by الشيخ فضل مخدر | أغسطس 23, 2021 8:31 ص
تمهيد
إن الحديث عن المنشأ التاريخي للعادات المتبعة في المآتم الحسينية “مآتم عاشوراء” يقتضي أن نلفت النظر إلى أن العادة والتقليد قد تكون منطلقة من واقع اجتماعي أو سياسي بغض النظر عن منشأ أو منطلق تشريعي أو مصدر ديني، هذا في العموم وما يتعلق بعادات عاشوراء بشكل خاص، مع ما عاناه الشيعة في التاريخ “وهم الفئة التي تحيي هذه المناسبة”، وقد مروا بظروف معقدة وصعبة على مستوى العلاقة مع السلطات الحاكمة في المراحل كافة، تكشف القراءة لهذه المراحل أن بعض عادات عاشوراء لم تنشأ من منطلق شرعي أو مصدر ديني، وأن بعضها حظي بتأييد من الفقهاء والبعض الآخر، اختلف فيه.
ولذلك سنعمل في هذا البحث على الموضوعية من جهة العرض للوقائع، مما لا يعني تأييدًا أو رفضًا، أو محاولة إعطاء حكم خاص لهذه العادات أو بعضها، وسيتضمن البحث:
أولًا: نشأة المأتم الحسيني العاشورائي.
في محاولة للخوض في المراحل التاريخية لتحديد النشأة الفعلية والانطلاقة الأولى للمأتم العاشورائي نجد أن الأمر يدور بين حالة عفوية وحالة منظمة مقصودة تختلف باختلاف موقعها التاريخي وبين من عمل عليها.
الحالة العفوية.
إن المقصود بالحالة العفوية هي المواقف التي أظهرت حالة الحزن من خلال إقامة المأتم والحداد والندب والعزاء من دون تخطيط مسبق عن قصد وتنظيم معين، وقد سجل التاريخ عددًا منها، بعضها كان فرديًّا وبعضها كان جماعيًّا.
أ. الحالات الفردية
ب. الحالات الجماعية
كهولهم خير الكهول ونسلهم | إذا عدَّ نسلٌ لا يبور ولا يخزى |
وقالوا: “وضجت بنو هاشم والأنصار، ضجة لم يسمع بمثلها من قبل”، وجاء أن ابنة عقيل بن أبي طالب خرجت ومعها نساؤها وهي تقول:
“ماذا تقولون إن قال النبي لكم | ماذا فعلتم وأنت آخر الأمم | |
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي | منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدمٍ | |
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم | أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي” |
فإن العزاء وظاهرة الحزن والبكاء، برزت في أغلب ولايات ومناطق الدولة الإسلامية على الإمام الحسين في حينها، والأمثلة التي قدمناها تدل على ذلك وإن كان بشكل عفوي غير منظم أو مقصود.
الحالة المنظمة.
لقد تعددت الآراء في نشأة المأتم أو المآتم المنظمة والمقصودة، والتي اعتبرت هادفة في تسنين هذه الظاهرة وتثبيتها ونعرض منها الآتي:
– الرأي الأول: التوابون: 65هـ – 684م.
وكان ذلك بعد مقتل الإمام الحسين بأربع سنوات، فقد رأى البعض في انطلاقة التوابين حينما غادروا الكوفة ووصلوا إلى موضع قبور شهداء كربلاء، حيث أقاموا المأتم ثلاثًا، وعلت أصواتهم بالبكاء والنحيب، عند قبر الحسين، وابتهالهم إلى الله أن يغفر لهم تخليهم عن حفيد النبي (ص) في ساعة ضيقة أن ذلك كان بداية المأتم المنظم المقصود، وقد اعتبر بعض الكتاب أن مسرحيات المآتم التي تمثل في العاشر من محرَّم حيثما وجد الشيعة تعود إلى ذلك المأتم، ومما جاء عن التوابين أن زعيمهم الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي، كان يصيح في ذلك اليوم: “اللهم ارحم حسينًا، الشهيد ابن الشهيد، المهدي بن المهدي الصديق بن الصديق. اللهم اشهد أننا على دينهم وسبيلهم وأعداء مقاتليهم وأولياء محبيهم”.
وإن كان يعتبر بعض الباحثين أن هذا المأتم هو من المآتم العفوية كذلك.
– الرأي الثاني: مأتم المختار على باب ابن سعد.
في العام 65 هـ كذلك حيث بلغ المختار بن أبي عبيدة الثقفي- وكان قد سيطر على الكوفة بعد خروج التوابين منها إلى الشام- أن محمد بن الحنفية غير راضٍ عنه لأنه يُجلس عمر بن سعد على وسائده فأمر صاحب حرسه، أن يستأجر نوائح يبكين الحسين عند باب عمر بن سعد. “وإن لم يسجل أنه أسس للمأتم الحسيني ولعل سبق التوابين وحجم مأتمهم، ووجود آراء تدعم أنهم أسسوا للمأتم العاشورائي ضعف الرأي فيه”.
الرأي الثالث: البويهيون.
وكان ذلك في فترة سيطرة البويهيين على مقاليد الخلافة العباسية في بغداد، ذكر ابن الأثير عن سنة 352هـ “في هذه السنة عاشر المحرم. أمر معزّ الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قبابًا عملوها بالمسوح، وأن تخرج النساء منشرات الشعور، مسودات الوجوه وقد شققن ثيابهن في البلد، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي (رض) ففعل الناس ذلك..”.
يقول السيوطي: “وهذا أول يوم نيح عليه فيه ببغداد… واستمرت هذه البدعة سنين”.
وقال الذهبي: “هذا أول يوم نيح عليه ببغداد”.
وقد شكك علماء الشيعة في بعض هذه المظاهر سيما أمر النساء أن يكشفوا شعورهن. وقال بعضهم: “لم يكن فيها اختلاط بين الرجال والنساء: “فكانت النساء تخرج ليلًا والرجال نهارًا”.
ومع كل ذلك لا يمكننا أن نعتبر أن النشأة بدأت من هنا خصوصًا، وإن كتب التاريخ التي تذكر هذه الحادثة على أنها بعد ما يقارب ثلاثة قرون على استشهاد الإمام الحسين(ع) تؤكد أنه أول يوم نيح فيه عليه ببغداد، وذلك لا ينفي أن تكون المآتم قد أقيمت في غيرها قبل ذلك، بل تؤكد الأخبار على إقامة المآتم فيها وفي غيرها قبل اليويهيين.
– الرأي الرابع: الإمام زين العابدين (ع).
حيث اعتبرت خطبته في المسجد الأموي عن قصد وهدف وشكَّلت أول مأتم هادف على الإمام الحسين، كما أنه كان في كل ذكرى لعاشوراء، إما أن يخرج بين الناس في المسجد أو الأسواق، وإما يجمع حوله أصحابه وأهل بيته ويرثي الإمام الحسين ويبكيه ويذكر ما حدث لهم في كربلاء ويبكي من حوله ومن يسمعه.
– الرأي الخامس: أئمة أهل البيت (ع).
يقول السيد محسن الأمين: “إنهم – أي أئمة أهل البيت (ع)- بكوا على الحسين وعدّوا مصيبته أعظم المصائب، وأمروا شيعتهم ومواليهم وأشياعهم بذلك، وحثوا عليه، واستنشدوا الشعراء في رثائه، وبكوا عند سماعهم، وجعلوا يوم قتله يوم حزنٍ وبكاء، وذمّوا من اتخذه عيدًا، وأمروا بترك السعي فيه في الحوائج، وعدم ادخار شيء فيه، فالأخبار فيه مستفيضة عنهم، تكاد تبلغ حد التواتر، رواها عنهم ثقات شيعتهم ومحبيهم بأسانيدها المتصلة إليهم(ع).
وسنورد هنا بعضًا منها:
* الإمام علي بن الحسين(ع).
“أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي حتى تسيل على خده، بوأه الله بها في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا”.
* الإمام الباقر(ع).
“فيما ينبغي عمله يوم عاشوراء: “… ثم ليندب الحسين(ع) ويبكيه، ويأمر من في داره بالبكاء عليه ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضًا بمصاب الحسين(ع)..”.
* الإمام علي الرضا(ع).
“من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء، يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة، يوم فرحه وسروره، وقرّت في الجنان عينه”.
ورد عدد من الأخبار أنهم (ع) كانوا يجمعون الشعراء ليرثوا الحسين في بيوتهم، ويضربون الحجاب ويجلسون أبناءهم ونساءهم خلفه ليستمعوا لهم، وتعلوا بيوتهم بأصوات البكاء والنحيب أيام عاشوراء، ويقدمون العطايا للشعراء على شعرهم في الحسين(ع) ولا يُرى واحدهم باسمًا في تلك الأيام قط.
* الإمام جعفر الصادق(ع).
ورد في ترجمة السيد الحميري: “ذكر التميمي عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد، إذ استأذن آذنه للسيد (الحميري) فأمره بإيصاله، وأقعد حرمه خلف ستر، ودخل فسلَّم وجلس، فاستنشده فأنشده قصيدته التي مطلعها:
“أمرر على جَدَثِ الحسـ | ـين وقل لأعظمه الزكية” |
قال: فرأيت دموع جعفر بن محمد تنحدر على خديه، وارتفع الصراخ من داره، حتى أمره بالإمساك فأمسك”.
وتكرر ذلك مع الأئمة والشعراء. كالكميت مع الإمام الباقر(ع)، ودعبل مع الإمام الرضا(ع).
خلاصة القول:
يمكننا أن نعتبر أن النشأة العامة للمأتم الحسيني العاشورائي، كانت بأمر أو موافقة أو تأييد الأئمة (ع)، وقد مهدت المآتم العفوية للمآتم المنظمة الهادفة، واستمرت حتى وصلتنا في العصر الحاضر، ويبقى أن نلقي الضوء على نشأة العادات التفصيلية للمأتم التي يمكن أن نلخصها بالآتي:
الشعر- الندب- النواح- المواكب- القراءة وأطوارها- اللطم- التطبير- إقامة الولائم- الضرب بالزنجيل- تمثيل المصرع-… وغير ذلك.
نشأة العادات التفصيلية.
إن الحديث عن العادات المتبعة التي اكتسبتها مراسم المأتم الحسيني العاشورائي (الشعر- الندب- والنواح- المواكب- القراءة وأطوارها- اللطم- التطبير- الولائم- ضرب الزنجيل).
يقتضي أن نبيِّن العوامل التي ساهمت في ترسيخ هذه العادات وساهمت في استمرارها وتطويرها مع بيان مراحل النشوء، فالدراسات تؤكد أنه لم تنشأ في وقت ومرحلة واحدة ومعينة بل كانت تطرأ على المجالس الحسينية والمآتم العاشورائية، بحسب الظروف الاجتماعية أو السياسية المحيطة بالشيعة، ويمكن أن نعبِّر عن ذلك “بمراحل النشأة”، ولأننا لسنا بصدد بيان تفاصيل التطور ومراحله، سنتحدث عن مراحل النشأة بالجملة وهما مرحلتان:
المرحلة الأولى: مرحلة الأئمة وأهل البيت (ع).
المرحلة الثانية: مرحلة الحكومات الشيعية، وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة الأئمة وأهل البيت (ع).
من الواضح حسب الأمثلة التي مرت معنا حث الأئمة وإنشائهم للمآتم، أنها لم تتجاوز استخدام الشعر الرثائي بنوعيه (الندب والنواح)، وقراءة واستنشاد الشعراء فيه وإنشاده، وجمع الأهل والأصحاب حوله في ذكرى عاشوراء، وكان ذلك من العادات المتبعة حينها.
ولم يطرأ على المآتم في عصرهم جديد، سوى نوع من الاستخدام في أسلوب قراءة الشعر، كما حدث مع أبي هارون المكفوف: عندما دخل على الإمام الصادق(ع) يقول: قال لي: “يا أبا هارون أنشدني في الحسين، قال: فأنشدته فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون – يعني بالرقة- قال فأنشدته:
“أمرر على جدث الحسـ | ـين فقل لأعظمه الزكية” |
قال فبكى ثم قال: زدني: قال: فأنشدته القصيدة الأخرى فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر”.
ويعقب السيد محسن الأمين على لفظ (الرقة) فيقول: قوله بالرقة – بكسر الراء المشددة- أي الطريقة التي تستعملونها عند الإنشاد، التي فيها الرقة والطلاوة، والتي توجب التأثير في القلب لا مجرد التلاوة.
* وذكرت بعض المصادر الأدبية: أن السيدة سكينة بنت الإمام الحسين كانت تولي شعر النياحة اهتمامًا كبيرًا… ونقل عن جماعة من شيوخ مكة: “أن سكينة بنت الحسين(ع) بعثت إلى سريج بشعر أمرته أن يصوغ فيه لحنًا يناح به والشعر هو:
يا أرض ويحكم أكرمي أمواتي | فلقد ظفرت بسادتي وحماتي |
ويذكر أنها لم تكتف بنوح ابن سريج بل بعثت إليه بمملوك لها يقال له عبد الملك، وأمرته أن يعلمه النياحة، فلم يزل يعلمه مدة طويلة.
وقد ظهر في عدد كبير من الأخبار تأييد الأئمة (ع) لقراءة الشعر وكتابته والنواح والندب وتلاوة المرثيات في الإمام الحسين (ع).
ومنها: عندما سأل: الإمام الصادق(ع) أحد أصحابه من الكوفيين “بلغني أن قومًا يأتون قبر الحسين (ع)، من نواحي الكوفة، وناسًا، من غيرهم، ونساء يندبنه وذلك في النصف من شعبان، فمن قارئ يقرأ، وقاصٍ يقص، ونادبٍ يندب، وقائل يقول المراثي. فقال: نعم جعلت فداك قد شهدت بعض ما تصف، فقال (ع): الحمد لله الذي جعل في الناس، من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا..”.
“فالشعر والندب والنواح وقص ما حدث في مقتل الحسين” هي العادات والوسائل التي اتبعت في مرحلة الأئمة (ع)، وكان أول من قال الشعر في الإمام الحسين(ع) غير أهل كربلاء: بشر بن حلذم عندم طلب منه الإمام زين العابدين أن ينعي الإمام الحسين لأهل المدينة، عند وصول ركب نساء الحسين إليها، وقرأ عليهم أبياته المشهورة:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها | قتل الحسين فأدمعي مدرار |
المرحلة الثانية: مرحلة الحكومات الشيعية.
وسنقدم بعض الأمثلة على تلك العادات التي اتبعت إما بطلب تلك الحكومات أو بتأييدها لها.
والقصد من ربط هذه المرحلة بالحكومات الشيعية: أنها كانت تفسح المجال بل تعمل على جمع الشيعة في هذه المناسبة، وكانت في أزمنتها حرية إقامة المآتم واجتماع الناس عليها أمر مباح.
– البويهيون.
في هذه المرحلة أثناء حكم البويهيين كما يبدو من الذي مر معنا في خبر سنة 352 هـ. في بغداد بأمر معز الدولة البويهي: نشأت عادات جديدة منها لبس المسوح، ومنها الخروج إلى الشوارع بالندب والنواح والإنشاد أي بداية تأسيس لنوع من المواكب، كما أن عاداتٍ هي ليست من العادات الإسلامية، وإن كان الناس يفعلونها عند فقد أحبائهم كصبغ الوجه بالسواد ولطم الصدور والوجوه وشق الثياب، أيضًا دخلت بشكل ما في المأتم العاشورائي، وأما خروج النساء، وإن شكك به لكنه ورد أنه حدث بأوقاتٍ غير أوقات خروج الرجال كما مر.
– الفاطميون.
يقول المقريزي في خططه: “انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين، قبر كلثوم ونفيسة، ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالاتهم بالنياحة والبكاء على الحسين(ع).. وقد كانت مصر لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية في أيام عاشوراء سنة 350 هـ.
وهنا إشارة إلى وجود الشيعة قبل الفاطميين وإحيائهم للمأتم العاشورائي، ومع وصول الفاطميين إلى الحكم حدث تطور مهم في مراسم العزاء الحسيني، وإن تأثر المصريين بعزاء الحسين مرجعه إلى سنة 61 هـ حين قدوم السيدة زينب(ع).
وقد اتخذت المراسم أشكالًا تطورت من عام إلى عام منذ السنة الأولى لدخول المعز الفاطمي إلى مصر سنة 363 هـ، وكان أكبر تطور على المآتم الحسينية وقوتها بعد سنة 548 هـ بعدما نقل رأس الحسين(ع) – على ما قيل- من مدينة عسقلان في فلسطين إلى القاهرة حيث مدفنه في المسجد المنسوب إليه اليوم.. أما المراسم والعادات فيها فقد ذكرت كالتالي:
“إذا كان يوم العاشر من المحرّم، احتجب الخليفة عن الناس فإذا علا النهار، ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيّروا زيهم ولبسوا لباس الحزن، ثم صاروا إلى المشهد الحسيني بالقاهرة، وكان قبل ذلك يُعمل المأتم بالجامع الأزهر، فإذا جلسوا فيه بمن معهم مع الأمراء وأعيان وقراء الحضرة والمتصدرين في الجوامع جاء الوزير فجلس صدرًا.. والقاضي وداعي الدعاة من جانبيه، والقراء يقرؤون نوبة فنوبة، ثم ينشد قوم من الشعراء – غير شعراء الخليفة- أشعارًا يرثون بها الحسن والحسين(ع) وأهل البيت وتصيح الناس بالضجيج والبكاء والعويل.
فإذا كان الوزير شيعيًّا تغالوا في ذلك وأمعنوا، وإن كان سنيًّا اقتصروا، ولا يزالون كذلك حتى تمضي ثلاث ساعات، فيستدعون إلى القصر عند الخليفة، بنقباء الرسائل، فيركب الوزير، وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضي القضاة والداعي، ومن معهما، إلى باب الذهب (أحد أبواب القصر) فيجدون الدهاليز، قد فرشت مساطبها بالحصر والبسط، وينصب في الأماكن الخالية الدكك لتحلق بالمساطب والفرش، ويجدون صاحب الباب جالسًا هناك، فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم فيقرأ القراء وينشد المنشدون، ثم يُفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة، ثم يفرش عليها سماط الحزن، مقدار ألف زبدية من العدس والمسلوقات والمخللات والأجبان والألبان الساذجة وأعسال النحل والفطير المغيّر لونه بالقصد، لأجل الحزن.. فإذا اقترب الظهر وقف صاحب الباب ببابه، ومن الناس من لا يدخل من شدة الحزن، فلا يُلزم أحد بالدخول، فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركبانًا، بذلك الزي الذي ظهروا فيه من قماش الحزن، وطاف النوّاح في القاهرة في ذلك اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى ما بعد العصر، والنواح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقتها، فإذا فات العصر يفتح الناس دكاكينهم، ويتصرفون في بيعهم وشرائهم، فكان ذلك دأب الخلفاء الفاطميين من أولهم المعز لدين الله إلى آخرهم العاضد عبد الله”.
ويمكننا أن نردّ كثيرًا من العادات إلى تلك المرحلة.
وإن إقامة العزاء كانت في الشوارع والبيوت والمشاهد المقدسة والجوامع وقصور الخلفاء، والجدير ذكره: أنه تم إشادة أمكنة خاصة بإقامة العزاء والمآتم وهي ما تعرف اليوم (بالحسينية).
– الصفويون.
بدأوا كأصحاب طريقة صوفية وانتهوا إلى دولة، حتى سيطروا على معظم إيران وأفغانستان والعراق، وكانت عاصمتهم أصفهان في إيران، حكموا من (1502 – 1736 م) دخل الشاه إسماعيل الصفوي إلى بغداد في 914 هـ، ولقد لقيت المآتم الحسينية رعاية خاصة منهم: “عندما تولى السلطة على العراق الصفويوين أو غيرهم من الإيرانيين، كان الإقبال على إقامة هذه المآتم والنياحات عظيمًا وكانت حرية الشيعة في إحياء الذكرى الأليمة مضمونة، وقد غالى الشيعة في إقامتها”.
لقد أولى الصفويون اهتمامًا كبيرًا بالمآتم الحسينية وبقية مراسم العزاء باعتبارها من أنجح الطرق الشيعية العاطفية في نشر التشيع الذي تبناه الصفويون، وعملوا على نشره في إيران وإعلانهم المذهب الشيعي مذهبًا رسميًّا للبلاد، فاستخدموا العزاء الحسيني سياسيًّا ودعائيًّا لنشر التشيع وبسط نفوذهم، وشجعوا على إقامة المآتم وزيارة العتبات المقدسة في إيران والعراق، وبذلوا أموالًا طائلة في عمارة مراقد الأئمة(ع).
* وأما على مستوى العادات والتقاليد وتطوير المعروف منها وإنشاء الجديد منها:
استحدث الصفويون منصبًا وزاريًّا جديدًا باسم وزير الشعائر الحسينية، وقد أدخلت هذه الوزارة الكثير من العادات على مراسم المأتم الحسيني العاشورائي: مثال: النعش الرمزي والضرب بالزنجيل والأقفال، والتطبير، واستخدام الآلات الموسيقية، وأطوارًا جديدة في قراءة المجالس الحسينية جماعة وفرادى.
وقد رد البعض، بعض هذه العادات إلى طرق الصوفية، واعتبر البعض أن كثيرًا أو كل هذه العادات لم تكن من الفلكلور الإيراني حينها ولا في الشعائر الدينية الإسلامية، إنما نتجت عن دراسات أجراها وزير الشعائر الحسينية في الدولة الصفوية حول المراسم الدينية والطقوس المذهبية والمحافل الاجتماعية المسيحية عندما زار أوروبا الشرقية في بدايات القرن السادس عشر، واقتبس تلك المراسيم والطقوس وجاء بها إلى إيران واستعان ببعض الملالي لإجراء تعديلات عليها لكي تصبح صالحة لاستخدامها في المناسبات الشيعية وبما يتناسب وينسجم مع الأعراف والتقاليد الوطنية والمذهبية في إيران.
وبإلقاء الضوء على المرحلة الثانية: مرحلة الحكومات الشيعية البويهية والفاطمية والصفوية، يمكننا أن نستنتج أن نسبة كبيرة من العادات والتقاليد جاءت من خلال هذه الحكومات، وكثيرًا منها كان نوع من إظهار قوة الحكم وغلبة الشيعة والتشيع في سلطة نفوذهم، والبعض منها كان اجتهادًا شخصيًّا لسلاطين وزعماء تلك المرحلة.
يمكن مراجعة:
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13580/ashuraahabits/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.