الخاص والعام في فلسفة السياسيّة
الكلام على فلسفة للسياسة أو على فلسفة سياسيّة يعني الكلام على فلسفة خاصّة بأحد الأنشطة البشريّة. وبذلك لا يختلف كلامنا على فلسفة للسياسة عن كلامنا على فلسفة للدين أو للأخلاق أو للاقتصاد أو للعلم أو للفن…
ولكن بماذا تعنى فلسفة خاصّة بنشاط إنسانيّ؟ وهل تستغني عن فلسفة عامّة؟ وعلى ضوء الأجوبة عن هذين السؤالين: بماذا تعنى فلسفة السياسة؟ وهل ما تعنى به يشكّل ماهيّة خاصّة بها؟
تُعنى الفلسفة الخاصّة بأيّ من الأنشطة البشريّة المحوريّة بالأمور التالية:
- تحديد موضوع النشاط، أي الجانب الذي يُعنى به استجابة لأحد المتطلّبات المحوريّة للحياة الإنسانيّة. ويقصد بالمتطلّبات المحوريّة تلك المتطلّبات المنبثقة عن الطبيعة الإنسانيّة والملازمة بالتالي لحياة الإنسان بصرف النظر عن ظروف المكان والزمان والثقافة.
- تحديد نطاق النشاط، أي الحدود الاعتباريّة التي تفصله وتميّزه عن النشاطات الأخرى؛ أي ما يجعل منه ماهية مستقلّة على صعيد المفهوم والوظيفة والأهداف والوسائل. نقول الحدود الاعتباريّة، ولا نقول الحدود الواقعيّة، نظرًا لأنّ مجمل الأنشطة البشريّة تتفاعل وتتكامل وتتوحّد في إطار تفاعل وتكامل وتوحّد الشخصيّة الإنسانيّة عندما تمارس فعلًا إراديًّا أو نشاطًا محدّدًا.
- تحديد القضايا أو المسائل التي تشترك فيها كلّ الأشكال التي يتّخذها النشاط في الواقع العينيّ المشخّص. ويتمّ ذلك، كما هو معروف، بتجريد هذه الأشكال من كل ما يميّزها بعضها عن بعض في الواقع العيني المشخّص، والإبقاء على ما هو مشترك بينها على صعيد المفهوم المجرد من دون إلغاء تنوّعها على صعيد الواقع العينيّ أو المشخّص.
- تحديد المبادئ العامّة التي ترشّد التعاطي مع هذا النشاط. وهذه المبادئ العامّة تنقسم إلى قسمين: الأوّل يتعلق بمبادئ عامّة منهجيّة وتشكّل مجتمعة المنهج الملائم للتعاطي مع هذا النشاط، والثاني يتعلق بمبادئ عامّة قيميّة ترشد التعاطي مع نتائج هذا النشاط.
الأول يتناول طرق البحث للتعرف على حقيقة ما هو كائن، الثاني يتناول البحث في اتجاهات توظيف ما هو كائن؛ أي القيم التي ينبغي تحكيمها في التعاطي معه ومع نتائجه. الأول يضعنا في حقل المنهج العلمي الخاص بالنشاط، والثاني يضعنا في حقل الأخلاقيّات الخاصة به، ويصل الفلسفة الخاصة بالنشاط بفلسفة عامّة، لأنّ البحث في الاتّجاهات والقيم، لا يتّصل بالواقع القائم، بل يتّصل بالأهداف والغايات التي لا يمكن تحديدها إلا على ضوء رؤية عامّة للوجود والحياة والإنسان. أي فلسفة عامّة، دنيويّة أو دينيّة.
هذا البحث في الاتجاهات والقيم يتمّ بطريقتين عرفتا ومورستا، فعلًا، في سياق التجربة الإنسانيّة:
الأوّل: هو استقراء التجارب البشريّة المعروفة ماضيًا وحاضرًا، وما عرفته من نجاحات وإخفاقات، واستخراج العبر والدروس منها على صورة مبادئ عامة.
الثاني: هو الإيمان برؤية عامّة للوجود والحياة والإنسان وبنسق قيم ينبثق عنها أو يترتب عليها، ويمكن أن يفصَّل إلى مبادئ عامّة توجّه التعاطي مع مختلف الأنشطة البشريّة المحوريّة.
ومن الواضح أنّ الطريقة الأولى استقرائيّة، والثانيّة استنتاجيّة، وأنّ الأولى تستخدم الجدل الصاعد بالمفهوم الأفلاطونيّ، أو السفر من الخلق إلى الحقّ بالمفهوم الصدرائيّ، وأنّ الثانية تستخدم الجدل المقابل، أي الجدل النازل بالمفهوم الأفلاطونيّ، والسفر من الحقّ إلى الخلق بالمفهوم الصدرائيّ.
ولكن ينبغي هنا أن نشير إلى ما يلي:
- أنّ الجدلين أو السفرين وإن اختلفا في الاتّجاه فإنّهما يلتقيان في القصد (محاولة الفهم ومحاولة الاسترشاد)، وفي النتيجة (تكوين رؤية عامّة للوجود والحياة والإنسان ونسق قيم منبثق منها يوجّه الإنسان ويرشده إلى ما ينبغي أن يكون عليه فعله أو مجمل سلوكه).
- أنّ الجدلين أو السفرين لا يتوقّفان: الأوّل قبل بلوغ مبدأ واحد ووحيد يشكّل التفسير والتعليل لكلّ الظواهر التي أثارت فضوله، ودفعته إلى السؤال ومحاولة الفهم. والثاني قبل تصوّر علاقة بين هذا المبدأ ومختلف الظواهر التي يعنى بفهمها عبر تفسيرها وتعليلها.
- أنّ الفصل بين الجدلين أو السفرين هو فصل منهجي وليس واقعيًّا. لأنّهما في الواقع يتفاعلان في حركة الفكر، فيصوّب أحدهما الآخر، ويكمّل أحدهما الآخر في تكوين رؤية متّسقة في ذاتها، وفي علاقتها مع القيم المنبثقة عنها، وفي تعليلها للظواهر الطبيعيّة والإنسانيّة على اختلافها، ما يؤدي في النهاية إلى تكوين منظومة فلسفيّة أو نسق فلسفيّ عام.
- هذه المنظومة الفلسفيّة العامّة تتضمّن فلسفة خاصّة بكل نشاط بشري محوريّ معلنة بنسبة أو بأخرى من الوضوح، أو مضمرة ولكن يمكن استخراجها من سياق المنظومة العامّة.
قد يقال، تعليقًا على ما تقدّم، إنّه يصحّ على الأزمنة الفلسفيّة التي سبقت انهيار الميتافيزيقا في سياق التجربة الغربية التي أفضت عبر تطوّرات متلاحقة إلى الفصل نهائيًّا بين عالمي الغيب والشهادة، وتركيز الاهتمام على عالم الشهادة وعلى أنشطة الإنسان في هذا العالم، والتنكّر للعالم الآخر أو وضعه خارج الاهتمام، على اعتبار أنّه لا أثر ولا تأثير له على أنشطة الإنسان في عالم الشهادة وتدعيم هذا الفصل بالمنجزات العلمية والتقنية والاقتصاديّة والسياسيّة… التي ترتّبت في ما يقولون، على تحرير الإنسان من الاهتمامات الغيبيّة (الميتافيزيقيّة) التي أثبتت عقمها وعدم جدواها طيلة العصور القديمة والوسطى.
وفي هذا السياق، وكنتيجة له، أخلت الفلسفات مكانها أو الأنساق الفلسفيّة المتكاملة مكانها، للفلسفات الخاصة بالأنشطة الإنسانيّة المحوريّة التي يمكن تحديد موضوع كلّ منها ونطاقه، وقضاياه ومسائله، والمبادئ المنهجيّة التي تحكم التعاطي معه، بصورة علميّة تعتمد استقراء الواقع العينيّ، دونما حاجة إلى رؤى عامّة وأنساق قيم، أي إلى أنساق فلسفيّة عامّة.
تعليقًا على هذا التعليق، نتساءل: أليس الفصل بين عالمي الغيب والشهادة، وتركيز الاهتمام على الثاني وإغفال الأول أو التنكّر له… نقول أليس هذا نوعًا من الرؤية العامّة التي يترتّب عليها نسق قيم وقواعد سلوك؟ وإذا كانت كذلك، ألا تصبح الفلسفات الخاصّة بالأنشطة البشريّة نوعًا من تطبيق هذه الرؤية العامّة ونسق القيم المرتبط بها على تلك الأنشطة؟
في سياق التجربة الغربيّة اتّخذت هذه الرؤية أسماء مختلفة منها العقلانيّة، والعلمانيّة والماديّة… ولكن هذه الأسماء لا تخرجها عن كونها رؤية، أي نظرة عامّة للوجود والحياة والإنسان، وبما هي كذلك فإنّ تبنّيها أو عدم تبنّيها يظلّ خاضعًا للخيار الحرّ للإنسان، وبالتالي هي موضوع إيمان وليست موضوع معرفة أو علم، وككلّ موضوع للإيمان، تجد هذه الرؤية ما يرجّحها في نظر المؤمنين بها، من سنن الكون والاجتماع والتاريخ والنفس الإنسانيّة، وهذه المرجّحات تخرجها عن أن تكون وهميّة أو لا عقلانيّة، ومع ذلك فإنّها لا تملك من الخصائص ما يمكّنها من فرض نفسها على جميع العقول. وإذا لم يكن الإيمان هنا إيمانًا دينيًّا، فهو على الأقل إيمان فلسفيّ، أو اعتقاد أيديولوجيّ. أنصار هذه الرؤية، مثلًا، بصرف النظر عن التسميات التي اتّخذتها، يدعمون إيمانهم بها، بالمنجزات التي حقّقتها على مختلف الأصعدة في التجربة الغربيّة، ولكن كلّ من يرفض الإيمان بها لا يتردد في القول إنّ الكثير من هذه المنجزات سبق هذه الرؤية، وشكّل بعض عوامل ولادتها: فالنزعة الإنسانيّة، والإصلاح الدينيّ، والتململ من مماحكات الفلسفات المدرسيّة، والضيق من الصراعات بين السلطات الزمنية، وبينها وبين السلطات الروحيّة، وولادة الطبقة البورجوازية والاكتشافات الجغرافيّة والعلميّة… بدأت وتطوّرت قبل بلورة هذه الرؤية، ما جعلها (الرؤية) تولد في سياق هذه التطوّرات ما يعني أنّها لم تكن سببًا لها بقدر ما كانت واحدة من نتائجها أو من معطياتها. وقد يذهب من لا يؤمن بهذه الرؤية إلى أبعد من ذلك، فيحملها مسؤولية الحروب الطاحنة بين الدول الأوروبيّة نفسها، وبينها وبين دول وشعوب سعت إلى استثمارها ونهب خيراتها بكل الوسائل والأساليب، كما يحمّلها مسؤوليّة تخريب البيئة ومختلف المآسي البشريّة المعاشة… ولا حاجة للتطويل في هذا المجال، لأنّ هدفنا ليس دحض أو تبنّي هذه الرؤية بقدر ما هو إظهار أنّها رؤية فلسفيّة عامّة لها نسق قيمها، وأنّ تبنّيها أو رفضها يبقى خيارًا حرًّا للإنسان شأنها في ذلك شأن أي رؤية عامة، فلسفيّة كانت أو دينيّة.
والخلاصة التي نثبتها بناءً على ما تقدّم هي:
- أنّ الفلسفات الخاصة بالأنشطة البشريّة المحوريّة تعنى بتحديد موضوع النشاط ونطاقه ومسائله والمبادئ العامّة المرشدة في التعاطي معه منهجيًّا ومع نتائجه قيميًّا.
- في سياق التجربة الغربيّة، بدت الفلسفات الخاصّة بالأنشطة البشريّة وكأنّها البديل المتواضع والمجدي للنظم الفلسفيّة العامّة المرتكزة إلى رؤى ميتافيزيقيّة لا يمكن التثبت منها.
- مهما بدت الفلسفات الخاصّة بالأنشطة البشريّة متخصّصة، ومتواضعة ومستقلّة فإنّها لا تستغني عن رؤية عامّة ونسق قيّم تقوم عليهما ما يعيد ربطها بفلسفة عامّة.
إذا صحّ ما أشرنا إليه ممّا ينبغي أن تُعنى به الفلسفة الخاصّة بأيّ نشاط بشري، وطبّقناه على الفلسفة الخاصة بالسياسة، بوصفها أحد الأنشطة المحوريّة الملازمة لحياة الإنسان فإنّنا نحصل على فكرة واضحة ومحددة عمّا تعنى به الفلسفة السياسيّة أي موضوع السياسة، ونطاقها ومسائلها، والمبادئ العامّة المرشدة لها من جهة، واستقلالها النسبيّ عمّا عداها من الأنشطة البشريّة المحوريّة من جهة أخرى.
- في الموضوع
موضوع السياسة هو الحياة العامّة، أو الخير المشترك لاجتماع بشري، تنوّعت جماعاته، وتعدّدت فئاته، وقام بينها بفعل حياة مشتركة، تعاون وتنافس، تآزر وصراع، نزوع نحو التوحّد، ونزوع نحو التمزّق تبعًا لاختلاف المواقع والرؤى والمصالح. ما يعني أنّ موضوع السياسة ليس واحدة من هذه الجماعات أو الفئات المتعايشة في مجتمع واحد، لا في حياتها الخاصة ولا في خيرها المشترك، وإنّما هو المجتمع بوصفه شخصية معنويّة قوامها، بصورة أساسيّة، ما يشكّل اجتماعيّة المجتمع (الثقافة المشتركة بمعناها الواسع + الصالح العام أو الخير المشترك لكلّ الفئات والجماعات + وما قد ينتج عنهما من ضمير جمعي) وإن كان القوام الملموس للمجتمع هو الأفراد والجماعات والفئات. مهمّة السياسة اتجاه هذا الموضوع هي تغليب ما يشكّل اجتماعيّة المجتمع، أي قوام الشخصيّة المعنوية للمجتمع، على ما يشكّل فرادة الأفراد وخصوصيات الفئات والجماعات؛ أي تغليب عوامل التعاون والتآزر والتوحّد على عوامل التنافس والصراع والتمزّق بين مكوّنات المجتمع سواء بوصفهم أفرادًا أم بوصفهم جماعات وفئات متمايزة في مواقعها ومصالحها.
ما يوجد عيانيًّا في الحياة الاجتماعية، ليس فقط أفرادًا استدخلوا عبر التربية ما يشكّل اجتماعية المجتمع، ولا فئات اجتماعيّة تنتظم هؤلاء الأفراد تبعًا لمعايير تصنيف اجتماعية مختلفة فحسب، وإنّما، وبالإضافة إلى ما تقدّم، جهة تتّخذ لنفسها أو تُعطى دور من يمثّل اجتماعيّة المجتمع أي ثقافته المشتركة وخيره العام ومن يسهر باسم هذا الدور على تدبير وقيادة المجتمع أي سَوْسِه أو سياسته والقيام على شأنه بما يصلحه.
- في النطاق
موضوع السياسة (المجتمع)، ومهمّتها (تدبيره، إدارته، حكمه، سياسته، قيادته…) تحدّدان نطاق السياسة، أي الحدود الاعتباريّة التي تميّزها عن غيرها من الأنشطة البشريّة ويسهم في جعلها ماهية مستقلّة. ونوقف الكلام على النطاق عند هذا الحد، لنعود إليه بعد الكلام على ما تتضمّنه السياسة من مسائل وقضايا مشتركة، بحيث لا نجد سياسة في الماضي ولا في الحاضر إلا وتتقوّم بها؛ وذلك لأنّ هذه المسائل والقضايا جزء لا يتجزّأ من ماهية السياسة إن لم نقل إنّها فعلًا ماهية السياسة. فما هي هذه المسائل والقضايا؟
- في القضايا والمسائل ويقصد بها الأهداف والوسائل والجدليّات النوعيّة أي الخاصّة بالسياسة.
الأهداف النوعيّة
ما من سياسة معروفة ماضيًا وحاضرًا، إلا وكانت معنيّة بتحقيق أهداف نوعيّة خاصّة بالسياسة دون غيرها من الأنشطة البشريّة: هذه الأهداف النوعيّة هي:
- الحفاظ على السلم والاستقرار الداخليّين عبر تحقيق الوفاق بين الأفراد والفئات والجماعات، واتّقاء ما يمكن أن يؤدّي إلى النزاعات والخصومات، والفصل فيها إذا وجدت، حتى لو اقتضى الأمر استعمال القوّة الماديّة إذا لم تكن قوّة القانون والحكم القضائيّ كافية لردع مثيريها، وهذا ما يؤدي إلى ما يمكن تسميته الأمن الداخليّ.
- الحفاظ على المجتمع من أيّ عدوان خارجي وإعداد العدّة لذلك (القوّة الماديّة، والتحالفات السياسيّة).
- السعي لتأمين الاكتفاء، في تلبية مختلف حاجات المجتمع الماديّة والمعنويّة، ومن ثمّ السعي للتقدّم وتحقيق الازدهار في هذا المجال.
الوسائل النوعيّة:
ما من سياسة معروفة ماضيًا وحاضرًا إلا واستخدمت في إنجاز مهمّاتها.
- الاستناد إلى مبدأ يعطي القيّمين على الشأن السياسي نوعًا من المشروعيّة للممارسات التي يقتضيها قيامهم على هذا الشأن بما يصلحه أو يزيل فساده (فرض الضرائب، التجنيد، تنفيذ الأحكام القضائيّة… احتكار استخدام القوّة الماديّة…).
- القوّة الماديّة وهي الوسيلة المكملة للمشروعيّة، والضامنة لتنفيذ الممارسات التي تقتضيها.
الجدليات الخاصة
خلال العمل لتحقيق الأهداف النوعيّة للسياسة بالوسائل التي أشرنا إليها تبرز ثنائيات تتقابل من جهة، ولكنّها تتفاعل وتتبادل التأثّر والتأثير من جهة ثانية، وتلازم أي ممارسة سياسيّة أو ما يسمّيه جوليان فروند المفترضات المسبقة لأيّ سياسة: هذه المفترضات هي:
- جدلية الإمرة والطاعة
الإمرة هي فعل جهة من المجتمع (أو من خارجه أحيانًا) فرضت نفسها أو اختبرت لممارسة الحكم والقيادة، وباتت بالتالي في موقع الآمر والناهي الذي لا يرضى أن يزاحم في ممارسته هذه. أمّا الطاعة فهي استجابة الشعب بأفراده وفئاته وجماعاته طوعًا أو كرهًا لما يأمر به من يضطلع بدور الإمرة. والإمرة والطاعة كما سنرى لاحقًا وبالتفصيل، متقابلان ولكنّهما تتلازمان وتتجادلان صراعًا وتوافقًا في ممارسة العملية السياسية.
- جدلية الخاص والعام
يقصد بالخاص، المصالح الفرديّة والفئويّة للناس المنضوين في اجتماع سياسي، ويقصد بالعام المصلحة العامة والخير المشترك لمجموع الاجتماع، والذي تمثله مبدئيًّا السلطة السياسية أو الحكومة التي تقوم داخل هذا الاجتماع بدور الإمرة. والعلاقة بين الخاص والعام هي كالعلاقة بين الإمرة والطاعة من حيث التقابل والتلازم والجدل.
- جدلية العدوّ والصديق
يقصد بالعدوّ اجتماعات سياسيّة مجاورة أو غير مجاورة ولكنّها لسبب أو لآخر طامعة بتحقيق مكاسب لها على حساب الاجتماع السياسيّ المعني، ويقصد بالصديق اجتماعات سياسيّة يمكن التعاون معها وإبرام معاهدات أو توقيع اتّفاقات تضمن تحقيق مصالح يقدر أنّها مشتركة بما فيها المصلحة في مواجهة عدو مشترك. وغنيّ عن البيان أنّ العلاقة بين ثنائيّة العدو والصديق شبيهة بعلاقة ثنائيّة الإمرة والطاعة من حيث التقابل والتلازم والجدل.
- في المبادئ العامّة
رأينا أنّ المبادئ الخاصة بنشاط بشري محوري تنقسم إلى قسمين: الأوّل يتعلق بمبادئ منهجيّة أي متعلّقة بالبحث عن أفضل السبل لاكتشاف السنن الحاكمة على هذا النشاط. والثاني يتعلق بالبحث عن أفضل القيم التي ينبغي لها أن تحكم ممارسة هذا النشاط. عندما يتعلق الأمر بالسياسة، وبالقسم الأول من المبادئ الخاصة بها، أي المبادئ المنهجية الهادفة إلى اكتشاف السنن الحاكمة على هذا النشاط، هي مبادئ مستخرجة من علم السياسة، والذي يتمّ من خلال استقراء التجارب البشريّة في السياسة والحكم بهدف التعرّف إلى عوامل نجاحها وعوامل إخفاقها واستخراج المبادئ العامّة الحاكمة على النجاح والإخفاق في المجال الخاص بالسياسة؛ أي في مجال تحقيق الأهداف الخاصّة بها واستخدام وسائلها وممارسة جدليّاتها… هذه المبادئ الحاكمة على النجاح والإخفاق تتحوّل إلى دروس وعبر يسترشد بها، أو ما ينبغي أن يسترشد بها القيّمون على الشأن السياسي في أي موقع من مواقعه أو مستوى من مستوياته، وخصوصًا على مستوى القيّمين على الإمرة العامّة. قد تتعدّد هذه المبادئ أو الدروس والعبر، ولكنها تلتقي جميعًا أو تتقاطع على حقيقة أنّ الظلم بمختلف أشكاله ومستوياته مؤذن بخراب الدول وانهيارها، وأنّ العدل مؤذن باستمرارها…
هذا في ما يتعلق بالمبادئ – السنن الحاكمة على نجاحات النشاط وإخفاقاته. أمّا في ما يتعلّق بالقيم التي ينبغي أن تحكم ممارسة هذا النشاط، فقد رأينا أنّه يتحدّد على ضوء رؤية عامّة للوجود والحياة والإنسان ونسق قيم ينبثق عنها.
وهنا أيضًا على الرغم من تعدّد الرؤى وما يترتب عليها من قيم، نلاحظ أنّها تلتقي أيضًا على وجوب توخّي العدل في ممارسة السياسة سواء في توزيع الحقوق أو توزيع الواجبات، أو في فض النزاعات والاختلافات بين الأفراد وبين الفئات والجماعات الاجتماعيّة في الداخل، ومع الاجتماعات السياسية في الخارج.
إلى ذلك نضيف أنّ للسياسة مرتكزها في الطبيعة الإنسانيّة، وهذا المرتكز هو أنّ الإنسان اجتماعي بالطبع.
بعد هذا العرض السريع لما يرتبط بالسياسة من موضوع ونطاق وأهداف ووسائل وجدليات ومبادئ عامّة ومرتكز في الطبيعة الإنسانيّة يخص السياسة دون غيرها من الأنشطة البشريّة، نعود، كما وعدنا سابقًا، إلى الكلام على نطاق السياسة لتبيين إذا ما كان لها ماهيتها الخاصّة التي تميزها عن الأنشطة البشريّة الأخرى، كالدين والأخلاق والاقتصاد والعلم إلخ… ولنرى حدود هذا التميّز.
إذا كان للسياسة ما يخصّها على صعيد الموضوع والأهداف والوسائل والجدليّات والمبادئ العامّة، فإنّ للدين ما يخصّه على هذه الأصعدة: فموضوع الدين هو المتعالي المقدّس، الخالق، المدبّر وعلاقة الإنسان به، والهدف هو معرفته والتقرّب إليه ونيل رضاه واجتناب سخطه، ووسائل نوعية هي الطاعات والعبادات والأدعية. وجدليّة هي جدليّة المقدّس والمدنّس: الخالق والمخلوق ومرتكز في الطبيعة الإنسانيّة هو حاجة الإنسان إلى متعال على كل شيء قدير، يلجأ إليه حيث لا يجد ملجأ إلا إليه.
وما يقال على الدين، يقال على الأخلاق. فالموضوع هنا هو السلوك الإنسانيّ والهدف هو تزكية النفس وإصلاح السلوك، ووسائل هي معرفة قواعد السلوك الخيّر وتطبيقها والاقتداء بالصالحين، وجدلية هي جدلية الخير والشر، ومرتكز في الطبيعة الإنسانيّة هو الميل الفطري إلى ما هو خير والنفور ممّا هو شر…
ولا يخرج الاقتصاد عن امتلاك مثل هذه الخصوصيات: فموضوعه هو الإنتاج والاستهلاك وهدفه هو إشباع الحاجات الماديّة، ووسيلة هي تحويل أشياء الطبيعة بالاتّجاه الذي يخدم هذا الهدف. وجدليّة هي جدليّة الإنتاج والاستهلاك والتوزيع ومرتكز في الطبيعة البشريّة هي الحاجة إلى الغذاء واللباس والسكن…
وبالطريقة نفسها نجد للعلم والفنّ ما وجدناه للدين والأخلاق والاقتصاد… ما يعني أنّ لكلّ من هذه الأنشطة بما فيها السياسة ماهية تميّزه عمّا سواه في إطار النشاط الإنسانيّ العامّ وإن كان هذا التميّز يتمّ على صعيد المفهوم المجرّد والاختصاص الوظيفيّ ومنهج البحث، وليس على صعيد الممارسة العينيّة حيث تتداخل وتتلابس في أيّ فعل أكثر من ماهية واحدة مهما كان النشاط الذي ينسب إليه.
والخلاصة
- تُعنى فلسفة السياسة بما هو مشترك بين مختلف أنواع السياسة وأشكالها وأنظمتها، أي ما يبقى بعد تجريد هذه الأنواع ممّا يميز بعضها عن بعض. وفي الوقت نفسه ما يميّز السياسة عن الأنشطة الإنسانيّة الأخرى.
- هذا التميّز هو على صعيد المفهوم المجرّد والاختصاص الوظيفي وليس على صعيد الممارسة الواقعيّة حيث يتداخل ويتلابس في أي فعل إرادي، أكثر من ماهية واحدة (دين، أخلاق، اقتصاد…) مهما كان النشاط الذي ينسب إليه، وفي مقدمته النشاط السياسي.
المقالات المرتبطة
في مفهوم العدل وتساؤلاته من منظور أرسطو
شغلت مسألة العدل أذهان المفكّرين والفلاسفة، بل وكل فرد في مجال حياته اليومية على مر التاريخ الإنسانى، كنتاج لحالة القلق الاجتماعي والأيديولوجي داخل المجتمعات الإنسانية
النهج الفاطمي
تطرقنا سابقًا إلى موضوع التأسي، وقلنا إنّه علينا أن نبحث كثيرًا في كل ما يرتبط بخصوصيات السيدة الزهراء (ع) من أجل أن نتبعها ونقتدي بها
الفقه ومصلحة النظام دراسة مقاصدية
يواجهنا الفقه الإسلامي وبمناسبات مختلفة بمصطلحي حفظ النظام الإسلامي، وحفظ بيضة الإسلام.