الممارسات المموسقة عند الشيعة في لبنان المعاصر: تمظْهرٌ ثقافيّ، أم متطلباتُ مرحلة؟
﴿إنما يستجيب الذين يسمعون﴾[1]
يشكّل هذا المقال مقاربةً توصيفيّةً ونقديّةً تحليليّةً مقتضبةً لِواقع أحدِ أهمّ الفنون الإنسانيّة الأساسيّة وأكثرِها جاذبيّة، لارتباطه بِمملكة الاستماع في جنّة الفطرة الجماليّة في وجود الإنسان، ألا وهو، فنّ الموسيقى والتّرنيم، (وأعني بالتّرنيم كلَّ المِراسات المموسقة المعتمدة على الحنجرة البشريّة كآلةٍ موسيقيٍة، ومِثالُهُ: الأداءُ الترنيميّ القرآنيّ وكلّ الأداءات الصوتیّة العزائيّة الحسينيّة وأمثالها، بالإضافة إلى الترنيم في الأدعية والزّيارات والأذان وما شابه، فكلّ ذلك يندرج علميًّا تحت جناح علم الموسيقى)، وذلك ضمن البيئة الاجتماعيّة للمسلمين الشيعة في لبنان، وعلى امتداد العقود الخمسة الأخيرة، من خلال دراسة وتحليل واقع الممارسات المموسقة فيها على مستوى: 1-المُنتِج، 2-المُنتَج، 3-المتلقّي[2]، في محاولةٍ لتوصيف تلك الممارسات المختلفة لِجهة الأصالة والهويّة، وكذلك على مستوى المؤثّريّة وآفاق التّطور والإبداع.
يكتسب هذا المقال ميزةً خاصّةً من كونه نابعًا من توأمةٍ لِتجربتين شخصيّتين لي عميقتين على المستوى البحثيّ والتّنظيريّ الموسيقيّ من جهة، ومن جهة أخرى، على مستوى مشاركتي في العمليّة الإنتاجيّة الموسيقية ومواكبة كلّ حيثيّاتها وظروفها المعقّدة لأكثر من 30 عامًا وحتى يومنا هذا. وأفترض أنّ أيّة ظاهرةٍ فنيّةٍ أصيلةٍ يجب أن يتألف مسارُها من ثلاث مفصلاتٍ أساسيّةٍ:
- المنطلق الفكريّ والثقافيّ، والذي تشكّل التربية الفنيّة والتثقيف الفنّيّ أهمَّ تمظهراته (منتِج).
- التّخصّص الأكاديميّ الفنّيّ (مُنتِج).
- ولادةُ المُنتَج الفنّيّ (مُنتَج).
كما يمكن إضافة مفصلةٍ رابعةٍ تشكّل ربطًا للثالثة بالأولى، فَتُحيل بذلك المسار إلى دوريّةٍ دائمةِ التّجدّد والتطوّر، عنيتُ بها السياسة الإعلاميّة والترويجيّة الصحيحة لذلك المنتَج الفنيّ (متلقّي).
المُنطلق الفكريّ الثقافيّ الفنّيّ.
يُعدّ وجودُ فلسفةٍ فنيّةٍ واضحةٍ من المُحدِّدات الأساسيّة لِتوصيفاتٍ جوهريّةٍ في العمل الفنّيّ، كالأصالةِ والحقّانيّةِ، فلا يمكن أن نتحدّث أساسًا عن موسيقى ذاتِ “أصالةٍ إسلاميّةٍ”، أو “هويّةٍ إسلاميّةٍ” مثلًا، ما لم تكن هناك فلسفةٌ للموسيقى منبثقةٌ من الرؤيةِ الإسلاميّة الأصيلة للوجود وللأهميّةِ الاستراتيجيّةِ للممارسات الفنيّة الإنسانيّة فيها. ثم تأتي بعد ذلك مهمةُ الإدارة الثقافيّة الصحيحة للحراك الفنيّ -الموسيقيّ هنا- من خلال خططٍ وبرامجَ موجهةٍ لكلّ المجتمع على اختلاف فِئاتِه، آخذةً أشكالًا تثقيفيّةً حيويّةً وممنهجةً، أهمها المناهج التربويّة الفنيّة الأصيلة.
وعليه، تعالوا نسأل أولًا: هل وجدنا يومًا لدى الشيعة في لبنان أيَّ أثرٍ لِرؤيةٍ إسلاميّةٍ شاملةٍ حول الفنّ الإسلاميّ، فضلًا عن رؤيةٍ حول الموسيقى الإسلاميّة؟ ثمّ هل يستطيع أحدٌ أن يُخبرنا عن وجودٍ ما لآليّاتٍ وبرامجَ للتثقيف الفنّي أو الموسيقيّ سواءًا ضمن المناهج التربويّة المدرسيّة، أو المؤسّسات الأخرى ذات الصّلة؟
لن يكلّفنا الأمر أيَّ عناءٍ في البحث كي نصل إلى إجاباتٍ حاسمةٍ، فلا رؤيةً ثقافيّةً فنيّةً، ولا برامجَ تثقيفيّةً (فنيّةً-موسيقيّةً) أصيلةً لدى المُتصدّين للشأن الثقافيّ- الدّينيّ لِهذه البيئة الاجتماعيّة في لبنان. وما زالت الأحكام الفقهيّة في باب “المكاسب المُحرّمة” هي الإطار الوحيد الذي يتحرّك الأغلب الأعمّ منهم ضمنه. يقول السيّد موسى الصّدر: “الموسيقى هربتْ من جَوْرِ أولياءِ الدّين، والتَجَأتْ إلى عباءة الإمام الحسين(ع)”[3]. هذه العبارة بالإضافة إلى تأكيدها على عمق نظرةِ واطّلاعِ السيد الصدر الثقافيّة الفنيّة من خلال تأكيده على موسيقية جميع الممارسات الترنيميّة في الشّعائر الحسينيّة –كما ذكرنا في المقدّمة- فإنّها كذلك تشير إلى مدى الإهمال الكبير (الجَوْر) من قِبل المؤسّسات الثقافيّة الدّينيّة لِمسألة احترام أهميّة فنّ الموسيقى وموقعيته في الحياة الإنسانيّة وفي العملية التبليغيّة أيضًا. بل إنّ الباحث ليستطيع أن يلاحظ بوضوحٍ عدم وجود أيّ مناخٍ لدى هؤلاء يعتبرُ مثلَ هذا التوجّه الثقافيّ الفنّيّ كأولويّةٍ أصلًا، ما دفع بالكثيرين منهم حتى “للتغطية” على الرؤيّة الثقافيّة الفنيّة المتقدّمة لقائد هذه الأمّة، الإمام الخامنئيّ، بدلًا من الاستفادة منها كأساسٍ مرجعيّ ثقافيّ، وهو القائل: “إذا أراد فقيهٌ كبيرٌ أن يُدلي بِرأيه في مسائل الفنون، عليه أن يكون عارفًا بِمقولة الفنّ، وإن لم تكن له معرفةٌ بِهذه المقولة وكان جاهلًا بها وبحدودها وقيودها وتعاريفها فمن المُستبعد أن يتمكّن من إصدار حكمٍ صحيحٍ في هذا المجال، ذلك فإنّ معرفة الموضوع هي من شروط الاستنباط الصحيح للحُكم”[4].
أمّا على صعيد المناهج التربويّة الفنيّة -وبالتّحديد الموسيقيّة- فالّلافت أنّ أكثر المؤسسات التربويّة التصاقًا بِخطّ الإمام الخامنئيّ السياسيّ والعقائديّ ما زالت الأكثر تشدّدًا في استبعاد مادة التربية الموسيقيّة عن مناهجها، بالرغم من وجود فتاوى فقهية للقائد تجيز لهم اعتمادها، والأهمّ هو حرصُه الحثيث على إيلاء هذه الفنون الاهتمام الأقصى واعتبارها أهمَّ الوسائل التبليغيّة للمشروع الإلهيّ، وحثّه على تأمين العناصر اللازمة وإعداد الكوادر.
ومن الجدير ذكرُه كذلك، أنّ عدم وجود أيّ فلسفةٍ موسيقيّةٍ أصيلةٍ ومعاصرةٍ لن يسمح -بطبيعة الحال- بإيجاد معايير واضحةٍ لِتقييم المُنتَج الموسيقيّ وتقويمه، فضلًا عن تطويره إنْ وُجدتْ النّيّة لذلك. وهكذا طغتْ أحكام الأذواق الشخصيّة والاستنسابات المزاجيّة الفرديّة على عمل أيّ جهةٍ رقابيّةٍ متصلةٍ بالمؤسسة الدينيّة، أو ما يدور في فلكها.
هذا الارتباك الفكريّ اتجاه مسألة الفنون والموسيقى بلغ حدًّا جعل الاستفادة من الموروث الفنّيّ المموسق الشعبيّ المحلّيّ في لبنان أمرًا غير مرحبٍ به غالبًا، وبذلك فقدَ المراسُ الموسيقيّ الترنيميّ أيّةٍ فرصةٍ للحصول على هويّةٍ ثقافيّةٍ واضحةٍ: لا إسلاميًّا ولا حتى فولكلوريًّا لبنانيًّا، وأبرز مثالٍ على هذا الارتباك الثقافيّ هو طغيان استخدام اللهجة العراقيّة في كلّ الممارسات المموسقة الترنيميّة المرتبطة بالشّعائر الحسينيّة لدى المرنّمين اللبنانييّن من عزاءٍ حسينيّ، ولطميّات، وغير ذلك، بل وحتى في كلّ ما يتعلق بإحياء مناسبات أهل البيت (ع) حزنًا كان أم فرَحًا.
ولنا أن نتساءل طبعًا بعد كلّ هذا، كيف يمكن انبثاق أيّ منتَجٍ موسيقيٍّ-ترنيميٍّ أصيلٍ دون وجود منصّةٍ ثقافيّةٍ واضحةٍ وأصيلة؟ وما هو شكل هويّته؟
التخصّص الأكاديميّ الموسيقيّ.
يقول الإمام الخامنائي، صاحب الرؤية الإسلاميّة الحضاريّة المعاصرة والشاملة: “وفي العمل الفنّي لا تكفي الموهبة وحدها في صنع الإطار الجميل، بل التعليم ضروريٌّ أيضًا، وعلى الفنّانين الذين يجدون في أنفسهم قدرةً على تعليم الأصول الفنّيّة أن يبادروا لِمساعدة الشباب”[5]. إنّ مثل هذه التوجيهات الولائيّة في مجال الفنّ تُعتبر للوهلة الأولى أمرًا بديهيًا لجهة الانسجام مع أهميّة تحصيل الجانب الأكاديميّ التخصّصيّ لكلّ الفنون، سعيًا لِتوليد مُنتَجٍ موسيقيٍّ على مستوىً عالٍ من الجودة في الشّكل، يليق بِحمْلِ المضامين الأسمى والرسالات الأرقى للمحتوى الفكريّ إلى كلّ المخاطبين على اختلاف معتقداتهم وآرائهم. وعلى الرغم من ذلك ومن كونها -هذه التوجيهات- مُنبثقةً من رؤيةٍ ثقافيّةٍ إسلاميّةٍ واضحةٍ، وفكرٍ أصيلٍ متينٍ لدى السيّد القائد، إلا أنّها قد تبدو غريبةً -وحتى صادمةً- للكثيرين ممن يُعنَوْن بإدارة الشأن الثقافيّ والفنّيّ في السّاحة الشيعيّة المتديّنة في لبنان. فلا يمكن أن نتوقع -والحال هذه- وجود منظومةٍ تعليميّةٍ-أكاديميّةٍ فنيّةٍ تابعةٍ لهذه البيئة حتى اليوم، ولا مناهج تعليميّةٍ تخصّصيّةٍ أصيلةٍ كذلك، ولا مناخٍ ثقافيّ عامّ يحتضن ويشجّع الجهود المستقلّة التي يقوم بها بعض الأفراد والجهات في هذا الاتجاه. وهذا ما يفسّر النّدرةَ في وجود الفنّانين المتديّنين المتخصّصين أكاديميًّا في المجال الموسيقيّ والتّرنيميّ على حدٍّ سواء[6]. وعندما كانت تدعو الحاجة لوجود المتخصّصين الفنّيّين عمومًا –والموسيقيّين خصوصًا- كان يتمّ الاستعانة بهؤلاء من خارج مساحة الإطار الفكريّ لهذه البيئة، ما يجعل الأمر دائمًا ينطوي على مخاطر ثقافيّةٍ حقيقيّةٍ تجلّتْ مصاديقُها في الكثير من المواقف والأعمال الفنيّة للأسف.
لا بدّ لأيّ مجتمعٍ مِن إعداد كوادره الفنّيّة بِنفسه إذًا، وأيّ تقصيرٍ في هذا الواجب الثقافيّ سيشكّل أحد أهمّ عوامل تخلّف الفنّ داخل أيّ جماعة، وهذا ما حصل، وما يزال يجري عندنا. يقول القائد في 1979: “يجب القول بأنّنا قصّرنا كثيرًا في العمل قبل الثورة فيما يرتبط بمجال الفنّ والأدب على صعيد إعداد الكوادر الكفوءة، وهذا ما يجب تلافيه الآن”[7]. وللقيام بهذا الواجب، لا بدّ من العمل على إيجاد بيئةٍ ثقافيّةٍ وفنيّةٍ سليمةٍ تساعد على تشكيل الوعي الموسيقيّ وتنشيط الذّكاءات الموسيقيّة المتعدّدة واكتشاف الميول والمواهب منذ مراحل الطفولة الأولى، فالتّاريخ يؤكّد أنّ أكثر المبدعين في العالم قد تهيّأت لهم مثل هذه البيئة والإعداد منذ الصّغر. فالأمر لا يكون بنفس السّهولة في المراحل العمرية المتقدّمة أبدًا[8]. وهذا ما يفتح باب الكلام عن واقع التربية الموسيقيّة في بيئتنا، والذي بِدوره -وبحسب دراسة ميدانيّة أجراها مركز أطوار للأبحاث والدراسات الموسيقيّة على حوالي 105 مدرسة ضمن منطقة الضاحية الجنوبيّة لبيروت عام 2014 – وللأسف أيضًا، يكشف مدى التقصير والتّخلف في هذه المسألة البالغة الأهميّة على مستوى بناء الثّقافة الفنيّة والفلسفة الموسيقيّة الأصيلة، وكذلك على مستوى العمل لكشف المواهب وإعداد الكوادر، وكلّ الأعذار التي كانت وما زالت تُطرح لِتبرير هذا التقصير والتّخلف واهيةٌ وغيرُ مسؤولة.
المُنتَـج الموسيقي الترنيمي.
من المعروف أنّه ما لم يتمّ تحضير وجبةٍ غذائيّةٍ للجسم على أساسٍ ثقافيٍّ منسجمٍ من الرؤية الفكريّة التي نحملها من خلال مراعاة جملةٍ من الآداب والمستحبّات مثلًا، وفهم الرؤيّة الدينيّة لفلسفة الأكل وموقعيّته في الحياة وما شابه، وما لم يقُم بإعدادها طبّاخٌ متخصّصٌ وفي نفس الوقت يكون متصلاً بتلك الثقافة، بحيث يعيشها في كلّ تفاصيل عمله، فسنكون أمام “سندويش” من نوع الوجبات السريعة، لا يهتمّ الكثيرون من الناس لكلّ تفاصيل إعداده ولا مواصفاته الصحيّة والغذائيّة، لأنّهم لا يرون فيه إلا وسيلةً سريعةً، “سهلةً”، واستهلاكيّة لِسدّ الجوع!! نعم، هذا واقع المنتَج الموسيقيّ والترنيميّ عندما تُهمِل أيّةُ جماعةٍ المقدّمتين السابقتين: الفكر والتخصّص، ونصبح حقيقةً أمام منتَجٍ موسيقيٍّ استهلاكيٍّ لِسدّ حاجةٍ ظرفيّةٍ (مناسبات دينيّة، احتفال سياسيّ، إلخ…) يكون بِلا هويّةٍ ولا أصالةٍ، التقاطيًّا هجينًا، منمّطًا وهابطًا على مستوى الشكل. هذا هو حال النّسبة الغالبة من الأعمال المموسقة التي أفرزتْها هذه الساحة طيلة تلك العقود الأخيرة!!
أمّا علاقة وسائل الإعلام بالمنتَج الفنّي فمن المفترض أن تكون علاقةَ ارتباطٍ عضويٍّ، لأنّ جوهر الخطاب المطروح من قِبل أيّ وسيلةٍ إعلاميّةٍ يجب أن يرتكز على الفنّ بكلّ تجلّياته ليكون جذّابًا، ولأنّ المُنتَج الفنيّ (الموسيقيّ) الحامل لكلّ المفاهيم الدينيّة الحقّة يحتاج إلى تلك الوسيلة الإعلاميّة (قبل الواقع المستجدّ لحضور المنصّات الترويجيّة المختلفة على شبكة الإنترنت) للوصول للنّاس كي يحقّق هدفه التأثيريّ التبليغيّ. وهذا الأمر يتطلّب هيمنةَ الرؤيةِ الثقافيّةِ نفسِها على الجهتين (المنتج الفنيّ والوسيلة الإعلاميّة)، ولما كانت تلك الرؤية شبه منعدمة، زادت المشكلة هنا، واتّسم أداءُ وسائل الإعلام التّابعة لهذه البيئة في أغلب الأحيان بالاستنسابيّة الفرديّة للأعمال، وصولًا لفرض معايير ذوقيّةٍ خاصّةٍ للمُنتَج الموسيقيّ من قِبل القيّمين –غير المتخصّصين- على تلك المؤسسات الإعلاميّة، ودائمًا في سياق المسار الاستهلاكي السّريع لهذا المنتَج الموسيقي، وفي ظل عمل رقابيٍّ ثقافيّ شبه غائب. أيّة ثقافةٍ فنيّةٍ تربّى عليها الجمهورُ المُتابعُ لهذه المؤسّسات في تلك الحالة؟!!
وحين استفحل الأمر وانكشف التخلّف الفنّيّ الكبير لتلك الأعمال المموسقة –حتى على مستوى النّص الكلاميّ المرافق في معظم الأحيان- دقّ المعنيّون متأخّرين ناقوس الخطر، ولكن من دون أيّة خطّةٍ إصلاحيّةٍ تقوم على أساس تعويض التقصير الحاصل على مستوى المقدّمات، بل قاموا بِخطواتٍ إجرائيّة “لِضبط المنتَج”، وأيضًا بِدون أيّة معايير واضحةٍ ومحددةٍ لعملية الضّبط هذه!! وكيف سيستقيم الضّبط والتقويم من دون أساسٍ معرفيٍّ وتخصّصيٍّ أيضًا!! عُدنا للمربّع الأول مُجدّدًا.
نعم، إنّ المنتَج الموسيقيّ حاجة، ولكنّه حاجةٌ على المستوى الثقافيّ، لا الاستهلاكيّ المُناسباتيّ. هو سلاحٌ يستخدمه الفنّانون الولائيّون على الخطّ الأماميّ في الجبهة الثقافيّة الملتحمة مع المشاريع الفنّيّة الموسيقيّة لِأعداء الدّين –شياطين الجنّ والإنس- فيبلّغون من خلاله رسالات ربهم ومعارف دينهم من دون ضرورة استخدام المفردات الدينيّة دائمًا. هؤلاء الفنّانون المجاهدون الذين ما حصلوا يومًا على حقهم من التقدير والاحتضان والتّوجیه والدّعم المعنويّ بالشكل اللازم. بل على العكس تمامًا، كانوا عند كلّ “إخفاقٍ” يتحوّلون إلى كبش فداءٍ لكلّ المقصّرين في إدارة هذا الملفّ الفنّيّ الحسّاس بالشّكل الصحيح على كافّة الأصعدة.
خلاصة
يقول الإمام الخامنائي: “إذا كانت الموسيقى من أجل هدفٍ سامٍ، يمكن حينها أن نُطلق عليها الموسيقى المقدّسة”[9]. وأيّ هدفٍ هو أسمى من نشر معارف دين الله والفضائل والِقيم الإنسانية وتزكية النّفس؟ لا تحظى أيّةُ موسيقى على وجه الأرض بِفرصة القداسة كالموسيقى الإسلاميّة. وأوّل الشّرائط المطلوبة لتحقيق ذلك هو الإيمان بها كظاهرةٍ ثقافيّةٍ إنسانيّةٍ راقية، ثمّ إيلاء الشأن التربويّ الموسيقيّ والتخصصيّ الأكاديميّ ما يستحقه من اهتمام، وكذلك رعاية المواهب منذ الصّغر وتحضير الكوادر وتوجيههم وتقديرهم. وأخيرًا الاهتمام بإيجاد سياسةٍ إنتاجيّةٍ وترويجيّةٍ موسيقيّةٍ مدروسةٍ ومسؤولةٍ، تأخذ بعين الاعتبار جميعَ التّحدّيات الثقافيّة وِفقَ مُقتضيات الزّمان والتّحولات الكبرى في المشهد الإنسانيّ العام.
[1] سورة الأنعام، الآية 36.
[2] في نظرية الرموزية المثلثة المستويات لـ “جان مولينو”، و “جان جاك ناتييه”.
[3] من مقابلة مع ابن اخته الدكتور صادق طباطبائي، موقع السيد الصدر.
[4] من كلمة الإمام الخامنئي في لقائه أعضاء اللجنة العلمية للمؤتمر الوطني “فقه الفن” في 11-1-2016.
[5] من رسالة له للمؤتمر الرابع للأدب والفن والشعر في 16-5-1985.
[6] على امتداد حوالي 5 عقود لم يتجاوز عدد المحصّلين الأكاديميين الملتزمين الذين يتصدون للعمل الموسيقي في البيئة المتدينة الشيعية في لبنان عدد أصابع اليد الواحدة بحسب اطلاعنا.
[7] كلمته في 16-12-1979.
[8] بعض المؤسسات الدينية المعنية بالقرآن الكريم والترنيم العزائي الحسيني تحاول إقامة دورات، أو ورش عمل لتطوير أداء القرّاء، إلا أنّ ذلك لم يجدِ نفعًا على مدى تلك العقود بسبب كل ما ذكرناه: عدم وجود البيئة، عدم التـأسيس الثقافي، عدم وجود منهجية تعليمية علمية، عدم وجود المدرّس الكفوء،…
[9] كلمته في جمع من أهل الموسيقى أثناء زيارته لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون 9/5/1375.
المقالات المرتبطة
حوار منطقي بين سقراط وأرسطو
كيف يمكن تطبيق الاستقراء في حياتنا اليومية؟
هل تخبر الجمهور يا أرسطو عن حجية الاستلال في القياس والاستقراء والتمثيل؟
مصطفى النشار: العرب وفلسفة المستقبل
منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا كان الخطاب الإلهي إلى الإنسان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
المشروع الفكري عند طه حسين
لم يكن طه حسين مجرد أديب له أسلوبه الخاص..ولكن كان له مشروع مصري عربي ثقافي تنويري يمكن البناء عليه. وهنا تحدّث عن شقين من هذا المشروع.