الفن الإسلامي بين تأصيل المصطلح والبحث عن الهوية

الفن الإسلامي بين تأصيل المصطلح والبحث عن الهوية

يجوز القول: إن مفهوم الفن، يحمل في ذاته قلقًا على مستوى المصطلح والمفهوم على حد سواء، لا سيّما عند مقاربة نظرية الفن الإسلامي بالتحديد، والمُدقّق في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية يلحظ أنها لم تحسم أمرها في تعريف الفن تعريفًا مصطلحيًّا جامعًا مانعًا قاطعًا الطريق على أي تباين في بنائه أو مفهومه أو استخدامه.

 ولعلّ هذا القلق في النظر إلى مفهومية هذا الفن يرجع ربما لصعوبة هذا التعريف وتعقيداته المتداخلة بين المعاني اللغوية والمفاهيم التداولية والدلالات الثقافية، وقد أدّى هذا الأمر إلى أن يكون مفهوم الفن وموضوعه العام إحدى الإشكاليات الفكرية والمعرفية والمصطلحية التي لا تزال قائمة في الثقافة العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة.

يعتبر مفهوم الفن الإسلامي مصطلحًا ومجالًا معرفيًّا حديث النشأة في هذه الثقافة، وربما كان لحداثة الظهور التاريخي هذا الدور الفاعل في ترسيخ الاعتقاد لدى كثير من المشتغلين بأعمال هذا الفن وتاريخه، بوصفه موضوعًا ثانويًّا من موضوعات علم الحضارة والتاريخ والآثار الإسلامية، والسبب الرئيس في ذلك هو النشأة المعرفية الاستشراقية المعاصرة التي أسهمت بشكل أو بآخر بتأسيس مصطلح الفن، وأطلقت تسمية ما يعرف اليوم بعلم الجمال الإسلامي. وقد أدّت المعرفة الاستشراقية إلى جعل أغلب ما يتعلق بالفن الإسلامي من موضوعات، مرتهنًا إلى حد كبير بالصنيع العلمي والفلسفي الغربي لطبيعة هذا العلم وحدوده، الأمر الذي جعل موضوعات الفن الإسلامي ترتكز بشكل أو بآخر على الرؤية الاستشراقية لهذا المجال المعرفي الحديث النشأة.

وبناءً عليه يجوز السؤال:

– هل ثمة إشكالية فكرية قد تثيرها الصناعة الاستشراقية لمفاهيم هذا الفن ومصطلحاته الأساسية؟

– هل عكست هذه الصناعة الاستشراقية حقيقة الفن الإسلامي الذاتية، وحقيقته الإبداعية الأصلية على مستوى الهوية؟ أم أنها قدمت صورة مغايرة لهذا الفن، لا سيّما حين تناولته بلسان غير إسلامي بالكامل، وبلسان غير عربي أحيانًا في التعبير والأسلوب؟

لقد شكّل الفكر الغربي التحدي الحضاري والثقافي الأكبر لدى غالبية الشعوب العربية والإسلامية من خلال هذا القادم الأوروبي، وحركته العلمية التي برزت بشكل واضح في عصر النهضة الأوروبية، فأدّت إلى انبثاق التفكير المنهجي في الموضوعات الفلسفية المتعلقة بالأحاسيس والمدركات الإنسانية، ولكل ما يصدر عنها من أشكال التعبير ومضامينه الإبداعية، وبرز مفهوم الجمال بوصفه معيارًا لفحص الإبداعية الفنية الكامنة في مختلف الموضوعات والمعارف الإنسانية، ويمكن القول: إن تلك الحقبة قد شكّلت رحلة الاستطلاع الفنية، إذا صح التعبير، من خلال ما سمي بالفن الحديث بمختلف اتجاهاته ومجالاته، وظهرت نظريات جديدة للجمال والتقييم الجمالي تتناسب مع المفاهيم الجديدة للفن في محيطه الجديد، ولعل النظريات الجمالية الجديدة هذه كانت تعبّر عن التطور التاريخي لهذا المجال المعرفي الجديد، والتي تشمل الجمال الحسي والعاطفي، والجمال الفكري (التجريدي والوظيفي )، والجمال الروحي، والجمال التشكيلي.

وربما كان مصطلح الفن ومفهومه اللغوي والثقافي الخاص المختلف عن مفاهيم العلم والأدب والصناعة من أكبر التحديات الحضارية والثقافية والعلمية التي واجهها الوعي العربي الإسلامي في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي، والذي عرف بعصر التفاعلات العميقة للثقافة الإسلامية نحو الثقافة الغربية، فقد جرت أعمق التحولات الفكرية واللغوية والمفهومية في بنية الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، ومنها المجتمعات العربية بسبب بعض العوامل الناعمة المتمثلة بالمثاقفة والترجمة، والتي كان لها الدور الفاعل في بلورة وعي إسلامي حديث، فبدا وكأنه في قطيعة ما عن الموروث العربي الإسلامي بكل ما يختزنه من دلالات معرفية أصيلة.

وربما كان الأديب المصري رفاعة رافع الطهطاوي (290ه / 1873 م)، أول من نقل من الثقافة الفرنسية إلى الثقافة العربية الإسلامية فكرة أن “الإفرنج قسموا المعارف البشرية إلى قسمين: علوم وفنون، فالعلم هو الإدراكات المتحققة بطريقة البراهين، وأما الفن فهو معرفة صناعة الشيء على حساب قواعد مخصوصة”[1]. وفي هذا السياق انفتح باب التطورات المفهومية والمصطلحية المتعلقة بوعي الجمال والفن، الحاصلة نسبيًّا في الثقافة العربية والإسلامية والتي صارت تتداول، بشكل شبه اصطلاحي، تركيبات اسمية، وتغييرات لغوية محددة المعنى والدلالة مثل الفنون النفيسة، الفنون الراقية، والفنون الفتانة، وآخرها الفنون الجميلة الذي ربما كان الأديب أحمد فارس الشدياق (1304ه / 1887م) أول من أطلقه[2]. وكانت التحولات الفكرية والثقافية العربية والإسلامية، النظرية والعملية نحو المفاهيم الحضارية الجديدة التي بدأت تنتشر – بشكل متفاوت – في ما بين شرق العالم العربي وغربه، ظاهرة اجتماعية شبه عامة تصدّت النخب الدينية والعلمية والثقافية لمواجهتها معرفيًّا من خلال التأصيل الشرعي، والتوطين الحضاري، فضلًا عن التكييف اللغوي لأغلب الوافدات الحضارية الجديدة من الأشياء والتقنيات والأساليب والمفاهيم الغربية الحديثة على المجتمعات العربية الإسلامية، فكان الشيخ محمد عبده، مثلًا، (المتوفى في 1322ه/1905م ) أول من دعا إلى قبول ما يسمّى “الفنون الجميلة” وإشاعتها في المجتمع، وفي التوطين اللغوي لكثير من ألفاظ تلك الوافدات الحضارية الجديدة، كما كان للأديب توفيق الحكيم (المتوفى في  1407ه / 1987م)، دورًا مماثلًا في تحديد الطبيعة المعرفية لفن المسرح من حيث وضع مصطلحه الجديد في اللغة العربية، ومن حيث ترسيخه في الثقافات العربية الحديثة [3]. أما المقاربات اللغوية الأسلوبية والاصطلاحية المباشرة لهذا الموضوع فتمّت من خلال جهود علماء اللغة العربية ومجامعها العربية الرسمية التي حاولت تكييف كثير من تلك الألفاظ والمصطلحات والمفاهيم الحضارية الغربية الحديثة للسان عربي، كما حاولت تبكير العمل الاصطلاحي في التصدّي لهذه الظاهرة ودراستها في إطار الثقافة اللغوية العربية.

يبدو من خلال هذا العرض أن ثمة جهود علمية مصطلحية قد بُذلت نحو الاهتمام بلغة الفن الإسلامي، وربما نجحت في التوافق على آلية اصطلاحية موحدة، إلا أن هذه الجهود العلمية لم ترق إلى مستوى الجهد المعرفي الذي بذله العلماء المسلمون القدامى في معالجة المصطلح الفني الإسلامي، من خلال كتاباتهم عن الجمال من منظور إسلامي، وعن مختلف أجناس الفن الإسلامي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قدّم الفارابي (المتوفى 339ه/950م) العديد من التعريفات الفنية المتعلقة بالموسيقى والتصوير مثل “الألحان المُلذة؛ وهي التي تكسب النفس لذة وراحة، دون أن يكون لها صنع آخر في النفس، والألحان المتخيلة؛ وهي التي تفيد النفس مع تلك التخيلات، وتوقع فيها أشياء وتصورات، وحالها في ذلك حال التزاويق والتماثيل المحسوسة بالبصر..”[4]، وكذلك فعل ابن سينا (المتوفى 370ه/980م) في تقديماته المصطلحية المتعلقة بما سماه جوامع علم الموسيقى في فصل خاص من كتابه الشفاء، وقد تمثلت هذه الجوامع في شرحه للعديد من الألفاظ والمفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالألحان والأنغام والآلآت الموسيقية مثل: “الأبعاد، والجموع، والإيقاع” وغيرها، وكذلك قدم أبو حيان التوحيدي (المتوفى 414ه/1023م) العديد من الألفاظ المؤسسة للغة فن الخط العربي المعرفية بعنوان: “معاني الخط، التحديق، والتحويق والتخزيق، والتعريق، والتشقيف، والتنسيق، والتوفيق، والتدقيق، والتفريق”[5]، وربما كان ابن مسكويه (المتوفى 421ه/1030م) من أوائل المؤرخين الذين تحدثوا عن التجارب الإبداعية لبعض الفنانين المسلمين في مجال ما أسماه: علم التصاوير الذي كان معروفًا في التراث الفني الإسلامي بمصطلحات أخرى مثل “التزويق أو الزواقة”.

كما قدّم الغزالي (المتوفى 505ه/1111م) تصنيفًا معرفيًّا لفكرة الجمال يقوم على المفاهيم الآتية: “الجمال الحقيقي، والجمال الطبيعي، والجمال الإنساني، وغيرها من المفاهيم المصنفة لأنواع الجمال، منها الجمال الباطني، والجمال الظاهري ومراتب إدراكهما بالبصيرة والبصر”، وفي ذلك دلالة واضحة على خلق نواة تأسيس معرفية اصطلاحية لعلم الجمال الإسلامي.

بالرغم من كل ما تقدم يمكن القول: إن الفن الإسلامي ما زال محكومًا في لغته المعرفية بكثير من المفاهيم والاصطلاحات الأجنبية والغربية، والمعربة الوافدة على ثقافة هذا الفن العلمية والتاريخية، ويدلل من جهة أخرى إلى أن اللغويين والباحثين العرب المحدثين المعاصرين لم يلتفتوا كثيرًا إلى دراسة لغة الفن الإسلامي دراسة علمية واسعة وعميقة يمكن أن تحررها من بعض التغريب، وتبعث فيها حقائق لغوية أصيلة تعيدها إلى الالتصاق بهويتها الحقيقية التي انبثقت منها، وعنيت بها اللغة العربية وما تتمتع به من سعة أفق معرفية بوصفها لغة الله المنفتحة على الواقع، والمتصلة بالغيب في آن، وقد تناول أبو حيان التوحيدي في كتابه المقابسات أغراض الفن وعلاقته بالهدف الأسمى ألا وهو الألوهية، إذ قال: “..إن الأشكال والحدود من الأقوال والأغراض منفية في ساحة الألوهية، لكنها محرّكة للنفوس تحريكًا، وكلمات مقربة من الحق تقريبًا، تبلغ بالسامع إلى ما وراء ذلك تبليغًا، وكلما كانت هذه الرسوم أتم وأحسن، والكلمات أبهى وأبين كان التحريك ألطف، والإدراك أشرف، ولهذا ما يضرب عن بيان إلا بيان، ويؤثر من كلام إلا كلام”[6]. وفي السياق نفسه، وفي مكان آخر يكمل “…وأنا أعوذ بالله من كل صناعة لا تحقق التوحيد، ولا تدل على الواحد ولا تدعو إلى عبادته والاعتراف بوحدانيته، والقيام بحقوقه والمصير إلى كنفه، والصبر على قضائه والتسليم لأمره”[7].

ولعل المغزى الحقيقي للفن وبؤرته الدلالية الإبداعية إنما تكمن في هذا الارتباط الوثيق بين هدفية الخلق المتمثلة بوحدة القيم الكلية للهوية الإسلامية من خلال إبراز صور الحق والخير والجمال في ثنايا الحياة والإنسان والمجتمع، من هنا تبرز بوضوح دعوة الإمام الخامنئي في عصرنا الراهن إلى ضرورة إعطاء الفن بالغ الأهمية ليكون اتجاهه كغيره من الوسائل التي تستبطن الفكر بشكل عميق وصحيح من خلال ربط الإبداع الفني بالقيم التوحيدية، – تمامًا كما أشار لذلك أبو حيان التوحيدي منذ زمن قديم – لا بل يعتبر الإمام الخامنئي أن أي عمل فني لا يرتبط بقيم التوحيد “فإنه يتجه اتجاهًا خاطئًا يفقد معه هويته الإسلامية”[8]. وفي السياق نفسه يصف القرآن الكريم “بالخميرة الفنية المدهشة الزاخرة بالتوحيد”، ولعله بهذا التوصيف يعيدنا إلى منجزات عبد القاهر الجرجاني في القرن الرابع الهجري حين نهل من القرآن الكريم، أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، والتي شكّلت نواة تأسيسية لما عرف فيما بعد بالشعرية الحديثة، وهي دعوة مفتوحة على الحاضر أيضًا، تهدف إلى التحرّي عن الهوية الإسلامية واستثمار الأدوات الفنية كافة، بهدف خلق عمل إبداعي في مختلف المجالات الفنية يحفظ الهوية، ويحافظ على القيم الإسلامية دون تردد، وذلك من خلال التمعن بالهدف السامي للفنون التي تخدم الإنسان بوصفه خليفة الله على الأرض، “فأرضنا، والكلام للإمام الحامنئي، هي أرض الفن، لكننا لم نحصل على هذا السلاح”[9].

أسمح لنفسي أن أستعير العبارة مجدّدًا لأقول: إننا نمتلك بدورنا أرضًا خصبة فيها الكثير من المسكوت عنه، لكننا ربما لم نمتلك بعد الجرأة للبوح عن ذاك المسكوت، أما  الفن الإسلامي فهو مجال معرفي موغل في القدم، يكتنز الكثير من الإبداعات والابتكارات التي تحتاج إلى مزيد من الجهد لكشف جماليتها، وهي تنظر بشوق إلى من يحمل محراثه الثقافي والإبداعي ليزيد المشهد جمالية فتبرز الهوية الإسلامية بأبهى حللها. 

 

[1]  رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تخليص باريز، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993)،الجزء 2، الصفحة 266.

[2]  شربل داغر، قواميس الفن ومقارباته، (مجلة الصورة الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، العدد 1، 2004م)، الصفحة 83.

[3]  توفيق الحكيم، قالبنا المسرحي، (القاهرة: دار مصر للطباعة، الطبعة 1، 1967م)، الصفحة 12.

[4]  الفارابي، كتاب الموسيقى الكبير، تحقيق: غطاس عبد الملك خشبة، (القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، الطبعة 1، 1967)، الجزء 5، الصفحة 179.

[5]  أبو حيان التوحيدي، رسالة في علم الكتابة، تحقيق: إبراهيم الكيلاني، (دمشق: المعهد الفرنسي، 1951)، الصفحة  32.

[6]  أبو حيان التوحيدي، المقابسات، الصفحة 140.

[7]  أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، الجزء1، الصفحة 144.

[8]  الإمام الخامنئي، قوالب وأدوات العمل الثقافي- الحواضن والبيئات الخاصة للثقافة، ترجمة: عباس نور الدين، (بيروت: دار المعارف الحكمية، الطبعة 1، 2017)، الصفحة 73.

[9]  المصدر نفسه، الصفحة 73.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الفنالفن الإسلامي

المقالات المرتبطة

التصوير الرمزيّ والتصوير الشاعريّ في”الإشارات الإلهيّة” و”منطق الطير”

ما هي سمات التصوير الرمزي/الشاعري في”الإشارات الإلهية”و”منطق الطير”؟ وهل تتقاطع هذه السمات أم تتساند فيما بينها؟ وبماذا يتميز التصوير الرمزي في”الإشارات الإلهية”عن التصوير الرمزي في”منطق الطير”؟

كربلاء قراءة جديدة

استشهد الرمز الديني الأعظم في الأمة الإسلامية عام 61 للهجرة، في ظروف خاصة تجعل من الحادثة حالة استثنائية،

السيادة والتسيّد وإشكاليات التغيير

كثيرًا ما يتم تداول كلمة السيادة والتي تعني مبدأ القوة المطلقة غير المقيدة وهذه لا تكون إلا لله كونها مطلقة بلا قيد. وفي أبجديات الفكر الشيعي تطرح على مستوى المرأة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<