“الدين في التصوّرات الإسلاميّة والمسيحيّة”
يعتبر البحث في موضوع الدين وعلاقته بالحياة، بالفرد وبالمجتمع، مـن أهم الموضوعات وأكثرها دقـة وحساسية، وجمالًا، سيمـا إذا كان الباحث مؤمنًا بالله وبرسالاته وشرعه، فيصير الحديث عن الدين حديث عن مفردات الحب وسبله ولغة الخطاب مع المعشوق. مـن جهة أخرى، إن المتدين الذي يفترض أنه مظهر لتجلي صفات الله من رحمة وحب وجود وغيرها من الكمالات، (بمستويات مختلفة) يشتاق دائمًا للبحث بموضوع الدين ومتعلقاته من باب رغبته بمشاركة مـن يحب وبمشاركة الناس جميعًا هذا الخير الكثير الذي يراه في علاقته مع ربه والآثار التي تتركها هذه العلاقة في الوجود كله. ولعله من هذا الباب يمكننا فهم الألم الذي كان يعتصر قلب رسول الله محمد صلّى الله عليه وعلى آله عندما كان يرد كثير من الناس دعوته صلّى الله عليه وعلى آله بالرفض والجحود، فخاطبه الله تعالى بقوله: {طـه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى}[1]،
قبل الدخول بالقراءة، لا بد لي من الإشارة والتنويه بالأمور التالية:
1 ـ لقد وجدت في قراءتي واطّلاعي على هذا الكتاب متعة فكرية وفائدة كبيرة نظرًا لغنى وتخصص وأهمية الأبحاث الموجودة فيه.
2 ـ أنا لست متخصصة في علم الفلسفة او الإلهيات أو في العلوم الدينية، سواء أكانت إسلامية أم مسيحية، بل أنا باحثة في الشؤون السياسية، أعمل في مجال السياسة منذ سنوات، لكني عملت طيلة 12 سنة تقريبًا في الشأن الاجتماعي، وكما يقولون في لغة التنظيم، على الأرض ومع الناس.
وأعتبر أن من أهم واجباتي الدينية والأخلاقية والسياسية: خدمة الناس وخدمة المجتمع وحمايته من المشاكل الطبيعية الداخلية التي يمكن أن تنشأ في أي مجتمع، وكذلك من المؤامرات التي تحاك ضدّه لغايات سياسية وأمنية واستعمارية.
3 ـ لمّا كان هذا الموضوع هو القضية التي أحملها وأحمل همّها، فإني أعتبر أن الأبحاث الموجودة في هذا الكتاب قدّمت وساهمت مساهمة حقيقية وأساسية في مسار النهوض بالمجتمع وحمايته وتطويره وإيصاله إلى كماله. لماذا؟ لأنه، وببساطة لو نظّمت جهة ما مؤتمرًا أو حلقات دراسية وبحثية للبحث بوضع مجتمعنا: مواطن ضعفه، مواطن قوته… لوجدنا ان أحدى أهم المشاكل التي يعاني منها المجتمع اللبناني هي قلّة الدين وابتعاد الناس، وخاصة الأجيال الناشئة عن الدين. بالتالي، فإن ما قدمه السادة الباحثون كان جزءًا نظريًا وضروريًا لأي دراسة مطلوبة لإيجاد الحلّ لبعض مشاكل المجتمع.
من الموضوعات التي لفتت انتباهي في الأبحاث المقدّمة: لقد تناولت الأبحاث المطروحة جملة عناوين مرتبطة بالدين، لجهة تعريفه وتحديد ماهيته، وظائفه، والتحديات التي يواجهها. كما بحثت في علاقة الدين بنظام القيم وبالشريعة وبالزمن وتطوره. وقد عرض بعض الباحثين للمناهج الأخلاقية المطروحة علميًّا، سواء من علماء الدين أو الفلاسفة (المتدينين أو العلمانيين أو حتى الملحدين)، وظهر في معرض بحثهم تأييدهم لاعتماد منهج دون الآخر.
1 ـ في تعريف الدين وتحديد ماهيته: بعد الاطلاع على الأبحاث المقدّمة، لاحظت أن التقارب في مفهوم الدين بين المسيحية والإسلام إنما هو بنظرة كليهما إلى هدف الإنسان من وجوده. ففي الإسلام يتطلع الإنسان إلى الكمال وإلى السعادة الأخروية. وفي المسيحية يتطلع إلى الخلاص الذي هو في المفهوم المسيحي (بحسب الدكتور جورج صبرا في الصفحة 25) “استعادة للعلاقة الصحيحة بين الله والإنسان”.
أما الاختلاف بينهما فيعود إلى رؤية كل منهما لحقيقة الخلاص وأساليبه، أو لحقيقة السعادة، الهدف التي خلق الإنسان لأجل تحقيقه، ولسبل تحقيق تلك السعادة.
فسماحة الشيخ حسن بدران في بحثه نقل تعريف العلامة الطبطبائي للدين بأنه “مجموع مركب من معارف المبدأ والمعاد ومن قوانين اجتماعية من العبادات والمعاملات مأخوذة من طريق الوحي والنبوة” (الصفحة 16).
وفي معرض بحثه يعتبر سماحته “أن الدين هو مصدر الواجبات العملية، والأفكار النظرية التي تشير إلى الواقع”، حيث بين الدين والواقع علاقة جدلية.
بكلمات أخرى، الله تعالى خلق الإنسان حبًّا ورحمةً له، إذ يقول تعالى في سورة هود:”وما كان ربُّك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون، ولوشاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}[2].
ولما كان الله تعالى رحمن، رحيم، حكيم، عالم، عادل.. فإنه أجلّ من أن يخلق الإنسان لهدفٍ مطلوب منه أن يصل إليه، ولا يحدّد له الطريق المطلوب منه أن يسلكها أو يحدّد له سُبُل سلوك هذه الطريق. وهذا ما يسمى عند العرفاء والفلاسفة بمصطلحات من قبيل: المرسل، الرسول، الرسالة، أو غيرها.
إذًا، هذا التوق والشوق للإنسان لبلوغ الكمال، هو شوق فطري، لهذا قدّم الدين الإسلامي نفسه على أنه دين الفطرة {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}[3].
ومعنى فطرية الدين أن نزعة التدّين أصيلة في الإنسان ونابعة من داخله. وبحسب سماحة الشيخ حسن بدران أيضًا: “فالفطرة الإنسانية تطلب في أعماقها، والإنسان يميل بطبيعته نحوقوة أعلى يركن إليها ويؤمن بها. وغاية الدين هو أن يرسم للإنسانية طريقها السويّ بما يشبع هذه النزعة الفطرية فيها، ويؤصّلها بتحويلها من حالة اللاوعي إلى الوعي” (ص17).
أما في المسيحية، وبحسب الدكتور جورج صبرا: فالدين المسيحي هو لقاء واستجابة. لقاء يحدث بمبادرة من الله، واستجابة هي ردّ بشري على اللقاء مع الله، تخضع (الاستجابة) لمحدودية الإنسان المخلوق، وهي عرضة لعمل الإنسان الخاطئ.
لكن، بحسب د. صبرا: “القول بأن الدين في المفهوم المسيحي يعمّ ويشمل كل ناحية من نواحي الحياة البشرية لا يعني أن الدين يقدم نظامًا كاملًا ومتكاملًا لكل نواحي الحياة بتفاصيلها، وأنه يحتوي على أجوبة جاهزة ومعلّبة عن كل الأسئلة المجتمعة أكانت أخلاقية، أم سياسية، أم اجتماعية، أم اقتصادية، أم ثقافية… العلاقة الخلاصية مع الله هي أساسية ومعيارية لهوية الإنسان، لكن هذا لا يعني أنه يمكن اختزال الدين المسيحي إلى نظام أخلاقي أو مجموعة تعليمات حياتية تفصيلية وشاملة”. (ص26) ويفهم من هذا الكلام، أنه لا شريعة واضحة مطلوب من الإنسان المسيحي أن يسلكها من اجل خلاصه. وهذا من أهم موارد الاختلاف بين الإسلام والمسيحية.
تستوقفني هنا الآيتان 51 و52 من سورة “المؤمنون”، إذ يقول تعالى “يا أيها الرُسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إنّي بما تعملون عليم ـ وإن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاتقون”.
الجميل هو قراءة هذه الآيات الكريمة مع ملاحظة سياقها، حيث يبدأ تعالى بالحديث عن فلاح المؤمنين {قد أفلح المؤمنون}، ثم يعرض تعالى لصفاتهم التي أوصلتهم إلى مقام الفلاح. بعد ذلك يعرض تعالى أدلّة حول عظمة خلق الإنسان والكون، ليتحدث عن إرساله النبي نوح عليه السلام ومعاناته مع قومه، ثم إرساله موسى (ع) ومعاناته أيضًا، ثم يقول تعالى “وجعلنا ابن مريم وأمه آيةً وآويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعين”، “يا أيّها الرسل…”.
أظن أن قراءة هذه الآيات والتمعن في معناها وفي المنطق القرآني الحاكم عليها، كفيل بتسليط الضوء على هذا الخلاف الظاهر بين المسيحية والإسلام….للمزيد
المقالات المرتبطة
حقبة الانتظار
إنّ الإمام الحجّة (عليه السلام) هو المهدي، بمعنى الهداية، وبمعنى الهديّة. فهو هديّة الله، وهدايته. ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) هو مرجعيّة بشريّة لكلّ أنواع الإشراق النفسيّ، أو العقليّ. العلم، والهداية، والرزق، والخلق، إفاضات إلهيّة وهي تتعلّق بحكمة ما.
قراءة في كتاب البصيرة والاستقامة
الاستقامة الحسينيّة مثلًا ليس المقصود منها تلقّي السيوف والجراح فحسب، فإنّ كلّ جنديّ باستطاعته ذلك، إنّما في تحديد الهدف وتشخيصه وقيمة الصمود من أجله في سبيل الله.