قاموس الخوف والعذاب في القرآن محاولة درس آيات التخويف

قاموس الخوف والعذاب في القرآن محاولة درس آيات التخويف

تمهيد

لقد تحدث القرآن الكريم عن العذاب بأشكال مختلفة يقصد من بعضها التهديد والوعيد، ومن بعضها الآخر الإخبار عن أحوال ما بعد الموت أو عن أحوال الأمم السابقة. ولا شك في كون الله هادفًا من وراء إخباره، فيريد منا تصديق أخباره عن الأهوال التي تنتظرنا يوم القيامة، ويريد منا أن نخاف من ذلك اليوم وما فيه.

والخوف غريزة فطرية في الإنسان أودعها الله في الإنسان لحكم رآها، وربما ليس بين بني البشر ممن اكتملت مداركه واستوت لا يخاف. وإن كان ذلك على درجات تتراوح بين الخوف السوي وبين الخوف المرضي. وما دام الخوف في حالته الطبيعية ولا يتجاوز الحد فهو وسيلة جيدة لضمان المستقبل وتوقي أخطاره، وما أجمل كلمة أمير المؤمنين (ع): حيث يقول: “ ثمرة الخوف الأمن([1]).

وتنقسم آيات العذاب في القرآن الكريم إلى قسمين في تقسيم أولي بعضها يتحدث عن العذاب في الآخرة، وبعضها عن العذاب في الدنيا لبعض الأمم ومن خلال استعراضي لآيات القرآن الكريم ومروري عليها وجدت أن الكلمات التي تتردد أثناء الحديث عن العذاب يتكرر فيها استخدام مجموعة من الكلمات سوف أحاول أن أستعرض منها ما أقدر أنه يستحق التوقف عنده لأوضحه؛ معتمدًا على كتب اللغة والقرآن الكريم نفسه في محاولة لاستكشاف المعنى من خلال السياق القرآني، وأهم هذه المفردات هي:

العذاب: العذاب كلمة معروفة المعنى لا داعي للوقوف عند معناها اللغوي، ولكن من المناسب الوقوف عند تردداتها في الاستخدام القرآني حيث وردت هذه الكلمة بأشكال شتى سوف أحاول الاستشهاد لها بآيات من القرآن: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ([1]) تكررت ثلاث مرات. سوء العذاب في قوله تعالى: ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ﴾ تكررت خمس مرات. عذاب مهين في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ تكررت ست مرات منكرة، ومرتين معرفة بصيغة العذاب المهين. العذاب الأليم: ﴿فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ تكررت تسعًا وأربعين مرة ست منها معرفة كما في الآية، والباقي منكرة بصيغة عذاب أليم. عذاب مقيم تكررت خمس مرات منها قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾. عذاب بئيس: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ وردت مرة واحدة. وقد وصف الله نفسه مرة واحدة بأنه شديد العذاب، وفي مرات أخرى وصف عذابه بأنه شديد منها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ([2]). وهكذا ترددت كلمة العذاب في حالات أخرى وصيغ مختلفة منها: عذاب واصب؛ سوط عذاب، كلمة العذاب، العذاب العظيم، العذاب الغليظ، عذاب مقيم، عذاب مستقر، عقابي مخففة من دون ياء المتكلم.

العقاب: ومن الكلمات التي استخدمت في القرآن في مجال التخويف من العذاب كلمة العقاب، ترددت في القرآن تسع عشرة مرة بأشكال متقاربة هي: شديد العقاب، سريع العقاب، عقاب أليم، واستخدمت مرتين منسوبة إليه سبحانه كقوله تعالى: ﴿إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ([3]).

النار وأسماؤها وحالاتها

النار: وردت كلمة النار في القرآن خمسًا وتسعين مرة في ست منها لا علاقة لها بسياق العذاب. وقد وردت بصيغ عديدة، فكانت مأوى كما في قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾، وأخرى كانت مثوى كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾، وثالثة كانت لجماعة هم أصحابها وقد تردد هذا التعبير ثماني عشرة مرات منها قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. وهكذا وقد استخدم القرآن مفردات أخرى على علاقة بالنار من حيث المعنى منها بعض مما سوف يأتي في ما يلي:

 

الحطمة: الحطم كسر الشيء مثل الهشم … وسميت الجحيم حطمة قال الله تعالى في الحطمة: ﴿كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ([4])، ولم يرد هذا التعبير في القرآن غير هاتين المرتين، ويوضح القرآن معناها عندما يتابع قائلًا: ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ﴾. وفي لسان العرب: “الحطم كسر الشيء بأي وجه كان، وقيل هو كسر اليابس خاصة كالعظم، والحطْمة والحُطَمة والحاطوم السنة الشديدة؛ لأنها تحطم كل شيء… ونار حطمة: شديدة، وفي التنزيل الحطمة من أسماء النار… لأنها تحطم ما تلقى. وقيل: الحطمة باب من أبواب جهنم…”([5]).

السعير: “التهاب النار وقد سعرتها وأسعرتها. والمسعر: الخشب الذي يسعر به”([6]). “وسعر النار: أوقدها وهيجها … ونار سعير”([7]). وقد وردت كلمة السعير في القرآن سبع عشرة مرة في صيغ مختلفة مثل: أصحاب السعير، وكفى بجهنم سعيرًا، وزدناهم سعيرًا، يصلون سعيرًا، أعتدنا للكافرين سعيرًا…

الجحيم: جحم الجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم وجحم وجهه من شدة الغضب استعارة من جحمة النار وذلك من ثوران حرارة القلب… ([8]). والجحيم اسم من أسماء النار وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم… ابن سيده: الجحيم هي النار الشديدة التأجج… فهي تجحم جحومًا؛ أي توقد توقدًا.([9]) وقد وردت كلمة جحيم سبعًا وعشرين مرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ([10]).

جهنم: اسم لنار الله الموقدة، قيل: وأصلها فارسي معرب وهو جهنام والله أعلم([11]). كما في مفردات الراغب. وفي لسان العرب: الجهنام القعر البعيد. وبئر جهنم وجهنام بعيد القعر، وبه سميت جهنم لبعد قعرها ولم يقولوا جهنام فيها. وقال الجوهري: جهنم من أسماء النار التي يعذب الله بها عباده… ويقال: هو فارسي معرب. وأما الأزهري فيقول: في جهنم قولان: قال يونس بن حبيب وأكثر النحويين:  جهنم اسم من أسماء النار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية… وقال آخرون: جهنم عربي سميت نار الآخرة به لبعد قعرها… وقيل هو تعريب كهنام بالعبرانية… ([12]). ويبدو أن الأصح هو هذا القول الأخير أي نقل اسم جهنم من العبرية. وبالنظر إلى موارد ورود هذه الكلمة في القرآن حيث وردت ثلاثًا وسبعين مرة نجد أن الأقرب في معناها هو أنها مكان للنار، ويؤيد ذلك قوله تعالى في أكثر من آية: نار جهنم، وأبواب جهنم. وهذه التراكيب تدل على أن جهنم اسم مكان وليست اسم علم لنار الآخرة. وهذا ينسجم مع القول بنقل هذه الكلمة من العبرية حيث يقول العارفون بالعبرية إن هذا الاسم هو اسم لواد قرب القدس.

لظى: اللظى اللهب وقيل هي اسم للنار.

سقر: من سقرته الشمس وقيل من صقرته أي لوحته وأذابته وجعل سقر اسم علم لجهنم([13]). وفي لسان العرب أنه اسم علم أعجمي لنار الآخرة([14]). وقد وردت هذه الكلمة في القرآن أربع مرات في مرة كانت عقابًا لترك الصلاة.

سجين: اسم لجهنم كما في المفردات. وفي لسان العرب: مثله تقريبًا.

سموم: السموم الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم قال تعالى: ﴿وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾، ﴿فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ([15]). وفي لسان العرب: السموم الريح الحارة … وقيل هي البادرة ليلًا كان أو نهارًا، تكون اسمًا وصفة…([16]). ولم ترد هذه الكلمة في غير هذين الموردين المشار إليهما في كلام الراغب في مجال آيات العذاب، نعم وردت في حديثه تعالى عن خلق الجان من نار السموم. وبالتأمل في سياق الموارد الثلاثة يتبين أن الأقرب كون المراد منها الريح الحارة.

يحموم: اليحموم من كل شيء يفعول من الأحم… واليحموم: دخان أسود شديد السواد… قال ابن سيده: اليحموم الدخان وقوله وظل من يحموم عنى به الدخان الأسود، وقيل أي من نار يعذبون بها، ودليل هذا القول قوله تعالى: ﴿لهم من فوقهم ظلل من النار﴾… وقيل اليحموم سرادق أهل النار([17]). ولم ترد هذه الكلمة في القرآن غير مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ([18]).

الحميم: هو الماء الشديد الحرارة كما في المفردات. وفي لسان العرب: الحميم والحمية جميعًا الماء الحار… والحميم المطر الذي يأتي في الصيف حين تكون الأرض حارة… والحميم القيظ، والحميم العرق…([19]). وقد وردت هذه الكلمة في القرآن أربع عشرة مرة، فكانت وصفًا للماء في بعض الآيات كقوله تعالى: ﴿وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا([20])، وفي بعضها الآخر استخدمت من دون موصوف كما في قوله تعالى: ﴿بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾، وثالثة استخدمت تمييزًا للنزل كقوله تعالى: ﴿فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيم﴾، ورابعة تمييزًا للشراب كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ([21]).

ويل: في المفردات قال الأصمعي: ويل قبح، وقد يستعمل على التحسر، وويس استصغار، وويح ترحم. ومن قال ويل واد في جهنم فإنه لم يرد أنه في اللغة موضوع لهذا، وإنما أراد من قال الله تعالى ذلك فيه فقد استحق مقرًّا من النار وثبت ذلك له. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن عشرين مرة كان الويل فيها للكافرين والمكذيين والمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، وللذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله.

السفع: “الأخذ بسفعة الفرس؛ أي سواد ناصيته، قال تعالى لنسفعًا بالناصية، وباعتبار السواد قيل للأثافي سُفع، وبه سفعة غضب اعتبارًا بما يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب…”([22])، وفي لسان العرب: السفع السواد والشحوب، وقيل نوع من السواد ليس بالكثير… وسفعته النار لفحته لفحًا يسيرًا فغيرت لون بشرته وسودته … وسفع بناصيته جذب وأخذ وقبض وفي التنزيل … ناصيته مقدم رأسه أي لنصهرنها، ولنأخذن بها أي لنقمئنه ولنذلنه. ويقال: لنأخذن بالناصية إلى النار كما قال فيؤخذ بالنواصي والأقدام، ويقال معنى لنسفعن لنسودن وجهه فكفت الناصية لأنها في مقدم الوجه([23]). ولم ترد هذه الكلمة في القرآن إلا مرة واحدة في قوله تعالى لنسفعًا بالناصية.

صديد: الصديد ما حال بين اللحم والجلد من القيح وضرب مثلًا لمطعم أهل النار قال تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ([24]). وصديد الجرح: ماؤه القيق المختلط بالدم قبل أن تغلظ المدة. وفي الحديث يسقى من صديد أهل النار؛ هو الدم والقيح الذي يسيل من الجسد… والصديد في القرآن ما يسيل من جلود أهل النار. وقيل هو الحميم إذا أغلى حتى خثر…”([25]).

اللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه ومن الإنسان دعاء على غيره([26]). اللعن الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء … واللعنة الاسم… ولعنه: طرده وأبعده… واللعن التعذيب، ومن أبعده الله لم تلحقه رحمته وخلد في العذاب. واللعنة في القرآن العذاب ولعنه الله يلعنه لعنًا عذبه… وقوله تعالى الشجرة الملعونة في القرآن قال ثعلب: شجرة الزقوم. ويأتي اللعن بمعنى المسخ([27]). وقد ورد اللعن في القرآن بصيغ مختلفة مثل: لعنة الله على الظالمين، يلعنهم اللاعنين، كما لعنا، يلعنهم الله، وما شابه. واللعن يكون في الدنيا الآخرة فمن اللعن في الدنيا قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ([28]). ويكون اللعن من الله ومن الناس كما في قوله تعالى: ﴿أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ([29]). وبالتأمل في بعض هذه الموارد يبدو أن اللعن لا يكون بمعنى العذاب بدليل ما ورد في القرآن من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا([30])؛ لأنه سبحانه وتعالى تحدث عن اللعن ثم ذكر إعداد العذاب ولو كان اللعن هو العذاب لما صح ذلك. وقد ورد اللعن في القرآن حوالي سبع عشرة مرة بصورة عقاب للإنسان. وورد مرات أخرى لا ربط لها بما نحن بصدده.

 

التقبيح: “القبيح ما ينبو عنه البصر من الأعيان وما تنبو عنه النفس من الأعمال والأحوال. وقد قبح قباحة فهو قبيح وقوله من المقبوحين أي من الموسومين بحالة منكرة؛ وذلك إشارة إلى ما وصف الله تعالى به الكفار من الرجاسة والنجاسة إلى غير ذلك من الصفات وما وصفهم به يوم القيامة من سواد الوجه وزرقة العيون ونحو ذلك”([31]). قبح: القبح ضد الحسن يكون في الصورة والفعل… وفي التنزيل ويوم القيامة من المقبوحين أي من المبعدين عن كل خير… قال أسيد: المقبوح الذي يرد ويخسأ… ([32])، وقد وردت هذه المادة مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ([33]).

المهل: دردي الزيت([34])، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن مرتين في قوله تعالى: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ([35])، وفي قوله تعالى: ﴿كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ([36])، وثالثة وردت صفة للسماء يوم القيامة ولعل المراد من الوصف هنا السواد والظلمة.

قمح: القمح رفع الرأس لسف الشيء، ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان قمح. وقمح البعير رفع رأسه، وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف، وقوله تعالى: مقمحون تشبيه بذلك ومثلٌ لهم وقصد إلى وصفهم بالتأبي عن الانقياد إلى الحق، وعن الإذعان لقبول الرشد والتأبي عن الإنفاق في سبيل الله، وقيل: إشارة إلى حالهم في القيامة؛ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل. وقد وردت هذه المادة بصيغة اسم المفعول مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ([37]).

الزقوم: زقم: إن شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار ومنه استعير زقم فلان إذا ابتلع شيئًا كريهًا([38]). وفي لسان العرب: زقم: الأزهري الزقم الفعل من الزقوم والازدقام الابتلاع. ازدقم الشيء ابتلعه. الجوهري: الزقوم اسم طعام لهم فيه تمر وزبد… والزقوم طعام أهل النار قال: وبلغنا أنه لما أنزلت آية الزقوم: لم يعرف قريش فقال أبو جهل: إن هذا لشجر ما ينبت في بلادنا فمن منكم يعرف الزقوم؟ فقال رجل قدم عليهم من أفريقيا الزقوم بلغة أفريقيا الزبد بالتمر فقال أبو جهل: يا جارية هاتي لنا تمرًا وزبدًا نزدقمه، فجعلوا يأكلون منه ويقولون أفبهذا يخوفنا محمد في الآخرة؟ فبين الله تبارك وتعالى ذلك في آية أخرى”([39]). وعلى أي حال فقد وردت كلمة زقوم ثلاث مرات في القرآن وهي قوله تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ([40]). ﴿لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ([41]). ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ([42]).

ضريع: … قيل هو يبيس الشبرق وقيل نبات أحمر منتن الريح يرمي به البحر وكيفما كان فإشارة إلى منكر…([43]). وفي لسان العرب: …قال ابن الأعرابي: الضريع العوسج الرطب، فإذا جف فهو عوسج، فإذا جف فهو الخزيز. وجاء في التفسير: أن الكفار قالوا إن الضريع لتسمن عليه إبلنا، فقال الله عز وجل: ﴿لا يسمن ولا يغني من جوع﴾ … وهو نبات بالحجاز له شوك كبار…([44]). وقد وردت هذه الكلمة في القرآن مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ([45]).

غسلين: في المفردات غسالة أبدان الكفار في النار([46]). وقد وردت في القرآن مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ([47]).

غساق: الغساق كما في المفردات ما يقطر من جلود أهل النار([48]). وفي لسان العرب مثله وأضاف: الزمهرير وقيل: هو ما يسيل من دموعهم، وقيل: الغساق المنتن البارد الشديد البرد يحرق من برده كإحراق الحميم، وقيل البارد فقط…([49]). وقد وردت في القرآن مرتين معطوفة على الحميم.

الطمس: الطمس إزالة الأثر بالمحو… ﴿ولو نشاء لطمسنا على أعينهم…﴾؛ أي أزلنا ضوءها وصورتها كما يطمس الأثر…([50]). وفي لسان العرب الطموس الدروس والانمحاء…([51]). وقد وردت كلمة الطمس أربع مرات في القرآن الكريم في سياق العذاب مرة منها في سياق الدعاء من المؤمنين على آل فرعون يطلبون طمس أموالهم، ومرتين تعلقت بطمس العيون ومرة بطمس الوجوه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾([52]). وفي طمس العيون يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾([53]).

أصناف المعذبين

ومن خلال تصفح السور السبع الأولى من القرآن ظهر أن من توعدهم الله بالعذاب هم على النحو الآتي:

الصنف السورة الآية
المنافقون البقرة 10
المعاندون البقرة 24
الكافرون البقرة 40
من يكذب على الله البقرة 79
من أحاطت به خطيئته البقرة 81
من لا يعمل بما يعلم البقرة 86
اليهود البقرة 96.
من منع مساجد الله أن تعمر البقرة 114
من يتخذ من دون الله أندادًا البقرة 165
من يكتم الحق طمعًا بالمال البقرة 174
من يقتل المؤمنين البقرة 178
من أخذته العزة بالإيم البقرة 206
من يأكل الربا البقرة 275
المرتد آل عمران 87
من يبخل بما آتاه الله آل عمران 180
من يقتل الأنبياء آل عمران 181
آكل مال اليتيم النساء 10
من يعصي الرسول النساء 14
آكل المال بالباطل النساء 30
من يصد عن سبيل الله النساء 56
من يظلم نفسه النساء 115
المستكبرون الأعراف 36

 

إشكاليات آيات التخويف

لقد أثارت آيات التخويف العقل المسلم في مجالات عدة من الكلام إلى الفلسفة إلى الأخلاق وغيرها من العلوم التي لها صلة بهذا الميدان من قريب أو بعيد، فأنكر بعضهم المعاد الجسماني وتأول الآيات التي تتحدث عن عذاب الأجساد يوم القيامة، وآخرون وافقوا كأكثر المتكلمين، ولكن كانت لهم مع هذه الآيات وقفات فكان الوعد والوعيد أصلًا من أصول الدين عند المعتزلة، وبحثوا في هذا الأمر من نواحي  شتى. وبحث المتكلمون كذلك عن التناسب بين الجزاء والعمل. وإذا أدخلنا التخويف بعذاب الدنيا تتولد مسائل جديدة كانت مثارًا لإشكاليات ربما تكون أكثر تعقيدًا مثل: كيف يعاقب الله في الدنيا جماعة من الناس فيهم المطيع والعاصي؟ وكيف تتناسب الكوارث الطبيعية التي تحدث في عالم الكون والفساد مع علم الله وقدرته ورحمته؟ ما عرف لاحقًا بمسألة الشر التي تمثل في الفلسفة الغربية ركيزة أساسية من ركائز الإلحاد، وبالتالي تحديًا صعبًا يواجه الإيمان والتدين. ومن الأمور التي تستحق البحث هي دور الخوف في التأسيس للعلاقة بين الله والإنسان، وهل يحسن أن تبنى علاقة الإنسان بربه على الخوف؟

ولا يمكن الخوض في تفاصيل هذه الأبحاث جميعًا، ولذلك سوف أقتصر على الأمر الأخير وأطوي عن غيره عسى أن يوفقني الله لاستكمال البحث لاحقًا. ولكن قبل ذلك لا بدّ من الوقوف قليلًا عند أصل الطرح وهو هل توجد مبالغة في الاعتماد على الخوف كأساس في إنشاء العلاقة مع الله سبحانه في القرآن؟ إن التأمل في آيات التخويف يثبت أن التخويف لم يكن هو الأساس في ربط الإنسان بالله، وهذا المدعى يمكن إثباته من خلال مجموعة من الملاحظات:

  • إن القاموس التخويفي القرآني ليس بالقاموس الغني، فإنني وبعد إحصاء الكلمات التي استخدمت للتخويف من عقاب الآخرة وجدت أنها لا تزيد على العشرين كلمة بعد حذف المتكرر والمترادف.
  • إن القرآن كما خوف الناس من العقاب وأهوال يوم القيامة نجده طمأن بعضهم وأمنهم من أي هول وذلك كما في قوله تعالى: ﴿فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.

ج- إن القرآن استخدم طريقة ملفتة في التخويف فلا يكاد يجد القارئ فيه آية تخويف إلا وهي مشفوعة بآية وعد بالمغفرة والنعيم، بل كثيرًا ما يجتمع هذا في آية واحدة، ما يجعل القارئ بين حالتي الخوف والرجاء بشكل دائم.

دور الخوف في العلاقة مع الله

طرح بعض الفلاسفة الخوف بوصفه مصدرًا من مصادر التدين في الاجتماع الإنساني. وممن تبنّى هذه النظرية لوكريشس حيث يقول كما ينقل عنه ويل ديورانت: “الخوف أول أمهات الآلهة وخصوصًا الخوف من الموت”([54]). وتبعه على هذا التصور الفيلسوف البريطاني برتراند راسل مثلًا، حيث يرى أن الخوف من قوى الطبيعة وغيرها تدعو الإنسان إلى اختراع الدين ليستقوي به عليها. ولن أطيل في بحث هذه النظرية ونقاشها ولكن أشير إلى أنه يصعب تصديق أن الإنسان الذي اخترع الدين بدافع الخوف ينقلب عليه الدين فيصير مصدرًا لخوفه. ويذكرني هذا بما أشرت إليه حول تحول الشر في العالم المادي إلى تحد يواجه التدين والإيمان بوجود الله. بينما نجد من المتكلمين من اعتمد على فكرة الشر والنقص الموجود في العالم لإثبات وجود الله ومن هؤلاء المتكلم أبو منصور الماتريدي حيث يقول: “…أن العالم لو كان بنفسه لم يكن وقتًا أحق به من وقت، ولا حال أولى به من حال، ولا صفة أليق به من صفة، وإذا كان على أوقات وأحوال وصفات مختلفة؛ ثبت أنه لم يكن به ولو كان لجاز أن يكون كل شيء لنفسه أحوالًا هي أحسن الأحوال والصفات وخيرها، فيبطل به الشرور والقبائح؛ فدل وجود ذلك على كونه بغيره…”([55]). وعلى أي حال لا بدّ من التمييز بين الدافع نحو التدين وبين مبررات التدين الموضوعية التي يعتمدها المتدين لإثبات معتقداته الدينية. ففي الباعث نحو التدين والبحث عن الله سبحانه وتعالى ملأ المتكلمون كتبهم بكون خوف الضرر هو أهم الدوافع التي تدعو الإنسان إلى البحث، عندما كانوا بصدد البحث عن وجوب المعرفة فهذا هو العلامة الحلي يقول في مثل هذا المقام: “…ولأن معرفة الله تعالى واقعة للخوف الحاصل من الاختلاف، ودفع الخوف واجب بالضرورة”([56]). وقبله الشيخ الطوسي في التجريد يقول: “ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته كان التكليف به عقليا”([57]).

وبالعودة إلى القرآن نجد أن مبررات التخويف هي الحرص على هداية الإنسان وذلك من خلال تبين المخاطر التي تواجهه ليهلك من يهلك عن بينة ويحيى من يحيي عن بينة. وبتعبير المتكلمين إن اللطف الإلهي يوجب عليه سبحانه أن لا يبخل على العباد ببيان المخاطر التي تواجههم في الآخرة ليكون ذلك لهم رادعًا عن التورط في ما لا يريد الله لهم، والأمر الثاني أن في طبيعة الإنسان التكوينية ما يدعوه إلى القرب من الله في حالات الشدة وتحت وطأة سياط التخويف، وقد أشار الله إلى هذه الحقيقة في موارد عدة من القرآن منها:

  1. ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور﴾ سورة لقمان، الآية 32.
  2. ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ سورة الزمر، الآية 49.
  3. ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ سورة يونس، الآية 90.

ومن هنا نجد أن الله يريد تأسيس العلاقة بينه وبين العباد على قاعدة الخوف المشوب بالتفاؤل أو فقل الأمن الحذر، وهو ما عبّر عنه الفقهاء والمتكملون بأن يبقى العبد بين الخوف والرجاء، أو بين المعصيتين الكبيرتين وهما معصية الأمن من مكر الله، ومعصية اليأس من رحمته. ومن الآيات التي تدل على هذا التعليم الإلهي ما ورد في عدد من الآيات من الدعوة إلى خشيته والرهبة منه والخوف، ومن نماذج هذه الآيات:

  1. ﴿وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ سورة النحل، الآية 51.
  2. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ سورة البقرة، الآية 150.

إذًا في هاتين الآيتين وفي غيرهما من الآيات يطلب منا الله أن نخشاه ولكنها خشية منه وحده فهي دعوة إلى تحرير الإنسان من كل خوف وخشية وحصر خوفه وخشيته بشيء واحد هو الله وحده؛ ولذلك نراه يقول سبحانه في آية أخرى عن: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾. فلا الظالمون ولا الشياطين ولا الظواهر الطبيعية ينبغي أن تخشى بل هو وحده. وربما كان هذا هو السبب التربوي الذي دعاه سبحانه إلى ربط كل الظواهر الطبيعية التي حدثت للأمم السابقة من الطوفان إلى الخسف إلى الزلازل وغيرها من الكوارث التي أصابت الإنسانية وما زالت معرضة لها ربطها به سبحانه كي لا يبقى مصدر خشية غيره. ونجد في التعاليم الإسلامية بعض الآداب والسنن التي تربط بعض العبادات ببعض الظواهر الطبيعية وبعضها من الواجبات وبعضها من المستحبات. وأشير إلى نموذجين: أحدهما من المستحبات والآخر من الواجبات. أم المستحب فهو صلاة الاستسقاء في أوقات الجفاف، والثاني هو ما يعرف في الفقه الإسلامي بصلاة الكسوف والخسوف، أو ما يعبر عنه في اصطلاح أعم بصلاة الآيات.

صلاة الكسوف

لم يرد ذكر لصلاة الكسوف في القرآن الكريم، ولكنه أمر وردت به سنة النبي (ص)، وسوف نحاول استعراض الروايات التي استدل بها الفقهاء لإثبات وجوب صلاة الكسوف، ولكن قبل ذلك لا بدّ من الإطلالة على القرآن الكريم لاستجلاء صورة الشمس فيه، فإن القرآن عندما يحدثنا عن الشمس يعرضها لنا بوصفها آية من آيات الله ودليلًا على وجوده سبحانه كما في احتجاج النبي إبراهيم (ع) بها في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، وفي آيات أخرى هي مسخّرة بأمره: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وفي آية أخرى هي مسخّرة للإنسان ليعلم عدد السنين والحساب: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾.

هذه صورة الشمس والقمر وغيرها من مظاهر الطبيعة في القرآن، وعندما تكون صورة الشمس على هذا النحو فسوف تكون النظرة إلى الكسوف في أجواء الإسلام والفقه الإسلامي منسجمة مع هذه النظرة، وبالعودة إلى السنة المعصومة حول الكسوف نجد عددًا من الروايات المنسجمة مع هذه الرؤية القرآنية، وهذه نماذج من الروايات:

  1. عن الرضا (ع): “إنما جعلت للكسوف صلاة لأنه من آيات الله. لا يدرى لرحمة ظهرت أم لعذاب؟ فأحب النبي (ص) أن تفزع أمته إلى خالقها وراحمها عند ذلك ليصرف عنهم شرها ويقيهم مكروهها كما صرف عن قوم يونس (ع) حين تضرعوا إلى الله عز وجل”([58]).
  2. ومن أروع ما ورد في سيرة النبي الأكرم (ص): أنه لما توفي ابنه إبراهيم “جرت فيه ثلاث سنن أما واحدة فإنه لما مات انكسفت الشمس، فقال الناس: انكسفت الشمس والقمر لفقد ابن رسول الله (ص) فصعد رسول الله (ص) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره، مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا ثم نزل فصلى بالناس صلاة الكسوف…”([59]). ومن الغريب أن هذه الرواية انتقلت بصورة معاكسة إلى الوجدان الشعبي فكانت رؤية كسوف الشمس والقمر في المنام مؤشرًا يؤول بموت عالم أو حاكم أو وجيه أو ما شابه، ويلفت في هذا المجال حديث الإنجيل عن حدوث الكسوف عند صلب المسيح، فربما كان هذا هو منشأ الاعتقاد بالربط بين الكسوف وبين موت شخص وجيه. وعلى أي حال هذا يدعونا إلى محاولة البحث عن الكسوف في التقاليد الشعبية التي ما زالت موجودة حتى عصرنا هذا في بعض البيئات.

الكسوف في التراث والتقاليد

ما زال الاعتقاد بنوع من الحياة في الشمس والقمر موجودًا حتى عصرنا هذا، فبين بعض أكراد العراق يسود اعتقاد بأن الشمس والقمر عاشقان يطارد أحدهما الآخر منذ الأزل، وأن القمر هو عاشق الشمس، وينتج الكسوف عن دلال تبديه الشمس للقمر كي يثبت لها حرصه على السعي لرؤيتها، ولا أدري هل من هذه الفكرة تسرب التعبير عن الخجل بالكسوف إلى اللهحة المصرية العامية. ويؤمن هؤلاء أيضًا بأن لكل منا نجمه الخاص به في السماء وربما لذلك يقال عن بعض الأشخاص عندنا بأن نجمهم خفيف. وأما الكسوف عندهم فهو نذير شؤم.

ويعتقد آخرون بأن خسوف القمر ناتج عن محاولة حوت شرير ابتلاعه والهرب به، وكذلك الشمس عندما تكسف يكون ذلك ناتجًا عن ابتلاع التنين لها، وما زالت هذه المعتقدات موجودة في كثير من البيئات والمجتمعات، ومن العادات التي نعلمها جميعًا وكنا نرى ممارستها إلى وقت قريب وهي عادة منتشرة في كثير من البلاد الإسلامية كالعراق ومصر وغيرهما وهي عادة الطرق على الأواني المعدنية لإحداث صوت يؤدي إلى فرار الحوت أو التنين أو الجن، وفي منشأ هذه العادة اطلعت على قولين فهناك من يرجعها إلى عادات قديمة سابقة على الإسلام، ومنهم من يرجعها إلى الشيخ نصير الدين الطوسي وذلك أنه توقع حدوث خسوف للقمر في موعد محدد وأخبر القائد المغولي عنه قبل حدوثه فلم يصدقه وهدده بالقتل إن لم يحدث، وحدث أن نام هذا القائد وقت الكسوف فلم يجرؤ أحد على إيقاظه فما كان من الشيخ نصير الدين إلا أن أخاف الجنود من الخسوف وطلب منهم الطرق على الأواني كي يعود القمر ما أدى إلى استيقاظ القائد ورؤيته للخسوف. ويسود اعتقاد قريب عند بعض الديانات المنتشرة بين سكان أستراليا الأصليين حاصله أن الكسوف ناتج عن محاولة بعض قوى الشر السكن في داخل الشمس.

وهكذا نجد أنفسنا بين رؤيتين إحداهما تقول بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وأخرى تنسب لهما الحياة وتربط ما يطرأ عليهما بعلل أخرى فهل يمكن أن يكون الدين أو بعض النصوص الدينية سببًا لتكون اعتقادات مخالفة للواقع؟

ولكن هناك روايات تتحدث بطريقة مختلفة عن ظاهرة الكسوف والخسوف منها:

أ. ما روي عن الصادقين (ع) إن الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس والقمر، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله تعالى بالصلاة.”([60])

ب.  وعن الإمام السجاد (ع): “إن من الآيات التي قدرها الله عز وجل للناس مما يحتاجون إليه البحر الذي خلقه الله بين السماء والأرض، قال: وإن الله تبارك وتعالى قد قدر منها مجاري الشمس والقمر والنجوم وقدر ذلك كله على الفلك، ثم وكل بالفلك ملكًا معه سبعون ألف ملك فهم يديرون الفلك فإذا أداروه دارت الشمس والقمر والنجوم معه، فنزلت منازلها التي قدرها الله تعالى ليومها وليلتها، فإذا كثرت ذنوب العباد وأحب الله أن يستعتبهم بآية من آياته أمر الملك الموكل بالفلك أن أزيلوا الفلك عن مجاريه… فيزيلونه فتصير الشمس في ذلك البحر الذي كان فيه الفلك فينطمس ضوؤها ويتغير لونها، فإذا أراد الله عز وجل أن يعظم الآية غمست في البحر على ما يحب أن يخوف عباده بالآية … وذلك انكساف الشمس وكذلك يفعل الله بالقمر فإذا أراد الله عز وجل أن يجليها ويردها إلى مجراها…أما إنه لا يفزع للآيتين ولا يرهب لهما إلا من كان من شيعتنا فإذا كان ذلك منهما فافزعوا إلى الله عز وجل وراجوه”([61]).

وبناء على ورود هذا النمط من الروايات في التراث الإسلامي فهل يمكن أن تكون هذه الرواية وأمثالها منشأ لبعض الخرافات المعمول بها في المجتمعات الإسلامية. ما أدعيه هو النفي وذلك لأن انتشار الوعي الديني أدى في الكثير من الحالات إلى انحسار هذه العادات، ثم إن الناقل لهذه الرواية وهو الشيخ الصدوق وهو من المؤسسين للثقافة الإمامية بشكل أو بآخر وإن كان قد صعب عليه رفض الرواية إلا أنه اختار طريقًا آخر للتعامل معها وهو تأويلها وربما كان التأويل ردًّا مهذّبًا ملطّفًا. فيقول: “إن الذي يخبر به المنجمون من الكسوف فيتفق على ما يذكرونه ليس من هذا الكسوف في شيء. وإنما يجب الفزع إلى المساجد والصلاة عند رؤيته لأنه مثله في المنظر وشبيه له في المشاهدة…”.

 

الهوامش:

[1]  غررالحكم: عبد الواحد الآمدي التميمي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ج1.

[1]  سورة البقرة، الآية 85.

[2] سورة إبراهيم، الآية 6.

[3]  سورة ص، الآية 14.

[4]  سورة الهمزة، الآيات 4 و 5. انظر: ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1413، مج 12، الصفحة 137.

الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، المحقق: صفوان عدنان الداودي، بيروت، دار القلم، الدار الشامية ، ١٤١٢ هـ، الصفحة 242، مادة حطم.

[5]  لسان العرب، مصدر سابق، مج 12، الصفحة 138.

[6]  المفردات، مصدر سابق، الصفحة 411.

[7]  لسان العرب، مصدر سابق، مج 4 الصفحة 354.

[8]  المفردات، مصدر سابق، الصفحة 187.

[9]  لسان العرب، مج 12، الصفحة 84.

[10]  سورة الشعراء، الآية 91.

[11]  المفردات، مصدر سابق، الصفحة 209.

[12]  لسان العرب، مج 12، الصفحة 112.

[13]  المفردات، مصدر سابق، الصفحة 414.

[14]  لسان العرب، مج 4، الصفحة 372.

[15]  مفردات الراغب، مصدر سابق، الصفحة 424.

[16]  لسان العرب، مج 12، الصفحة 304.

[17]  لسان العرب، مج 12، الصفحة 157.

[18]  سورة الواقعة، الآية 43.

[19]  لسان العرب، مج 12، الصفحة 153.

[20]  سورة محمد، الآية 15.

[21]  سورة يونس، الآية 4.

[22]  المفردات، مصدر سابق، الصفحة 413.

[23]  لسان العرب، مصدر سابق، مج 15، ص 327.

[24]  سورة إبراهيم، الآيتان 16 و 17.

[25]  لسان العرب، مج 3، الصفحة 246.

[26]  المفردات، الصفحة 451.

[27]  لسان العرب، مج 13، الصفحة 389.

[28]  سورة البقرة، الآية 88.

[29]  سورة البقرة، الآية 159.

[30]  سورة الأحزاب، الآية 57.

[31]  المفردات، الصفحة 651.

[32]  لسان العرب، مج 2، الصفحة 552.

[33]  سورة القصص، الآية 42.

[34]  المفردات، الصفحة 476.

[35]  سورة الكهف، الآية 29.

[36]  سورة الدخان، الآية 45.

[37]  سورة يس، الآية 8.

[38]  المفردات، مصدر سابق، الصفحة 380.

[39]  لسان العرب، مج 12، الصفحة 268.

[40]  سورة الصافات، الآيات 62 و 63.

[41]  سورة الواقعة، الآية 52.

[42]  سورة الدخان، الآية 43.

[43]  المفردات، الصفحة 295.

[44]  لسان العرب، مج 8، الصفحة 223.

[45]  سورة الغاشية، الآية 6.

[46]  المفردات، الصفحة 361.

[47]  سورة الحاقة، الآية 36.

[48]  المفردات، الصفحة 360.

[49]  لسان العرب، مج 10، الصفحة 289.

[50]  المفردات، الصفحة 307.

[51]  لسان العرب، مج6، الصفحة 126.

[52]  سورة البقرة، الآية 47.

[53]  سورة يس، الآية 66.

[54]  ول ديورانت، قصة الحضارة، الجزء1، الصفحة 99. نقلًا عن: الشيخ جعفر سبحاني، الله خالق الكون، الصفحة 27.

[55]  أبو منصور الماتريدي، كتاب التوحيد، بيروت، دار المشرق، لا ط، 1986م، الصفحة 17.

[56]  العلامة الحلي، نهج الحق وكشف الصدق، الطبعة 4، قم، دار الهجرة، 1414 هـ، الصفحة 51.

[57]  الشيخ نصير الدين الطوسي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، بيروت، الأعلمي، الطبعة 1، 1979م، الصفحة260.

[58] الحر العاملي، وسائل الشيعة، بيروت، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة2، 2002 م، مج 7، الصفحة 484.

[59] المصدر نفسه، الصفحة 485.

[60] المصدر نفسه، الصفحة 484.

[61] المصدر نفسه، الصفحة 484.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الخوف في القرآنالعذاب في القرآنآيات التخويف

المقالات المرتبطة

الإمام موسى الصدر وقضايا الوحدة والتعددية

فمشروع الإمام السيد الصدر يناقض الطائفية، ويعمل من خلال دوائره المتعدّدة لرفع الحيف والظلم والحرمان عن فئات المجتمع اللبناني بصرف النظر عن انتماءاتها الدينية والمذهبية.

أهل الكتاب بين الشرك والكفر

لقد عبّر القرآن الكريم عن الآخر بتعابير مختلفة تبعًا لاختلاف الآخر، فوصفه ورتب أحكامًا عليه، كل بحسبه. ففيه استخدم توصيف الشرك وما يتفرع منه مثل: “مشرك”، و”يشركون”، و”أشرك”، و”شريك”…

السيرة الفرعونية في القرآن الكريم

حكى القرآن الكريم عن فرعون وقومه في آيات كثيرة، فذكر طغيان هذا الحاكم، وكيف أنه أفسد في الأرض وظلم.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<