الحقيقة وطرائق المعرفة في التراث الفلسفي

الحقيقة وطرائق المعرفة في التراث الفلسفي

يدور البحث حول الخطوط العامة لطرائق المعرفة – في نطاق الفلسفة الإسلاميّة وما سبقها – وبيان مدى إسهامها في الكشف عن الحقيقة على اختلاف مداليلها، وتحتكم هذه الخطوط في مساراتها إلى اتجاهين رئيسين اشتهر التعبير عنهما بالاتجاه المشائي والاتجاه الإشراقي. وقد لا يروق للبعض تصنيف الفلاسفة وفق هذا النمط الحاد، سيما وأن الفلاسفة الذين يدرجون عادة على رأس قائمة المشائين كالفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي.. لم يكونوا حياديين تمامًا إزاء النزعة الإشراقيّة في ممارستهم الفلسفيّة. إلّا أن ما يبرّر اعتماد مثل هذا التصنيف هو اشتغال هؤلاء على فلسفة أرسطو العقلانية، وطغيان المنطق الأرسطي على ما بذلوه من جهود فلسفية، بخلاف الفلاسفة الذين أدرجوا في خانة النزعة الإشراقية، فلم يعتنوا عناية الأوائل باستخراج منطق أرسطو وتنقيحه، بل انصرفوا عنه – جزئيًّا أو كليًّا – إلى تشييد موضوعاتهم الفلسفيّة على أساس كشفي في الغالب، الأمر الذي دفعهم للتشكيك بقيمة المنطق على مستوى إنتاج المعرفة الحقيقية، فإذا كان للمنطق من قيمة بنظر هؤلاء فهي تكمن في التعبير عن التجربة الداخليّة لا أكثر، مما يذكّرنا بما آل إليه المنطق في العصور المتأخّرة، حيث صار يُنظَر إليه باعتباره مجرّد لغة تسعى إلى إحراز الدقة في التعبير بوصفه شكلًا من أشكال التفكير. وتقضي الضرورة المنطقية هنا ملاحظة التعدّد الحاصل في استعمالات الحقيقة بحسب اختلاف مناهج الفلاسفة، فقد استعمل لفظ الحقيقة بالمعنى اللغوي تارة، وقصد به الشيء الثابت قطعًا ويقينًا في مقابل المتغيّر والزائف والمتحوّل، وهذا المعنى يلتقي مع المضمون الأنطولوجي للحقيقة بوصفها جوهر الأشياء الثابتة والتي تقع في مجال الإدراك العقلي، مقابل الأعراض المتغيّرة والمتحوّلة والزائلة والتي تقع في مجال الإدراك الحسّيّ. ومن ناحية ثانية، فقد استعمل لفظ الحقيقة في الفكر المشائي بالمعنى المنطقي للكلمة، والذي يعني الحق والصدق مقابل الباطل والكذب، فالحقيقة هي الحكم المتطابق مع الواقع، أو هي التطابق ما بين الإدراك والمدرَك، وما بين الذهن والعين. فيما استعمل تارة ثالثة بالمعنى الإشراقي، فالحقيقة هي أن يتحقّق الإنسان بأسماء الحق تعالى وصفاته، وأن تشرق على الإنسان أشعة الحقيقة المطلقة التي هي مجال الإدراك الروحي، فالحقيقة في مدلولها الإشراقي لا تبنى على العلم العقلي الصوري، وإنما يكون لها معنى في نطاق دائرة العلم الحضوري بالوجود. ولأجل هذا التنوع في استعمالات الحقيقة، كان لا بدّ أن تتنوع طرائق المعرفة – لدى الفلاسفة المسلمين – بما يتناسب والمعنى المنظور للحقيقة، وقد جاءت هذه الطرق على النحو التالي: الحس والعقل والقلب والوحي. ويمكن أن نلحظ هذا التماثل لطرائق المعرفة مقارنة مع الطرق المعهودة في الفلسفة القديمة وعلى مختلف مسارات التاريخ الفلسفي الموروث.

الحس والعقل

ثمة نزعة عقلية سيطرت على الاتجاه الفكري الذي ساد في الفترة السابقة على منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، وذلك في السواحل الشمالية الشرقية للبحر المتوسط، حيث تمّ التركيز على العقل باعتباره الوسيلة المأمونة لمعرفة حقائق الأشياء، ولكونه يشكّل أساسًا مشتركًا بين جميع الناس. بخلاف المعرفة الحسّية التي لا تملك القدرة على الغور في الحقائق، كما لا تقوم على أساس مشترك بين الناس، لذلك اقتصرت النظرة القديمة على العقل وحده كأداة للمعرفة، ونبذت بذلك المعارف الحسّية(1). وقد سيطرت هذه النزعة على مجمل الفكر اليوناني – من دون أن يعني ذلك الاستبعاد التام للجانب الحسّيّ من المعرفة – واستثني من ذلك بعض المراحل التي لا تمثّل بنظر الكثير حالة صحية من تاريخ الفكر اليوناني، كالمرحلة السوفسطائية التي أحدثت تحوّلًا هائلًا في المنهج القديم، صار الإنسان بسببها مقياسًا لكلِّ شيءٍ وأساسًا للمعرفة.

هكذا تمّ تفكيك أسس النظام المعرفي القديم مع جرجياس وقضاياه المعروفة في الشك المعرفي، فلم يعد هناك شيء موجود، ولو كان ثمة موجود لما أمكن لنا معرفته، ولو أمكن معرفته فلا يمكن إيصاله إلى الآخرين. وبذلك فَقَدَ العقل أصالته في التعرّف على حقائق الأشياء، وربما شكّل ذلك استفزازًا للفكر اليوناني آنذاك لكي ينشط باتجاه ترميم المعرفة وبناءها على أسس ثابتة لا تقبل التزلزل. مما سمح بانطلاقة ما يسمى “بالمرحلة الذهبية” في الفكر اليوناني، فقد تحدّث الفلاسفة قديمًا وحديثًا عن الحقيقة وكيفيّة إدراكها والكشف عنها، معتبرين أن هذه المهمة هي من وظائف العقل، ولا شأن للحس فيها، فالعقل عند سقراط أداة مأمونة لمعرفة الحقيقة، والمعرفة الحقيقية هي المعرفة التي تنبعث من المدركات العقلية، وتتجاوز العالم المحسوس إلى العالم المعقول(2)، وهكذا أعاد سقراط للمعرفة اعتبارها.

والحقيقة المبحوث عنها في إطار ثنائية الحس والعقل ذات طابع أنطولوجي كما تقدّم، بحيث يطال جوهر الأشياء التي تقع في مجال الإدراك العقلي، ويتجاوز كل ما هو عرضي متغير وزائل مما يمكن أن يقع في مجال الإدراك الحسي.

هذه الحقيقة تتبدّى بشكل أوضح مع أفلاطون، الذي تتركّز طرائق المعرفة عنده على أربعة أسس هي: الحس والظن والاستدلال واليقين، فالحس يختص بإدراك ظواهر الأشياء والأمور النفسانية، ولا يصلح أن يكون سبيلًا إلى المعرفة الحقيقيّة لأنه ينقل لنا الصيرورة الدائمة والتغيّر المستمر، نعم هذه المعرفة تساعدنا على استذكار المثل. بينما يزاول العقل الأفلاطوني نشاطه وفق مستويات ومراحل متفاوتة، هي: مرحلة الظن، وهي مرحلة الحكم على المحسوسات المتغيّرة استنادًا إلى ما تمّ استنباطه من العلاقات القائمة بينها، وهي مرحلة أرقى من الحس، إلّا أنه يظلّ معرفة ناقصة غير معلّلة. ومرحلة الاستدلال، وهو أرقى من الظن لأن موضوعه غير حسّي، وأقل من العلم لأنه يستعين بالمحسوسات للوصول إلى موضوعه؛ وموضوع هذه المعرفة عبارة عن معان كلّية، كالمعاني الرياضية والهندسيّة التي لا تقبل البرهنة برأيه، ولذا يمتنع فيها العلم اليقيني، وتكون في الدرجة الوسطى من المعرفة. ومرحلة اليقين، وهي عبارة عن إدراك عالم المثل؛ وموضوع اليقين هو حقائق الأشياء، وهي كلّيات مجرّدة عن المادّة، لا تدركها الحواس ولا يطرأ عليها الفساد والفناء، ولولا تلك المجردات لاستحال وجود العلم اليقيني في شيء من الأشياء، ولامتنع الانتقال من النسبي إلى المطلق، ومن الناقص إلى الكامل. وحصول المعرفة يكون بالانتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المعقولات الأولى إلى المعقولات الثواني، للوصول إلى مبدإ المعقولات كلّها وهو مبدأ الخير. والعقل يحصل على المبادئ الأولى استنادًا إلى العلوم الجزئية، ثم يهبط منها إلى هذه العلوم فيربطها بمبادئها، ثم إلى المحسوسات فيفسّرها، ومن خلال هذا الجدل الصاعد والجدل الهابط تتمّ عملية المعرفة عند أفلاطون.

أما أرسطو – الذي بنى نظريته في المعرفة على الحس والعقل والحدس – فيرى في المعرفة الحسّية معرفة مباشرة تكشف لنا الطبيعة من أقرب الطرق، ويتم ذلك عن طريقين: الإحساس الظاهر بواسطة الحواس الخمس، والإدراك الباطن. والإدراك الباطني يحصل من خلال ثلاث قوى باطنية: الحس المشترك؛ وهو مركز تتجمّع فيه صور المحسوسات مما يسمح بالتأليف والمقارنة بينها. والمخيّلة؛ وهي قوة تجتمع فيها صور الأشياء بعد غياب مادتها من العضو الحاس. والذاكرة؛ وهي قوة تسمح باستعادة الصور، فلا تختلف عن المخيّلة إلا في نسبتها إلى الزمان الماضي. ويمتنع أن يكون العقل عند أرسطو مختلطًا بالجسم، فالمعرفة العقلية أرقى من الحس، ووظيفة العقل تختلف عن وظيفة الحواس، وكما تتأثّر الحواس بالصور الحسية في علاقاتها الزمانية والمكانية، فإن العقل يتأثر بالصور العقلية المجرّدة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان. وقد ميّز أرسطو بين قوتين في العقل: قوة منفعلة قابلة لتلقي جميع المعقولات، ويسميها بالهيولات، وقوة فاعلة تخرج المعاني الكلّية من الجزئيات وتظهرها كما يظهر ضوء الشمس للألوان من الظلام، ويحوّلها إلى الوجود بالفعل في العين الإنسانية.

وبحسب أفلوطين، تتعدّد طرائق المعرفة إلى أربعة هي: المعرفة الحسية، والمعرفة العقلية، والمعرفة بالمبدإ العقلي، والمعرفة الروحية. وتنهض نظرية المعرفة عنده على أساس الوجود، إذ الوجود قسمان: العالم المحسوس، والعالم العقلي. والعالم المحسوس هو ظل وانعكاس للعالم العقلي الحقيقي. وتتمّ المعرفة الحسية عند أفلوطين بواسطة الحواس الخمس، وتختص بما هو ظاهري وخارجي. أما المعرفة العقلية فهي أعلى درجة من المعرفة الحسية لاختصاصها بالمعقولات، ووظيفة العقل هي تجريد الصورة عن المادة وتعيينها.

وأما في الجانب الإسلامي، فنجد الكندي يقسّم الإدراك إلى قسمين: حسّي وعقلي، ويعرّف الإدراك الحسّي بأنه تصّور يحصل بواسطة الحواس عند مباشرة الحسّ لمحسوسه. والمعرفة الحسية تتمّ باستمرار، ولكنها غير ثابتة؛ لأن موضوعها يتغيّر ويفسد دائمًا، ويتعرّض لأنواع الحركات والزيادة والنقصان، ويتمثّل موضوع المعرفة الحسّية في النفس الإنسانية من خلال تجمّع صور الأشياء في المصوِّرة، والتي تؤدّيها بدورها إلى الحافظة. وفي مقابل الإدراك الحسي الذي هو تصوّر، هناك الإدراك العقلي الذي هو بنظر الكندي تصديق، ويميّز الكندي الإدراك الحسّي عن الإدراك العقلي في أن موضوع الأخير هو الأشياء الكليّة من أجناس وأنواع، بخلاف موضوع المعرفة الحسّية التي هي الجزئيّات أو الأشخاص الهيولانية، وإذا كانت الأشخاص أو الجزئيّات متمثّلة في النفس، فإنّ كل ما هو معنى نوعي وما فوقه ليس متمثّلًا للنفس بل هو مصدّق أو محقّق بفضل المبادئ والأوّليات العقلية الضرورية، كالتناقض، والذاتية، والتساوي.. إلخ(3).

ويجعل الكندي العقل على أربعة أقسام: العقل الذي بالفعل أبدًا وهو العقل الأوّل أو الله، والعقل الذي هو بالقوة، والعقل بالفعل الذي خرج في النفس من القوة إلى الفعل بتأثير العقل الأوّل، والعقل الظاهر الذي تخرجه النفس فيكون موجودًا لغيرها منها بالفعل.

أما الفارابي فتتنوع طرائق المعرفة عنده إلى أربعة، هي: الحس، والعقل، والخبر المنزل، والقلب(4)، والمعرفة الحسية عنده مركّبة من فعل بدني وفعل نفساني، وكونها فعلًا بدنيًّا يقتضي اتصال الإنسان المباشر بالأشياء والمحسوسات، أما كونها فعلًا نفسانيًّا؛ فلأنّ الإحساس ذاته فعل نفساني. ولا تحصل المعرفة لدى الإنسان بمجرد مباشرة الحس للمحسوسات، بل بعد تدخّل قوى نفسية متعدّدة، فإن الحس يباشر محسوسه فتحصل صورها فيه ويؤدّيها إلى الحس المشترك حتى تحصل فيه فيؤدّي الحس المشترك تلك الصور إلى التخيّل، والتخيّل يرفعها إلى قوة التمييز ليعمل فيها تهذيبًا وتنقيحًا ويؤدّيها منقّحة إلى العقل.

وبذلك، يكون الفارابي قد جمع بين اكتساب المعرفة من خلال الحس الظاهر، والحس الباطن، وأوصلها إلى المعرفة العقلية. ومراتب العقل النظري عند الفارابي هي: العقل المنفعل، أو الهيولاني، أو بالقوة، وهو العقل قبل أن يحصل فيه أي إدراك. والعقل بالفعل، أو بالملكة؛ وهو العقل بالقوة لكنه قد أدرك معقولات منتزعة من المادة، ويتم هذا الإدراك بتوسّط العقل الفعّال الذي يجعل العقل بالقوّة عقلًا بالفعل. والعقل المستفاد؛ وهو العقل بالفعل الذي استكمل بالمعقولات كلّها أو جلّها، فأصبح أشدّ مقارنة للمادّة، ليس بينه وبين العقل الفعّال شيء، وبواسطة العقل المستفاد يفيض العقل الفعّال مقولات على العقل بالفعل، ثمّ على المتخيّلة، فيكون الإنسان فيلسوفًا بما يفيض على عقله، ويكون نبيًّا بما يفيض على متخيلته.

وفي المسار ذاته، تتشكّل طرائق المعرفة عند ابن سينا من أربعة، هي: الحسّ، العقل، القلب، النّص. والحس عنده أوّل درجات الفهم الإنساني، ويختصّ بما هو خارجي، ويتمّ الإدراك الحسّي بواسطة أعضاء الحسّ الخارجي كاللمس والشّم والذّوق والرؤية. ويرى ابن سينا أنّ الحواس تدرك الموجود الجزئي المحسوس بصورته ومادته، لأننا لا نستطيع التمييز بين الصورة والمادة، فالحسّ لا ينزع الصورة عن المادة من جميع لواحقها. ويختص العقل من بين طرائق المعرفة بالمعاني الكلّية المجرّدة عن المادّة، ومهمّة العقل تجريد الصورة عن المادّة، ثم جمع الأشياء المختلفة في نسق واحد، ويؤلّف من كل مجموعة من الأجناس والفصول معنى واحد.

وبهذا، يظهر أن ابن سينا ميّز بين موضوع العقل وموضوع الحس، فأعطى لكلٍّ منهما مجاله، ولم يجعل الحس صورة منعكسة للعالم العقلي كما فعل أفلوطين. ومراتب العقل تصبح عند ابن سينا كالتالي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد(5). أما بالنسبة لكيفية اكتساب المعرفة، فيرى ابن سينا أن المعرفة الحسية تتم بواسطة انفعال الحاسّة بمحسوسها، فاليد تحس بالحرارة والبرودة، والبصر ينفعل عن لون المبصر، وهكذا، وهذه هي المرحلة الأولى. ثم يلي هذا، مرحلة تميز المحسوسات التي تتم داخل الحس المشترك، كأن يكون ملموسًا، أو مشمومًا، أو غيره، ولا يتم هذا التمييز إلّا من خلال الصور المحفوظة في الخيال، ومعنى ذلك أن الحسّ الباطن من اختصاصه أن يركّب ما اجتمع في الحس المشترك من الصور، وأن يفرّق بينهما، ويوضح فيها الاختلافات، من غير أن تزول الصور من الحس المشترك. ثم يلي ذلك، مرحلة التركيب لتلك الإحساسات، فيتكوّن لدينا رأي حسي، ويرى ابن سينا أن نهج اكتساب المعرفة الحسية هو المنهج الاستقرائي القائم على استقراء الجزئيات المحسوسة ومن هذا الاستقراء يصل إلى العلم اليقيني، والمبادئ التي منها يتوصّل إلى العلم اليقيني برهان واستقراء، ولا بدّ في استناد الاستقراء إلى الحس.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الحدس لا يخرج عند أرسطو عن الاستدلال، ولهذا نجده يربط بين الحدس وحسن الذكاء والفهم في كشفه عن الأوساط، بينما يجعل أفلاطون الحدس في مقام أعلى من الاستدلال؛ كون الحدس يشكّل معرفة مباشرة لعالم المثل(6). أما أفلوطين فيجعل المعرفة بالمبدإ العقلي أعلى درجة من الفهم العقلي، لأن من شأنه أن يدرك الموجودات الحقيقية، وهي تتحقّق دون أن تدخل في الزمان، بل تحصل في لحظة خاطفة، مما يعني أنه يوجد فيها شيء من المعرفة الحدسية العالية التي تعتمد على الإلهام.

يتضح مما سبق، أن الفلاسفة المسلمين اشتغلوا على مادة معرفية غنية تهيأت لهم بواسطة النقل الحضاري الذي شهده قرنهم الثاني وما تبعه، وهي مادة ترى في العقل أداة مأمونة لمعرفة الحقيقة، فالمعرفة الحقيقية هي المعرفة التي تنبعث من المدركات العقلية، وتتجاوز العالم المحسوس إلى العالم المعقول، وتتجاوز المعقولات الأولى إلى المعقولات الثواني، وصولًا إلى مبدأ المعقولات كلّها وهو مبدأ الخير. والعقل – كما وصل إلى المسلمين – يتأثّر بالصور العقلية المجرّدة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، ويمتلك مراتب أربعة، ويكون قوة فاعلة تخرج المعاني الكلّية من الجزئيات وتظهرها كما يظهر ضوء الشمس للألوان من الظلام، ويحوّلها إلى الوجود بالفعل في العين الإنسانية.

ويغلب على التقسيم الرباعي للعقل، اتّباع تفسير الإسكندر الأفروديسي لكتاب النفس لأرسطو، وقد قبِلَ الفارابي وابن سينا هذا التقسيم الرباعي الذي ظلّ عنصرًا ثابتًا في نظريات علم النفس لدى الفلاسفة المسلمين حتى زمان ملّا صدرا والسبزواري(7). وقد كان لكتاب “أثولوجيا” لأفلوطين إسهامًا واضحًا على مستوى تشكيل النظام المعرفي في إطار الفلسفة الإسلامية في مراحلها المتأخرة، فكان لهذا الكتاب أثر كبير على ملّا صدرا الشيرازي، حيث استفاد منه في مسائل حركة الجوهر، واتحاد العاقل والمعقول، وعلم الحق، وما يتعلق بالمعاد الجسماني، واتحاد النفس بالعقل الفعال، ووحدة الوجود. هذا مع العلم أن الشيرازي أشار إلى ذلك الكتاب معتقدًا أنه لأرسطو.

وينبغي أن ندرك بجلاء أن انتظام ثنائية الحس والعقل في الفلسفات المتعاقبة، والذي يعتبر العقل أساس فيه، يرتهن في واقعه إلى الأسس المنطقية الصورية التي تلقي بظلالها على كامل بنية النظام المشائي.

المعرفة الروحية

وهي المعرفة الذوقية التي تحصل بالإلهام دون واسطة من حس أو عقل، وهي الحكمة الروحية التي نطق بها الحكماء الأقدمون، وتكفّل بشرحها الفلاسفة المتأخّرون، إذ مهمّة الفلسفة هنا هي الشرح والبيان.

ويعدّ القرن الثالث الميلادي عصر الشرّاح(8)، وأفلوطين نفسه كان من هؤلاء الشرّاح، فهو يقول في التاسوعات: “يجب أن نعتقد أن الفلاسفة القدماء.. قد اكتشفوا الحقيقة”(9)، و”نظرياتنا ليس فيها جديد، وليست من اليوم، فقد أعلنها (الفلاسفة القدماء) قبل وقتٍ طويل، ولكن دون أن يتبسّطوا فيها، ولسنا نحن إلّا شرّاح هذه المذاهب القديمة”(10).

والمعرفة الحقيقية عند أفلاطون ترتكز على اليقين، واليقين هو عبارة عن إدراك عالم المثل. فمعرفتنا بالأشياء هي في الحقيقة تذكّر للمثل، كما أن الجهل هو نسيان لها، والبحث عن الحقيقة بنظره لا يعدو إيقاظ النفس وإثارة ما يوجد فيها بالطبع، وقد اشتهر عن أفلاطون قوله: “العلم تذكّر والجهل نسيان”(11).

ويعتبر أفلوطين أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة الروحية، وهي أعلى درجة في المعرفة، وهي تحصل لبعض الأشخاص الذين يتميّزون بنفاذ بصيرتهم، فتشملهم العناية والإشراف الإلهي، فيرتفعون بسبب هذه المعرفة إلى العالم الأعلى، وطريق هذه المعرفة هو الوجدان والحدس المباشر في إدراكه للحقيقة المطلقة (الواحد)، والوصول إلى هذه الحقيقة يتطلّب اتباع سلوك أخلاقي معين يعين المرء على الوصول إلى الاتحاد بالواحد فتنكشف له الحقيقة في لحظة حدس خارجًا عن الزمن دون جهد أو عناء، وكأنه ضوء خاطف في لمح البصر يملأ قلب المحبّ بالحقيقة المطلقة(12).

ويشير الفارابي إلى أن الروح بها قوى أخرى لا تتصل بفعل العقل النظري؛ لأنها من السّر وليست من العلن، ولا تبدو وتتبيّن إلا بتخلّص الفرد من جانبه الظاهري، أي من الغضب والشهوة، للتحقّق بمعرفة لدنية عليا(13).

ويُعتبر الفارابي صاحب فلسفة إشراقية حين يعتمد على القلب في التعرّف على بعض الحقائق، كما يظهر في بعض أجزاء كتابه “فصوص الحكم”(14)، أما ابن سينا فيرى أن القلب هو مصدر المعرفة الذوقية، ومثل هذه المعرفة لا تحصل إلّا لأصحاب النفوس الطاهرة والقلوب الصافية التي تتلقى عن الله دون واسطة من حس أو عقل، فتشرق عليهم الأنوار القدسية، فيسعدوا بها سعادة أبدية. والذي يعين على ذلك هو التفكّر في الله دون سواه، وعشقه عشقًا منزّهًا، ولا يمكن هذا العشق بأداة غير القلب.

وأما نضوج التمثّل الفلسفي للإشراق في الفكر الإسلامي فيظهر في شخصيّة السهروردي الذي طلع علينا برؤية فلسفية تختلف في منطلقاتها وتوجّهاتها عن المرحلة المشائية؛ هذه الرؤية تنبعث من التاريخ “الإشراقي” القديم الذي تفتّحت براعمه مع حكماء الفرس القدماء وأفلاطون وغيرهم، كما يخبرنا السهروردي نفسه؛ ذلك أن النفس الناطقة عنده سابقة على هذا العالم، وقد هبطت إليه لكي تستكمل بالعلوم والمعارف الحقيقية، فالعلوم تنقسم برأيه إلى قسمين: حقيقية، وعرفية اصطلاحية. والعلوم الحقيقية هي ما لا يتغيّر العلم به لعدم تغيّر المعلوم، وأما العلوم العرفية الاصطلاحية فما يقابل العلوم الحقيقية، فيتغير العلم بتغير المعلوم. والكمال الحقيقي إنما يحصل بالعلم الحقيقي الثابت بحسب ثبات معلومه.

والعلوم الحقيقية بدورها تنقسم إلى قسمين: ذوقية كشفية، وبحثية نظرية. والعلوم الذوقية هي عبارة عن معاينة للمعاني والمجردات، وذلك على سبيل المكافحة لا بفكر ونظم دليل قياسي، أو نصب تعريف حدّي أو رسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية متفاوتة تسلب النفس عن البدن وتتبيّن معلّقة، تشاهد مجرّدها، ويشاهد ما فوقها مع العناية الإلهية، وهذه الحكمة الذوقية قلّ من يصل إليها من الحكماء(15).

وينقل السهروردي في كتابه “التلويحات العرشية” رؤية كان قد رآها، حيث كان موضوع المعرفة يقلقه ويشكّل هاجسًا بالنسبة إليه، ويذكر ما مفاده: “أني كنت أفكّر كثيرًا في مسألة تتعلّق بالعلم، وكانت هذه المسألة بالنسبة لي صعبة الحلّ، إلى أن رأيتُ في منامي المعلّم الأوّل أرسطو، فسألته مسألتي، فأجاب بقوله: إرجع إلى نفسك سوف تُحَلّ مسألتك”(16).

ويلحظ هنري كوربان أن أرسطو الذي يتحدّث إليه السهروردي هو أرسطو أفلاطوني صريح، حيث يشير بوضوح إلى معرفة النفس بذاتها، إذ النفس في جوهرها حياة، نور، ظهور، شعور بذاته، فهو علم حضوري شهودي وإشراق حضوري تشرق به النفس على الموضوع، وذلك في مقابل العلم الصوري المنطقي.

ثم ينقل السهروردي أن أرسطو أخذ يثني على أستاذه أفلاطون ثناء تحيّرت فيه، فقلت: وهل وصل من فلاسفة الإسلام إليه أحد؟ فقال: ولا إلى جزء من ألف جزء من رتبته. وحين أخذ السهروردي بذكر فلاسفة الإسلام وذكر منهم أمثال بايزيد البسطامي وسهل التستري من المتصوّفة الكبار، قال أرسطو مستبشرًا: هؤلاء بحقّ هم الفلاسفة والحكماء الذين لم يتوقّفوا عند العلم المتعارف بل وصلوا إلى العلم الحضوري والشهودي(17). ولا ينسى السهروردي أن يقحم المنهج الإشراقي حتى في تقسيماته المنطقية، فيرى أن معارف الإنسان تنقسم إلى معارف فطرية ومعارف غير فطرية، والمجهول إذا لم يكفِ في معرفته التنبيه والإخطار بالبال؛ كما في الضروريات، أو لم يحصل التوصّل إليه بالمشاهدة الحقّة والرياضات والمجاهدات؛ كما هو الحال بالنسبة للحكماء العظماء، فحينئذٍ لا بدّ له من معلومات موصِلة إليه ذات ترتيب موصِل إليه منتهية في التبيّن إلى الفطريات(18). وبهذا الاعتبار، يجعل السهروردي العلم على قسمين: نور لنفسه، ونور لغيره، وهذا الغير يكون نورًا لنفسه. وعلم الشيء بنفسه عبارة عن كونه نورًا لنفسه. وعلم الشيء بغيره عبارة عن إضافة نورية بين شيئين نوريين. فيرجع العلم الأول إلى العلم الحضوري، والثاني إلى العلم الحصولي الصوري. وبذلك يؤسّس السهروردي لمنهج جامع، يجمع بين الذوق الكشفي والنظر العقلي، وهو المرتكز الذي استند إليه الشيرازي في مزاولته للبحث الفلسفي، إذ إن “إدراك هذا العالم يحتاج إلى قياس صحيح وكشف صريح، وكل واحد منهما له موانع ومغالط فيه شبه وشكوك يعسر على أكثر البشر التخلّص منها، ولهذا قال أرسطو: من أراد أن يشرع في علمنا هذا فليستجدّ فطرة أخرى”(19).

بعد السهروردي، قام تلميذه الوحيد شمس الدين الشهرزوري بوضع شرحٍ على كتاب “حكمة الإشراق”، واستفاد من هذا الأخير كل من ابن كمونة (ت1284م) شارح التلويحات، وقطب الدين الشيرازي الذي شرح كتاب “حكمة الإشراق” عام (1295م). ويمكن أن نرصد خلال الفترة الممتدّة بين السهروردي والشيرازي بعضًا من المشتغلين على المادّة الإشراقية أو العاملين بوحي من إشراقاتها، كالمحقّق الطوسي، وابن عربي وشرّاحه، ومحمّد ابن أبي جمهور، وجلال الدين الدوّاني، وغياث الدين منصور الشيرازي، وودود التبريزي، وميرداماد وغيرهم(20).

وهكذا، فقد دسّ السهروردي بذور الإشراق في الذهنية الإسلامية العامّة آنذاك، مما ساعد الذين جاؤوا من بعده على استنباتها، تمامًا كما فعل الشيرازي ومعاصروه وأتباعه فيما بعد، حيث وجدت هذه البذور تربة صالحة لنموّها تحت ظلال الحكمة المتعالية، فقد استلهم صدرا الشيرازي التراث الإشراقي من خلال مناقشة حكمة الإشراق، وصوفية الغزالي، وعرفان ابن عربي، ما جعله على مفترق الطرق إزاء النزعات المختلفة آنذاك، وساعده كل ذلك في ترسيخ البناء النظري للمنهج الجامع في حكمته المتعالية.

لا شك أن هذه النزعة الإشراقية قد اقتبست من مشكاة العرفاء الأوائل الشيء الكثير. كما وتعايشت هذه النزعة مع الامتدادات اللاحقة لهذا العرفان خصوصًا في أشكاله المتعاقبة مع مولوي الرومي، وابن عربي، والقونوي، وحمزة الفناري، وملّا عبد الرزاق الكاشاني، وابن تُركة الأصفهاني، وعين القضاة الهمداني، وعز الدين الكاشي وغيرهم من العرفاء. وقد بلغ من تأثير ابن عربي في اللاحقين أن ملّا صدرا الشيرازي كان في كثير من كتبه يستشهد بكلامه لتأييد موضوعاته حتى كأن كلامه في هذا المجال وحي منزل.

ولا يفوتنا أن نذكر ما قدّمه الغزالي من إسهام على مستوى تنقيح المعرفة اليقينية والتي تتمّ من خلال الكشف، فاليقين عنده هو حالة لا يبقى معها مجال للشك بحيث يتعيّن على العقل أن يعرف الحقيقة، وهذا اليقين يفيده البرهان الحقيقي، ولكن مستنده هو النور الإلهي الذي أتيح للغزالي من خلال الكشف والمشاهدة. وفي سبيل الكشف عن الحقيقة رفض الغزالي جدليات المتكلّمين كطريق موصل إلى هذه الحقيقة، وكفّر الفلاسفة، ونبذ الباطنية، وانتهى إلى التصوّف الذي رأى فيه خَلاصه إلى الحق، وبعد عزلة قضاها في سبيل ذلك، انطلق إلى مجال التدريس والتبليغ.

ومن هنا، يوجد شبه كبير بين سيرته وسيرة صدرا الشيرازي، بحيث إن الأخير لا يخفي مدى تأثّره بالغزالي كما يظهر في بعض رسائله كرسالة الأصول الثلاثة التي تضمّنت نصوصًا مقتبسة من كتاب “إحياء علوم الدين” للغزالي، كما يتضمّن معالجة لإشكالية العلم يظهر فيها تأثرًا واضحًا بأسلوب الغزالي.

إذن، فقد استنار المسلمون من عقلانية الفلسفة السابقة عليهم، كما استفادوا أيضًا من روحانية السابقين وإن في ثوبها الفلسفي والنظري، فما لم نبلغ إلى اليقين فلا يمكن أن نبصر حقائق الأشياء، بل إن البحث عن الحقيقة لا يعدو إيقاظ النفس وإثارة ما يوجد فيها بالطبع. فالمعرفة الحقيقية هي المعرفة الروحية، وطريق هذه المعرفة هو الوجدان والحدس المباشر، وهو يتطلّب اتباع سلوك أخلاقي معيّن من شأنه أن يملأ قلب المحبّ بالحقيقة المطلقة.

وتعتبر الفلسفة الإسلامية بشقّيها المشائي والإشراقي امتدادًا حقيقيًّا وأصيلًا لجميع الأنشطة الفكرية التي مارسها الإنسان على مدى التاريخ الفلسفي القديم.

وينبغي أن نشير إلى الأهمية التي أولاها المسلمون للمعرفة النقلية بالخصوص، فالمعرفة برأي الكندي لها طريقان: أحدهما طريق العقل، والآخر طريق الوحي، وهذان الطريقان يوصلان إلى حقيقة واحدة.

فيما يرى الفارابي أن الخبر المنزل هو أمر يقوم على الإيمان؛ وموضوع إيمان المؤمنين هو الخبر المنزل الذي يعتبر مصدرًا لمعارف منزلة من عنده سبحانه وتعالى تفوق ما في مقدور العقل البشري أن يصل إليه.

وقد عدّ ابن سينا النص الديني في مصادر المعرفة، واستخدمه كثيرًا، كما في استدلاله على وجود الله ووحدانيته، حيث استدلّ بقوله تعالى في الكتاب الكريم: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ﴾(21)، وهذا حكم لقوم، ثم يقول بعد ذلك: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ في نفس الآية، وهذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه.

ومجمل القول، إن الحقيقة في الفكر المشائي عبارة عن تطابق الإدراك مع المدرَك، والحقيقة بهذا المعنى تتفاوت على مستويات متعدّدة لا تتجاوز صعودًا المستوى العقلي الذي يُعتبر أرقى أنواع المعرفة الممكنة ضمن منظومة الفكر المشائي، ويمكن للحقيقة أن تتمثّل بعد ذلك في مستويات أخرى متدنّية داخل دائرة العقل وخارجها، فنجد في الدائرة العقلية مستويات متفاوتة كالعقل المستفاد والعقل بالملكة والعقل الهيولاني، وفي خارج هذه الدائرة يقبع الوهم والخيال والحس. والعلم في هذا النطاق هو حصول صورة المعلوم في الذهن، وقد تمرّ هذه الصورة الذهنية في مراحل متفاوتة وتخضع للتهيئة والإعداد المناسبين على مستوى التجريد قبل أن تصبح في متناول الذهن. وبحسب المنحى المشائي هذا، فإن هذه الصورة تظهر بوضوح تام في مرحلة الحس، ثم تزول بعض معالمها في مرحلة الخيال، وهكذا تفتقد الصورة شيئًا من وضوحها ورونقها كلما ارتقت إلى مرحلة من التجريد أعلى حتى تصل إلى مرحلة العقل حيث تفقد شفافيتها وتتحوّل بذلك إلى مفهوم ضبابي قابل للتعميم، ويتمّ ذلك من خلال عملية تجريد وانتزاع ذهنيين، أو من خلال عملية التبديل والإنقلاب. والعقل هنا، يقوم بعمل خلاّق إذ يخلق هذه الصورة ويبدعها نتيجة لحصوله على ملكة الخلق والإبداع بوقوفه على الصور الخيالية والحسيّة. وفي المقابل، تختلف الحقيقة في مدلولها الإشراقي عنها في مدلولها المشائي، فالحقيقة هنا ليست تطابقًا ما بين الذهن والعين، وهي لا تبنى على العلم العقلي الصوري، وإنما يكون لها معنى في نطاق دائرة العلم الحضوري بالوجود، وهي كشف المحجوب وتجلّي الوجود من وراء الحجاب. وهذا، إنما يتم في حال حضور الإنسان في مقام الوجود، وليس فيما كان الوجود حاصلًا في مقام الذهن فحسب، ومن هنا تنشأ المعرفة الحقيقية. والحقيقة بهذا المعنى سابقة على أرسطو، ولذلك نجد ملّا صدرا الشيرازي يمجّد فلاسفة الإغريق السابقين على أرسطو.

من هنا، لم يعد النزاع منحصرًا في نطاق إمكانية المعرفة أو عدمها، ولا في نطاق الأولوية التي يحتلها الإدراك الحسي على الإدراك العقلي أو بالعكس، بل صارت المعرفة تتمثّل في أرقى مستوياتها بالسلوك الخاص الذي يقود إلى الكشف عن سرّ الوجود. وكشف الوجود معرفيًّا، يمر عبر الانتقال من المحسوس إلى المتخيّل، ومنه إلى المعقول، ولكن لا على أساس الانتزاع والتجريد، حيث تشكّل المسيرة المعرفية نوعًا من التراجع القهقري على مستوى وضوح الصورة وضبابيتها، وإنما على أساس الاستكمال والارتقاء بحيث يغدو المعقول أقوى وجودًا من المتخيّل والمحسوس. فالصور العقلية ما هي إلا إشراقات الحقائق، والصور الحسية والخيالية ما هي إلّا معدّات للنفس لكي تستشرق هذه الحقائق والمثل المفاضة عليها من العالم النوراني.

وعملية المعرفة في النظام المشائي أشبه بعملية الخلق البشري، بينما هي في النظام الإشراقي أشبه بعملية الخلق الإلهي. والمعرفة في الفكر المشائي هي عبارة عن وعي خلّاق للنفس، وفي الفكر الإشراقي هي عبارة عن اقتراب من مصدر الحقيقة؛ وهذا الاقتراب يفترض ضمنًا موقفًا اغترابيًّا للنفس يجعلها تسعى إلى إعادة التواصل مع الحقيقة من خلال عملية المعرفة نفسها.

ومن هنا، يَعتَبِر الشيرازي أن المعرفة العقلية ليست إبداعًا وخلّاقية بمقدار ما هي عملية ترقّ وتكامل من درجة إلى أخرى أكمل وأكثر تجرّدًا من سابقتها، وربما كان الشيرازي الأكثر انسجامًا من بين الإشراقيين مع هذا التوجّه بسبب ارتكاز نظريته في علم النفس الفلسفي على كونها جسمانية الحدوث روحانية البقاء. إلّا أن الذي يبرّر لسائر الإشراقيين ذهابهم هذا المذهب هو اعترافهم بنوع من أسبقية النفس على البدن ما يفسّر سر غربة النفس وحنينها إلى معاودة الاقتراب من مصدر الحقيقة.

 

(1) انظر، دكتور محمّد عبد الرحمن مرحبا، تاريخ الفلسفة اليونانية، (بيروت: مؤسّسة عز الدين، الطبعة1، 1993م). الصفحة162.

(2) انظر، الدكتور محمّد محمّد الحاج حسن الكمالي، محاضرات في الفلسفة الإسلامية نظرية المعرفة، ، (اليمن: صنعاء، مؤسّسة الفاو، الطبعة1)، الصفحة201.

(3) الكندي، الرسائل الفلسفية (الفلسفة الأولى)، طبعة عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة: 1953)، الصفحات 106 – 112.

(4) الكمالي، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الصفحة141.

(5) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، (قم: مؤسسة نشر البلاغة، الطبعة1، 1375 ﻫ. ش) الجزء2، الصفحة 367.

(6) الكمالي، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الصفحة131. أيضًا، دكتور محمّد عبد الرحمن مرحبا، تاريخ الفلسفة اليونانية، الصفحتان 284-285.

(7) سيد حسين نصر، ثلاثة حكماء مسلمين، الصفحة 165 تعليق رقم (5).

(8) حيث تمّ العمل على شرح أفلاطون، كما شرح الإسكندر الأفروديسي أعمال أرسطو.

(9) (3، 7، 1، 13) الرقم الأول رقم التاسوعة، والثاني المقالة، ثم أرقام الفقرات.

(10) (5، 1، 9).

(11) محمّد عبد الرحمن مرحبا، تاريخ الفلسفة اليونانية، الصفحة232.

(12) الكمالي، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الصفحة 135.

(13) الدكتور علي أبو ملحم، الفلسفة العربية مشكلات وحلول، (بيروت: مؤسسة عز الدين، الطبعة 1، 1994م)، الصفحتان 174و 175. أيضًا، عبده الحلو، الفارابي المعلم الثاني، (بيروت: بيت الحكمة، الطبعة2، 1977)، الصفحة 39.

(14) عبده الحلو، الفارابي المعلم الثاني، الصفحة51.

(15) شهرزوري، شرح حكمة الإشراق، (تهران: مؤسّسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، الطبعة1،  1372 ﻫ. ش)، الصفحة4 .

(16) مجموعة تأليفات شيخ الإشراق، تحقيق هنري كوربان (تهران: 1355 ﻫ. ش)، الجزء1، الصفحات73 و 79.

(17) هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية (بيروت: منشورات عويدات، 1966 م)، الصفحتان 311، 312.

(18) شرح حكمة الإشراق، الصفحة50.

(19) المصدر نفسه، الصفحة 17.

(20) هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، الصفحة 327.

(21) سورة فصلت، الآية 53.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
طرائق المعرفةالتراث الفلسفي

المقالات المرتبطة

نماذج من الدور القيادي للإمام الخامنئي في إدارة الأزمات

لا تخفى الصعوبات الجسيمة والمخاطر المـُحدِقة التي واجهت مخاض ولادة الثورة الإسلامية في إيران (1979م)، ولعلّ وصفها من قبل الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر بـ “حلم الأنبياء”

صدور الكثرة عن الواحد بين الحكمة المتعالية والمدرسة الإشراقيّة

تتعامل هذه المقالة أوّلًا، مع النظريّات المذكورة أعلاه باختصار. وثانيًا، ستتولّى مناقشة العناصر الموجودة في المدرستين

الحرية الإنسانية في فكر الإمام موسى الصدر

تقديم أُخفِيَ الإمام السيد موسى الصدر، العالم والمفكر ورجل الدين المستنير، عام 1978، ولا نكتب عن إخفائه بقدر ما نكتب

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<