الشيعة في العقل الاستراتيجيّ الأمريكيّ
بدأ العقل الأمريكي التفكير بالإسلام عمليًّا بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، حيث شكّلت أزمة السويس، وما تلاها من إحداث مقدمة لخروج فرنسا وبريطانيا عن قيادة العالم الغربي، وأفسحت المجال للولايات المتحدة لتحلّ مكانهما كقوة بديلة، فكان هذا الحدث ومفاعيله مُحفّزًا لبدء مرحلة جديدة من الدراسات المتعلقة بالعالم الإسلاميّ، وقد بدأت إرهاصات هذا الاهتمام في عام 1952م، حين خصَّصت الولايات المتحدة مبالغ كبيرة من المال لتشجيع الجامعات على افتتاح أقسام الدراسات العربية الإسلامية، وهذا ما أدّى إلى انتشار مئات مراكز الدراسات العربية الإسلامية وأقسام الشرق الأوسط في الجامعات والمعاهد العلمية الأمريكية، وعملت أمريكا من أجل إعداد كوادرها الفكرية القادرة على الإنتاج المعرفيّ فيما يتعلق بالشرق الأوسط على جذب الكفاءات العلمية في مجال الدراسات الإسلامية، فاستقدمت المستشرقين من أهمِّ الدول المتقدّمة علميًّا وأكاديميًّا في هذا المجال؛ كألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا.. فاستقدمت النمساوي غوستاف غرونباوم[1]، والإنكليزي برنارد لويس[2]، وفيليب حتي[3] للعمل في الجامعات الأمريكية. وعلى الرغم من الحضور الأكاديمي في الجامعات إلا أنّ الدراسات الشرق أوسطية لم تمِل باتجاه النظري والتاريخي واللغوي كما في الاستشراق التقليدي، إنّما ركّزت على الإسلام المعاصر، وجعلت علم الاجتماع أصلًا لرؤيتها. فالعقل النفعي الأمريكي بني على الواقع، وسعى إلى بلورة صورة حقيقية، يستطيع التعامل معها، لأنّها تعكس الواقع.
وهناك ظاهرة ثانية لا بدّ من الإشارة إليها بشكل سريع – وسنعود إليها في ملف خاص- إلا أنّ هذه الدراسات، لجأت إلى عملية إدماجية، عملت على إشراك المثقفين في العالم الإسلامي بقراءة مجتمعاتهم وتقديم تقرير حولها، وذهبت أبعد من ذلك بتمويل مؤسسات ثقافية، تستطيع أن ترصد الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية من جهة، وتؤثر في المجتمعات التي ينتمون إليها من جهة أخرى. وهكذا كانت الدراسات حول الإسلام في أمريكا لا تنفك عن الهدف السياسي لديها.
ولما كانت هذه الدراسات تنطلق من مفهوم المنفعة، بدأت الولايات المتحدة تعمل انطلاقًا من المصالح العليا للدولة، لذلك قيّد الباحثون أبحاثهم بالأغلبية المسلمة؛ أي المسلمين السنة، ومعظم النقاشات- حتى في الخطب الأكاديمية – ركّزت على التجربة السنية باعتبارها هي الأصل، والتشيع فرقة هامشية في الإسلام، لا تحتاج إلى عناء الرصد والبحث، ويرى مايكل روبن[4] أنه عندما انكب الباحثون الغربيّون على دراسة الإسلام قبل عقود، أجبرتهم الجغرافيا بدايةً على اجتياز المناطق السنّية القابعة تحت سيطرة الإمبراطوريّة العثمانيّة، وتبنوا مقولاتها عن أصل الإسلام ومرجعيته، وهذا الأمر أُرفِق بأسطورة أخرى تتمثل باعتبار السنة هم الأغلبيّة الواضحة في العالم الإسلاميّ، أي ما نسبته 85 إلى 90 % من مسلمي العالم، مع العلم أنّ تلك النسب قد تكون زائفة، حيث نلحظ هناك شبه تكافؤ بينهما.
[1] غوستاف غرونباوم (1909- 1972) نمساوي الأصل، تخرج من جامعتي فيينا وبرلين. وعين أستاذًا مساعدًا للدراسات العربية والإسلامية في جامعة نيويورك (1938ـ 42) وفي جامعة شيكاغو (1943 ـ 49) وأستاذًا فيها (1949 ـ 57)، وقد مثّلها في مؤتمر جامعة بوردو الذي اشتركت معها في الدعوة إليه (29 حزيران/ يونيو 1956) وأستاذًا لتاريخ الشرق الأدنى في جامعة كاليفورنيا (1957)، ثم رئيسًا لقسم دراسات الشرق الأدنى فيها.
[2] برنارد لويس (1916 – 2018) من مواليد لندن ببريطانيا. هو أستاذ فخري بريطاني– أمريكي لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون، وتخصص في تاريخ الإسلام والتفاعل بين الإسلام والغرب وتشتهر خصوصًا أعماله حول تاريخ الدولة العثمانية. لويس هو أحد أهم علماء الشرق الأوسط الغربيين التي طالما ما سعى صناع السياسة من المحافظين الجدد مثل إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى الحصول على استشارتهم.
[3] فيليب خوري حتي (1886-1978) مؤرخ العرب والحضارة الإسلامية اللبناني. ولد في بلدة شملان، تابع دراسته في لبنان، ثم التحق بجامعة كولومبيا في أمريكا، وحصل منها على درجة الدكتوراه سنة (1915)، وتقديرًا لنبوغه عينته الجامعة مدرّسًا في قسم الدراسات الشرقية، وظل يعمل بها أربع سنوات، وعمل أستاذًا زائرًا في جامعة هارفرد. كتب دراسات حول تاريخ لبنان وسوريا والعرب بالإضافة إلى العقيدة الإسلامية، كان كتابه مختصر تاريخ العرب دليلًا للقوات الأمريكية التي استقرت في الكويت عام 1958.
[4] مايكل روبن (1971م) هو باحث مقيم في معهد أمريكان إنتربرايز، ومحاضر كبير في كلية الدراسات العليا البحرية. كان يعمل سابقًا بمنصب مسؤول في وزارة الدفاع، حيث تعامل مع قضايا الشرق الأوسط، يهتم بشكل أساسي بإيران. بين عامي 2004 و 2009، كان رئيس تحرير الشرق الأوسط الفصلي. وقد حصل على زمالات من مجلس العلاقات الخارجية، ومجلس كارنيجي للأخلاقيات في الشؤون الدولية. وقد حاضر روبن في التاريخ في جامعة ييل، الجامعة العبرية، جامعة جونز هوبكنز، وعمل محاضرًا زائرًا في كل من جامعة السليمانية وصلاح الدين ودهوك في إقليم كردستان العراق. بين عامي 2002 و 2004 عمل مديرًا في مكتب وزير الدفاع لبلاد إيران والعراق، الذي كان معارًا إلى سلطة التحالف المؤقتة في العراق. يعلّم روبن حاليًّا كبار الأفراد في الجيش الأميركي، ومشاة البحرية الأمريكية، والقيادة البحرية الأمريكية قبل نشرهم إلى العراق، والخليج، وأفغانستان.
لتحميل ملف البحث الكامل: الشيعة في العقل الإستراتيجيّ الأمريكيّ- إعداد الدكتور أحمد ماجد
المقالات المرتبطة
ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا
بالنظر لما كان يتمتع به الإمام (قده) من تبحّر عميق في التاريخ، خاصة التاريخ السياسي للإسلام، ثابر بالاستناد على سيرة، سنة وسلوك نبي الإسلام محمد (ص)
القوة المسلحة الإيمانية النبي سليمان (ع) أنموذجًا
مقارنة طفيفة بين القوة العسكرية الأمريكية الباطشة كنموذج للقوة المسلحة الاستكبارية، وبين القوة العسكرية للنبي سليمان كنموذج للقوة المسلحة الإيمانية
الفكر العربي الحديث والمعاصر | من الشخصانية الواقعية إلى الشخصانية الإسلامية
نستكمل في هذه الورقة استعراض فلسفة “الحبّابي”، فبعد أن كان البحث عند مفهومي الكائن والشخص، ننقل الكلام إلى بقية العناصر