عجيبٌ أمر اللبنانيّين، وعجيبٌ أمرُ هذا العالم العربي! سنوات قضاها من كان قبلنا، وسنوات قضيناها ونحن نحمل على أكتافنا، وفي هواجسنا الدينيّة، والثقافيّة موضوع الحوار، والتخاطب المفتوح على الآخر الإنسان… الإنسان في حبّه وحزنه وآلامه وتطلّعاته؛ بل وفي خصوصيّاته كان هو محور المسألة كلّها. وهو كان قدس الأقداس. أردنا نحن وكل من تشاركنا معهم هموم الوحدة الإسلاميّة، وهموم الحوار الإسلامي – المسيحي، بل وهموم التثاقف، بما في ذلك بين الدينيّين والعلمانيّين، أن نصل إلى تجاوز الحدود القطريّة والقوميّة والطائفيّة والمذهبيّة، وحدود الأيديولوجيّات، وكدنا نصل إلى أنّ اختلاف اللغة والدين والوطن لا ينبغي أن يفصل احترام الإنسان للإنسان، وأن كل غالٍ يهون أمام الكرامة والعزّة البشريّة. وأن لا سلامة لوطن يعاني إنسانه من جوع الفقر، وجوع المذلّة. بل ووصل ببعضنا أن الفاصلة بين الإنسانيّة، والنزعات البهيميّة هي في حفظ قيم الرحمة والمحبّة، ومداراة الآخر وشكره. إذ إنّما الدّين مداراة الآخر، وإنّما شكر الله من شكر العباد. عشنا طموحات نرجو أن لا نقول عنها يومًا إنها كانت نرجسيّة ثقافيّة، وطوباويّات مثاليّة، لا تمتّ لعالم الحياة والواقع بصلة ومعنًى. لكن آخ وألف آخ… ما تصوّرت يومًا أن يأتي الزمن الذي يبيع فيه العربي فلسطين، وباسم عروبة مهلّلة وساجدة للأميركي والصهيوني.. ما كنت أتصوّر أنّ يومًا سيأتي وأكتشف أن هدف الذين عاثوا في أرض الوحدة الإسلاميّة فسادًا، وزرعوا الشقاق بين بعضٍ من السنّة والشيعة بعناوين القرآن ومحمد؛ إنما فعلوا ذلك بفعل سياسات أرادت دفع أمّتنا نحو التطبيع ومع من؟! مع من قال عنهم القرآن إنهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا… واليوم، ها نحن أمام فجائع جديدة من نحرٍ متواصل لكل محاصيل الحوار الإسلامي – المسيحي. بدءًا بتفجير الكنائس والأديرة، والمساجد والحسينيّات، مرورًا بتحطيم الأيقونات والرمزيّات المفضية إلى قداسة الحبّ التديّني لقيم الدين ومصدره، وصولًا اليوم إلى تزوير الذاكرة والتاريخ المشترك الباني للسّلم الأهلي والتحابب الأخوي بين الأسر الدينيّة والعوائل المذهبيّة.. لم أتصوّر أن البلد الرسالة قد يتحوّل بحجة الوطنيّة والدستوريّة إلى ناهب مغتصب للتراحم الديني والتعدّدية الفكريّة والديموقراطيّة التوافقيّة؛ وكرمى لعينَي المجهول.. والسؤال هنا: ما هويّة ذاك المجهول؟! وأيُّ إرادة وأهداف يمثّل؟! ولماذا يريد هذه المرّة أن يأخذ الدور الاحترابي الذي كان يأخذه أمراء الطوائف السياسيّون؟!
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.