الموت كتجلٍّ للمقدّس: في تحديد ماهية المقدَّس في الإسلام
يقول “ابن فارس” في “كتاب معجم مقاييس اللغة”: “القاف والدال والسين أصل صحيح وأظنه من الكلام الشرعيّ الإسلاميّ وهو يدل على الطهر”[1]، وهذا اللفظ غنيٌّ بدلالته، فهو يحمل أبعادًا متعدّدة، ويورد الأصفهاني في كتاب “مفردات ألفاظ القرآن الكريم” بعض الدلالات للفظ المقدّس، فهي تشير إلى[2]:
– التقديس والتطهير الإلهي: وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[3]، وهذا التطهير دون التطهير الذي هو إزالة النجاسة المحسوسة، وقوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾[4]؛ أي نطهّر الأشياء ارتسامًا لك، وقيل نقدّسك أي نصفك بالتقديس.
– جبريل: وهو كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾[5]؛ يعنى به جبريل من حيث إنه ينزل بالقدس من الله؛ أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي.
– المكان: البيت المقدّس هو المطهر من النجاسة أي الشرك، وكذلك الأرض المقدسة، قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾[6]. ويقول “العلّامة”: “وليست المباركة في الأرض إلَّا جعل الخير الكثير فيها، ومن الخير الكثير إقامة الدين وإذهاب قذارة الشرك”[7]. فالمكان المقدس سُمّي كذلك: “لكونه حظيرة لقرب وموطن الحضور والمناجاة… وعلى هذا النحو يقدّس ما يقدّس من الأمكنة والأزمنة كالكعبة المشرفة والمسجد الحرام وسائر المساجد والمشاهد المحترمة في الإسلام والأعياد والأيام المتبركة. فإنّما ذلك قدس وشرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها، أو نسك وعبادة مقدّسة شُرِّعَت فيها، وإلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان ولا بين أجزاء الزمان”[8].
– الجنة والشريعة: حظيرة القدس قيل الجنة، وقيل الشريعة، وكلاهما صحيح؛ فالشريعة حظيرة منها يستفاد القدس أي الطهارة.
كما رأينا فإنّ جميع دلالات “قدس” ومتفرّعاتها كما دلّ عليها “الأصفهاني” تدلّ على التنزيه والخلوص من الشوائب، على هذا الأساس لا يرتبط هذا اللفظ بما هو حرام أو مدنس كما تذهب الدراسات الإناسية، ولكن هذه الدلالات توسّع فيها “العلّامة الطباطبائي” وجعلها تمتد بالتدريح من الأعلى إلى الأسفل على شكلِ رُتبي، كالتالي:
– الله: يطلق على الله في صيغة قدوس ومقدّس لتنزيهه تعالى، فالله هو القدوس: “لأنه منزّه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا”[9]، قال تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر﴾[10]. الملك هو المالك لتدبير أمر الناس والحكم فيهم، والقدّوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة، والسلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير شرّ وضرّ، والمؤمن الذي يعطي الأمن، والمهيمن الفائق المسيطر على الشيء[11].
– المؤمن: يرتبط “قدس” بالمؤمن في حياته، حيث يكون الالتزام بالأمر الشرعيّ كالصلاة والصوم والإخلاص لله والتطهر من النجاسات.
– الزمان: ويرتبط “قدس” بالزمان، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[12]، وهذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب: “وإنّما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حُرُمًا ليكفّ الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الأمن، ويأخذوا فيها الأهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات والقربات. وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما كانوا يعبدون الأوثان”[13].
مقام القرب: ويدل على مقام للقرب، يظهر ذلك: “من قوله تعالى إنّ إبليس كان مع الملائكة من غير تميّز له منهم، والمقام الذي كان يجمعهم جميعًا كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصّة ذكر الخلافة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[14]. وأنّ الأمر بالسجود إنّما كان متوجّهًا إلى ذلك المقام؛ أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾[15]. والضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنّة ومآلهما إلى المنزلة والمقام ولو كان الخطاب متوجّهًا إليهم من غير دخل المنزلة والمقام في ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: “فما يكون لك أن تتكبّر”. وعلى هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك وعند ذلك تميّز الفريقان، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم التي حلّوا فيها، وهو الخضوع العبوديّ والامتثال كما حكاه الله عنهم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾[16]. فهذه حقيقة حياة الملائكة وسنخ أعمالهم، وقد بقوا على ذلك وخرج إبليس من المنزلة التي كان يشاركهم فيها”[17].
وما أشار إليه العلّامة الطباطبائي من دلالة “قدس” إلى “مقام”، يجب التنبّه له، فهو يضعنا أمام نقطة هامة، ترتبط بحركية هذا اللفظ، فكما نلاحظ أنّ “المقدّس” مقام للملائكة، وإذا أُضيف هذا الأمر إلى الوجود الإنساني وماهيته، نصل إلى نتيجة هامة، ترتبط بالهدف منه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الله تعالى ركّب العقل في الملائكة بدون الشهوة، وركّب الشهوة في البهائم بدون العقل، وركّبهما جميعًا في بني آدم، فمن غلّب عقله على شهوته كان خيرًا من الملائكة، ومن غلُبت شهوته على عقله كان شرًا من البهائم”[18]، وهذا ما يجعل المقدّس مقامًا يرتقي إليه الإنسان، إذا أخلص لله واتبع دين الحق، ويعبر عن ذلك العلامة الحليّ بقوله: “إذا أراد الله بأوامره ونواهيه وخلق العقول ليخرج الإنسان من مرتبة حضيض مرتبة البهائم والدواب إلى أوج مرتبة الملائكة، ونصّب الأنبياء والأئمة لإرشادهم ودعائهم إلى ذلك”[19]. وهذا يعني أنّه لما كان “المقدس” مقامًا، فهذا يستدعي سعي الإنسان لنيله: “فمقام كل أحد، موضع إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل بالرياضة له … ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام”[20].
وهذا يوصل إلى القول: إنّ جذر “قدس” ومشتقاته، يشير إلى أنّ المقدّس الإسلاميّ، لا ينطلق من خلفية الفصل بين المقدّس والمدنّس، أو ثنائية الحلال والحرام – كما قُدِّمت في الدراسات الإناسية – فالمقدّس في الإسلام بما تحمله اللفظة أكثر غنى من الحرام، فهي تدخل في جميع مناحي الحياة، حيث نلاحظ أنّ كلّ ما في الكون يسعى لسلوك الطريق المؤدّي إلى الله لطلب كماله الخاص: “اعلم أنّ السير والسلوك وطلب الكمال ليس مخصوصًا بالإنسان فقط، بل جميع الموجودات والمخلوقات علويّة كانت أو سفليّة، فإنّها في السير والسلوك وطلب الكمال، وله توجّه إلى مطلوبه ومقصوده”[21]، أي أنّ جميع ما في الكون يسعى لهذا المقام، وعلى أساس هذا المقام، يكون التفاضل بين كلّ نوع من الأنواع، بمعنى آخر أنّ جميع المخلوقات تسعى من خلال حركيتها العامودية للتوجّه باتجاه القداسة طبقًا للرتبة الموجودة فيها، وبما تحصل من كمالات تتمايز على الصعيد الأفقي، على هذا الأساس، يصبح لكلّ كائن قداسته الخاصة، قيتقدّس الزمان والمكان والماء، فكلّما خلصت الأشياء من الدنس، وأصبحت أكثر طهرًا، كلّما كانت موردًا لتجلّي المقدّس فيها… يتبع.
[1] أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، الجزء 5، الصفحة 64.
[2] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مصدر سابق، الصفحة 397.
[3] سورة الأحزاب، الآية 33.
[4]سورة البقرة، الآية 30.
[5] سورة الواقعة، الآية 60.
[6] سورة المائدة، الآية 21.
[7] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 5 الصفحة 288.
[8] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 14، الصفحة 183.
[9] أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، الجزء 5، الصفحة 64.
[10] سورة الحشر، الآية 23.
[11] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 19، الصفحة 222.
[12] سورة التوية، الآية 36.
[13] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 9، الصفحة 369.
[14] سورة البقرة، الآية 30.
[15] سورة الأعراف، الآية 13.
[16] سورة الأنبياء، الآيتان 26 و27.
[17] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 8، الصفحة 23.
[18] علي الطبرسي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، تحقيق: مهدي هوشمند، (قم: دار الحديث، الطبعة 1، 1418)، الصفحة 439.
[19] العلّامة الحلّي، الألفين، (الكويت: مكتبة الألفين، 1985م)، الصفحة 346.
[20] أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق: عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، (القاهرة: كتاب الشعب، 1989)، الصفحتان 132و 133.
[21] حيدر الآملي، تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم، تحقيق: محسن الموسوي التبريزي، (قم: مؤسسة فرهنگي ونشر نور على نور، الطبعة 1، 1422)، الصفحة 146.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
عبقرية الشهادةجدلية الحياة والموتالقدسالمقدسالحاج قاسم سليمانيالشهيد أبو مهدي المهندس المقالات المرتبطة
الفعل والفاعلية وتحديات الراهن
عندما نتحدث عن فعل (عمل) فنحن نتحدث بالمضمون عن وجود أفراد ومجتمع وتفاعل وانفعال، أي أن ما نطلق عليه مصطلح
الولاية والتمكين بين الاصطلاح وحراك المعنى
يُعتبر المصطلح في العرف الصوفي مفتاح رمز يشير إلى حقيقة من الحقائق، وبابًا يلج منه الصوفي إلى المعنى. بل إن
الـقَــبّــالاه (مذهب التأويلات الباطنية)
يعتبر التلمود هو المصدر الرئيسي الذي تستقي منه حياة اليهود في شرق أوروبا شرائعها ونظم حياتها التعليمية والدينية والاجتماعية،