by الدكتور أحمد ماجد | سبتمبر 20, 2021 8:14 ص
يعتبر “نصر حامد أبو زيد” “الهرمنيوطيقا” قضية قديمة جديدة، ساهمت في إعادة تشكيل الرؤية الغربية، ولها وجودها في التراث العربي من الممكن تثميره للوصول إلى حلّ لإشكالية النهضة، وهذا ما دفعه إلى تبني الحوار الجدليّ بين الثقافتين العربيّة والغربيّة؛ فهذا العلم كما أُنتج في الثقافة الغربية قادرٌ على المساهمة بمعالجة واقعنا الثقافي بجانبيه التاريخيّ والمعاصر، على أن يَرتِكز على حفظ خصوصية الذات وأصالتها وديناميّتها؛ فالحوار الجدليّ: “ليس صيغة تلفيقية تحاول أن تتوسط بين نقيضين، بل هي الأساس الفلسفيّ لأيّ معرفة، ومن ثمّ لأيّ وعي بصرف النظر عما نرفعه من شعارات أو نتبناه من مقولات ومواقف. إنّ أيّ موقف يقوم على الاختيار، والاختيار عملية مستمرة من القبول والرفض، أي عملية مستمرة من الحوار”[1][1]، بالتالي قد تكون “الهرمنيوطيقا” إذا تمّ تبنيها نتيجة خيار حرّ قادرة على: “أن تضيء لنا بعض جوانب القصور في رؤيتنا”[2][2]، ولكن هذا لا يمكن تحقيقه دون التدقيق بمفهوم النّص.
يؤكد “أبو زيد” على وجود رؤية كونية مكوِّنة لنظرة الإنسان إلى العالم، فكلّ حضارة تنطلق من خصوصيتها: “وإذا صحّ لنا بكثير من التبسيط أن نختزل الحضارة في بعد واحد من أبعادها لصحّ لنا أن نقول: إنّ الحضارة المصرية القديمة هي حضارة “ما بعد الموت”، وأنّ الحضارة اليونانيّة هي حضارة “العقل”، أما الحضارة الإسلاميّة فهي حضارة “النص”[3][3]، وإذا كانت الحضارة العربيّة – الإسلاميّة نصّيّة فهذا يعني أنّها تأويلية؛ لأنّ النّص دون تأويل يفقد وجوده الحقيقيّ وفعاليته، فالتأويل هو الوجه الآخر للنّص ومنه يستمد حركته[4][4].
يرادف “أبو زيد” بين النّصّ والقرآن والذكر والوحيّ، ولكنّه: “يعدّ مفهوم “الوحيّ” هو المفهوم المركزيّ للنّص عن ذاته، حيث يشير [القرآن الكريم] إلى نفسه بهذا الاسم في كثير من المواضع”[5][5]، وهذا ما دفعه إلى دراسته لسانيًّا وسيميولوجيًّا وتاريخيًّا، فتوقف في تحليلاته عند معنى “الوحيّ” كما ورد في القرآن، وتفحّص كيفية استعماله في حقل التداول الشعري القديم مع الحرص على مطابقة دلالته مع مفردة “الاتصال” وصهرهما في قالب معجميّ واحد؛ وذلك لتأكيد أطروحته التي تقول بالتعالق الماهويّ بين ظاهرتي “الوحي” و”الشعر والكهانة”، وهذا المعنى مرتبط بالواقع وعلاقته بالوحيّ، وهي الفكرة التي من خلالها جعل “أبو زيد” القرآن منتجًا ثقافيًا بقوله: “إنّ النّصّ في حقيقته وجوهره منتج ثقافيّ. والمقصود بذلك أنّه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عامًا”[6][6]؛ والواقع هو حركة البشر الذي نزل النّصّ من أجلهم، ومنهم المتلقي الأول وهو الرسول، وأما “الثقافة” فهي اللغة التي نزل القرآن بها: “وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة والواقع، ولا يمكن من ثّم أن نتحدث عن نّصّ مفارق للثقافة والواقع أيضًا طالما أنّه نّصّ داخل إطار النظام اللغويّ للثقافة. إنّ ألوهية مصدر النّصّ لا تنفي واقعية محتواه ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر”[7][7].
ولتأكيد أطروحته احتج بأبيات من الشعر الجاهليّ للشاعرين “علقمة”[8][8] و”الأعشى”[9][9] تصف ما كان يكتنف حياة الإنسان الجاهليّ من إيمان بالجن والأساطير وعلاقتهما بمفهوم الوحيّ. ويأتي هذا لإقناع القارىء بأنّ فهم الظاهرة القرآنية لا يُمكن تحقيقه إلا باستدعاء زمنية “ثقافة الشعر” بوصفها الثقافة المصاحبة للحظة التماس بين الوحيّ والأرضيّ. وبعملية استدلالية يخلص “أبو زيد” إلى أنّ اكتشاف بنية الخطاب القرآني وآلياته لا يتحقق إلا بالعودة إلى آليات ثقافة الشعر/ الثقافة الشفاهية. وبعبارة أخرى فإنّ: “انتماء النّص إلى مجال هذه الثقافة يجعله – من هذه الوجهة – نصًا ينحو ناحية المخاطب. وليس أدلّ على هذا الاتجاه في بناء النّص وآلياته اللغوية من كثرة دوران أدوات النداء فيه، سواء كان المنادى هم “الناس”، أو “بني آدم”، أو “الّذين آمنوا”، أو “الكافرون”، أو “أهل الكتاب”، هذا بالإضافة إلى نداء المخاطب الأول بالنبي أو الرسول”[10][10]، ويكشف هذا الاستدلال عن مدى تجذر الثقافة الشفاهية بحكم تماثل الحركة الخطابية نحو المخاطب (أنا، أنتما، أنتم…) في كل من الشعر الجاهلي: “قفا نبكِ” وفي القرآن: ﴿واعتصموا بحبل الله﴾[11][11]، بالإضافة إلى تماثلهما في كثرة ورود أدوات النداء (يا، أيْ..)، وهنا نلاحظ أنّ “أبو زيد” يبني استدلاله على أرضية “يوري لوتمان Youri Lotman “[12][12] الذي يرى: “العالم الشعريّ “Model” للعالم الواقعيّ.. الهدف [منه] لا ينحصر -بالطبع- في طرائقه، بل يمتد إلى معرفة الإنسان بالعالم: وبالعلاقات بين الناس، وبنفسه، وقدرته على بناء شخصيته في غمار عملية المعرفة والتواصل الاجتماعيّ، أي أن الهدف من الشعر يتفق – في التحليل الأخير – مع الهدف من الثقافة بعامة”[13][13]، بالتالي فالنّص القرآني استوعب الشعريّ، وانطلق منه لتثبيت علاماتي كتابي “Graphique” مختلف عن النسق الشفاهيّ. لقراءة البحث الكامل: نصر حامد أبو زيد ومفهوم النص – الدكتور أحمد ماجد[14]
مصادر البحث:
[1][15] نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، (بيروت/ الدار البيضاء، مؤمنون بلا حدود، الطبعة1، 2014)، الصفحة 14.
[2][16] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[3][17] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، (بيروت/ الدار البيضاء، مؤمنون بلا حدود، الطبعة1، 2014)، الصفحة 9.
[4][18] المصدر نفسه، الصفحة 9.
[5][19] المصدر نفسه، الصفحة 24.
[6][20] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المصدر السابق، الصفحة 24.
[7][21] المصدر نفسه، الصفحة 24.
[8][22] علقمة الفحل هو علقمة بن عبدة، بن النعمان التميمي، من نجد وسادات تميم وشعرائهم المشهورين المتوفي عام 561 م.
استخدم “أبو زيد” البيت التالي لـ”علقمة”:
يوحي إليها بأنقاض ونقنقة كما تراطن في أفدانها الروم
يشير الشاعر إلى علاقة اتصال بين ذكر النعام وأنثاه (مرسل ومستقبل) من خلال شفرة خاصة (الانقضاض والنقنقة) سرية لا يفهمها الشاعر.
[9][23] الأعشى هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، المعروف بالأعشى بسبب ضعف في بصره، توفي عام 7 هـ/ 629 م.
استخدم “أبو زيد” الأبيات التالية لـ”الأعشى”:
وما كنت شاحِرْدا ولكن حسبتني إذا “مسحل” سدَّى لي القول أنطق
شريكان فيما بيننا من هوادة صفيان جِنِّيٌ وإنس موفَّق
يقول فلا أعيا لشيء أقوله كفاني لا عَيٌّ ولا هو أخرق
يقول “الأعشى” متحدثًا عن قرينه “مسحل” وعن اعتماده عليه في قول الشعر.
[10][24] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المصدر السابق، الصفحة 57.
[11][25] المصدر نفسه، الصفحة 53.
[12][26] يوري ميخائيلوفيتش لوتمان، وُلِد في 1922 في مدينى “بتروغراد وتوفي في 1993، وهو سيميوطيقي ومتخصص في الآداب والثقافة السلافية.
[13][27] يوري لوتمان، تحليل النّص الشعري: بنية القصيدة، ترجمة: محمد فتوح أحمد، (القاهرة، دار المعارف، الطبعة1، 1995)، الصفحة 185.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13715/nasrhamed3/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.