جهاد السّيدة الزّهراء (ع) العقائدي والولائي..
لا شكّ بأنّ مواقف السيدة الزهراء (ع) تنطلق من معتقداتها وهي معتقدات المعصوم والحجة والشاهد والدليل والرقيب على الأمة والعالم. لذا، استنادًا إلى بعض المقاطع من خطبها (ع) سوف نتحدث عن قضيتها المركزية والأمور التي شهدت بها وأشهدت الله عليها. ونظرتها إلى الشهادة لله، ثم نظرتها إلى النبي والشهادة له، والقضية التي تبذل مهجتها في سبيلها المرتبطة بالله والنبي (ص). ومن خلال ذلك سنتعرف على رؤيتها للموضوعات العقائدية ونتعلم منها.
بالتالي ورد في خطبتها (ع) نوعين من الشهادة:
-
الشهادة الأولى للزهراء (ع) في قولها: “أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها”. فالإخلاص هو تفسير كلمة لا إله إلا الله وعمق معناها. وتعني بكلمة (جعل ما في القلب) ما ينبع من هذا الإخلاص لكلمة التوحيد ويتعلق به.
والمعقول هو ما عقلته وتعقَّلته وفكرت به. والفكر أيضًا، هو ما تفكّر به مما قد عقلته من قضايا ومسائل وعبر ومعتقدات وأفكار. وهنا يرد علينا سؤالًا: لماذا ربطت المعقول بالفكر عندما تحدثت عن التوحيد؟
الإخلاص هو تأويل كلمة التوحيد، والموحّد لله عز وجل عقلًا يعرف أنّ الله هو مصدر هذا الوجود وهذه الحياة، بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن. هذه الأخلاقيات والصفات الإلهية مصدرها واحد أحد هو الله عز وجل، هذا ما يسمى بالتوحيد الفكري والعقائدي والعقلي. بينما هنالك توحيد يتعلق بالمشاعر وهو أن تكون مقتنعًا أنّ الله هو كل شيء، وقلبك متعلق بالله فقط الذي هو كل شيء.
مستويات التوحيد.
والتوحيد لدى الناس على مستويات:
-
المستوى الأول منهم: توحيدهم قلبي، بحيث يرتبط قلب بعضهم بأمر آخر أكثر مما يرتبط بالله، فيصبح هنالك فجوة بين ما يقرّون به، وبين ما تتعلق به قلوبهم. ولكن الإخلاص هو أن يكون تمام ما في عقلك وعواطفك ووجدانك وحبك وعشقك خالصًا لله الواحد الأحد. لذا، يجب أن يكون ما في قلبك هو نفسه الذي في عقلك خالصًا لله.
-
والمستوى الثاني منهم: توحيدهم عملي؛ فيكون الإخلاص لله بتوحيد كل سلوكهم وعملهم، ويكون الموت والحياة والعبادة والنسك كلها لله رب العالمين.
الموحّد هو الذي ينسجم تمام الانسجام مع نفسه، وكلّ ما لديه من الله ولله. لذلك هو يرتبط به مثل هذا الارتباط. وينبغي أن يكون العبد خالصًا كله لله، وفانيًا في الله، بل لا يشعر في وجوده إلا بالله. وهذا هو المستوى الذي أرادته السيدة الزهراء (ع) من التوحيد.
-
الشهادة الثانية للزهراء (ع) في قولها: “وأشهد أنّ أبي محمدًا (ص) هو عبده وهو رسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله”. العبد هو الذي ليس من أمره شيء إلا في تبعيّته لله. والإخلاص الكامل والتام بالتوحيد هو تمام العبودية التي تمثّلت بأبيها محمد، الخالص لله والذي هو أيضًا رسوله، فهو عبد أكثر مما يكون رسولًا.
الانتجاب هو الاصطفاء من بين كل العالمين. ومن خصائص النبي (ص) ومميزاته أنّه هو الأكمل، وهو المنتجب قبل أن يختاره الله. من هنا نعرف أنّ قيمة النبي وعظمته ليست من كونه رسول الله فقط، بل إنّ الله اختاره فكان الرجل المختار والمنتجب، وهو سر الخلاص ومفتاح هذا الوجود والعبد المطلق للباري سبحانه وتعالى بعد ذلك أرسله.
انتجاب النبي يكشف لنا عن ضرورة الالتفات في شخصيته (ص) واتباعه إلى نفس مقامه. فقراءة زيارة النبي من بعيد، أو الذهاب إلى قبره والصلاة ركعتين، والتشفّع به يعني تلمّس ما هو عند الله عظيم. وهذا المكان نقصده، لكونه يرمز إلى قيمة عظيمة، ولأنّه يرمز إلى صاحب قيمة عظيمة جعلت من كونه رسولًا عظيمًا، وجعلت من حياته عظيمة لأنّ الله اجتباه واختاره، كما وجعلت من موته موتًا عظيمًا، وجعلت من جثمانه عظيمًا ومقدسًا، ومن قبره أمرًا عظيمًا مقدسًا. لذلك كانت الزهراء (ع) تحب أن تبكي بين يديه.
ينبغي التركيز على البُعد الغيبي في علاقة السيدة الزهراء (ع) العبادية برسول الله محمد، وينبغي أيضًا البحث في كيفية تقوية العقل والقلب والسلوك في العلاقة القائمة على هذه المعنوية العظيمة بالنبي محمد (ص).
وتتابع السيدة الزهراء (ع)، فتقول: “فرأى الأمم فراقًا في أديانها، عُكّفًا على نيرانها، وعابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد ظُلَمها”. توصّف (ع) هنا ما رأى الله الأمم عليه، المتفرقة والبعيدة عن التزاماتها الدينية والتي تعبد النار والأوثان، مع أنّها تعرف حق الله عليها، وأنّه المنعم وأنّه لا إله إلا هو.
أراد الله عز وجل أن يحلّ مشكلة وجودية عظيمة، فكان الحل بمحمد الذي صنع مجتمعًا موحّدًا دينيًّا وعقائديًّا. لذلك كان التركيز على دوره السياسي في هذا الموقع.
وعن القضية التي ترتبط بهذا الأمر وتحركت لها السيدة الزهراء، تقول (ع): “صلّى الله على أبي نبيّه وأمينه عن الوحي، وصفيّه وخيرته من الخلق ورضيّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. قذف أخاه مكدودًا في ذات الله مجتهدًا في أمر الله”. القضية هي ممارسة الدور الرسالي والجهادي كي يثبت معادلة انتصار ما يريده الله، فجعل أخاه عونًا له، وشاهدًا بالحق، أميركم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). أتعب نفسه في ذات الله، ولم يترك زاوية في وجوده بعقله وبيانه وعواطفه ووجدانه وتعبه ونومه وسهره ووجعه وجهاده إلا وكان لله. كان أمير المؤمنين (ع) يبحث عن أفضل ما يمكن أن يكون ليصعّد في دور نور أمر الله في الأرض لتبقى مزدهرة بنور ربها. فأرادت الزهراء (ع) بقولها أن تبرز دور من يلي النبي وهو أمير المؤمنين علي (ع).
نستنتج مما سبق أنّ قضية السيدة الزهراء العقائدية الكبرى هي الولاية. وشهادتها هي شهادة درب الولاية لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع)، الذي رفع شأنكم بالإسلام وأقام عموده. هذه هي القضية التي شهدت لها الزهراء (ع)، وأرادت أن تكون حجة الله على كل الخلائق، والتي ينبغي أن نشهد لها نحن أيضًا، بما لا يقبل الشك أنّ عليًّا هو ولي الله، وهو استمرار ذكر محمد (ص). لذلك قال الإمام العسكري (ع): “نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة حجة الله علينا”، لأنّ أبناء فاطمة الطاهرين المعصومين هم أول من يجب أن يتلقى هذه الحجّة العظيمة.
وفي الفترة التي كانت (ع) فيها مريضة وتبكي النبي، وتتأمل وتتعبّد لله، كُتب مصحف فاطمة، الذي بقي من بعدها، وكان الأئمة (ع) يتناقلونه إمامًا بعد إمام يتعلمون من الأنوار الموجودة فيه.
هذا هو مقام السيدة الزهراء (ع) الذي يمكننا أن نتكلم عنه. ولا شك أنّ هنالك كلامًا كثيرًا قالته، وقلنا إنّه يجب أن نقف عنده، مثل علاقة النور بالفكر، وعلاقة القلب بالموصول من التوحيد وغيرها الكثير من المضامين والعناوين، ولكنها تحتاج إلى جلسات طويلة لشرحها، وتوضيح ماذا تعني بالتفصيل مستويات التوحيد لله عز وجل.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
تسبيح السيدة الزهراءسيدة نساء العالمينالسيدة فاطمةالليالي الفاطميةمصحف فاطمةالسيدة الزهراءالحوراء الإنسية المقالات المرتبطة
مسألة الشر عند الفيلسوف الشيخ مصباح اليزدي
يمثل الشر ظاهرة إنسانية ارتبطت بوجود الإنسان على الأرض منذ بدء الخليقة، وهو من أقدم المباحث التي طرحها الفلاسفة والمفكرين
الإسلام وفلسفة الدين
لطالما كانت تتملك أدبيات المفكرين المسلمين مشاعر الاستثنائية المزهوة بما يحمل الإسلام من أبعاد، ومجالات حيوية استثنائية.
غياب الإلهيات عن الثقافة
لا غنى لنا اليوم عن الاستغراق في تعميق مداركنا البحثية العميقة من أجل إنتاج علوم ومعارف ترشِّد الواقع العملي والمسلك الذهني والثقافي لأجيالنا الحالية.