون أنّ ليلة القدر سُمّيت بهذا الاسم لأنّ الملائكة تتنزّل فيها من السماء، فيضيق وجه الأرض بسبب ذهابهم وإيابهم.

  1. الخلقة ذات التخطيط الهادف

ويمكننا، فيما يخصّ أصل التقدير وكيفيّته، القول إجمالًا: إنّ الحوادث التي تقع في هذا العالم – وعمومًا كلّ واقعة جيّدة أو سيّئة في هذا العالم – تتوقّف على ثلّة من الشروط والمقدّمات التي تتحقّق تدريجيًا منذ الأزمنة الغابرة، إلى أن يحين وقت وجود تلك الواقعة. فعلى سبيل المثال، يتوقّف ظهور النوع الإنسانيّ على الكرة الأرضيّة على مقدّمات منها: وجود نفس الأرض، وطروّ مجموعة من التحوّلات عليها، حيث يلزم من هذه الظواهر العامّة وجود الفصول الأربعة. يقول البارئ عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿وَجَعَلَ فيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فيها وَقَدَّرَ فيها أَقْواتَها في‏ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلينَ﴾[2]، ويرى بعض المفسّرين أنّ المراد من “أربعة أيّام”: “الفصول الأربعة”، ومن هنا، يكون المراد من هذه الآية: “قدّر الأرزاق الأرضيّة في أربعة فصول”، بمعنى أنّ كلّ فصل يُهيّئ ظروفًا خاصّة لوجود بعض الأرزاق[3]. فلو لم تتوفّر هذه الأرزاق، لما تمكّن أيّ إنسان من التواجد على وجه الأرض، والعيش فيها. كما أنّ إعداد الأرض للخلقة قطع مراحل متعدّدة وردت في عدد من الروايات، وكذلك في الخطبة الأولى من نهج البلاغة، وتحدّثت عنها بعض العلوم ذات الصلة بهذا المجال، نظير الكوزمولوجيا التي تبحث عن أصل نشوء المنظومات، والجيولوجيا التي تختصّ بدراسة الأرض، حيث طُرحت في هذا الصدد مجموعة من النظريّات بشأن عمر الأرض، والمراحل التي قطعتها إلى حدّ يومنا، وزمان ظهور الحياة عليها، وغيرها من البحوث. إنّ جميع هذه الأمور عبارة عن تقديرات عمليّة لوجود النوع الإنسانيّ، حيث ينبغي لهذه التقديرات بأجمعها أن تصل تدريجيًّا إلى مرحلة تُصبح الأرض مستعدّة لوجود إنسان خاصّ. وكذلك الشأن أيضًا بالنسبة للحوادث التي تحصل في حياة كلّ إنسان منذ ولادته (بل وقبل ذلك) وحتى موته؛ مثل مكان عيشه، وطعامه، والأفراد الذين يُعاشرهم، والأشياء التي يتعلّمها أو يُعلّمها، فكلّ هذه الأمور تحتاج إلى مقدّمات مختلفة، بحيث لولا هذه المقدّمات، لما تحقّقت تلك الظواهر بشكلها الخاصّ.

فهذه عبارة عن تقديرات عمليّة وواقعيّة هندسها البارئ عزّ وجلّ؛ بمعنى أنّه تعالى قد صمّم الوجود وبرمجه بنحو يُمكّن النوع الإنسانيّ من الوجود في مكان خاصّ، وزمان معيّن، وبطول عمر محدّد، وفي ضمن تحوّلات محسوبة. إنّ جميع هذه التقديرات من فعل الله تعالى، بحيث لا يوجد أيّ مخلوق غير خاضع لأفعال كهذه، لأنّ الوجود برمّته مملوك للبارئ عزّ وجلّ، وهو مدبّره. ويبقى أنّه تعالى يقوم بهذه الأفعال تارةً من دون واسطة، وتارةً أخرى يستخدم واسطةً لكي يُظهر أحد المخلوقات في ساحة الوجود. لكن مع ذلك، فإنّ أزمّة جميع المخلوقات بيده عزّ وجلّ. فبالنظر إلى هذا الأمر، يتبيّن أنّ كلّ ظاهرة تتوقّف على مقدّمات عديدة قد تحتاج أحيانًا إلى قرون متطاولة لكي تتحقّق. والمراد من هذا الكلام أنّ الله تعالى قدّر لكلّ موجود كيف، وفي ضمن أيّ ظروف، وبواسطة أيّة أسباب ينبغي أن يوجد، وما هي مدّة حياته، حيث أشارت الروايات إلى أنّ لكلّ موجود تقديرًا مكتوبًا، لكن، بأيّ قلم كُتب هذا التقدير، وعلى أيّ لوح؟ فهذا ممّا لا تستطيع عقولُنا فهم حقيقته.

وحينما تسري هذه التقديرات إلى الإنسان والظواهر الإنسانيّة، أي تلك الظواهر ذات الصلة بالفعل الاختياريّ، فإنّ الإرادة تصير بدورها جزءًا منها. ومن باب المثال، عندما يتحدّث شخصٌ مع آخرين، فإنّ لحديثه هذا تقديرًا أيضًا، بحيث ينبغي تحقّق مقدّماته منذ زمن بعيد، لكي يتمكّن هذا الشخص من الكلام في تلك اللحظة الخاصّة. لكن، يبقى أنّ هناك واسطةً أخرى توجد في هذا المقام مختلفةً عن تلك الأسباب الخارجة عن وجود ذلك الشخص، هي إرادته، والتي إذا لم يُعملها، فإنّه لن يتكلّم؛ نعم، لا يخفى أنّ الله تعالى هو الذي أعطى هذا الإنسان إرادته، وإلّا، فكيف له أن يحصل عليها؟ وعلى أيّ حال، فإنّ الإنسان يكون مختارًا بعين الإرادة التي منحه الله تعالى إيّاها، بحيث تكون هذه الإرادة داخلة في ضمن تقديراته؛ ويبدو أنّ بحث التقدير لا يشتمل على مسائل مستعصية، كما أنّ الاعتقاد به أمر يسير. وعليه، فإنّ خلاصة البحث تتمثّل في أنّ لكل حادثة مقدّمات تشتمل على سلسلة من الأسباب والمسبّبات والشروط التي خلقها الله تعالى.

  1. عدم التعارض بين التقدير الإلهيّ العلميّ والاختيار

المسألة الأخرى التي تُطرح علينا كثيرًا تتمثّل بالتقدير الإلهيّ العلميّ. وبيانه: أنّ الله تعالى يعلم بالحوادث التي تقع في كلّ زمان ومكان، فالاعتقاد بهذه المسألة لا يستعصي كثيرًا على الذين يُؤمنون – عمومًا – بانتساب هذا النظام إلى الله تعالى. فعلى سبيل المثال، يستطيع المهندس البارع الذي يُؤدّي عمله بدقّة أن يرسم في ذهنه أو على ورقة تصميم البناية التي يريد تشييدها، ويُعيّن بالتدقيق بعض الأمور كنوع مواد البناء ومقدارها وكيفيّتها؛ مثلما يقوم به في الخارج. ورغم أنّه لا يُمكن لعبارات من قبيل الذهن والرسم أن تصدق في حقّ الله، لأنّه تعالى منزّه عن الذهن، لكن يبقى أنّ كيفيّة تحقّق هذا العالم تكون منتقشة في العلم الإلهيّ، بأيّ نحوٍ كان هذا العلم. فعلم الله تعالى تعلّق بحقيقة أنّ الظواهر غير الاختياريّة توجد من دون اختيار، وأنّها لا تخضع لأيّ إرادة سوى إرادته عزّ وجلّ، خلافًا للظواهر الاختياريّة التي تفتقر في صدورها من الفاعل إلى اختيار. ومن هنا، فإنّ التقدير الإلهيّ لا يُؤدّي إلى الجبر.

لكن يرى البعض أنّ التقدير يستلزم الجبر، وأنّ الاعتقاد بالأوّل يوجب الاعتقاد بالثاني؛ إذ يقول الخيام:

مِى خوردن حق ز ازل مى دانست *** گر مى نخورم علم خدا جهل بُوَد[4]

وهذا البيت الشعريّ محض مغالطة؛ لأنّ العلم الإلهيّ يعكس الواقع، ويحكي عن الواقعيّة كما هي؛ أي: إذا كانت المسألة اختياريّة، فإنّه يُظهرها اختياريّة، وإن كانت جبريّة، فإنّه يُبرزها جبريّة. وعليه، فإنّ علم البارئ عزّ وجلّ بما نفعله باختيارنا لا يُفضي إلى الجبر؛ فما يكون اختياريًّا يُكتب تحقّقه عن اختيار، وما يكون غير اختياريّ يُسجّل بأنّه سيحصل عن غير اختيار.

  1. نزول الملائكة وحضورهم عند حجّة الله تعالى

السؤال الآخر هو: هل يُعلّم الله تعالى أحدًا ما يعلمه أم لا؟ فقد جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ ذلِكَ‏ في‏ كِتابٍ‏﴾[5]، فهذا ما يقوله الكتاب العزيز، وأمّا حقيقة ذلك، فلا يُمكننا الاطّلاع عليها بالتدقيق. إنّ من خصائص ليلة القدر أنّ الملائكة تستنسخ فيها مقدّرات السنة من اللوح المحفوظ، وتُنزلها على حجّة الله تعالى، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ‏ رَبِّهِمْ‏ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾[6]، ففي زمان الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت الملائكة تتنزّل عليه هو، ثمّ بعد ذلك على خلفائه المعصومين (عليهم السلام)، حيث إنّ من المقامات التكوينيّة التي يحظى بها الإمام المعصوم أنّ الله تعالى يُطلعه في ليلة القدر على مقدّرات السنة. وقد جاء في بعض الروايات أنّه إذا لم تُعرض هذه المقدّرات على حجّة الله تعالى في ليلة القدر، فإنّه لن يطّلع عليها، بينما إذا عُرضت عليه، فإنّه سيصير عالمًا بكافّة الأمور.

فمن الخصائص التي تتّسم بها ليلة القدر أنّ الملائكة تُنزل فيها المقدّرات، غير أنّ العقل لا يُمكنه إدراك حقيقة الملائكة، وصعودها ونزولها، وكيفيّة علمها، بحيث يتعيّن علينا الاعتراف بجهلنا بحقيقة هذه المسائل؛ ولكنّنا نُقرّ إجمالًا بوجود هذه الحقائق، ونؤمن بها: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا﴾[7]، لأنّ الله تعالى منّ علينا بفضله، وبيّن لنا هذه الحقائق بالمقدار الذي نحتاجه في حياتنا. وعلى أيّ تقدير، فقد صرّحت الآيات القرآنيّة الشريفة بأنّ الملائكة تتنزّل في ليلة القدر، فتعرض – وفقًا لما ورد في الروايات – مقدّرات سنة كاملة على إمام ذلك الزمان، ولهذا السبب، فقد سمّيت هذه الليلة بليلة القدر. فكلمتا “القدر” و”التقدير” هما بمعنى واحد، حيث تتوفّر بعض الأفعال في اللغة العربيّة على معنى واحد، سواءً جاءت بصيغة الثلاثي المجرّد، أو الثلاثيّ المزيد، ومن ضمنها فعلا “قَدَرَ” و”قدَّرَ” اللذان يأتيان كلاهما بمعنى التقدير. فطبقًا لما ذكرنا، فإنّ هذه الليلة هي التي يتعيّن فيها تقدير كلّ شيء. وعلى سبيل المثال، إذا كان من المقرّر أن يأتي أحد إلى هذا العالم، فإنّ هذه الليلة هي التي يتحدّد فيها هل سيكون رجلًا أو امرأة، أبيض أو أسود، وكم سيكون طوله ووزنه، وما هي قابليّاته الروحيّة، وما هي الأرزاق التي سيحصل عليها هذه السنة، وهل ستستمرّ حياته إلى نهاية العام أم لا، وكم هي فترة مرضه وسلامته، وغير ذلك. فجميع هذه الأمور تدخل في مقدّرات السنة التي سجّلها البارئ تعالى في اللوح المحفوظ، فتُؤخذ منه نسخة، ليتمّ عرضها على حجّة الله تعالى في كلّ زمان.

وهنا، يأتي السؤال: كيف تعرض الملائكة تقديرات السنة على إمام الزمان؟ وكيف يتمّ في ليلة واحدة عرض التقديرات السنويّة لكافّة الموجودات على شخص واحد؟ فمهما جرى عرض هذه التقديرات بشكل مضغوط، فإنّها تحتاج في انتقالها إلى زمان طويل. فقد يُطرح هذا السؤال على بعض الأفراد، وحينما لا يحصلون على جواب شافٍ يطرأ عليهم الشكّ بخصوص هذه الآيات، وأنها هل تحكي عن أمور واقعيّة، أو أنّها مجرّد عبارات أدبيّة وشعريّة لتقريب المسائل إلى الذهن.

في الجواب، بوسعنا القول: لحسن الحظّ، مع التطوّر التكنولوجيّ الحاصل في هذا العصر، اخُترعت مجموعة من الأدوات التي تُسهّل علينا التصديق بإمكانيّة عرض ونقل معلومات كثيرة في زمان يسير، وهذا نظير الأقراص المدمجة. فلو قيل للناس قبل مئة سنة: ستُصنع أداة تُمكّننا من وضع موسوعة أو مكتبة كاملة في مكان ذي حجم صغير بمجرّد الضغط على زرّ، لما صدّقونا.

فهذه إجابة إقناعيّة تصلح للذين يتساءلون عن كيفيّة عرض الملائكة تقديرات كثيرة على إمام الزمان (عليه السلام)، حيث بوسعنا أن نقول لهم: مثلما أننا نستطيع أن نعرض الملايين من المعلومات على شخص في قرص مدمج واحد، فإنّ الملائكة يُمكنها أيضًا أن تعرض ذلك العلم على صاحب العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). أجل، يبقى أنّ هذا الجواب يصلح للإقناع فقط، وإلّا، فإنّ حقيقة الأمر أعلى من ذلك بكثير.

  1. الإمام واسطة الفيض الإلهيّ

كلّنا يعتقد – إلى حدّ ما – أنّه حينما تتشرّف جماعة كبيرة من الناس بزيارة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، والإمام المعصوم (عليه السلام) بطريق أولى، ويعرضون حاجاتهم عليه، فإنّه (عليه السلام) يسمع كلامهم، ويُجيبهم بأجمعهم. فحينما يقوم هؤلاء الزوّار بتقديم طلباتهم للإمام، ويُسلّمون عليه، ويقرؤون زيارته، ويبثّون إليه همومهم، ويتطلّعون إلى عطفه ورعایته، ويطلبون منه أن يدعو لهم عند الله تعالى، فإنّ هذا المعصوم يسمع الجميع، ويفهمهم، ويتفضّل على كلّ واحد منهم بما يتناسب مع حاله. ففي زيارة المعصومين، نقرأ عادةً هذه العبارة: “أَشهَدُ أنَّكَ تَسمَعُ كَلاَمي وَتَرُدُّ جَوَابي”، وفي بعض الحالات، قد يتواجد في أطراف حرمهم (عليهم السلام) الآلافُ من الناس، الذين يُخاطبونهم بلغات مختلفة، فارسيّة وعربيّة وتركيّة وهنديّة وإنجليزيّة وروسيّة وغيرها، فيسمع أولئك المعصومون كلام كلّ واحد منهم كما يسمعون كلام الآخر. وهنا، من الممكن أن يسأل سائل: كيف يتسنّى للإمام سماع كافّة هذه المناجيات؟ فكم من لغة يُمكن لشخص واحد أن يتسلّط عليها؟ وما هو مقدار الكلام الذي يتسنّى له سماعه؟ وكم من لغة يتسنّى له التعرّف عليها في لحظة واحدة؟ والأدهى من ذلك، كيف لذلك المعصوم أن يعرف في نفس تلك اللحظة الإجابة المناسبة لكافّة الرغبات التي تُطرح عليه؟

ونقول في الجواب: إنّ هذا الإدراك لا يختصّ بمرتبة تعلّق النفس بالبدن، فروح الإنسان المتقّي والمقرّب من الله تعالى لها مراتب متعدّدة تُحيط بهذا العالم المادّي، ولا تتأثّر به، ولا تخضع للقوانين والظروف المادّية، بل لها قوانينها الخاصّة؛ ونحن لا نُدرك حقيقة تلك المراتب، لكنّنا نعلم أنّ الإمام المعصوم (عليه السلام) يسمع كلام جميع الزوّار، ويستجيب لهم، ويقضي حوائجهم بأفضل وجه ممكن، بحيث لا يُؤدّي ذلك إلى معارضة مصالح أخرى. أجل، يبقى أنّ ذلك راجع في الحقيقة إلى فعل الله الذي يتحقّق على يد الإمام بإذنٍ منه تعالى. لكن، على أيّ تقدير، فإنّ الإمام واسطة؛ والوساطة تقتضي أن يسمع الوسيط جميع الحاجات، ويتعرّف عليها. فبالنظر إلى هذه المسألة، يتّضح لدينا أنّ ذلك لا يختصّ بالإمام الذي ارتحل عن هذا العالم، ونذهب لزيارته في حرمه، بل حتّى الإمام الحيّ يكون متمتّعًا بهذه الدرجة من الكمال.

ومع الأسف، فقد أصبحت الانشغالات المادّية واليوميّة تشغل الناس عن التفكير في هذه القضايا، لكن، حينما نتأمّل في الأدعية والمناجيات والزيارات، كالزيارة الجامعة، وزيارة آل ياسين، فإنّنا سنتمكّن من الظفر ببعض الإشارات إلى تلك المسائل. وعلى سبيل المثال، فإنّنا نقرأ في زيارة آل ياسين: “سَلَامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ واللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ لِمَنْ يَهْدِيهِ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ قَدْ آتَاكُمُ اللَّهُ يَا آلَ يَاسِينَ خِلَافَتَهُ وعِلْمَ مَجَارِي أَمْرِهِ فِيمَا قَضَاهُ ودَبَّرَهُ ورَتَّبَهُ وأَرَادَهُ فِي مَلَكُوتِهِ”[8]، حيث تتحدّث هذه الزيارة عن أنّ حوادث هذا العالم تتنزّل من مقامات علويّة، وأنّ لها مجارٍ خاصّة، وأنّ الله تعالى منح الإمام (عليه السلام) العلم بهذه المجاري التي جرى تدبيرها وتصميمها في عالم الملكوت. ولهذا، فلا ينبغي لنا أن نظنّ أنّ كلّ الوجود منحصر في عالم المادّة، لأنّ هناك عوالم أخرى تقع فوقه، وتحكم على قوانينه، وتتوفّر على قوانين خاصّة بها لا علم لنا بحقيقتها، حيث إنّ البارئ عزّ وجلّ قد اختصّ في هذا العالم بعض عباده بعلم ما هو موجود في العوالم العلويّة، بسبب السعة الوجوديّة التي يتمتّعون بها، وارتباطهم بتلك العوالم.

  1. المقام النورانيّ للأئمّة المعصومين (عليهم السلام)

من المسائل التي وصلتنا عن الأئمّة المعصومين، ونعتقد بها، ولو أنّنا لا نُدرك حقيقتها جيّدًا، هي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) يتوفّرون على مقام اسمه “النورانيّة”، حيث جاء في رواية: “يا جابر، أوّل من خلق الله نور نبيّك”[9]، كما جاء أيضًا في رواية منقولة عن كتب أهل السنّة: “كنت أنا وعليّ نورًا بين يدي الله عزّ وجلّ قبل أن يُخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق الله آدم، قسم ذلك النور جزأين، فجزء أنا وجزء عليّ عليه السلام”[10]. ووفقًا لما ورد في العديد من المصادر الحديثيّة الشيعيّة والسنّية، فإنّ تقسيم هذا النور حصل في صلب حضرة عبد المطلّب[11]. تجدر الإشارة إلى أنّه لا ينبغي علينا أن نطمع في إدراك حقيقة هذه العوالم، لكن، علينا أن نعلم أنّ هناك في الأخير مرتبة من الوجود أفضل اسم يُمكننا أن نطلقه عليها هو “النور”، لأنّ الله تعالى أطلقها على ذاته أيضًا، فقال: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ‏ والْأَرْضِ‏﴾[12]. إنّنا لا نملك في هذا العالم شيئًا أطهر وأفيد وألطف من النور، فالنور موجود شريف يحظى بالتعظيم من قبل الجميع، وهو منزّه عن النجاسة والقذارة، والرائحة وغير ذلك. فإذا أردنا أن نستخدم لفظًا يحكي عن تلك العوالم، فلن نجد كلمة أفضل من “النور”. فالنور ظاهر بذاته مظهر لغيره، أي إنّه واضح بنفسه، ولا يحتاج في وضوحه إلى شيء آخر. والله تعالى كذلك موجود بنفسه، ولا يتوقّف في وجوده على أيّ شيء آخر. فكما أنّ كلّ شيء غير النور يظهر ويُرى بواسطة النور، فإنّ كلّ ما سوى الله يصدر منه تعالى. ولهذا، فإنّ كلمة “النور” تُطلق على البارئ عزّ وجلّ.

يتوفّر النور على مراتب متعدّدة، والشاهد على ذلك آية النور التي يقول فيها الله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ﴾[13]، فبمقتضى هذه الآية، فإنّ الله تعالى نور، وهو مصداق مرجع الضمير في “نُورِهِ”، غير أنّ النور مخلوق لله تعالى أيضًا، كما تُشير إليه عبارة “مَثَلُ نورِه”. وعليه، فإنّ للنور مرتبة تُنسب إلى الله تعالى، ولهذا النور مراتب متعدّدة؛ كما أنّ العوالم الوجوديّة هي بالنحو ذاته. إنّ المراد من العبارات الواردة في الروايات، والتي تتحدّث عن أنّ الله تعالى خلق الجنّة من نور النبيّ الأعظم أنّ لنور هذا الموجود الأوّل( صلّى الله عليه وآله وسلّم) كمالاتٌ متى ما تنزّلت، ظهرت مخلوقاتٌ من هذا القبيل، أي إنّ الجنّة وما فيها شعاعٌ من وجوده النوريّ، وليس وجوده المادّي؛ إذ إن لوجوده المادّي تكليفًا، ولهذا، عليه أن يتعب، ويمارس الرياضات، وأن يُواجه الابتلاءات، ويستشهد، لكنّ هذه الأمور غير مرتبطة بذلك النور؛ وإلّا، لو تقرّر أن “يُقتل” هذا النور، لانهار كلّ العالم. إنّ هذا النور يقع في أفق فوق التكليف، بحيث يكون كافّة أفراد الإنسان المكلّفين عبارة عن أشعّة من وجوده.

ومن هنا، تُعدّ مسألة نزول الملائكة وعرضها للمقدَّرات على إمام الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) من المسائل القابلة للتصديق. ولتقريب ذلك إلى الأذهان، بوسعنا القول: في تلك الليلة، يسطع الله تعالى عن طريق ملائكته بنور على قلب صاحب العصر (عليه السلام)، فينكشف له كلّ شيء بواسطته. هذا، مع أنّ ما ورد في الروايات عن نزول الملائكة في ليلة القدر وعرضها للتقديرات على النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، الأمر الذي لولاه لما علموا عن هذه التقديرات شيئًا، إنّما هو بحسب المرتبة الدنيويّة لوجودهم الشريف؛ وإلّا، فإنّ وجودهم النورانيّ لا يحتاج إلى الملك وعرضه، بل إنّ الملك مخلوق بدوره من ذلك النور.

وفيما يخصّ عدد ليالي تنزّل الملائكة وعرضها للتقديرات، يرى بعض الأعاظم أنّ ما يُستفاد من الآيات والروايات خضوع ذلك لثلاث مراحل: ففي الليلة الأولى، لا يكون الأمر قطعيًّا بعدُ؛ وفي الليلة الثانية، يكتسب الأمر درجة من الحتميّة والقطعيّة؛ وفي الليلة الثالثة (أي مرحلة القضاء) يُمضى الأمر. ويبقى أنّ هذا مجرّد احتمال طرحه بعض الأفاضل، لكنّه لا يبعُد. أجل، قد توجد مرحلة أخرى لتغيير القضاء، إذ من الممكن، بحسب مجموعة من الروايات، طروّ التغيير حتّى على بعض المقدّرات الثابتة، فقد جاء في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام): “أَسْأَلُكَ بِالْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَقَضَائِكَ الْمُبْرَمِ الَّذِي تَحْجُبُهُ بِأَيْسَرِ الدُّعَاءِ”[14]؛ فهناك قضاء يكون تامًّا وحتميًّا لولا الدعاء، غير أنّ الله تعالى فتح بابًا آخر في وجه عباده، بحيث قد تقتضي الأسباب عدم طروّ أيّ تغيير على القضاء، لكن، مع ذلك، إذا دعا العبد ربّه من صميم قلبه، فإنّ هذا القضاء يتحوّل. ومن هنا، يتعيّن علينا اغتنام بعض الفرص كليالي شهر رمضان المبارك، لكي نرجو من العليّ القدير أن يُيسّر لنا ولأفراد المجتمع وكافّة المسلمين في العالم بل وللبشريّة جمعاء طريقًا يُفضي بنا إلى سعادة الدنيا والآخرة، وأن يُعجّل كذلك في ظهور مولانا وقائدنا حضرة وليّ العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

 

[1] سورة الرعد، الآية 26.

[2] سورة فصّلت، الآية 10.

[3] راجع: عليّ بن إبراهيم القمّي، تفسير القمّي، الجزء 2، الصفحة 262؛ محمّد حسين الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، الجزء 17، الصفحة 364.

[4] ومعناه: لقد كان الحقّ يعلم بشربي للخمر منذ الأزل؛ فإذا لم أشربها، انقلب علمه تعالى إلى جهل. [المترجم]

[5] سورة الحجّ، الآية 70.

[6] سورة القدر، الآية 4.

[7] سورة آل عمران، الآية 7.

[8] محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، الجزء 99، الصفحة 92. وهذه العبارة هي جزء من إحدى الروايات المنقولة عن العلّامة المجلسي (رحمة الله تعالى عليه) لزيارة آل ياسين.

[9] الحسن بن محمّد الديلميّ، غرر الأخبار، الصفحة 195.

[10] أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، الصفحة 823، الحديث 1130.

[11] راجع: محمد بن عليّ بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق)، الخصال، الجزء 2، الصفحة 481؛ عليّ بن الحسن بن عساكر، تاريخ دمشق الكبير، الجزء 42، الصفحة 67.

[12] سورة النور، الآية 35.

[13] سورة النور، الآية 35.

[14] محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، الجزء 99، الصفحة 55.

**  من كتاب وداع الربيع الصادر عن دار المعارف الحكمية لآية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي



المقالات المرتبطة

الحمد والشكر

من جملة النعم المعنوية التي يشير إليها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذا الدعاء ويأتي على حمدها وشكرها: نعمة شهر رمضان المبارك وبَحر النعم التي جعلها الله لعباده في هذا الشهر.

الدعوات الإلهيّة أسباب لبلوغ السعادة

إنّ الالتفات إلى عظمة الله تعالى ورأفته ولطفه يدفع الإنسان إلى الالتذاذ فقط بالخضوع أمام ربّه، وينسى بتاتًا ما كان يريد أن يطلبه منه

أهمية ليلة القدر

فإنّ وجود هذه الليلة في الواقع هو امتيازٌ وتوفيق تفضّل به الله تعالى على نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله) والمسلمين حتى يستفيدوا من مزاياه وفضائله..

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<