محاكمة تحليلية لمفهوم الوجود على ضوء الخلفيات والنتائج

محاكمة تحليلية لمفهوم الوجود على ضوء الخلفيات والنتائج

لا شك في أنّ مسألة أصالة الوجود هي إحدى الركائز الأساسية التي تنهض عليها الحكمة المتعالية عند صدر المتألهين. والغرض من هذه المقالة هو استعراض مراحل نمو وتطوّر هذه المسألة، ومتابعة سيرها منذ أقدم العصور وإلى وقتنا الحاضر. وسوف نبحث في كيفية تفسير هذه النظرية وفق ما جاء في الفلسفة المتعالية، كما سوف نتعرّض لتفسير آخر لها، مع مقارنة هذين التفسيرين، ونوعية العلاقة بينهما.

ومضافًا إلى الاهتمام بقواعد وأسس تطوّر أصالة الوجود، سوف نتعرّض للنتائج المترتّبة على ظهور هذه المسألة من زاوية نظرية المعرفة، وعلم الوجود، وعلم القيم.

وتعتبر مثل هذه المحاولة إلى حد ما سابقةً، إن لم تكن معهودةً أصلًا في هذا المجال؛ لذلك من المؤمّل أن لا يُنظر إليها باعتبارها تجرّؤًا بمقدار ما هي نقطة انطلاق لجهد تحليلي يراد التثبّت منه وتوكيده، مع إعادة اعتبار وبناء أو تنظيم للفلسفة الإسلامية.

الخلفية التاريخية لأصالة الوجود

من المبادئ والأصول المتسالم عليها في الفلسفة المشائية أنّه “لا تتحقّق ظاهرة في الوجود من دون مادة ومدّة”[1]. وهذا يعني أنّه لا بدّ من وجود البيض مقدمةً لوجود الطيور، ولا بدّ من وجود الوقت المناسب الذي يستغرقه الحصول على الطيور، وإلاّ فلا يمكن أن توجد ظاهرة من العدم دفعةً واحدةً من دون استعداد ملائم ووقت مناسب.

وهذا الأصل يصدق أيضًا في مورد النظريات والمبادئ الفلسفية نفسها، بل إنّ ملا صدرا لا يدّعي – خلافًا لابن عربي[2] – أنّه قد أُلهِم الحكمة المتعالية دفعةً واحدةً من الرسول صلى الله عليه وآله أو من إمام معصوم؛ لذلك، ينبغي النظر إلى الأرضية الملائمة التي ساعدت في ظهور نظرية أصالة الوجود، ودراسة العوامل التي ساهمت في نموّها وتطوّرها.

1 . أصالة “الباطن” في العصور القديمة

تعني الأصالة من وجهة نظر علم الوجود تملّك الواقع، ومنشأ الآثار. وذلك مقابل الاعتبار الذي هو فرض عقلي يستند إلى التصوّر والوهم، فلا يمتلك الواقع ولا يكون منشأً للآثار.

ويمكن أن تعزى بدايات بحث “الأصالة” إلى الاهتمامات المبكرة بظواهر العالم المحسوسة لنا. وقد لا نعلم بالتحديد متى وأين نشأ هذا النوع من النزاع بشكله المثير للجدل، إلّا أنّنا ندرك أنّه، ومنذ زمن بعيد، وجِد بين الفلاسفة من أنكر أن يكون هذا العالم الظاهر حقيقةً، ونفى عنه الأصالة. إنّ جميع الاتجاهات الفلسفية الواقعة تحت تأثير فيثاغورس[3] تنظر إلى ظواهر العالم كافّةً على أنّها مظاهر خادعة وكاذبة، وآفاق مظلمة تنكسر عندها أشعة الأنوار الإلهية[4].

إنّ أولئك الذين أنكروا أصالة العالم الظاهر أرجعوا الأصالة إلى عالم ما وراء الإحساس المباشر، وهو العالم اللامرئي؛ عالم الغيب والباطن. ولهذا العالم اللامرئي – والذي يكون العالم الظاهر بمثابة الظل له – اسم خاص في كل لغة وقومية. وربما يكون الهنود من أوائل الشعوب التي مهّدت الطريق لمثل هذه الرؤية. ولا أقل، تعتبر الهند من الأقطار القليلة التي نقلت عنها مثل هذا التعاليم – بصورة مكتوبة – ومنذ زمن سحيق.

ففي نصوص الأوبانيشاد[5] وتعاليمه، لا تبنى الحقيقة (الأصالة) على المنطق والاستدلال، وإنّما تقوم اختباراته على البصيرة والرؤية الداخلية. والإنسان ببصيرته يستطيع النفوذ إلى الحقيقة الأبدية ما وراء الظواهر المتغيّرة، وبالتالي اكتشاف المبدأ في باطن الأجزاء المتغيّرة، والاعتبارات العقلية، والعالم المتغيّر.

إنّ تغيّرات العالم وظواهره هي مايا maya في الأوبانيشاد. وإنّ حواسنا لا تكشف إلّا عن هذه المايات والأوهام والخيالات، بسبب محدودية الطبيعة البشرية ذاتها. هذه المحدودية الفطرية – وبالتعبير الهندي الأفيدياس avidyas – التي تعكس وعينا للتنوّع والتغيير في العالم تقيّد معرفتنا بحدود الكثرة والتغيّرات في العالم، وبالتالي تكون المايا محدودةً. لهذا، يكون بمقدورنا فقط أن ندرك عالم الكثرة والتغيّر دون النفوذ إلى حقيقة العالم الثابتة براهمن brahma[6]. إنّ البراهمن – العالم الحقيقي الغائب – لا يرتبط بأية ظاهرة، ولا يتعلّق به شيء، وهو مع ذلك ليس معزولًا، بل إنّ أي شيء غيره أو خارجه هو سراب ووهم[7].

2 . أصالة “المُثل” عند سقراط وأفلاطون

تستند ظواهر العالم إلى افتراض وهمي اعتباري، ومع ذلك فقد أدخل أفلاطون – أحد عظماء الفلاسفة – هذه الفكرة إلى فلسفته، وحوّلها من فكرة دينية ذات طابع أسطوري إلى واحدة من أكثر المبادئ الفلسفية إثارةً للجدل. فنجد في نصوص أفلاطون فكرة العالم الظاهر بوصفه ظلال، وفكرة عالم المثل بوصفه حقائق ثابتة.

ولتوضيح هذا الموضوع، بحث أفلاطون في عمله الضخم والمعروف الجمهورية عن أهمية الفلسفة والفلاسفة[8]، وأفصح من خلال قصته الرمزية المشهورة “الكهف” عن حقيقة الموقف.

وحسب هذه القصة الرمزية فإنّ هؤلاء الذين لم يتوصّلوا إلى نوع معيّن وواضح من المعرفة هم كالسجناء الذين قيّدوا منذ نعومة أظفارهم بالسلاسل في داخل الكهف، فلا قدرة لهم على الحركة والنظر إلى الخلف حيث مدخل الكهف، وإنّما هم قادرون فقط على النظر إلى الأمام عند أقصى الكهف. وهناك في الخلف – خارج الكهف – نار مشتعلة، بحيث يصل ضوء النار إلى نهاية الكهف، وبين النار ومدخل الكهف طريق يستعمله المسافرون الذين يحملون بضائعهم على ظهور مواشيهم، ونتيجة ذلك، فإنّ ظلال المسافرين والماشية وظلال الأحمال تنعكس على جدران الكهف بحيث يراها أولئك القابعون داخل الكهف ولا يرون سواها. وأخيرًا، يتمكّن أحد السجناء من الإفلات من الكهف، ويرى الأشياء الخارجية بضوء الشمس، فيكتشف أنهم قد خدعوا طويلًا بعالم الظلال[9].

وفكرة عالم الظلال مقتبسة من أمبيدوكلس Empedocles، وقد يعود أصل هذه الفكرة إلى رمزية أورفيوس[10]. ومهما يكن، فقد أدرج أفلاطون هذه الرمزية إلى نظرية المثل التي لم تكن مسبوقةً في مجالها.

ووفقًا لنظرية المثل، فإنّ جميع أنواع ظواهر العالم المحسوس هي بمثابة الظلال للمثل. وعلى سبيل المثال، أفراد البشر هم ظلال مثال الإنسان، وأفراد الخيول هم ظلال مثال الحصان، الخيرية، والعدالة، وكذلك جميع أنواع الظواهر المتغيّرة والمتعدّدة التي تخالطها الأوصاف المتضادة في هذا العالم، والتي هي موضوعات حواسنا، ومصادر أفكارنا، هي من هذا القبيل. وهذه المثل بسيطة، وثابتة، وقابلة للإدراك على ضوء العقل، ومصادرنا المعرفية.

3 . أصالة “الواحد” في الفلسفة الأفلوطينية

في أبحاث أفلوطين أيضًا، فإنّ للوجود جهتين: الظواهر، وما تؤول إليه. والعلاقة هنا ليست كعلاقة الظواهر المتغيّرة بالمثل الأفلاطونية التي تتصف بالبساطة، فإنّ نظرية الفلسفة الأفلوطينية تختلف عن نظرية أفلاطون في المثل من ناحيتين:

أولًا: في نظرية المثل، فإنّ أفراد أيّ نوع هي ظلال مثالها الواحد؛ ولهذا فإنّ عالم المثل أيضًا متعدّد بحسب تعدّد الأنواع، ويمكن أن يحتوي على التنوّعات: الحصان فيه مثال، والإنسان مثال آخر، وهكذا. وهذا التعدّد في عالم المثل لا يشير إلى وحدة الأنواع العليا. وهذا بخلاف تعاليم أفلوطين، حيث التنوع يرجع إلى الوحدة؛ إذ تعدّد الطبيعة والعالم الظاهر يرجع إلى وحدة النفس، وتعدّد النفس يرجع إلى وحدة العقل، وفي النتيجة، فإنّ كل التعدّدات تفنى في وحدة “الواحد“.

ثانيًا: إنّ الظلال وظواهر العالم المحسوس – في نظرية المثل – وبغض النظر عن ضعف هويّاتها مقارنة بمُثلها، هي مع ذلك مستقلّة عن مُثلها. والعلاقة بين هذه الظواهر المتغيّرة ومثلها كالعلاقة بين الشيء وظلّه. بينما العلاقة بين العالم الظاهر من جهة، ونفس العالم، وعقل العالم، والواحد من جهة أخرى، هي علاقة الظاهر والباطن بحسب نظرية أفلوطين؛ لذلك فإنّ الواحد غير منفصل عن العالم، إنّه الواحد الذي يظهر في مظاهر العالم وهو بنفس الوقت غيرها؛ لذلك – مقارنةً بنظرية المثل – فإنّ تعاليم أفلوطين تكشف عن حالة صوفية لا يمكن دركها عن طريق العقل والفكر. لا شيء يمكن أن يقال أو يكتب عن الواحد. الواحد هو كل شيء وكذلك لا شيء، هو يضم كل شيء وبنفس الوقت هو منزّه عن كل شيء[11].

والعلاقة بين العالم والواحد هي علاقة صوفية تفهم عن طريق المكاشفة لا عن طريق العقل[12]؛ لذلك كل الأشياء في العالم سواء كانت روحية أو مادية هي مظاهر الواحد، والواحد شمس كامنة في قلب كل موجود، وفي كل جزء من عالم الكون.

4 . أصالة “الوجود” في العرفان الإسلامي

لتوضيح المسألة لا بد من توضيح المقدّمة التالية:

ساد منذ أمد بعيد تقسيم للظاهرة بحسب التحليل الذهني إلى أمرين: الوجود والماهية. فقد أثار أرسطو تقسيمًا يستند إلى ذلك[13].

كما جعل ابن سينا العلل الأربع على نوعين، فاعتبر العلل المادية والصورية علل الماهية، والعلل الفاعلية والغائية علل الوجود[14]؛ از دير باز، در يك تحليل ذهنى، هر پديده‏اى را به دو جزء وجود و ماهيت تقسيم كرده‏اند اين تقسيم را ارسطو هم مطرح كرده است.ذلك أنّ تقسيم الأشياء إلى وجود وماهية هو تقسيم عقلي، وإلّا فالشيء الموجود في العالم الخارجي لا يتمتّع بأية ثنائية؛ فالإنسان، والخيل، والصخور، والمياه، والأشجار.. كلٌّ منها يشكّل ظاهرةً عينيةً لا تقبل القسمة إلى وجود وماهية بأيّ حال من الأحوال. الماء الذي في القدح على المنضدة هو وجود للماء، وبكلمة أخرى، فإنّ هناك شيئًا ما في القدح، وذلك الشيء هو الماء وليس الحجر مثلًا، والتعيّن والتشخّص هو بنفس الماء، وما يميّزه عن كل الظواهر الأخرى هو كونه ماءً، وبالتالي فإنّ كل شيء هو ما هو في ذاته، لا شيء غيره. من هنا، تتمتّع كل ظاهرة بحد محدود وتعريف جامع للأفراد ومانع للأغيار. ولهذا أيضًا، فإنّ الانقلاب – وهو التغيير المفاجئ من ظاهرة إلى أخرى – هو محال، ولنفس السبب فإنّ الاتحاد بين ظاهرتين يكون مستحيلًا. وقد أثبت ابن سينا هذه المسألة في أبحاثه الفلسفية بالدليل[15].

الذين يثـقون بإحساساتهم وعقولهم وينأون بأنفسهم عن الأساطير والخرافات لا يملكون إلّا أن يوافقوا هويّات الأشياء. بالنسبة لهؤلاء الماء هو ماء، والحجر هي حجر، والحصان هو حصان؛ لأنّه بحسب الفلسفة المشّائية، فإنّ أساس الفهم هو القوى الإدراكية الظاهرية، أي الحواس والعقل.

وبطبيعة الحال، نحن نستطيع أن نثـق بالهويّات التي تحصل في أذهاننا بصورة تعاريف وماهيات. ويمكن لقوانا المُدركة وحدها أن تثـق بحقيقة الهويّات، أو الهويّات الحقيقية. وأمّا أنّ الحقيقة مقتصرة على العالم الظاهر، أو ليست كذلك، فتلك مسألة أخرى.

ونظرًا للإشكالية الآنفة، ووجود أكثر من سبب على أنّ الحقيقة غير منحصرة بالضرورة في العالم الظاهر[16]، عقد ابن سينا في آخر أعماله الفلسفية المتماسكة، الإشارات والتنبيهات، فصلًا للبحث حول الغيب؛ ومع ذلك، سواء كان الموجود مساوٍ للمحسوس أم لا، فإنّ الشيء المهم للفيلسوف الواقعي هو التسليم بهويّتها العينية والواقعية. وتحديدًا المعنى الحقيقي للماهية، أي الهوية العينية نفسها.

قال فلاطوري[17] إنّ الماهية في الفلسفة الإسلامية قد فقدت معناها الدقيق الذي استعمل في ميتافيزيقا أرسطو، وهذا التحول في الماهية حدث في مفهوم “ما”. و”ما” في الأصل بمعنى ما يتعيّن، وبالتالي فإنّ ماهية الظاهرة هي ما به تكون الظاهرة هي هي في عينيّتها. ما هي ماهية الماء: يعني ما هو الماء، وهو ما يوجد في القدح على المنضدة.

ولكن في الفلسفة الإسلامية، فقد تغيّرت “ما” إلى “ما هو؟” واتخذت طابعًا استفهاميًا. طبقًا لذلك، فإنّ الماهية هي المفهوم أو المفاهيم التي تأتي في جواب “ما هو؟”، وبالتالي، المقصود من الماهيات أمور ذهنية، بخلاف المعنى السابق لـ”ما هو؟” والذي يعنى به الظاهرة العينية.

پس از اين مقدمه نسبتا طولانى، به توضيح ديدگاه «اصالت وجود» عرفاى اسلام مى‏پردازيم:بعد هذه المقدمة الطويلة نسبيًّا، نوضّح فيما يلي الخطوط العامّة لنظرية أصالة الوجود من وجهة نظر العرفان الإسلامي:

في العرفان الإسلامي، وكما هو الحال في الاتجاهات الأفلاطونية والأفلوطينية، تكمن الحقيقة الأصيلة وراء ظواهر العالم، وتغدو المظاهر والظواهر كافّةً بمثابة الظلال والأشباح، ومن شؤون الحقيقة الأصيلة. فلا يتطرّق التعدّد والتكثّر إلى الحقيقة الأصيلة – خلافًا للمُثل الأفلاطونية -، بل ليس هناك إلّا الوحدة المحضة، كما هو الأمر بالنسبة للواحد الأفلوطيني.

وهذه الحقيقة الأصيلة تسمّى بحسب العرفان الإسلامي بـ”الوجود”. فالوجود هو الحقيقة الأصيلة، والوحدة والوجوب هما من اللوازم الذاتية لهذه الحقيقة. والوجود في جوهره صرف الوجوب والوحدة، وكل ما عداه (مع صرف النظر عنه) لا يكون له حظ من الأصالة؛ وإنما هي تجليات وشؤون واعتبارات وأوهام. فليس في حقيقة الوجود أي لون من ألوان الكثرة، وإنّما هي الإدراكات الضعيفة والأعين الحولاء لا ترى من الوجود سوى الأشباح والظلال والمرائي المتكثّرة، وهي قاصرة عن إدراك جانب الوحدة الحقيقية. إنّ اتّباع النظر الصحيح، وموافقة البصيرة، يقودنا إلى الحقيقة الواضحة: لا يوجد أحد غيره. لا يوجد إلّا هو. “لا إله إلاّ هو”[18].

ويعتبر داوود القيصري (ت 751ه) أحد كبار الشراح على عرفان ابن عربي والمعلّقين عليه، وهو لم يقتصر دوره على التعليق والشرح للنصوص الأصلية مثل فصوص الحكم لابن عربي، وتائية ابن الفارض، وشرح غوامضهما، وإنّما أوجد نظامًا خاصًا، ومنهجًا شاملًا لتعاليم العرفان مع بيان وترتيب ووضوح كبير في التعبير.

اقترح القيصري في مقدّمتيه على الكتابين الآنفين فصوص الحكم والتائية[19] نظامًا متماسكًا وغير مسبوق في مجال دراسة التعاليم الصوفية والعرفان النظري. ومنذ ذلك الوقت، نجد أنّ تحديد المسائل الأساسية في العرفان النظري، وتنظيم القواعد، وترتيب الفصول والمبادئ والنتائج، كل ذلك يستند في الأساس إلى هاتين المقدّمتين.

كما تطرّق في هذين العملين للحديث عن موضوع العرفان بصورة تخصّصية، وبحث في الوجود باعتباره الحقيقة الأصيلة المطلقة، وكشف عن الخصائص والمزايا التي تتمتّع بها المسائل والمباحث العرفانية. كما تعرّض للبحث حول تنزّلات الأسماء والصفات، والعوالم الخمسة: التوحيد، والنبوّة، والولاية، والخلافة، وختم النبوّة والخلافة. كل هذا وفق ترتيب وتسلسل منطقيين.

وفيما يخص وجود الواجب، والهويّات، وتعيّنات العالم، يقول القيصري:

“إنّ كل شيء سواه هو بمثابة أمواج البحر التي تظهر فقط لأولئك الغافلين عن حقيقة البحر، وغاية ما يمكن أن يدركونه هو ما يرسله البحر إليهم، وهو هذه الأمواج التي ظهرت عن طريق البحر. ولكن، ليس كل ما يبدو لنا على أنّه حق فهو كذلك، وليس كل ما يمكن أن يكون في خيالنا يكون متحقّقًا وموجودًا. لذلك، فإنّ كل موجود – ما عدا الله – هو خيال محض، ولا وجود لغير الحق”[20].

بطبيعة الحال، يرى العرفاء في هذا المنظور حلًّا للمشكلة المعرفية. وبمعنى أدق، هم يرون الظواهر الموهومة على أنّها بمثابة أمواج البحر. ولهذا، فإنّ الوجود الحقيقي لا يمكن أن يدرك من خلال الحس والعقل. إذًا، يجب النظر في عوامل أخرى للمعرفة، من هنا قالوا: إنّ الحقيقة ليست قابلةً للإدراك إلّا عن طريق كشف الحجاب (المكاشفة).

وأولئك الذين عايشوا عالم الكثرة يصعب عليهم القبول بأنّ هذه الكثرات هي مجرّد أوهام، وإذا ما تكلّم أحد ما عن الحقائق التي خلف الظواهر فإنّهم لن يصدقوه. ولكنّهم متى ما بلغوا عالم الجمع والتوحّد فإنّهم سوف يعاينون تلك الحقيقة، ويجدون أنّه: لا هو إلّا هو (هناك واحد فقط، ولا وجود لشيء سواه).

وفيما يخص مقام “الجمع”، يقول القيصري:

“الجمع يعني زوال الحدوث بواسطة نور القدم، وهلاك وفناء الممكنات في عين ذات الحق والحضرة الأحدية. والهلاك والفناء هنا لا يعني أن كل موجودات العالم سوف تتلاشى بالكامل، ويبقى رب الأرباب وحيدًا من دون أية مخلوقات!. وهو رأي أهل الحجاب (أهل الظاهر من المتكلّمين) الذين يعتقدون بأنّ الله تعالى كان – قبل إيجاد هذا العالم – وحده، ثم بعد ذلك خلق الممكنات وأوجدها من العدم. ومثل هذا القول لا يمكن تبنّيه. وإنما – بحسب نظرة العارف في مقام الجمع – فإنّ الحق ليس له شريك في الملك ولا رقيب دائمًا وأبدًا، وأن كل وجود حقيقي فهو له وحده. وأما الموجودات التي تنعت بالغير والسوى.. فهي مستهلكة في عين الذات الإلهية. بمعنى أن الذات الإلهية تتجلى في المراتب المرائي بأشكال وصور مختلفة”[21].

أصالة الوجود بنظر صدر المتألهين

تقدّم أنّ مسألة أصالة أو اعتبارية ظواهر العالم شكلّت محورًا للنقاش بين العرفاء المسلمين قديمًا. فقد اعتبرت الظواهر المحسوسة والملموسة بالخصوص أمورًا اعتباريةً وهميةً، وأنّ الأصالة والعينية والحقيقة تكمن خلف ما نعرفه عن تلك الظواهر المتغيّرة والمتكثّرة؛ إذ الحقائق ثابتة وبسيطة.

وكما رأينا، فقد تأرجح هذا الرأي على امتداد التاريخ. وعلى سبيل المثال، فقد استبدلت نظرية تعدّد “المثل” في فلسفة أفلاطون بفكرة وحدة “الواحد” في فلسفة أفلوطين. فيما أخرجت النفوس والمجرّدات – في العرفان الإسلامي – من تحت الأصالة، إذ لا فرق بين عالم الجبروت أو الملكوت أو الملك من حيث النتيجة والمآل؛ فإنّ جميع المظاهر والتجليات هي بحكم العدم، ووجوداتها غير متعيّنة.

ومن الواضح أنّه يوجد في مقابل هذا الرأي اتجاه آخر، يرى أنّ الأصالة للظاهرة نفسها، ويرفض تقسيم العالم إلى ظاهر وباطن بالطريقة المعهودة في تلك المذاهب، فلا يتنوّع هذا العالم إلى ظاهر نعرفه، وباطن يمثّل الحقيقة.

هذه هي وجهة النظر التي سادت بين عموم المفكّرين والناس، وهو المبدأ المتّبع والأصل الارتكازي في الفلسفة المشّائية؛ الإنسان، والجدول، والبيت، والأشجار، والزهور، والثعابين، والأسماك، وجميع المخلوقات الأخرى، تشكّل ظواهر عينية وأصيلة.

بنظر فيلسوف مشّائي مثل ابن سينا، أيّ ظاهرة هي تجلّي وظهور، وليست خفاء لحقيقة. نعم، لا يحصر ابن سينا العالم بخصوص هذا العالم الظاهر، بل يرى أنّه يوجد إلى جانبه عالم آخر، وهو عالم المجرّدات، وهو يتّسم أيضًا بالواقعية.

والعلاقة بين العالم المجرّد والعالم المادي والمحسوس هي علاقة العلية، وليست هي علاقة الظاهر والباطن، والأصالة والاعتبار. بل إنّ ظواهر العالم المحسوس كلّها ظواهر واقعية، وأصيلة، وعينية، ولها تحقّق، وليس وجودها وهميًا.

وبالطبع، عندما نقارن العالم المادي بالعالم المجرّد من الناحية الفلسفية، أو نقارن الدنيا بالآخرة من الناحية الدينية، نجد أنّ عالم المجرّدات والآخرة متقدّم في الرتبة على العالم المادي. إلّا أنّه لا ربط لهذا بموضوع البحث هنا.

والآن، يجب أن نرى إلى أيّ من الرأيين تنتمي أصالة الوجود من منظور صدرا:

1 . استقر مصطلح “أصالة الوجود”، بالمعنى الذي أثير في الحقل العرفاني الإسلامي، في التداول منذ القرن السابع الهجري، لا أقل، حيث أصبح لدينا رؤية واضحة ومعروفة في هذا الجانب.

وبحسب هذه الرؤية، لا يوجد بين موجودات العالم وجود حقيقي سوى وجود واحد، هو وجود الواجب، وما عدا ذلك: “ليس فى الدار غيره ديّار”. وفي الواقع، لا يوجد أكثر من واقعية واحدة، وكل شيء غيره موهوم، ولا شيء.

لذلك، فإنّ جميع الهويات والتعيّنات ولوازمها وآثارها، ستكون مجرّد أوهام إن لم تكشِف لنا عن الوجود الواقعي الحقيقي الذي هو الوجود حقيقة، وجميع ما في الوجود آثاره ولوازمه. ليس نحن فقط، بل كل ظواهر العالم المادي والمجرّد هي – بحسب تعبير جلال الدين الرومي – كخيال الأسد في العلم:

“نحن جميعًا أسود، ولكن نشبه الذين يظهرون في العلم

نحن عادة في هجوم، ولكن في مهب الريح

معركتنا بعض الأحيان ظاهرة، وبعض الأحيان مخفية في الريح

نحن نقنع أنفسنا بالواحد الذي لا يظهر”.

2 . تعني أصالة الوجود بالمعنى الصدرائي أنّ كل ظاهرة ممكنة، كالإنسان، والصخور، والأشجار، والمياه، وما إلى ذلك، هي مركّبة من ماهية خاصّة في حد ذاتها، ومن وجود خاص بحسب ماهيّتها. [كل ممكن فهو زوج تركيبي من وجود وماهية].

وهذا التركيب بالطبع يستند إلى التحليل العقلي، وكما تقدّم فإنّه بحسب هذا التحليل، يكون وجود أيّ ظاهرة غير ماهيّتها، ويصطلح على ذلك بـ”زيادة الوجود على الماهية‏” بالاصطلاح الفلسفي. والسؤال الذي يطرح نفسه بطبيعة الحال هو: هل أنّ لهذين الجزئين الذهنيّين (الماهية والوجود) تحقّق في العالم الخارجي؟ ويمكن النظر إلى المسألة من أربع محاور:

1 . أصالة الوجود واعتبارية الماهية.

2 . أصالة الماهية واعتبارية الوجود.

3 . أصالة الوجود والماهية معًا.

4 . عدم أصالة أيّ واحد منهما.

الخيار الأخير لا يحظى بالقبول من أحد، فضلًا عن أن يكون معقولًا في نفسه.

وبالنسبة للخيار الثالث، فإنّه من غير المعقول اعتبار أية ثنائية في جوهر الشيء الواحد، ويبدو أنّه لا أحد يتبنّى مثل هذا الرأي. نعم، إذا كان المقصود من أصالتهما (الماهية والوجود) معًا أنّ الهوية العينية تكون منشأً لانتزاع عنوانين هما: الوجود والماهية، فيمكن أن يثمر ذلك في تقارب وجهات النظر مع الفلسفة المشّائية.

أمّا الخيار الثاني، فهو يمثّل في الواقع الاتجاه العام السائد، سيّما لدى أتباع الفلسفة المشّائية. ولكنّه لا ينسجم مع تفسير ملا صدرا لموضوع الماهية.

ويشترط في “ما” أنّها ماهية تنسب إلى الخارج، ولا ينبغي أن تغفل الجانب الخارجي فيما تعطف عليه. بمعنى أن مصطلح “ماهية” ليس مقصودًا [بنفسه]، بل باعتباره مرآةً تعكس ما هو خارج نطاق الذهن. وحين نتكلّم عن ماهية الماء، فإنّنا نشير بذلك إلى شيء موجود خارج نطاق العقل، يسمّى بالماء. وبهذا اللحاظ، تعني أصالة ماهية الماء أنّ ما يوجد داخل القدح على المنضدة هو شيء أصيل وليس وهمًا. الماء في حد ذاته هو أمر حقيقي له آثاره وخواصه، من قبيل أنّ شرب الماء يوجب رفع العطش مثلًا. وهذا بخلاف رأي أفلاطون وأفلوطين وعرفاء الإسلام ممّن وافقهما الرأي؛ فإنّ الواقع الأصيل عندهم هو وراء هذا العالم وظواهره، وظواهر هذا العالم هي ظلال وأوهام لا غير.

ولكن، إذا أخذنا بعين الاعتبار معنى الماهية بالمفهوم الصدرائي والذي هو أمر ذهني مفصول تمامًا عن الوجود، وقلنا مع ذلك بأنّ الماهية أصيلة، بأن اعتقدنا أنّ الماء هو هذه الماهية والمفهوم الذهني بمعزل عن التحقّق الخارجي، وعن الوجود؛ وبعبارة أخرى إنّ ماهية الماء تتمتّع بالواقعية ويترتّب عليها واقع المائية دون أن تحتوي على الوجود، فإنّ هذا النظر غير معقول قطعًا، والموقف الذي ينبغي اتخاذه إزاء هذا القول جدير بالرفض والازدراء.

بدون شك، إذا وجد من يعتقد بأنّ الماء – الذي يوجد في القدح مثلًا – إنّما يرفع العطش بوصفه ماهيةً ذهنيةً صرفةً لا تحقّق لها في الخارج، أي إنّها ماهية بدون وجود، وبعبارة أخرى، إنّ الماهية الواقعية لا تحظى بالموجودية وهي مع ذلك تتصف بالواقعية! إنّ مثل هذا الاعتقاد يستحق بجدارة رفض وازدراء ملا صدرا وأتباعه. لكن يبدو أنّ ذلك ليس هو محل نظر أهل التدبّر والتحقيق. وهكذا، يتضح أنّ هناك تناقضًا واضحًا في الجمع بين القول بالحقيقة الواقعية، والإعراض عن الوجود والواقعية! وفي هذا مغالطة واضحة، لا يعقل وجود قائل بها. وينبغي عند تبيين المسألة وتنقيح موضوع البحث، الابتعاد عن السطحية في التفكير المجانب للمنطق.

وأصل القضية هي على النحو التالي: ثمّة واقع حقيقي نواجهه في هذا العالم ويجب أن نسلّم به، وبخلاف ذلك سوف لن يكون للمعرفة والفلسفة أي معنًى ومضمون. وهذه الواقعية نباشرها بواسطة الحس والتجربة، ونرتّب عليها النتائج بواسطة الفكر والعقل. إنّ حسّنا وعقلنا ينقلان إلينا العالم على أنّه عبارة عن مجموعة من الهويّات: البشر، والخيول، والأرض، والشمس، والتفاح، والسكر، إلخ.

وإنّ إدراكاتنا الحسية وأفكارنا ترى أن الأصالة هي لهذه الهويّات، أي إنّ كل واحد من هذه الهويّات إنّما يمثل واقعه الخاص به، وليس شيئًا آخر. وهذه الهويّات واقعية، لا أنّها ظل الواقع. وحقيقية، لا أنّها مجاز. وعينية، لا أنّها خيال ووهم. وبكلمة واحدة؛ هي الشيء “الأصيل”، لا “الاعتباري”، إذ هي الأصل، وهي منشأ الآثار والأفعال، فالإنسان هو الذي يوجد ويفكر، والحصان هو الذي يوجد ويمشي، والحجر هو الذي يكون له وزن وحجم. وهذه الهويّات ليست مثل “الأسد المرسوم على العلم” الذي لا يكون منشأً لآثاره وأفعاله. هذا ما تعنيه أصالة الماهية، وبخلاف ذلك سوف لن يكون لها معنى ومضمون.

إلاّ أنّ المتحصّل من نظر ملا صدرا لا يفيد مثل هذا المعنى. فهو يقصد بأصالة الماهية أن العينية تكون للماهية دون الوجود، ولذلك رفض القول بأصالة الماهية، معتبرًا أنّها غير قابلة للنقاش. ولذا، تبنّى ملا صدرا الاحتمال الأول من بين الاحتمالات الأربعة الآنفة، أي القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية.

ورغم أنّ صدرا في غير موضع من آثاره، وبخاصة في الأسفار[22]، يظهر منه أنّه يتّبع وجهة النظر العرفانية في نفي أصالة الماهية؛ بمعنى نفي أصالة الهويّات وتعيّنات الظواهر في مقابل أصالة وجود الحق، ومضافًا إلى كونه من العرفاء، فقد ادّعى صدرا مخالفة نظر المشّائين في وجهات النظر في هذه المسألة.

إنّ الطريقة التي عرض فيها ملا صدرا للمشكلة وأدلّتها لا تلازم – عمومًا – مثل هذا الاستنتاج، ويبدو أنّ هذا الاستنتاج نشأ من وضع أصالة الوجود في مقابل أصالة الماهية، فارتبط ذلك التفسير باسمه وعرف به، وإلّا فهو نفسه لم يصرّح بذلك. وفيما يلي نماذج من نصوص صدرا حول أصالة الوجود بالمعنيين المذكورين:

تفسير أصالة الوجود

  • أصالة الوجود بمعناها الغالب عند صدرا (أي أصالة الوجود بالمعنى الظاهري، واعتبارية المعنى):

نجد أنّ ملا صدرا يؤكّد على هذا المعنى لأصالة الوجود في جميع أعماله، قال في مباحث الوجود من كتاب الأسفار:

“لمّا كانت حقيقة كل شيء هي خصوصية وجوده التي يثبت له، فالوجود أولى من ذلك الشيء – بل من كل شيء – بأن يكون ذا حقيقة. كما أنّ البياض أولى بكونه أبيض ممّا ليس ببياض ويعرض له البياض؛ فالوجود بذاته موجود، وسائر الأشياء – غير الوجود – ليست بذواتها موجودةً، بل بالوجودات العارضة لها. وبالحقيقة، إن الوجود هو الموجود”[23].

وقد شبّه ملا صدرا الوجود بالنور في أغلب المباحث والمسائل المتعلّقة بالوجود، ولجأ إلى تفسير كلمة “وجود” باستخدام كلمة “نور” في موارد متعدّدة. يقول صدرا:

“[…] كذلك الوجود قد يطلق ويراد منه المعنى الانتزاعي العقلي من المعقولات الثانية والمفهومات المصدرية التي لا تحقق لها في نفس الأمر، ويسمّى بالوجود الإثباتي. وقد يطلق ويراد منه الأمر الحقيقي الذي يمنع طريان العدم واللاشيئية عن ذاته بذاته، وعن الماهية بانضمامه إليها. ولا شبهة في أنه بملاحظة انضمام الوجود الانتزاعي الذي هو من المعدومات إلى الماهية، لا يمنع المعدومية، بل إنما يمنع باعتبار ملزومه وما ينتزع هو عنه بذاته، وهو الوجود الحقيقي […] والآن نحن بصدد أن الوجود في كل شيء أمر حقيقي سوى الوجود الانتزاعي الذي هو الموجودية […] ومبدأ الأثر وأثر المبدأ ليس إلّا الوجودات الحقيقية التي هي هويّات عينية موجودة بذواتها، لا الوجودات الانتزاعية التي هي أمور عقلية معدومة في الخارج باتفاق العقلاء، ولا الماهيات المرسلة المبهمة الذوات التي ما شمت بذواتها وفي حدود أنفسها رائحة الوجود […] فالغرض أن الموجود في الخارج ليس مجرد الماهيات من دون الوجودات العينية كما توهمه أكثر المتأخرين”[24].

ب . أصالة الوجود بمفهومها العرفاني:

استخدم ملا صدرا في أعماله المختلفة والمتعدّدة مصطلح “أصالة الوجود” بمفهومه العرفاني، وأسهب – في كتابه الضخم، الأسفار – في بحث ومناقشة التفاصيل المتعلّقة بهذا الأمر.

فقد عقد صدرا – بعدما أشبع مبحث علاقة السببية بالبحث – فصلًا كاملًا كرّسه “لإظهار الخبايا” المتعلّقة بهذا الموضوع، وأعقبه بخمسة فصول، تحدّث فيها عن أصالة الوجود على طبق المبنى العرفاني[25]. وقال في الصدد:

“ومحصل الكلام إن جميع الموجودات عند أهل الحقيقة والحكمة الإلهية المتعالية، عقلًا كان أو نفسًا أو صورةً نوعية، من مراتب أضواء النور الحقيقي وتجليات الوجود القيومي الإلهي، وحيث سطع نور الحق اظلمّ وانهدم ما ذهب إليه أوهام المحجوبين من أن للماهيات الممكنة في ذاتها وجودًا، بل إنما يظهر أحكامها ولوازمها من مراتب الوجودات التي هي أضواء وظلال للوجود الحقيقي والنور الأحدي، وبرهان هذا الأصل من جملة ما آتانيه ربّي من الحكمة بحسب العناية الأزلية، وجعله قسطي من العلم بفيض فضله وجوده، فحاولت به إكمال الفلسفة وتتميم الحكمة. وحيث إن هذا الأصل دقيق غامض صعب المسلك عسير النيل، وتحقيق بالغ رفيع السمك بعيد الغور، ذهلت عنه جمهور الحكماء، وزلت بالذهول عنه أقدام كثير من المحصلين فضلًا عن الأتباع والمقلدين لهم والسائرين معهم، فكما وفقني الله تعالى بفضله ورحمته للاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي للماهيات الإمكانية والأعيان الجوازية، فكذلك هداني ربّي بالبرهان النيّر العرشي إلى صراط مستقيم، من كون الموجود والوجود منحصرًا في حقيقة واحدة شخصية لا شريك له في الموجودية الحقيقية، ولا ثاني له في العين، وليس في دار الوجود غيره ديّار، وكل ما يترائى في عالم الوجود أنّه غير الواجب المعبود، فإنّما هو من ظهورات ذاته وتجلّيات صفاته التي هي في الحقيقة عين ذاته”[26].

وبعد إجراء مناقشة واسعة، والاستشهاد ببعض الاقتباسات من كلمات أهل العرفان، أكّد صدرا على أنّ:

“لجميع الموجودات أصلًا واحدًا أو سنخًا فاردًا هو الحقيقة والباقي شؤونه، وهو الذات وغيره أسماؤه ونعوته، وهو الأصل وما سواه أطواره وشؤونه، وهو الموجود وما وراءه جهاته وحيثياته”[27].

ثم قال:

“ولا يتوهمن أحد من هذه العبارات أن نسبة الممكنات إلى ذات القيوم تعالى يكون نسبة الحلول […] لا ثاني للوجود الواحد الأحد الحق […] كل ما يقع اسم الوجود عليه ولو بنحو من الأنحاء فليس إلّا شأنًا من شؤون الواحد القيّوم، ونعتًا من نعوت ذاته، ولمعة من لمعات صفاته، فما وضعناه أولًا أن في الوجود علّةً ومعلولًا بحسب النظر الجليل قد آل آخر الأمر بحسب السلوك العرفاني إلى كون العلة منهما أمرًا حقيقيًّا، والمعلول جهة من جهاته، ورجعت علّية المسمّى بالعلة وتأثيره للمعلول إلى تطوره بطور وتحيّثه بحيثية، لا انفصال شيء مباين عنه. فأتقن هذا المقام الذي زلت فيه أقدام أولي العقول والأفهام، واصرف نقد العمر في تحصيله لعلك تجد رائحة من مبتغاك إن كنت مستحقًّا لذلك وأهله”[28].

ثم تحدّث في تمثيلات العرفاء فذكر مثال ‏”الواحد ومراتب العدد” بوصفه “أشبه” رمز للتعبير عن وحدة الوجود[29]. وحذّر من أن يُظن أنّ هذه المطالب تقتصر على الخيال، ولا تثبت بالبرهان؛ فإن عدم تطبيقها على البرهان ناشئ عن قصور في النظر، وضعف الشعور بها، وإلا فمرتبة مكاشفاتهم فوق مرتبة البراهين في إفادة اليقين[30].

ثم أورد توضيحات مهمّة عن كيفية وجود الممكنات، وأوسعها نقاشًا، مع شواهد من مؤلفات كبار العرفاء، مثل ابن عربي، والقونوي، وعبد الله الأنصاري:

“كأنك قد آمنت من تضاعيف ما قرع سمعك منّا بتوحيد الله سبحانه توحيدًا خاصّيًا، وأذعنت بأنّ الوجود حقيقة واحدة هي عين الحق، وليس للماهيات والأعيان الإمكانية وجود حقيقي، إنّما موجوديّتها بانصباغها بنور الوجود […] وإنّ الظاهر في جميع المظاهر والماهيات والمشهود في كل الشؤون والتعيّنات ليس إلا حقيقة الوجود […] فحقائق الممكنات باقية على عدميتها أزلًا وأبدًا […]

سيه روئى ز ممكن در دو عالم     جدا هرگز نشد. والله أعلم”[31].

مراجعة وتقييم أصالة الوجود

فيما يلي بعض الملاحظات حول رؤية ملا صدرا المشهورة لأصالة الوجود مع نقد وتقييم:

        – في الخلفية التاريخية:

كما ذُكر سابقًا، فإنّ لأصالة الوجود العرفانية تاريخ طويل. ونجد أساس الانقسام إلى الأصيل والاعتباري في ثنائية الظاهر والباطن. فيرجع الظاهر إلى الأمر الاعتباري وغير الأصيل، كما يرجع الباطن – من قبيل “عالم المثل”، و”الواحد” – إلى الواقع الحقيقي الأصيل. وتقدّم أنّه منذ القدم وإلى الوقت الراهن، وجد هناك معارضون لمثل هذا الرأي، كما وجد مؤيّدون له.

أما أصالة الوجود الصدرائية، فلا يوجد سجلات واضحة ودقيقة – بالنسبة إلينا – حول الأشخاص والاتجاهات المؤيّدة والمعارضة لها. وقد نسب الشيخ شهاب الدين السهروردي، شيخ الإشراق (مقتول 587 ه) مثل هذا الرأي إلى المشّائين. أي إنّ المشّائين يرون أنّ كل ظاهرة في العالم الخارجي هي وجود وماهية، والذي يمتلك الأصالة هو الوجود، وليس الماهية.

وقد ناقش السهروردي هذا الرأي وردّه بقوله:

“الوجود يقع بمعنى واحد ومفهوم واحد على السواد، والجوهر، والإنسان، والفرس، فهو معنًى معقول أعم من كل واحد. وكذا مفهوم الماهية مطلقًا، والشيئية، والحقيقة، والذات، على الاطلاق، فندّعي أنّ هذه المحمولات عقلية صرفة”[32].

ثم شرح وجهة النظر التي تبنّاها بالدلائل والقرائن، وخطّأ المشّائين فيما نسبه إليهم من رأي. وفي وقت لاحق، جعل صدرا وأتباعه هذه الأدلّة بعنوان دلائل أصالة الماهية في سياق نقدها والاعتراض عليها[33]. وفي المقابل، اعتبر أنّ المشّائين من جملة مؤيّدي أصالة الوجود بالمعنى الذي فهموه منها[34]. ومع ذلك، ثمّة نكتتان تستدعيان انتباهنا في تصريحات السهروردي:

الأولى: إنّ الأساس الذي تستند إليه نسبة أصالة الوجود إلى المشّائين ليس واضحًا، فلا نجد لهذه النسبة أثرًا في جميع المؤلّفات المعتبرة لدى المشّائية الإسلامية، أو ما قبل الإسلام حيث لا نلحظ لهذه المسألة أثرًا فيها.

لم يصرّح ابن سينا – أحد كبار الفلاسفة المشّائين في العالم الإسلامي – إطلاقًا بهذا المعتقد في أيّ من أعماله. وما فعله ابن سينا هو أنّه قال بتركيب كل ظاهرة من ظواهر العالم من وجود وماهية، وعلى هذا الأساس قام بتقسيم العلل الأربعة إلى مجموعتين، هما: علل الوجود، وعلل الماهية[35]. ولكن، ما لم يتضح في هذا التقسيم، هو:

أولًا: إنّ هذا التقسيم عيني، لا ذهني. ولاحقًا، سوف يؤكّد ملا صدرا وأتباعه على ذهنية هذا التقسيم. ومن جملة هؤلاء ملا هادي السبزواري الذي يقول: “إنّ الوجود عارض المهية تصوّرا واتّحدا هوية‏”[36].

ثانيًا: أعرب ابن‏ سينا، وعموم المشّائين، عن اعتقادهم بأصالة هذا العالم، أمّا أنّ الأصالة تكون للوجود وليس للماهية؛ فلا يوجد أثر لهذه النظرية في أعمالهم على الإطلاق. وفي النتيجة، لا تصح نسبة هذا القول إليهم.

وأخيرًا، أشار السهروردي إلى نكتة ظريفة في مقام التعرّض لخطأ نسبة هذا الرأي إلى المشّائين. وما يشير إليه – بنظري- جدير بالذكر لفهم رأي صدرا في مسألة أصالة وجود. يقول السهروردي:

“ومن احتج – في كون الوجود زائدًا في الأعيان – بأنّ الماهية إن لم ينضم إليها من العلة أمر فهي على العدم، أخطأ. فإنّه يفرض ماهية، ثم يضم إليها وجودًا؛ والخصم يقول: نفس هذه الماهية العينية من الفاعل”. ثم يضيف: “الوجود من الاعتبارات العقلية التي تضاف إلى الماهيات الخارجية؛ هذا ما فهم منه الناس”[37].

وأيضًا، كيف يمكن لصدرا وأتباعه القول بأنّه: يمكن أن تفرض الماهية بلا وجود، أو الوجود بدون ماهية، وذلك في الخارج؟ وكما قلنا، يستحيل – بنظر صدرا وأتباعه – فصل الماهية عن الوجود سواء في الخارج، أو في الذهن أيضًا. ومثل هذا الفصل يكون بصورة عدم اعتبار الوجود، لا اعتبار العدم؛ ذلك أنّ تخلية الماهية من الوجود هو عين تحليتها بالوجود.

بهذا الاعتبار، يتضح أنّ أصالة الوجود بالمعنى الصدرائي المتقدّم، لم تطرح بشكل واضح في الفلسفة الإسلامية قبل ملا صدرا، بخلاف أصالة الوجود بالمعنى العرفاني؛ فإنّها تحظى بامتداد تاريخي عريق، يمكننا معه تعقّب مدلول الكلمة إلى الأمد القديم.

– في الجانب الوجودي:

أي من مشاكلنا الوجودية يمكن أن تحل من خلال نظرية أو مبدأ أصالة الوجود؟ سؤال يستدعي ردًّا شافيًا من خلال المبادئ والقضايا الفلسفية.

بما يخص أصالة الوجود، يجب أن نرى أولًا أيّ مشكلة وجودية يمكن أن تحل من خلال أصالة الوجود؟ وثانيًا، إلى أيّ مدى يمكن استثمار هذه المسألة في إثبات القضايا والعقائد الأخرى؟

لدينا الآن مفهومان لدراسة مسألة أصالة الوجود وتحقيقها، هما المفهوم الصدرائي، والمفهوم العرفاني:

أ. أصالة الوجود بالمفهوم العرفاني: تشكّل أصالة الوجود من المنظور العرفاني، في واقعها، إجابةً عن التساؤل التالي: هل أن ظواهر ومظاهر العالم هي حقيقة واقعية أم لا؟

على ضوء أصالة الماهية، فإنّ الرد على هذا السؤال يكون بالإيجاب. أمّا على ضوء أصالة الوجود فيكون الجواب بالنفي؛ ووفقًا لهذا الرأي، فإنّ جميع الظواهر المحسوسة في العالم تكون وهميةً وليس لها أية أصالة. والشيء الوحيد الذي له أصالة وواقعية هو حقيقة الوجود الواحدة الواجبة، الأزلية الأبدية.

تنتمي أصالة الوجود بهذا المعنى إلى مدرسة معيّنة هي مدرسة العرفان الإسلامي. وهي تقدّم إجابةً مختلفةً تمامًا مع الإجابة التي تقدّمها الفلسفة المشّائية والتي تعتبر أنّ الأصالة والحقيقة لهذه الظواهر، وليس لما وراءها. لذلك، تشكّل مسألة أصالة الوجود في المصطلح العرفاني، أصلًا أخلاقيًّا [والتزامًا مبدئيًّا] بين العرفان والفلسفة، فهي في الواقع ترتبط برؤية كلا المدرستين إزاء واقعية الظواهر المحسوسة والجزئية، لا أنّها مجرّد مسألة خلافية داخل الفلسفة الواحدة.

ومسألة أصالة الوجود أو الماهية ليست من قبيل مسألة تعدّد المقولات، والجبر والاختيار، وحدوث وقدم العالم، وإثبات الواجب، وغيرها، بحيث يرتبط اختلاف الإجابات باختلاف الآراء والأدلة داخل الفلسفة، وإنّما تتفاوت مسألة أصالة الوجود أو الماهية بحسب التفاوت بين الفيلسوف والعارف، وبين العرفان والفلسفة، حيث إنّ لكل من هاتين المدرستين ردودها الخاصّة بها، والمحدّدة لها، والمناسبة لأصولها.

بعبارة أخرى، لا يقتصر الموقف من هذه المسألة على الدائرة الفلسفية، وإنّما يتعدّى مجالها إلى نطاق التقابل بين العرفان والفلسفة، وإلا، فإنّ إغفال هذا الموقف في المسائل المبحوثة سوف يؤدّي – بدون شك – إلى الإبهام والغموض في حل المشكلات العالقة، كما هو الحال في بعض المجالات المبحوثة في – في الفلسفة الإسلامية – والتي أدّى إهمال هذا الموقف فيها إلى جدل عقيم حول مسائل ترتبط بنظرية المعرفة ونظرية الوجود، وساهم ذلك في انحدار سقف النقاش والجدل الذهني دون مستوى الاستنتاج المثمر. ومن هذه الموارد مسألة وجود الكلي، وأيضًا مبحث اتحاد العاقل والمعقول[38].

ب . أصالة الوجود الصدرائية: أجرؤ على القول إنّه، وبحسب المفهوم الصدرائي لأصالة الوجود، فقد تغيّر الموقف من المسألة، وصار ينظر إليها باعتبارها موضوعًا للخلاف فيما بين الفلاسفة أنفسهم.

من المحتمل أن البعض – بما فيهم شيخ الإشراق – كان يعتقد أنّ أي ظاهرة، مثل الحجر، والماء، والنار، لها ماهيات أصيلة، ووجود اعتباري. وفي المقابل، يعتقد ملا صدرا، والفلاسفة المشّائيون، أنّ كل ظاهرة تتمتّع بوجود أصيل، وماهية اعتبارية. مع الالتفات إلى حقيقة أنّ الماهية والوجود غير منفصلين عن بعضهما في خارج الذهن، وإنّما هما شيء واحد؛ يكون مصداقًا للوجود وأيضًا مصداقًا للماهية، مثلًا هذا الماء [في القدح] على المنضدة؛ هو مصداق لماهية الماء، وأيضًا هو مصداق لوجود الماء.

وهل تعني هذه المقولة أنّ الأصالة للماهية، أو أنّها للوجود؟ سيكون من الصعب إيجاد حل بعينه. فلا يبدو أنّه بحسب المصطلح الصدرائي لأصالة الوجود، قد تم تجاوز هذه الإشكالية بطريقة يمكن معها استخلاص النتائج من هذه الآراء وبوضوح. غايته، أنّ هذه المسألة لها مدخلية إلى إثبات قضايا أخرى، فلا شك في أنّ أصالة الوجود تعتبر مسألةً رئيسيةً في الفلسفة المتعالية لملا صدرا، كما تعتبر أساسيةً في كثير من القضايا الأخرى، من قبيل توحيد الواجب، والحركة الجوهرية، والمعاد الجسماني، واتحاد العاقل والمعقول، وحاجة المعلول إلى العلة، وغير ذلك. وبتعبير آخر، فقد اعتمدت هذه المسألة في توضيح وتبيين حالات أخرى.

ورعايةً للإيجاز، فإنّه حتّى في تلك الحالات التي اعتبرت من نتائج هذه المسألة، لا نجد في تحليلها وفق هذه المسألة فائدة تذكر، ويكفي أن نقول إن أيًّا من هذه الحالات لم تسهم فيها أصالة الوجود بالمفهوم الصدرائي بنحو فاعل.

وفي الأغلب، فإن أصالة الوجود تسهم بشكل فاعل في مجال وحدة الوجود، فإذا اعتبرنا أن الوجود هو الأصيل – كما هو بحسب المفهوم الصدرائي -، وأنّ الحالات المذكورة هي حقائق متباينة، فإنّ أصالة الوجود لا تساعد حينئذ على حل تلك المشكلات.

ومن الواضح أن توأمة الأصالة مع الوحدة هو في الواقع رجوع إلى التفسير والفهم العرفاني لأصالة الوجود. وبتعبير آخر، في المورد الذي تسهم فيه أصالة الوجود في حل مشكلة، هذه الأصالة ستكون بالمعنى العرفاني، وليس المعنى الصدرائي.

مضافًا لذلك، إذا اعتبرنا الوجود من الأمور العينية، فلن يكون له دور في تصنيف الحقائق، ولن يكون الوجود داخلًا تحت المقولات، ذلك بسبب أنه مفهوم عام انتزاعي، وإلا كان يجب أن يلحظ كذلك.

في الجانب المعرفي:

لتوضيح اللوازم والآثار المعرفية لأصالة الوجود، من المهم أن نناقش التفسيرين المختلفين لهذا الأصل، أي التفسير العرفاني والتفسير الصدرائي، كلٌّ على حدة؛ لتتضح بذلك لوازم وآثار كل منهما من الناحية المعرفية. وفيما يلي دراسة كلا المعنيين:

أ. أصالة الوجود بالمفهوم العرفاني: كما ذكر مرارًا حول أصالة الوجود العرفانية، فإنّ جميع ظواهر العالم هي جوانب موهومة، وحقيقتها كامنة خلف هذه المظاهر؛ لذلك، فإنّ للواقعية وجهان: وجه ظاهر، ووجه باطن. والذي يدرك بالحس والفكر هو الوجه الظاهري، أمّا العالم الباطني فلا يدرك بالحس والعقل، وإنّما يدرك بالبصيرة والكشف والشهود.

ولذلك، تنقسم علوم ومعارف البشر إلى فئتين رئيسيتين:

العلوم الرسمية (القانونية): وهي العلوم المتعلّقة بأنشطة الحواس والأفكار، كالفيزياء، والكيمياء، والطب، والرياضيات، والفلك، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والفقه، والكلام، والتفسير، وغيرها.

العلوم الحقيقية: وهي العلوم المتعلّقة بالكشف والشهود، وهي نفس المعارف الناشئة من قدرة الإنسان على النفوذ خلف الظواهر والمظاهر.

بهذا، يكون لدينا نوعان من المعرفة: النوع الأول هو عبارة عن معرفة سطحية، يمكن اكتسابها بالدراسة والبحث. وهذا النوع من المعرفة قابل للتعليم والنقل إلى الآخرين. أمّا النوع الثاني من المعرفة فلا يكتسب بالبحث والتعليم، ولا يقبل الانتقال إلى الغير بأي وجه كان، وإنّما يتحقّق من خلال التجربة، وبنحو شخصي[39].

ولا بد في التجربة الشهودية من الرياضة والسير والسلوك. لذلك، فإنّ النتيجة التي لا مفر منها للمعرفة بالوجهة العرفانية هنا، هي أنّه يجب على الإنسان – مضافًا لوجوب البحث والتعلّم – أن يعترف أيضًا بالسير والسلوك كوسيلة للنفوذ خلف هذه الظواهر الوهمية. وعلى الرغم من إمكان حصول الهويات والماهيات مع أوصافها ولوازمها في عالم العقل والحواس، إلا أنّ المعرفة بحقيقة الوجود لا تتحقّق إلا من خلال السلوك والفناء والتوفّي من عالم الفرق إلى عالم الجمع والتوحيد[40].

نتيجة هذه الرؤية العرفانية المتعلّقة بأصالة الوجود هي أنّ العقل والحواس غير كافيين لمعرفة الوجود وحقيقته، وإنّما يتوقّف ذلك على السلوك. وهذا الرأي على خلاف مع الفلاسفة المشّائين الذين لا يرون أنّ العقل والحواس هما في أساس المعرفة الإنسانية فحسب، بل إنّ إمكان المعرفة الشهودية هو محل تردّد عندهم[41].

ب . أصالة الوجود بالمفهوم الصدرائي: إنّ الحكم بأصالة الماهية أو أصالة الوجود بالمعنى الصدرائي هو – على ما يبدو – من شؤون العقل. لذلك، لا مشكلة من جهة نظرية المعرفة، كما لا مشكلة في أنّ المسألة من المسائل الخاصّة.

وقد عمد صدر المتألهين في أعماله الفلسفية إلى تبيين وإثبات أصالة الوجود، والرد على أدلّة المخالفين، وذلك من خلال العقل والاستدلال. ومع ذلك، ففي الموارد التي نجده فيها يتابع العرفاء، يجري التأكيد على قضية الشهود وأهليّته ومعارفه، وأنّ الفضل في هذه المعرفة يعود إلى المكاشفة والبصيرة الباطنية[42].

إذًا، يمكن أن يقال إنّ صدرا – على ما يبدو – لم يعر اهتمامًا للاختلاف الحاصل بين المعطيات المعرفية حول أصالة الوجود، والمعطيات العرفائية عنها. وربّما، أدار ظهره للجهود الحثيثة المبذولة من قبل العرفاء حول أصالة الوجود خلال ما يقرب من أربعة قرون قبله. فنجده، خلافًا لذلك، يشدّد على الأسس والمباني المعرفية لأصالة الوجود، والله أعلم.

وهكذا، نرى أنّ فهم ملا صدرا لأصالة الوجود، واستنتاجاته عنها، لا تتضمّن أي أثر عن نظرية المعرفة أو ما يلازمها، اعتقادًا منه بأنّ الموقف من طرفي القضية (أصالة الوجود أو أصالة الماهية) لن يتغيّر باختلاف النظر إلى المسائل والمباني المعرفية. في حين أنّ وجهة النظر حول أصالة الوجود في الفهم العرفاني، تختلف باختلاف مباني وقواعد نظرية المعرفة بشكل عام.

فقد اعتبرت نقطة الارتكاز الوحيدة هي أدوات العقل والحس، في حين دعا آخرون لتجاوز العقل والحس، والاستناد إلى الرياضة الروحية والمكاشفات.

في الجانب القيمي والعملي:

فيما يلي، سوف تتم مناقشة الآثار والنتائج القيمية والعملية لكل من الرأيين:

أ. أصالة الوجود العرفانية: من بين النتائج والآثار الأكثر إثارةً للدهشة من الناحية العملية والقيمية لأصالة الوجود بمفهومها العرفاني، يمكن ملاحظة التالي:

أولًا: حيث إنّ الكائنات أوهام وخيالات وعدم ثبات، يجب أن يبذل العارف السالك جهدًا للتوجه إلى الحقيقة الثابتة فيما وراء الظواهر والمظاهر.

إنّ حب الألوان والعطور لا يدوم، والخيال هو وصمة عار. ليس فقط لا تستهويني الرغائب الدنيوية كالمال والجاه والنساء والأطفال والملذّات المادية، ولكن أيضًا لا تستهويني الرغائب الأخروية من قبيل الحور والقصور وملذات الجنة؛ فإنّها جميعا قطاع طرق، وحجب[43].

ثانيًا: إنّ هدف العارف ليس هو تكميل النفس، وإنّما إفناء جانب البشرية فيها.

ثالثًا: إنّ أصالة الوجود بمفهومها العرفاني، تتطلّب التقوى والورع، لتحقيق المعرفة الشهودية.

رابعًا: إنّ المعارف الظاهرية في عالم الزمان والمكان، وما تحيط به الدائرة، لا شرف لها ولا منزلة مقارنة بالمعارف الشهودية، بسبب محدودية وضيق النطاق، وإنّ غفلة الخلق عن الهدف تحول دون الوصول إلى المعشوق الحقيقي، وتؤدّي إلى الذل والحساب.

هذه النماذج[44] هي من آثار ونتائج أصالة الوجود بالمفهوم العرفاني.

ب. أصالة الوجود الصدرائية: وجهة النظر هذه، لا تتطلّب أيًّا من الآثار والنتائج المذكورة، لأنّ الإشكالية في الأساس هي إشكالية فلسفية، فإنّ كون الماهية هي الأصيلة أو أنّه هو الوجود، هو أمر يثبت بمعونة العقل والاستدلال، وكذلك الهويّات الدنيوية والظاهرية وما يترتّب عليها من آثار ونتائج، ولا يتوقّف شيء من ذلك على سلوك التقشّف والرياضة الروحية.

فما يطلبه العقل من أمور الدنيا والآخرة هو نفس حقائق الموجودات الدنيوية والأخروية، وليس شيئًا آخر وراءها. وأمّا محاولة تكميل النفس، واتّباع البهجة واللّذة الدنيوية والأخروية، فلا فرق يترتّب على ذلك سواء افترضنا الماهية هي الأصيلة أم افترضنا أنّه هو الوجود.

اقتراح:

بملاحظة المطالب السابقة، أعتقدُ أنّ مسألة أصالة الوجود يجب أن تناقش بنفس الطريقة التي اعتمدها العرفاء، أي في هذه المسألة، يتم البحث في أنّه: سواء كانت الماهيات والهويات تتمتّع بالوجود الواقعي، وكانت هي المنشأ للآثار والأوصاف – كما هو مقتضى الفهم العام، وما يدركه ويحكم به العقل والحس – أو كان الوجود الحقيقي لها فيما وراء هذه التعينات والهويات والماهيات، فهل هذه كلها – باستثناء الوجود الماورائي – تكون غير واقعية؟

وعلى عكس ما يقوله عرفاء الإسلام، فقد أثار صدرا البحث بعنوان كونه مطلبًا فلسفيًا، وهو أننا نبحث – على سبيل المثال – عن الحصان أو النار، أهو ماهية وليس وجود، أم هو وجود وليس ماهية؟ وبعبارة أخرى، الحقائق والهويات المتأصّلة في العالم، هل هي ماهيات مجرّدة عن الوجود، أو هي وجودات مجرّدة عن الماهية؟

بدون شك، إذا كان لنا أن نأخذ بالاحتمال الأول، فسوف يكون لدينا مشكلة واضحة وجدية، وسوف تتعدّد الآثار والنتائج؛ كما يلي:

أ . الموقف من المسألة: إنّ مطلوب كلا الطرفين هو شيء واحد عيني. وعلى هذا، تعتبر هذه المسألة من موارد الاختلاف بين العرفاء والفلاسفة، وإحدى المسائل الخلافية بين العرفان والفلسفة. ومع مثل هذا الموقف بالتحديد، يكون هدف ومبتغى كلا الجانبين واضح. وبالتالي، يتحدّد مصدر المعرفة من خلال إدراكات الفلاسفة التي تقوم على أساس العقل والحواس.

والاعتقاد بواقعية الهويات والماهيات وأصالتها، أيًّا تكن وجهة النظر، هو في حد ذاته كافٍ. فلا توجد هوية هي هوية أخرى، المثلث ليس مربع، والحجر ليس شجرة، والإنسان ليس إلهًا. المثلث هو مثلث، والحجر هو حجر، والإنسان هو إنسان. ولا يخالف أحد هذه النتيجة بمقتضى النظام الإدراكي لديه، وحتّى “الأمير الساماني” الذي اعتقد أنّه من الماشية، لم يقل: أنا إنسان بقرة، بل قال: أنا بقرة! هذا من جانب.

ومن جانب آخر، اعتبر العرفاء أنّ مفاهيم وأحكام العقل والحس محدودة بالعالم الظاهر، وبالمظاهر والظواهر المعلنة، وأنّ الكشف والشهود هو السبيل لتحقيق وإحراز معرفة حقيقية بالعالم الحقيقي، وأنّ إدراك الحقيقة والباطن إنّما يستند إلى المعارف التي تم الحصول عليها من هذه المكاشفات. وما هو أصيل، ووجود حقيقي، هو الموجود الواحد والواجب والأزلي والأبدي. وأمّا هذه الهويات والماهيات فلا تتمتّع بالأصالة، هي أوهام لا غير، ومنشأ هذه الأوهام هو قصور قوانا الإدراكية. وإلا فليس في الدار غيره ديّار، وكل ما يبدو على أنّه غير فهو من تجلّياته وشؤونه.

“تو را زدوست‏ بگويم حكايتى بى پوست همه از اوست وگر نيك بنگرى همه اوست

همه از اوست وگر نيك بنگرى همه اوست همه از اوست وگر نيك بنگرى همه اوست”

وبالتالي، فإنّ هذه المسألة هي مسألة جدّية وواقعية ومورد اختلاف بين مدرستين واتجاهين متمثّلين بالفلاسفة والعرفاء.

ب. الخلفية التاريخية الملائمة: يتضح من الكلام المتقدّم أنّه، إذا كانت المسألة هي مسألة ظاهر وباطن، فسوف تحظى هذه المسألة بتاريخ عريق يمتد إلى العصور القديمة، وإلى الأقوام والملل المختلفة. أمّا إذا كانت المسألة مطروحة بمفهومها الصدرائي، فسوف لن تكون مسبوقة حينئذ، كما لن يكون طرفي النزاع محدّدَين أيضًا.

أثار صدر المتألهين في بحثه عن مجعولية الوجود أو الماهية، وأن المجعولية مستلزمة للأصالة، خلفية البحث التاريخية، قائلًا:

“إنّ قدماء الفلاسفة لم يورّثوا أخلافهم حجّةً على صحّة شيء من المذهبين [مجعولية الوجود أو الماهية] بل الظاهر أنّ كلًّا من الفريقين ادّعوا بداهة دعواهم؛ إذ لم نجد في كلام الأوائل برهانًا على شيء منهما، بل اقتصروا على مجرّد إشارات وتنبيهات”[45].

ولكن استنتاج صدرا هذا لا أساس له من الصحّة، بل إنّ هذه المسألة لم تطرح بهذه الصورة في أيّ موضع؛ لكي يصلنا أيّ من أدلّة الطرفين.

وقد استعرض صدرا قبل صفحتين من تعرّضه للناحية التاريخية المذكورة[46] آراء المدرستين المشّائية والإشراقية في الإسلام، وبيّن أنّ المدرسة الإشراقية تؤيّد القول بأصالة الماهية، وأنّ المدرسة المشّائية تعتقد بأصالة الوجود.

ولكن، لا شيء من هاتين النسبتين اللتين ذكرهما صدرا، يعتبر صحيحًا في نفسه، وإنّ آثار كل من الطرفين متوفّرة بين أيدينا، ونستطيع أن نحكم فيما يخص نسبة الآراء بسهولة، حيث إنّ النصوص واضحة وصريحة، ولا معنى للمناقشة في تلك النسبة حينئذ.

ج. توفّر أسس خاصة في نظرية المعرفة: عندما يتمحور البحث حول الوجود، فلا نتوقّع أن يتسم البحث بالطابع العقلي. وصدرا نفسه يؤكّد على هذا المبدأ، وأنّ معرفة الوجود لا تكون من خلال العقل[47]. لذلك، فإنّ أصالة الوجود يمكن أن تدرك فقط عن طريق الكشف والشهود، كما ألمح صدرا إلى هذه النقطة مرارًا.

إنّ موضوع الشهود نفسه خارج عن نطاق البحث والاستدلال؛ إذ ليس بمقدور الفلاسفة نفيه بالدليل، كما لا يمكن للعرفاء إثباته بالدليل. وبالنتيجة، فإنّ الشيء الوحيد الذي يمكن للعرفاء القيام به هو دعوة الآخرين وترغيبهم بهذا الأمر. ويمكن أن يتلمّس أتباع الفلسفة أيضًا الصلاح في هذه الدعوة على أساس الثقة بصدق مثل هذه الدعوة وهذا الترغيب، ويمكنهم كذلك أن يباشروا التجربة، كما هو الحال في القضايا العرفانية الأخرى، من قبيل الفناء، والمكاشفة، ممّا يجري على نفس المنوال.

د . وجود نتائج ولوازم عملية: وهذه المترتّبات لن تكون عديمة الأثر والجدوى على مستوى أخلاق وسلوك الإنسان، كما سبق أن أوضحنا.

ه. ه – سازگار شدن با اصل «وحدت وجود» – وحدت وجود يكى ديگر از اصول اساسى عرفان اسلامى، با اصالت وجود ارتباط عميقى دارد.بگونه‏اى كه مى‏توان اصالت وجود را مبناى وحدت وجود قرار داد. براى اينكه آنچه وجود حقيقت اصيل خارجى را، دچار كثرت مى‏كند، همين تعينها و ماهيتهاست. و چون اينها را امور وهمى دانسته و پديدارهاى غير اصيل بدانيم، طبعا وجود، حقيقت واحدى خواهد بود، بدون هيچ گونه انقسام و كثرت. و اين موضوع هم، همانند اصالت وجود، تنها با معرفت‏شهودى قابل درك است.ههأن تكون متوافقةً مع مبدإ وحدة الوجود: تعتبر وحدة الوجود إحدى المبادئ الأساسية في العرفان الإسلامي، وهي تحظى بصلة وارتباط عميق مع أصالة الوجود. بل يمكن أن تكون أصالة الوجود من مباني وحدة الوجود. وحيث إنّ الوجود حقيقة أصيلة في الخارج، فيكون التعدّد بنفس التعيّنات والماهيات، وإذا كانت هذه الماهيات اعتبارية ووهمية، وغير متأصّلة، فتكون حقيقة الوجود بطبيعة الحال واحدة، دون أي انقسام أو تعدّد.

وهذا الموضوع أيضًا، مثله مثل أصالة الوجود، غير قابل للإدراك إلا من خلال المعرفة الشهودية. وبالتالي، ينتظم كل من أصالة الوجود ووحدة الوجود في نفس النسق من جهة وجودية ومعرفية. ومع ذلك، يحاول صدرا أن يطرح هذه المسألة باعتبارها مشكلةً فلسفيةً، وعلى أنّها من المواضيع الخلافية بين جماعتين فكريتين، بحيث يؤيّد المشّاؤون جانب الكثرة فيها، فيما يلتزم حكماء فارس “القدامى” جانب الوحدة.

ولا شك أنّ مسألة وحدة الوجود لا يمكن أن تكون مسألةً عقلانيةً، وجميع الأدلة المزعومة على وحدة الوجود الخارجية لا تنهض لإثبات مثل هذا الادعاء[48]. وأقصى ما يمكن أن تدل عليه تلك الأدلّة هو اشتراك الوجود مفهومًا، كما في اشتراك مفهوم الإنسان الذي لا يعني وحدة “زيد” و”عمرو” في الخارج.

و. اجتناب الذاتية: إذا كان لنقاشنا أن يتمحور حول العالم وعلم الوجود، وليس حول الماهية والهوية والموجودية وسائر الظواهر، فإنّنا نفعل ذلك – شئنا أم أبينا – بإملاء من الداخل، وليس بإيعاز من الخارج.

لذلك، فإنّ الوجود غير قابل للتعريف والتحديد، كما لا يمكنه المساعدة على تحديد وتشخيص الظواهر، وبالنسبة لصدرا فقد أكّد مرارًا على ذاتية الوجود وعينيّته الخارجية، وأنّه لا يمكن أبدًا تبديل الوجود إلى حقيقة ذهنية. ولذلك، فإنّ قوانا العقلية تستطيع أن تدرك فقط مفهوم الوجود العام[49]. والمفهوم العام أيضًا غير قابل بنفسه لتعريف الوجود، بل لا يساعدنا أيضًا في التعرّف على الظواهر الأخرى. وفي النتيجة، فإنّ بحثنا حول الوجود بالتأكيد هو بحث ذهني صرف.

دعوة وتوصية

ينبغي علينا – مع الأخذ بعين الاعتبار ملاحظات وتحذيرات الغربيين – اجتناب أي نوع من أنواع العقم الذهني في الاستنتاج. وقد تم انتقاد المنطق وأساليب البحث القديمة في مرحلة سابقة في الغرب، كما تم تحديد نقاط الضعف، وطرق وأساليب البناء، الأمر الذي أدّى إلى ظهور المنطق الحديث، وساعد ذلك في المضي قدمًا باتجاه النهوض الفكري.

بالتأكيد، إحدى مشاكل المنطق والأساليب القديمة تكمن في الاعتماد المفرط على العقل؛ وعندما لا يكون لدينا وجود منفصل عن الماهية في الخارج، ولا ماهية منعزلة عن الوجود كذلك، فلماذا نتحملق حول هذين الموقفين ونتخذ منهما أساسًا للاصطفاف؟ والذي هو أكثر أهميةً هو تعيين تلك الهويات، أو تقسيمها باعتبارها أمورًا ذهنية انتزاعية إلى جزئين هما الوجود والماهية[50]. ثمّ على أساس أصالة أحد الأمرين، نحدّد الموقف على ضوء الأدلة!

إنّ القيّمين على المعارف الإسلامية والشرقية، والمتعاطفين معها، لم يهملوا نقطةً حاسمةً، وهي: إنّ وظيفتنا ليست الدفاع عن الماضي والعمل على ترويجه، وإنّما وظيفتنا هي تحقيق أعمال السلف وتكميلها. إنّ فشل السلف علامة على انتصار الجيل الجديد، كما أنّ بقاء السلف على عرش السلطة والهيمنة علامة على البطالة والعجز لدى الأجيال الجديدة، علينا أن نفكّر بقوّتنا وازدهارنا بدلًا من الوقوف باعتزاز على أطلال الماضي.

في نهاية المقالة، أعيد التذكير بما ذكرته أولًا؛ إذ إنّي آمل أن لا يعتبر هذا الجهد البسيط علامة جرأة وإقدام، وإنّما بدايةً صادقةً ومحاولةً للإقرار بضرورة إعادة بناء الفلسفة الإسلامية وتنظيمها. كما أودّ التذكير بأمرين مهمّين:

الأول: إنّ كل رأي فهو محتمل للصواب والخطإ، سواء أكان رأي شخص غير مهم أم كان رأي شخص مشهور مثل ملا صدرا.

الثاني: لا عظيم يصغر إذا ما لجأ إلى النقد، ولا حقير يكبر إذا ما انتقد آراء العظماء.

[1] ابن سينا، النجاة، المقالة السادسة في النفس، الفصل 42، الصفحة 179. ويعبّر عن ذلك عادةً بأن كل حادث مسبوق بمادة ومدة. والمادة هي جانب الاستعداد الإمكاني الذي كان للحادث قبل التحقّق، والمدة هي الفسحة الزمنية التي احتاجها الحادث وهو بسبيل التدرج للتحقّق[*].

[2] ادعى ابن عربي في مقدمة كتابه فصوص الحكم أن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) كاشفه بهذا الكتاب من خلال الرؤية، أواخر محرم سنة (627)، وأمره بتبليغه للناس.

[3] هذه الاتجاهات يعبّر عنها بالفيثاغورية Pythagoreanism؛ وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى المعتقدات الباطنية والميتافيزيقية التي آمن بها فيثاغورس وأتباعه الفيثاغوريين، فقد سيطرت نبرة دينية على أفكار فيثاغورس وأتباعه في موضوع تفسير الحقيقة، وكانوا في أغلب الظن مصدر إلهام كبير لأفلاطون والأفلاطونية وما أطلق عليه لاحقًا بالفيثاغورية الجديدة[*].

[4] برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الجزء 1، الفصل 3.

[5] الأوبانيشاد Upanishad دستور ديني يرجع إلى ستة آلاف سنة. وهو يمثل القسم النظري من مجموعة الكتب الدينية لدى الهندوس والتي تسمى “الفيدا”. والترجمة الحرفية للأوبانيشاد هي: أن تجلس عن قرب بخشوع، وهذا يعني التلميذ الذي يجلس بكل احترام أمام معلمه ليتلقى منه العلم. وتعني كلمة أوبانيشاد كذلك: المذهب السرّي (التقية)، لأن فيه أفكارًا لا يستوعبها إلا من بلغ مرحلة متقدمة من النضج الروحي[*].

[6] “البراهمن” هو الإله المطلق عند الهندوس، والقائم بذاته، والحقيقة العليا. وهو خال من كل الصفات، ولا يمكن الحديث عنه بالكلمات[*].

[7] داريوش آشورى، الأديان والمذاهب الفلسفية، الهند، الفصل 17.

[8] تصوّر نظرية الكهف الناس على أنهم سجناء مقيدون إلى جدار الكهف، لا يستطيعون رؤية الشمس ولا رؤية الأجسام الحقيقية التي تمر من أمامها، كل ما يستطيعون رؤيته هو الظلال التي تسقطها تلك الأجسام على جدار الحائط الموجود في الكهف. والفيلسوف هو الوحيد القادر على التحرر من قيود الحس والوصول إلى إدراك الوجود العقلي، والأشياء في جوهرها، والوجود المطلق. نظرية الكهف موجودة كاملة في محاورة الجمهورية لأفلاطون[*].

[9] جمهورية أفلاطون، ترجمة فؤاد روحاني، الصفحتان 514 و515.

[10] تاريخ الفلسفة الغربية، مصدر سابق، الجزء 1، الفصل 6.

وأورفيـوس شخصيـة ميثـولوجية، اشتهر بغنائه بين الموتى وتنقّله بين عالمـي الأحياء والأموات. وتشير الأسطورة إلى أنه عندما توفيت زوجته ذهب إلى الدنيا السفلـى ليستعيدها إلى الحياة مرةً أخرى في الدنيا العليا[*].

[11] كارل ياسپرس، أفلوطين، ترجمة محمد حسان لطفي (منشورات الخوارزمي)، الصفحات 35 إلى 41؛ جمع أعمال أفلوطين (التساعيات) ترجمها محمد لطفي، منشورات الخوارزمي، التساعيات 4، و5، و6.

[12] المصدر نفسه، أرسطو، التحليلات الثانوية 2 و7؛ أفلوطين التساعية 1، البحث 6، الجزء 7؛ التساعية 5، البحث 5، الجزء 6.

[13] المصدر نفسه، أرسطو، التحليلات الثانوية 2 و7؛ (92) ب، (18 – 4). (92) ب، (18 – 4).

[14] ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، النمط 4، الفصلان 5 و6.

[15] الشفاء، مصدر سابق، المقالة 5، الفصل ‏6؛ الإشارات والتنبيهات، مصدر سابق، النمط 7، الفصول 7 إلى 10.

[16] الإشارات والتنبيهات، مصدر سابق، النمط 4، الفصول 4 إلى 12.

[17] الدكتور عبد الجواد فلاطوري، عالم ومحقق إسلامي، وهو حفيد الحكيم ملا إسماعيل الأصفهاني أستاذ السبزواري في الفلسفة. قضى ثلاث سنوات ملازمًا للفيلسوف المعروف ميرزا مهدي آشتياني (ت 1373ه). وفي سنة 1313ه وبعد نيل المراتب العلمية العالية في الفقه والأصول والفلسفة، شد رحاله إلى ألمانيا للاطلاع على الفلسفات الأخرى. أطلق عليه أساتذته، ومنهم الميرزا مهدي آشتياني، لقب “الحكيم”، واعتبروه في المباحثات الفلسفية صاحب توجهات حكيمة وانتقادات علمية، ومن حيث عمق التفكير والأفكار العلمية وصفوه بأنه من مفاخر إيران. من مؤلفاته: مقالة بعنوان “العقل كدليل نهائي على حقوق الشيعة‏”؛ كتاب تغير بناء الفلسفة اليونانية بتأثير طرز الفكر الإسلامي‏. قام بتدريس الفلسفة في جامعة كولون بألمانيا. وقد كان له سهم وافر في إنشاء “مركز التحقيق في العقائد والعلوم الشيعية في جامعة كولون‏”. عن مجلة كيهان انديشه، العدد 80[*].

[18] قال في المشاعر: “فكل وجود سوى الواحد الحق لمعة من لمعات ذاته، ووجه من وجوهه، وإنّ لجميع الموجودات أصلًا واحدًا هو محقّق الأشياء، فهو الأصل والباقي ظهوراته، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وفي الأدعية المأثورة: يا هو، يا من هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا يعلم أين هو إلا هو”؛ المشاعر، مصدر سابق، الصفحة 103[*].

[19] تحتوي كلا المقدمتين، على شرح واف ومستقل ومتكامل عن العرفان النظري، وقد أشرف السيد جلال الدين آشتياني على مقدمة شرح الفصوص، ونشرت تحت عنوان: شرح مقدمة قيصري. وأما مقدمة شرح التائية فقد نشرت بعنوان العرفان النظري، واحتوت على مقدمة حول نشأة العرفان وتكامله.

[20] مقدمة القيصري، المقصد 1، الفصل 1.

[21] المصدر نفسه، المقصد 3، الفصل 1.

[22] الأسفار، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحات 286 إلى 347.

[23] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحتان 38 و39.

[24] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحات 64 إلى 66.

[25] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحة 286.

[26] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحتان 291 و292.

[27] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحة 300.

[28] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحتان 300 و301.

[29] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحة 308. قال: “فكل ما قيل في تقريب هذه النسبة التي للذات الأحدية بالقياس إلى المراتب الإمكانية هو من باب التمثيلات المقربة من وجه للأفهام المبعدة من وجه للأوهام. وأشبه التمثيلات في التقريب التمثيل بالواحد ونسبته إلى مراتب الكثرة”.

[30] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحة 315. قال: “إياك وأن تظن بفطانتك البتراء أن مقاصد هؤلاء القوم من أكابر العرفاء واصطلاحاتهم وكلماتهم المرموزة خالية عن البرهان من قبيل المجازفات التخمينية أو التخيلات الشعرية، حاشاهم عن ذلك، وعدم تطبيق كلامهم على القوانين الصحيحة البرهانية والمقدمات الحقة الحكمية ناش عن قصور الناظرين وقلة شعورهم بها وضعف إحاطتهم بتلك القوانين، وإلا فمرتبة مكاشفاتهم فوق مرتبة البراهين في إفادة اليقين”.

[31] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحات 339 إلى 341.

[32] حكمة الإشراق، الجزء 1، المقالة 3، الصفحة 179، حكومة في الاعتبارات العقلية.

[33] الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحتان 39 و40، والصفحات 54 إلى 63.

[34] المصدر نفسه، الصفحة 39؛ والصفحات 47 إلى 49، والصفحة 398.

[35] الإشارات والتنبيهات، مصدر سابق، النمط 4.

[36] منظومة الحكمة، بحث زيادة الوجود على الماهية.

[37] حكمة الإشراق، الجزء 1، المقالة 3، الفصل 3، حكومة 1.

[38] توجد للكاتب ورقة بحث حول الكلي، ألقاها في مؤتمر عن السبزواري، وتوجد له مناقشة أخرى تعرض فيها لمبحث اتحاد العاقل والمعقول.

[39] عين القضاة، زبدة‏ الحقايق، تصحيح عفيف عسيران (نشر جامعة طهران)، الصفحتان 67 و68.

[40] السيد حيدر آملي، نقد النقود، الأصل الأول؛ الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 37 و61 و412؛ والجزء 3، الصفحة 388؛ والجزء 6، الصفحة 230.

[41] القيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية، المقدمة، الفصل 1; العرفان النظري، الصفحة 233 وما بعد.

[42] الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 49؛ الجزء 2، الصفحة 292.

[43] من قبيل ذلك، قول مولوي في المثنوي:

عشق به رنگ وبوهاى ناپايدار وخيالى ننگ است وكار مردان راه نيست.. عشقهايى كز پى رنگى بود عشق آن زنده گزين كو باقى است وزشراب جان فزايت‏ ساقى است.. عشق نبود عاقبت ننگى بود وزشراب جان فزايت‏ ساقى است.. وزشراب جان فزايت‏ساقى است.

نه تنها به مطلوبهاى دنيوى از قبيل مال وجاه وزن وفرزند ولذتهاى مادى، بلكه به مطلوبهاى اخروى هم از قبيل حور وقصور ولذايذ بهشتى نبايد دل بست، كه همه اينها سد راه وحجاب‏ اند.

[44] ومن قبيل ذلك، قول عين القضاة في زبدة الحدائق الصفحة 28: معارف ظاهرى كه تنها در قلمرو زمان ومكان،

ويقول الشيخ البهائي: ودر دايره نمودها وپديدارهاست، در مقايسه با معارف شهودى، ارج ومنزلتى نداشته وبخاطر محدوديت قلمرو، غفلت زائى واينكه هدفشان وصول به معشوق حقيقى نيست، مورد تحقير ونكوهش هم قرار مى‏گيرد. علم نبود غير علم عاشقى مابقى تلبيس ابليس شقى.

[45] الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 400.

[46] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 398.

[47] الوجود حقيقته أنه في الأعيان، وكل ما كانت حقيقته أنه في الأعيان فيمتنع أن يكون في الأذهان[*]. انظر، الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات 37، 61، و412؛ والجزء 3، الصفحة 388؛ والجزء 6، الصفحة 230.

[48] توضيح هذه النقطة هو خارج المجال المتاح لهذه المقالة.

[49] الأسفار، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 37.

[50] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 245؛ والجزء 3، الصفحتان 234 و354، والجزء 5، الصفحة 155.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
مفهوم الوجود

المقالات المرتبطة

منهجية سيد قطب في قراءة الإسلام

شكّل الإسلام السياسي منذ سقوط السلطنة العثمانية، وإلى يومنا هذا، الشغل الشاغل للمهتمين بالواقع السياسي للعالمين العربي والإسلامي…

النفس عند أفلاطون (1)

لا تخلو حضارة إنسانية بالحديث عن النفس، وإن اختلفت فيما بينها حول تحديد المعنى منها إلا أنّها تبقى كمسلّمة أساسية لا يمكن إغفالها أو القفز عنها

القدر

إن ما يمكن أن نسميه بالقدر؛ أي القدر الذي يسير فيه الإنسان. إن حياة الإنسان عبارة عن جملة من الأمور المحسوبة بحسابات إلهية مرتبطة بما يسمى بالسنن؛ بمعنى أن الحياة، على سبيل المثال، فيها ابتلاءات

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<