الموت كتجلٍّ للمقدّس..
واجه سقراط سؤال الموت بكلّ شجاعة، ورفض دعوة تلاميذه للخروج من السجن والهرب من آثينا، وهو كان لا يرى فيه إلا قنطرة، تنتقل بالإنسان إلى عالم آخر أكثر غنى، وردّد أثناء محاكمته: “إذا كان الواصل إلى الموت سيلقى العدالة في العالم الآخر[…] فهل ستكون هذه الرحلة الخارجية بلا قيمة؟[…] أنا من جانبي أرغب في الموت مرات عديدة إن كان هذا صحيحًا […] وليس الناس هناك أسعد فقط ممن هم هنا، بل إنّهم كذلك منذ ذلك الوقت فصاعدًا خالدون أبد الدهر […] ما يحدث لي الآن ليس وليد المصادفة، بل إنّه واضح أمامي أنّ الموت منذ الآن، والتخلّص من كلّ العلائق هو الأفضل لي […] إنّني لا أحمل ضغنًا كبيرًا ضد من صوتوا بإدانتي ولا ضد متهمي. هذا رغم أنّ من صوتوا يإدانتي ومتهميّ، لم تكن تدفعهم هذه الفكرة ذاتها، بل كانوا يعتقدون أنّهم مُلحِقون بي الضر، وهم على هذا مستحقون اللوم”[1]؛ فسقراط من خلال حديثه، أشار إلى أنّ الموت ليس أمرًا مخيفًا، بل هو نقلة من دار إلى أخرى، حيث يتخلص الإنسان من علائق الدّنيا، هذه العلائق التي تجعل الناس يتجهون باتجاه أذية الآخرين، لينالوا السطوة والسلطة.
وهذه المقدّمة، تشير إلى أنّ الوعيّ الإنساني بحقيقة وجوده وموته، هو الذي يحدّد كيفية تعاطيه مع هذا الموضوع، فـ”سقراط” لم يكن ينظر إلى الحياة باعتبارها الهدف النهائيّ، إنّما هي المكان الذي يعبِّر فيها عن الحقيقة، حتى لو أدّت إلى هلاكه. وهذا ما يضعنا أمام موضوع إشكالي، نقف فيه أمام أسئلة عدة:
– ما هو الموت؟
-كيف يكون هذا الموت طريقًا للخلاص من العلائق الدنيوية؟
– وما هو موقعيته في الحياة الإنسانية؟
– ماذا يحمل الموت للإنسان؟
– هل هو يتجه بالإنسان نحو الكمال؟
– ما علاقة هذا الكمال بالقداسة؟
فهذا البحث سيعمل على مقاربة الموت من وجهة تحليلية، تسعى إلى إثبات أنّ الموت ليس عبارة عن حادث جوهريّ، ينتهي من خلاله الإنسان، إنّما هو أمر عرضيّ، يصيب هذا الكائن، ويكون مقدّمة لولادة جديدة، إما أن توصل الإنسان إلى ذروة القداسة، أو تدفعه إلى أسفل السافلين، وعلى هذا الأساس سيتمّ تقسيم البحث إلى العناوين التالية:
-
الموت وماهيته وعلاقته بالوجود الإنساني.
-
في تحديد ماهية المقدَّس في الإسلام.
-
في العلاقة بين الموت والمقدَّس.
-
الموت وماهيته وعلاقته بالوجود الإنسانيّ: الميم والواو والتاء أصلٌ صحيحٌ يدل على ذهاب القوة من الشيء والموت خلاف الحياة[2]. والأصل اللغوي يؤشر إلى ملاحظتين هامتين الأولى: تُظهِرُ الموت من خلال أثره بالجسد الإنساني، حيث يتوقف هذا الكائن عن الحركة نتيجة ذهاب القوة المحرّكة له. والثانية جعلت الموت بخلاف الحياة، وهو ما يؤشِرُ إلى أنّ الموت بذاته لا حقيقة له إلا إذا وُضِع في مقابل الحياة، وهذا ما تنبّه إليه “الراغب الأصفهاني” عند تعريفه للموت، حيث قارنه بها، وقسّمه تبعًا لها إلى أنواع[3]، هي:
النوع الأوّل: ما هو بإزاء القوَّة النامية الموجودة في الإنسان والحيوانات والنّبات. نحو قوله تعالى: ﴿يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾[4].
النوع الثاني: زوال القوّة الحاسَّة. قال: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا﴾[5].
النوع الثالث: زوال القوَّة العاقلة، وهي الجهالة نحو: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾[6].
النوع الرابع: الحزن المكدِّر للحياة، وإيّاه قصد بقوله: ﴿يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾[7].
النوع الخامس: المنامُ، فقيل: النّوم مَوْتٌ خفيف، والموت نوم ثقيل، وعلى هذا النحو سمّاهما اللَّه تعالى توفِّيًا. فقال﴿وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾[8].
ويتوسّع العلّامة الطباطبائي في دلالة لفظ “مات”، فيعتبر أنّ لها دلالات أخرى، هي:
– الدلالة على البرزخ: قال تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[9]؛ الآية قريبة السياق من قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[10]، وهذه من الآيات التي يستدلّ بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة، فإنّها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بدّ في تصوير الإماتة الثانية من فرض حياة بين الموتين وهو البرزخ”[11].
– بيان حقيقة الإنسان: قوله تعالى: ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا﴾[12] بيان حقيقة الإنسان من حيث وجوده، فهو وجود متحوّل متكامل يسير في مسير وجوده المتبدّل المتغيّر تدريجًا، ويقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميتًا ثمّ حيي بإحياء الله ثمّ يتحوّل بإماتة وإحياء[13].
– البقاء على الإسلام: قوله تعالى: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[14]، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للإنسان، والتكليف إنّما يتعلّق بأمر اختياري إنّما هو لرجوعه إلى أمر يتعلّق بالاختيار، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا والزموا الإسلام لئلّا يقع موتكم إلا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أنّ الدين هو الإسلام كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[15]“.
– أخذ الشيء: قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾[16] التوفّي أخذ الشيء أخذًا تامًّا، ولذا يستعمل في الموت لأنّ الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾[17]؛ أي أماتته. وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[18] وقال تعالى: ﴿الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى﴾[19]. والتأمّل في الآيتين الأخيرتين يعطي أنّ التوفّي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت، بل بعناية الأخذ والحفظ، وبعبارة أخرى إنّما استعمل التوفّي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أنّ نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظنّ الجاهل أنّه فناء وبطلان، بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه[20].
– الضلال: قال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[21]، فالإنسان قبل أن يمسّه الهدى الإلهي كالميت المحروم من نعمة الحياة الذي لا حسّ له ولا حركة، فإن آمن بربّه إيمانًا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، وجعل له نورًا يدور معه حيث دار، يبصر في شعاعه خيره من شرّه ونفعه من ضرّه، فيأخذ ما ينفعه ويدع ما يضرّه، وهكذا يسير في مسير الحياة. وأمّا الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها، ولا مناص له عنها، ظلمة الموت وما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضارّ […] ففي الكلام استعارة الموت للضلال واستعارة الحياة للإيمان، أو الاهتداء والإحياء للهداية إلى الإيمان، والنور للتبصّر بالأعمال الصالحة، والظلمة للجهل كلّ ذلك في مستوى التفهيم والتفهّم العموميّين لما أنّ أهل هذا الظرف لا يرون للإنسان بما هو إنسان حياة وراء الحياة الحيوانيّة التي هي المنشأ للشعور باللذائذ الماديّة والحركة الإراديّة نحوها[…] التدبّر في أطراف الكلام والتأمّل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطى للآية معنى وراء هذا الذي يناله الفهم العامي، فإنّ الله سبحانه ينسب للإنسان الإلهي في كلامه حياة خالدة أبديّة لا تنقطع بالموت الدنيويّ هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته، مصون بصيانته لا يمسّه نصب ولا لغوب، ولا يذلّه شقاء ولا تعب، مستغرب في حبّ ربّه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلا خيرًا، ولا يواجه إلا سعادة وهو في أمن وسلام لا خوف معه ولا خطر، وسعادة وبهجة ولذّة لا نفاذ لها ولا نهاية لأمدها[22].
– الرجوع الحتمي: قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾[23] كما هو تقرير وتثبيت لمضمون قوله قبلًا: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾[24]، كذلك توطئة وتمهيد لقوله بعد: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[25]– أي ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر ونحوه وما تريدونه من صحّة وغنى ونحوهما امتحانًا – كأنّه قيل: نحيي كلًّا منكم حياة محدودة مؤجّلة، ونمتحنكم فيها بالشرّ والخير امتحانًا، ثمّ إلى ربّكم ترجعون فيقضى عليكم ولكم. وفيه إشارة إلى علّة تحتّم الموت لكلّ نفس حيّة، وهي أنّ حياة كلّ نفس حياة امتحانيّة، ابتلائيّة، ومن المعلوم أنّ الامتحان أمر مقدّمي ومن الضروري أنّ المقدّمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد، ومن الضروري أنّ وراء كلّ مقدّمة ذا مقدّمة، وبعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حيّة موت محتوم ثمّ لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء[26].
– تمام التدبير الإلهي: قوله تعالى:﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾[27] بيان لتمام التدبير الإلهيّ، وأنّ الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير[28].
– الوقاية من عذاب الجحيم: قوله تعالى: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾[29]، فالمعنى: وحفظهم من عذاب الجحيم، وذكر وقايتهم من عذاب الجحيم مع نفي الموت عنهم تتميم لقسمة المكاره؛ أي إنّهم مصونون من الانتقال من دار إلى دار، ومن نشأة الجنّة إلى نشأة غيرها وهو الموت، ومصونون من الانتقال من حال سعيدة إلى حال شقيّة وهي عذاب الجحيم[30].
– إفاضة الوجود: قوله تعالى: ﴿نحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾[31] تدبير أمر الخلق بجميع شؤونه وخصوصيّاته من لوازم الخلق بمعنى إفاضة الوجود، فوجود الإنسان المحدود بأوّل كينونته إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصيّاته التي تتحوّل عليه بتقدير من خالقه عزّ وجل؛ فموته أيضًا كحياته بتقدير منه[32] .
التوسّع الدلالي الذي قام به العلّامة “الطباطبائي” بالغ الأهمية، فهو حمل بطياته استكمالًا ضروريًّا لدرس العلاقة بين الحياة والموت والإنسان، ووضع القاريء أمام صورة متكاملة جامعة، وعندما نقوم بالجمع بين هذه الدلالات، والربط بينها نصل إلى نتيجة هامة، حيث بإمكاننا القول: إنّ الموت تدبيرٌ إلهيٌ، وهو من الأمور التي قدّرها الله تعالى على الإنسان، وهو لا يعني فناء الإنسان ونهايته، إنّما هو يؤشر إلى توقف الحركة في البدن، وانتقال الإنسان إلى مرحلة أخرى هي البرزخ، مقدّمة لحياة حقيقية في الآخرة.
وإذا ضممنا هذه الدلالات إلى ما أتى به “الأصفهاني”، نرى أنّه من خلال هذه الحركة:
الموت – الحياة – الموت – الحياة – الموت – الحياة الآخرة.
الولادة– الحياة – الموت – حياة البرزخ – الموت – الحياة.
وحتى الحياة الدنيا، يتخلّلها موت مؤقت عندما يخلد الإنسان للنوم، وفي هذه التكرارات المتتالية بين الحياة والموت، يحدّد مصير الإنسان، وهذا يوصل إلى القول: إنّ نوعية الحياة التي يعيشها الإنسان تحدّد مآلاته النهائية، فلا يستوي من لم يتعد في حياته القوة النامية التي يشاركه فيها الحيوان والنبات، مع من تجاوزها إلى الحياة العقلية التي يؤدي به إلى حياة الراحة والطمأنينة والسلامة من الهموم المكدرة، فالإنسان كلّما تكامل للوصول إلى كماله الإنسانيّ، يتجه نحو ما هو أعظم منها وهي الحياة الأخروية الأكثر سعادة. وهذا يعني أنّ الحياة ليست دورة اعتيادية للأيام والشهور والسنوات؛ إنّما هي فعلٌ يقوم به الإنسان يقربه لله عزّ وجلّ، وإلا وقع بموات أثناء حياته، كالضال الذي يتصور نفسه حيًّا، في حين أنّه يعيش موته وفقدانه لمعنى الوجود الإنساني، قال أمير المؤمنين شعرًا:
وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لِأَهلِهِ
|
وَأَجسادُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ
|
وَإِنَّ اِمرَءاً لَم يُحيِ بِالعِلمِ مَيِّتٌ
|
وَلَيسَ لَهُ حَتّى النَشورِ نُشورُ[33]
|
من خلال الفهم السابق، نتوصل للقول: إنّ الموت المتعارف هو كمال، وكمال الإنسان مفارقة هيكله: “ولولا هذا الموت لم يُكمَّل الإنسان، فالموت إذًا ضروري في كمال الإنسانية، ولكون الموت سببًا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف وأرفع سمّاه الله توفّيًا وإمساكًا”[34]، ولما كان الموت انتقال من منزلة إلى أخرى: “أحبه من وثق بما له عند الله، ولم يكره هذا إلا أحد رجلين:
– أحدهما من لا يؤمن بالآخرة وعنده أنّ لا حياة ولا نعيم إلا في الدّنيا كم وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ﴾[35]
– الثاني يؤمن بالله، ولكنّه يخاف ذنبه.
فأما من لم يكن كذلك فإنّه يحب الموت ويتمناه، كما أحبه الصالحون وتمنّوه. وقد رُوي عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ: “مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّه أَحَبَّ اللَّه لِقَاءَه، ومَنْ أَبْغَضَ لِقَاءَ اللَّه أَبْغَضَ اللَّه لِقَاءَه”[36]، وقال تعالى: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[37]. فالموت مدخل للحياة الآخرة، ونوع العمل الذي يقوم به الإنسان هو الذي يحدّد موقعه من الجنة أو النار، فلو لم يكن موت لم تكن الجنة، ولذلك مَنّ الله تعالى به على الإنسان، فقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[38]، فقدّم تعالى الموت على الحياة تنبيهًا على أنّه يتوصل به إلى الحياة الحقيقية، وعدّه علينا في نعمه، فقال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[39]، فجعل الموت إنعامًا كما جعل الحياة إنعامًا: “لأنّه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلا بالموت، فالموت نعمة، لأنّ السبب الذي يتوصل به إلى النعمة نعمة، ولكون الموت ذريعة إلى السعادة الكبرى، ولم يكن الأنبياء والحكماء يخافونه[…] وكانوا يتوقعونه ويرون أنّهم في حبس فينتظرون المبشر بإطلاقهم”[40]، حتى قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “والله ما أبالي أقع على الموت أو يقع الموت علي”[41].
وهكذا، نصل إلى القول: إنّ الموت عارضٌ على الحياة، وهو الفيصل في ما سيصل إليه الإنسان، فإذا أمضى هذا الكائن حياته، ولم يحظ من الإنسانية إلا بالصورة التخطيطية من انتصاب القامة وعرض الظفر والقوة على الضحك، ولغو في النطق، يجري مجرى المكاء والتصدية، وهو دون البهائم، أما إذا عاش إنسانيته عبر التوجّه إلى الله عزّ وجل: “فله حالتان إحداهما حالته وهو في الدنيا ولم يقتحم العقبة ويفك الرقبة، بل هو صريع جوعة وأسير شبعة، تنتنه العرقة، وتؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، ولم يقض ما أمره، فهو ما دام في دنياه لا يحكم له بأنّه أفضل من الملائكة على الإطلاق. والحالة الثانية قد اقتحم العقبة وفك الرقبة بعدما قضى ما أمره فصار من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بل قد جُعِل في مقعد صدق عند مليك مقتدر وذا حياة بلا ممات، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، وقد قامت الملائكة بخدمته”[42].
يوصل الكلام السابق أنّ الإنسان قد يصل من خلال الموت إلى مرحلة تتجلّى به القداسة، حيث تقوم الملائكة بخدمته، هذا لأنّه جعل الحياة ممرًا للتقرب لله، فاستجاب لأوامره ونواهيه، وجعل كلّ عمل يقوم به من باب التقرّب له، وفي الحديث القدسي: “يا ابن آدم أنا فقير لا أفتقر أطعني فيما أمرتك أجعلك غنيًا لا تفتقر. يا ابن آدم أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حيًّا لا تموت. يا ابن آدم أنا أقول للشيء: كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء: كن فيكون”[43]، وقبل استكمال الموضوع لا بدّ من التوقف عند مفهوم القداسة.
-
في تحديد ماهية المقدَّس في الإسلام: يقول “ابن فارس” في “كتاب معجم مقاييس اللغة”: “القاف والدال والسين أصل صحيح وأظنه من الكلام الشرعيّ الإسلاميّ وهو يدل على الطهر”[44]، وهذا اللفظ غنيٌّ بدلالته، فهو يحمل أبعادًا متعدّدة، ويورد الأصفهاني في كتاب “مفردات ألفاظ القرآن الكريم” بعض الدلالات للفظ المقدّس، فهي تشير إلى[45]:
– التقديس والتطهير الإلهي: وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[46]، وهذا التطهير دون التطهير الذي هو إزالة النجاسة المحسوسة، وقوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾[47]؛ أي نطهّر الأشياء ارتسامًا لك، وقيل نقدّسك أي نصفك بالتقديس.
– جبريل: وهو كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾[48]؛ يعنى به جبريل من حيث إنه ينزل بالقدس من الله؛ أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي.
– المكان: البيت المقدّس هو المطهر من النجاسة أي الشرك، وكذلك الأرض المقدسة، قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾[49]. ويقول “العلّامة”: “وليست المباركة في الأرض إلَّا جعل الخير الكثير فيها، ومن الخير الكثير إقامة الدين وإذهاب قذارة الشرك”[50]. فالمكان المقدس سُمّي كذلك: “لكونه حظيرة لقرب وموطن الحضور والمناجاة… وعلى هذا النحو يقدّس ما يقدّس من الأمكنة والأزمنة كالكعبة المشرفة والمسجد الحرام وسائر المساجد والمشاهد المحترمة في الإسلام والأعياد والأيام المتبركة. فإنّما ذلك قدس وشرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها، أو نسك وعبادة مقدّسة شُرِّعَت فيها، وإلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان ولا بين أجزاء الزمان”[51].
– الجنة والشريعة: حظيرة القدس قيل الجنة، وقيل الشريعة، وكلاهما صحيح؛ فالشريعة حظيرة منها يستفاد القدس أي الطهارة.
كما رأينا فإنّ جميع دلالات “قدس” ومتفرّعاتها كما دلّ عليها “الأصفهاني” تدلّ على التنزيه والخلوص من الشوائب، على هذا الأساس لا يرتبط هذا اللفظ بما هو حرام أو مدنس كما تذهب الدراسات الإناسية، ولكن هذه الدلالات توسّع فيها “العلّامة الطباطبائي” وجعلها تمتد بالتدريح من الأعلى إلى الأسفل على شكلِ رُتبي، كالتالي:
– الله: يطلق على الله في صيغة قدوس ومقدّس لتنزيهه تعالى، فالله هو القدوس: “لأنه منزّه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا”[52]، قال تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر﴾[53]. الملك هو المالك لتدبير أمر الناس والحكم فيهم، والقدّوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة، والسلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير شرّ وضرّ، والمؤمن الذي يعطي الأمن، والمهيمن الفائق المسيطر على الشيء[54].
– المؤمن: يرتبط “قدس” بالمؤمن في حياته، حيث يكون الالتزام بالأمر الشرعيّ كالصلاة والصوم والإخلاص لله والتطهر من النجاسات.
– الزمان: ويرتبط “قدس” بالزمان، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[55]، وهذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب: “وإنّما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حُرُمًا ليكفّ الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الأمن، ويأخذوا فيها الأهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات والقربات. وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما كانوا يعبدون الأوثان”[56].
مقام القرب: ويدل على مقام للقرب، يظهر ذلك: “من قوله تعالى إنّ إبليس كان مع الملائكة من غير تميّز له منهم، والمقام الذي كان يجمعهم جميعًا كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصّة ذكر الخلافة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[57]. وأنّ الأمر بالسجود إنّما كان متوجّهًا إلى ذلك المقام؛ أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾[58]. والضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنّة ومآلهما إلى المنزلة والمقام ولو كان الخطاب متوجّهًا إليهم من غير دخل المنزلة والمقام في ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: “فما يكون لك أن تتكبّر”. وعلى هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك وعند ذلك تميّز الفريقان، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم التي حلّوا فيها، وهو الخضوع العبوديّ والامتثال كما حكاه الله عنهم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾[59]. فهذه حقيقة حياة الملائكة وسنخ أعمالهم، وقد بقوا على ذلك وخرج إبليس من المنزلة التي كان يشاركهم فيها”[60].
وما أشار إليه العلّامة الطباطبائي من دلالة “قدس” إلى “مقام”، يجب التنبّه له، فهو يضعنا أمام نقطة هامة، ترتبط بحركية هذا اللفظ، فكما نلاحظ أنّ “المقدّس” مقام للملائكة، وإذا أُضيف هذا الأمر إلى الوجود الإنساني وماهيته، نصل إلى نتيجة هامة، ترتبط بالهدف منه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الله تعالى ركّب العقل في الملائكة بدون الشهوة، وركّب الشهوة في البهائم بدون العقل، وركّبهما جميعًا في بني آدم، فمن غلّب عقله على شهوته كان خيرًا من الملائكة، ومن غلُبت شهوته على عقله كان شرًا من البهائم”[61]، وهذا ما يجعل المقدّس مقامًا يرتقي إليه الإنسان، إذا أخلص لله واتبع دين الحق، ويعبر عن ذلك العلامة الحليّ بقوله: “إذا أراد الله بأوامره ونواهيه وخلق العقول ليخرج الإنسان من مرتبة حضيض مرتبة البهائم والدواب إلى أوج مرتبة الملائكة، ونصّب الأنبياء والأئمة لإرشادهم ودعائهم إلى ذلك”[62]. وهذا يعني أنّه لما كان “المقدس” مقامًا، فهذا يستدعي سعي الإنسان لنيله: “فمقام كل أحد، موضع إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل بالرياضة له … ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام”[63].
وهذا يوصل إلى القول: إنّ جذر “قدس” ومشتقاته، يشير إلى أنّ المقدّس الإسلاميّ، لا ينطلق من خلفية الفصل بين المقدّس والمدنّس، أو ثنائية الحلال والحرام – كما قُدِّمت في الدراسات الإناسية – فالمقدّس في الإسلام بما تحمله اللفظة أكثر غنى من الحرام، فهي تدخل في جميع مناحي الحياة، حيث نلاحظ أنّ كلّ ما في الكون يسعى لسلوك الطريق المؤدّي إلى الله لطلب كماله الخاص: “اعلم أنّ السير والسلوك وطلب الكمال ليس مخصوصًا بالإنسان فقط، بل جميع الموجودات والمخلوقات علويّة كانت أو سفليّة، فإنّها في السير والسلوك وطلب الكمال، وله توجّه إلى مطلوبه ومقصوده”[64]، أي أنّ جميع ما في الكون يسعى لهذا المقام، وعلى أساس هذا المقام، يكون التفاضل بين كلّ نوع من الأنواع، بمعنى آخر أنّ جميع المخلوقات تسعى من خلال حركيتها العامودية للتوجّه باتجاه القداسة طبقًا للرتبة الموجودة فيها، وبما تحصل من كمالات تتمايز على الصعيد الأفقي، على هذا الأساس، يصبح لكلّ كائن قداسته الخاصة، قيتقدّس الزمان والمكان والماء، فكلّما خلصت الأشياء من الدنس، وأصبحت أكثر طهرًا، كلّما كانت موردًا لتجلّي المقدّس فيها.
-
في العلاقة بين الموت والمقدَّس: الحديث عن الموت لا ينفصل عن الحياة، بل هو الذي يعطي المعنى لها، والإنسان طالما هو في هذه الدّنيا كالوالي الذي يحكم المدينة، حتى إذا مات هجر داره، وترك المدينة إما مكانًا مقدّسًا أو جهنمًا لأعماله، من هنا لا يعود الموت مجرّد أمرٍ يقع على الإنسان، إنّما هو جزءٌ من حياته، يتمثّل دائمًا معه وبشكل يومي وهو الموت الأصغر المتمثّل بالنوم، لذلك، على الإنسان أن يتخذ الموت مطلبًا معرفيًّا تتناسل منه كلّ المفاهيم السلوكية؛ بحيث ينعكس ذلك في حياته من خلال سعيه إلى ميتات متعددة، كلّ واحدة منها تؤدّي إلى حياة جديدة ناتجة عن اكتساب النفس ملكات جديدة، تُجري تحوّلات فيها، تساعده على اكتساب الكمالات، التي تُعبِّد الطريق أمامه للوصول إلى مقام القرب من الله.
فالإنسان في هذه الدّنيا، يجب أن يتصوّر نفسه دائمًا كالمهاجر إلى الله، يقف على محطات متعدّدة، وهي عبارة عن ميتات، يبعث من بعدها من جديد، وهي تتوزع على الشكل التالي:
– الموت الأبيض: هو عبارة عن الجوع لأنّه ينوّر الباطن ويبيّض وجه القلب، فإذا لم يشبع السالك بل لا يزال جائعًا مات الموت الأبيض فحينئذ تحيي فطنته، لأنّ البطنة تميت الفطنة، فمن ماتت بطنته حييت فطنته[65].
– الموت الأحمر: وهو مخالفة النفس […]: “واعلم أنه لا يخالف النفس إلا في ثلاثة مواطن في المباح والمكروه والمحظور لا غير”[66].
– الموت الأسود: وهو لاحتمال الأذى فإن في ذلك غمّ النفس والغمّ ظلمة النفس، والظلمة تشبه في الألوان السواد[67].
– الموت الأخضر: وهو طرح الرقاع في اللباس بعضها على بعض[…] إنّما سُمِّيت لبس المرقعات موتًا أخضر لأنّ حالته حالة الأرض في اختلاف النبات فيه والأزهار فأشبه اختلاف الرقاع[68]، وهو: “الفناء في الله لشهود الأذى منه برؤية فناء الأفعال من فعل محبوبه”[69].
وفي كلّ ميتة من هذه الميتات، يكون الإنسان في حالة خلعٍ ولبس، فعندما يتوجه الإنسان إلى الله، لا بدّ له من أن يخلع عنه ثوب “الأنا”، لأنّ: “من عَرِفَ نفسه وأثبت لها الإنية والأنانية، لم يكن ولي الله، ولم يكن تحت قبته تعالى، بل ولي نفسه وتحت قبتها، فالمقصود بالظالمين هم الذين فنوا لكنّهم لم يفنوا على فنائهم لشهود أنفسهم فدعا لهم أن يفنوا عن فنائهم حتى لا يروا إلا وجه الحق كالمحّمديّين الذين وردّ في حقهم: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[70] فشاهدوا هلاك كلّ شيء حتى نفوسهم إلاّ وجه الحق الباقي”[71]. فاضمحلال الإنية واندكاكها، تجعل العبد بكليته لله، وبهذا لا يبقى أثر للخلق بل الحكم للحقّ وإلى هذا أشار الحديث القدسيّ: “من أهان لي وليًّا، فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وإنّه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله كتردّدي عن موت المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته”[72].
وعندما يُرجع هذا العبد من جديد، يكون وليًّا على مدينته: “[و] يصير وجوده حقّانيًّا فإن المفني فيه بما أنه مفني فيه هو الفاني كمّا أن الفاني بما أنّه فان هو المفني فيه ففي هذا المقام العبد هو الظاهر وهو السميع وهو البصير والله أسمائه وصفاته هذا كلامه أديم أيامه وزيد إكرامه”[73]. ومقتضى الكلام عن الموت هنا لا يعني العرفاء فحسب، وإن كان العارف صاحب هذه الطريق للوصول إلى الله، فهو كلّ توجه صادق ومخلص باتجاه الله، بحيث يكون كلّ عمل يكون به الغاية منه تحقيق رضوان الله عزّ وجلّ: “قال الحواريون لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: يا روح الله ما الإخلاص لله عزّ وجلّ ؟ قال: الذي يعمل العمل لله تعالى لا يحبّ أن يحمده عليه أحد من الناس. قالوا: فمن الناصح لله عزّ وجلّ؟ قال: الذي يبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس، وإذا عرض له أمران، أحدهما للدنيا والآخر للآخرة بدأ بأمر الله تعالى قبل أمر الدنيا. فحبّ المحمدة من الناس أصل هو فرعها، وهو يحبّ أن يعرف مكانه، ويريد الاشتهار، وينوي بقلبه محبة الإعظام له من وجوه الأنام، فلا ينفعه. مع هذه النية اختفاؤه في الآجام وعمله غير مقبول”[74].
من خلال ما استعرضنا، نصل للقول: إنّ وصول العبد لهذه الدرجة من الإخلاص لله، يجعل الموت لحظة تكامل ووصل إلى الإنسان الحقيقي، وبالتالي يكون الموت موصلًا إلى المقام القدسيّ للملائكة، لأنّ الصفات والكمالات التي يتحلّى بها بالله لا بنفسه، وهو لهذه الخاصية لا يقبل النقصان، بل قد يصل هذا الأمر إلى ذروته من خلال نعمة الشهادة، التي ينالها كلّ إنسان بحسب مقامه من المعرفة: “وكما أن لكلّ أمة شهيدًا، فكذلك لكلّ أهل مذهب شهيد، ولكل واحد شهيد يكشف عن حال مشهوده، وأما المحمديون فشهيدهم الله المحبوب الموصوف بجميع الصفات لمكان كمال نبيهم وكونه حبيبًا مؤتى جوامع الكلم، متمّمًا لمكارم الأخلاق، فلا جرم يعرفونه عند التحول في جميع الصور إذا تابعوا نبيهم حق المتابعة، وكانوا أوحديين محبوبين كنبيهم”[75].
وهذه الشهادة لم تكن في لحظة الاستشهاد، إنّما هي في الحياة الدّنيا عندما كان شاهدًا للحقّ، ملتزمًا: “قضية عادلة تتجاوز الفرد والأسرة والجماعة، لتكون قضية المجتمع بأسره، وقضية الأمة بكاملها حاضرها ومستقبلها، وجعل هذا الالتزام موصولًا بالله تعالى بتوجيه الله وتعليمه، والسير على مبادىء التقوى السياسية، إنّ الالتزام على هذا النهج هو الذي يعطي الحياة معنى الشهادة، وسيعطي الموت معنى الشهادة”[76]. وأخيرًا كما قال الإمام الخميني قُدِس سره: ” كم سعداء أولئك الذين يقضون عمرًا طويلًا في خدمة الإسلام والمسلمين وينالون في نهاية عمرهم، الفيض العظيم الذي يتمنّاه كلّ عشّاق لقاء المحبوب. كم سعداء وعظماء أولئك الذين اهتموا -طيلة حياتهم- بتهذيب النفس والجهاد الأكبر وفي نهاية أعمارهم، التحقوا بركب الشهداء معزّزين مرفوعي الرأس. كم سعداء وفائزون أولئك الذين لم يقعوا في شباك الوساوس النفسية وحبائل الشيطان، طيلة أعوام حيــاتهم -في بأســــائها وضــــرّائها- وخرقـــــوا آخر الحجب بينـــهم وبين المحبوب، بمحاسنهم (بلحاهم) الملطّخة بالدّماء والتحقوا بركب المجاهدين في سبيل الله تعالى.[77]“
[1] أفلاطون، محاكمة سقراط، ترجمة: عزت قرني، (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر، الطبعة 2 ،2001)، الصفحتان 135و 136.
[2] أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، (قم: مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404)، الجزء 5، الصفحة 184.
[3] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، (قم: طليعة النور، الطبعة 2، 1427)، الصفحة 782.
[4] سورة الروم، الآية 19.
[5] سورة مريم، الآية 23.
[6] سورة الأنعام، الآية 122.
[7] سورة إبراهيم، الآية 17.
[8] سورة الأنعام، الآية 60.
[9] سورة البقرة، الآية 28.
[10] سورة المؤمن، الآية 11.
[11] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، (قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1402)، الجزء1، الصفحة 111.
[12] سورة البقرة، الآية 28.
[13] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 112.
[14] سورة البقرة، الآية 132.
[15] سورة آل عمران، الآية 19.
[16] سورة آل عمران، الآية 55.
[17] سورة الأنعام، الآية 61.
[18] سورة السجدة، الآيتان 10 و11.
[19] سورة الزمر، الآية 42.
[20] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء3، الصفحة 207.
[21] سورة الأنعام، الآية 122.
[22] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء7، الصفحة 339.
[23] سورة آل عمران، الآية 185.
[24] سورة الأنبياء، الآية 34.
[25] سورة الأنبياء، الآية 35.
[26] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء14، الصفحات 285-288.
[27] سورة المؤمنون، الآية 15.
[28] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء15، الصفحة 22.
[29] سورة الدخان، الآية 56.
[30] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء18، الصفحة 151.
[31] سورة الدخان، الآية 56.
[32] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء19، الصفحة 132.
[33] محمد الريشهري، موسوعة العقائد الإسلامية، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، (قم: دار الحديث، 1425 – 1383ش)، الجزء 2، الصفحة 32.
[34] الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، (القاهرة: المطبعة الحميدية، 1323 هـ)، الصفحة 112.
[35] سورة البقرة، الآية 96.
[36] الكليني، الكافي، حققه وصححه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري، (تهران: دار الكتب الإسلامية، الطبعة3، 1367 ش)، الجزء4، الصفحة 134.
[37] سورة البقرة، الآية 94: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. سورة الجمعة، الآية 6: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
[38] سورة الملك، الآية 2.
[39] سورة البقرة، الآية 28.
[40] الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، المصدر السابق، الصفحة 114.
[41] محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة1، 1396 – 1976 م)، الجزء2، الصفحة 659.
[42] الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، المصدر السابق، الصفحة 116.
[43] ابن فهد الحلي، عدة الداعي ونجاح الساعي، تحقيق وتصحيح: أحمد الموحدي القمي، (قم: مكتبة الوجداني)، الصفحة 291.
[44] أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، الجزء 5، الصفحة 64.
[45] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مصدر سابق، الصفحة 397.
[46] سورة الأحزاب، الآية 33.
[47]سورة البقرة، الآية 30.
[48] سورة الواقعة، الآية 60.
[49] سورة المائدة، الآية 21.
[50] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 5 الصفحة 288.
[51] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 14، الصفحة 183.
[52] أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، الجزء 5، الصفحة 64.
[53] سورة الحشر، الآية 23.
[54] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 19، الصفحة 222.
[55] سورة التوية، الآية 36.
[56] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 9، الصفحة 369.
[57] سورة البقرة، الآية 30.
[58] سورة الأعراف، الآية 13.
[59] سورة الأنبياء، الآيتان 26 و27.
[60] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء 8، الصفحة 23.
[61] علي الطبرسي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، تحقيق: مهدي هوشمند، (قم: دار الحديث، الطبعة 1، 1418)، الصفحة 439.
[62] العلّامة الحلّي، الألفين، (الكويت: مكتبة الألفين، 1985م)، الصفحة 346.
[63] أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق: عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، (القاهرة: كتاب الشعب، 1989)، الصفحتان 132و 133.
[64] حيدر الآملي، تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم، تحقيق: محسن الموسوي التبريزي، (قم: مؤسسة فرهنگي ونشر نور على نور، الطبعة 1، 1422)، الصفحة 146.
[65] حيدر الآملي، تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم، مصدر سابق، الصفحة 209.
[66] ابن عربي، الفتوحات المكية، (بيروت: دار صادر، دون تاريخ)، الجز2، الصفحة 295.
[67] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 258.
[68] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[69] عبد المنعم حنفي، معجم مصطلحات الصوفية، (بيروت: دار المسيرة، الطبعة 2، 1987)، الصفحة 250.
[70] سورة القصص، الآية 88.
[71] الإمام الخميني، تعليقات على شرح فصوص الحكم ومصباح الأنس، (تهران: مؤسسة (پاسدار اسلام)، الطبعة1، 1406)، الصفحة 99.
[72] الكليني، الكافي، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 352.
[73] الإمام الخميني، تعليقات على شرح فصوص الحكم ومصباح الأنس، الصفحة 115.
[74] أبو طالب المكي، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، ضبطه وصححه: باسل عيون السود، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة 1، 1417 – 1997 م)، الصفحة 263.
[75] ابن عربي، الفتوحات المكية، (بيروت: دار صادر، دون تاريخ)، الجز1ء، الصفحة 166.
[76] جريدة النهار 18-10- 1983.
[77] الإمام الخميني، صحيفة الإمام، (تهران: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1429 ه)، الجزء 17، الصفحة 56.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الشهيد الحاج قاسم سليمانيعبقرية الشهادةالشهيد الحاج أبو مهدي المهندسجدلية الحياة والموتالموتالشهادةالحياة المقالات المرتبطة
شخصية المرأة بين التأسيس القرآني والواقع الإنساني
الخطاب القرآني تميّز بأنه خطاب لكافة الناس بكل مستوياتهم وأجناسهم، وكان أهم ما صرح به القرآن الكريم أنه كتاب هداية
الفكر العربي الحديث والمعاصر | زكي نجيب محمود ورؤيته الفلسفية (4)
هل صحيح أنّ موضوع الفلسفة هو الإنسان؟ وهل هذا الكلام يقود بشكل تلقائي إلى إلغاء موضوع الفلسفة كما ورد في التعريفات التقليدية؟
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه -2 –
يعتبر أصحاب هذه النظرية أن نطاق هذه الولاية للفقيه يقتصر على الأمور الحسبية. وهي التي تعني حسب الفقه الشيعي الأمور التي لا يرضى الله بإهمالها …