من وحي الأربعينية الدور التربوي للثورة الحسينية
تمهيد
كل عام تهل علينا أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، وعندما نتأمّل المسيرات الحافية الماشية من أقصى بقاع الأرض لتزور الإمام سيد الشهداء فهذا دليل حي على أن دماءه انتصرت على الطغيان.
تكون الأربعينية مناسبة للحديث عن الدور التربوي لثورته النبيلة، والذي تمثّل ملايينه التي تقدر بخمسة وعشرين من الزوار الدور المتأمّل على أنه أكبر عزاء في تاريخ بني البشر.
فالشعائر الحسينية دليل حي على صدق النموذج العلوي في المقاومة والعقل والإخاء والمساواة.
والمهم هو دور المنهج الحسيني التربوي، هو ما نكتب عنه.
لم تكن الثورة الحسينية مجرد ثورة من أجل الإصلاح وتغيير الواقع الظالم فقط، كما لم تكن ثورة سيد الشهداء (ع)، ثورة من أجل وضع حد للاستبداد الأموي، ولكنها أيضًا ثورة تربوية، فهي أولًا ثورة سلمية، وهي أيضًا ثور إيجابية تربوية، تهدف وهدفت إلى إحياء القيم الإسلامية المحمدية القرآنية، والتي حاول الطغاة طمس معالمها، والدور التربوي لثورة الإمام الحسين(ع) جاء مواكبًا ومصاحبًا للبعد الأموي عن الدين الإسلامي، وقد فعّلت الثورة هذا الدور التربوي، فجاءت دماء الشهداء لتنير الدروب للمسلمين، عندما ثاروا جميعًا في وجه الطغيان والنرجسية، صحيح أن الاستبداد ظل موجودًا في ظل الدولتين الأموية والعباسية، ولكن ظل وهج الثورة الحسينية دافقًا ودافعًا لمن يريد الثورة.
وفي هذا الدراسة السريعة نحاول استيضاح الدور التربوي للثورة الحسينية الشريفة الملهمة في كل زمان وفي كل مكان، ونحاول الوصول للكيفية التي يجب على الأمة أن تستفيد منها، من الثورة السلمية الذكرية، المشرقة المثالية في نبلها وأهدافها، وكأننا نستعيد ونردد الشعار المستمر الخالد: كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء، وذلك في عدة محاور كما يلي:
المحور الأول
قبسات من سيرة الإمام الحسين(ع) التربوية
يظهر لنا من دراسة حياة وآثار ومناقب الإمام الحسين الشهيد أنه يتمتع بشجاعة القلب والجسد والجود والكرم والحلم والصبر، فهو مدرسة الشرع والأدب واللغة، لقد كان من العلماء البارزين في الرواية والدراية وعلوم اللغة، وله ملكة لغوية تؤثر في المتلقي[1].
إن نشأته الأولى في بيت النبوة كان عاملًا أساسيًّا ورافدًا مهمًّا لبناء شخصيته، ليظهر بعلمه وخلقه وسمته النبوي وليُعلِّم الطلاب والسائلين، لقد كان عالمًا كبيرًا في القراءات والتفسير، وله آراءٌ متميزة في التوجيهات التربوية، وإن الألفاظ والعبارات والآراء التفسيرية التي أطلقها الإمام وجدناها مشحونة بألوان النكات البيانية، والتطبيقات الدلالية على آي التنزيل، وجدنا الإمام اجتمعت فيه من الخصال ما تفرقت في غيره من العلماء.
تُعدُّ شخصية الإمام الحسين إحدى الشخصيات المهمة والفريدة والفاعلة على المستوى البشري، ولها من الأهمية ما يدعو إلى الاعتناء بكافة الجوانب المتعلقة بها على الدوام. من جانب الدراسات الشرعية المتعلقة بشخصيته أو تسخيرها للدراسات التربوية، والعلمية والنفسية واللغوية، ليُعدُّ تطويرًا مستمرًا في جميع جوانب المعرفة الإنسانية.
إن الإمام كان موسوعيًّا في تدبر آيات القرآن الكريم، متفردًا في استنباطاته وفهمه له، وقد حظاه الله سبحانه بعمق في النظرة البيانية البلاغية والدلالية في القرآن، مما يجعله مقدّمًا على غيره من المبرزين في هذا الباب، فمن أراد أن يتحلّى بخلقه وسجاياه من الحشد المؤمن فإمامه نبراس الأمة الحسين، وكذلك نجده من جانب آخر يهتم بالتأديب التربوي في الحلقات القرآنية لتصبح ضرورة شرعية في واقعنا المعاصر حتى تتحقق الأهداف التربوية.
ويبدو أنه من نافلة القول، التأكيد على المكانة الرفيعة التي حظي بها الحسين وثناء العلماء عليه شرقًا وغربًا، وفي أغلب العلوم الشرعية. لقد كان الإمام صاحب رواية ودراية بالحديث النبوي الشريف وله مسند في ذلك.
تمكّنت الدراسات من تحديد معايير وضوابط المفردات القرآنية التي وقف عندها الإمام للتفسير، ويجب أن يأخذ بها الحشد المؤمن عملًا واقتداءً، مبينة في الوقت نفسه مدى الحاجة إلى تلك النصوص التي تشكّل نوعًا من الصعوبة في الفهم بسبب من مخالفة الظاهر أو غيره.
ومن ذلك كلّه نستطيع القول: إنّ الإمام ضرب أروع الأمثلة في الاستدلال على آرائه من النقل والعقل والقياس، فهم واستنبط الإمام في تكريم الإسلام للوالدين وهو يبيّن الحقوق الدينية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية لهم، وعناية القرآن الكريم بهذه الجوانب للإسهام في بناء الأسرة وحل جميع المشاكل المعاصرة والمتعلقة بالفرد والمجتمع.
إن الآثار الدينية العظيمة التي تأخذ من صفاته ومحاسنه لها الدور الرائد في تنمية الشخصية المتميزة للفرد والمجتمع، والحشد المؤمن الذي يدافع عن الوطن ويقاتل الإرهاب، إن الاستقرار الأسري والتعايش السلمي في المجتمع يقوم على السلوكيات والأخلاقيات النبيلة، ولها الدافع الكبير للبذل والعطاء والتفاني في خدمة وتنفيذ أهداف وقيم الإمام.
وخلاصة القول: إن ثقافته الفكرية تمتاز بغزارة المعلومات، ويعتز بتاريخه الأبناء والآباء والأجداد، لقد كان ابن البتول فقيهًا غاص في معرفة حقائق النفوس البشرية، وله منهج تربوي لعلاج الأمراض النفسية لمن تحرى آثاره كلها.
لقد اتصف بصفات الدعاة الربانيين المخلصين؛ من الصدق، والشجاعة والإخلاص، والدعوة على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة، والتواضع، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع، والاستقامة…
من هنا، نبيّن الخطاب إلى هذا الحشد المؤمن أن التربية الجهادية وحفظ الأمانة متلازمان وهي من الأخلاق الكريمة والمروءات النبيلة التي تدل على تقوى صاحبها وخوفه من الله وعفته ووفائه، ولذلك وجب الاهتمام بتقوية هذا الخلق في التربية بعامة، وفي الإعداد للجهاد بصفة خاصة؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد وعقد للقيام بمهامه على نهج الحسين (ع).
لا بدّ من دراسة شخصية الإمام الحسين من جميع الجوانب الإيمانية والعسكرية لتكون مرآة كاملة للحشد المؤمن ومن غير الدرس والجهة التي نظرنا فيها، وكأن تدرس عنده العلوم البلاغية والمعاملات مع الخلق وفقه الحسين، وأن يختص بتفسير للآيات التي وقف عندها، لأنه أثرى المكتبة العربية بتراثه الفكري المتنوع.
إن ثورة الحسين كانت الوهج الساطع الذي أضاء المسالك لمن أراد المسيرة بالإسلام في طريقها الصحيح والمرآة الصافية للتخلص من الحاضر الذي كانت تعيشه الأمة، ومن واقعها الذي كانت ترسف في أغلاله. قضية الإمام الحسين كونها عمّقت مبدأ التعايش السلمي والدفاع عن المظلومين في إطار النظام العالمي بما لها من العمق الفكري والنفسي لتهيئة البشرية، وصولًا إلى التكاملات الفكرية وفق نظام تحقيق العدالة الإنسانية بين البشر وإقرار المساواة.
إن واقعة الطف تمثل الخير وانتصار إرادة الإيمان والتضحية على صراع المصالح، فالإمام الحسين يمثل سليل البيت المحمدي، وهو ثورة جاءت بعد تسلط الظالمين على رقاب المسلمين، ولم يخرج لمحاربة الطغاة من أجل منصب دنيوي، فقد قالها: “لقد خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي…”، فتذكروا دومًا هدفي ومبدئي.
إن الإمام الحسين مشروع سلم وسلام ومنهج يضيء الدرب، وسارية راية الحق في كل أرض طاهرة، ومن فكر الإمام الحسين تحتفظ الأمم بكرامتها.
إن انتهاك الرسالة المحمدية وحرمة بيت النبوة والبيت العلوي الشريف أعطى المبرّر الواضح والسبب الرئيسي لقيام الثورة الجهادية الحسينية، وجعلت البشرية تتطلع على السلوك الشاذ للحكام الأمويين ومن أمثال شاكلهم.
إن استشهاد الإمام الحسين فوق ثرى كربلاء تجعلنا نأخذ جميعًا من مناهجه الدرس تلو الدرس والعبر برشاقة القيمة الإيمانية، ومناهج تطور الفكر الإنساني لإرساء عالم متحضر متآخي لدحر الاستبداد والظلم والإرهاب الأسود، مستلهمين ذلك من مواقع وسلوك ومنهج ثورة الإمام الحسين.
ومن مصاديق جهاده المحمدي الصحيح رفض الظلم من أجل الحق، وعلينا أن نستفيد من القواعد التي أرسى دعائمها الإمام علي(ع)، ومرتكزات ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين.
وهي بحد ذاتها ثورة على الباطل والتخلف والظلم، حيث كان الإمام الحسين الرمز الإنساني الخالد في ذاكرة التاريخ. لنتعلم من ثورة كربلاء كيف نضحّي من أجل القيم، وكيف نعمل من أجل المبادئ ويمكن أن نفهم أن الحياة قيم ومبادئ وإذا انتفت تنتفي معها الحياة، ولا يعني أن ننتحر ولكن نعمل من أجل توثيق القيم على أرض الواقع حتى نموت دونها، وكما قال الإمام الحسين: “ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقًّا فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما”.
ويمكننا نقل واقعة الطف إلى واقعنا، وأن نجعل الإصلاح هو غايتنا، وتقدم الإنسانية إلى الأفضل هو هدفنا، وأن نجسد ونستفيض من مدرسة الإمام الحسين كل ما قال من كلمات نبيلة الهدف دون خيانة الوسيلة في كل مراحل استشهاده.
إن الإمام الحسين ومن خلال انتمائه للبيت الشريف أدرك بني أمية وجن جنونهم الأهوج وهم يحكمون بالظلم والعدوان وقهر الإنسان المؤمن وإصرارهم على نشر المد الفاسق، ومن هنا انطلقت مشاعل نور الحياة الهادئة لحفيد النبي، حيث شعر الإمام بخطرٍ وتحدٍّ قادمين عليه وعلى الدين الإسلامي المشرق من الأمويين وأتباعهم باعتبار الحكم الأموي عرش فاسق أسود وليس خلافة، فقد كان هزيلًا وتحديدًا خلافة يزيد المبتذل بما يحمله من شخصية نكراء مشوهة مستخفًّا، مستهزئًا لا يقوى على تحمّل المسؤولية، قال عنه أحد الرجال البارزين: أعلينا أن نبايع من يلاعب الكلاب والقرود، ومن يشرب الخمر ويرتكب الآثام والزنا علنًا؟
المحور الثاني
المنهج الحسيني التربوي
منهج الفلسفة التربوية العربية الإسلامية، يكون قائمًا على التوازن بين علوم الدين والدنيا، وكان المنهج في الإسلام (وظيفيًّا)[2]، هدفه تخريج وتشكيل إنسان عارف بدينه وربّه، وقادر على أن يعيش حياة كريمة وحرّة، وقادر على تطوير الحياة من خلال عملٍ معيّن[3].
إنّ أكثر الفلسفات قد جعلت من المجال الوجداني في صلب اهتمامات المنهج، وبالعودة كذلك إلى تعريفات المنهج، نجد أنّ المنهج لا يقتصـر على المواد الدراسية المبثوثة في الكتب المدرسية، إنّما يتعدّى ذلك إلى الأنشطة، سواء الصفّية منها أو غير الصفّية.
كما يرتبط محتوى المنهج ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة السائدة في المجتمع، فإذا كانت فلسفة مجتمع من المجتمعات تقوم على أساسٍ ديمقراطي، فيمكن للمتعلّم أن يلمس المفاهيم التي تدعو لحرّية الفكر، وحرّية الرأي، ويمكن للمتعلّم أن يمارس المعاني التي تتضمّنها المفاهيم السابقة بطرق عمليّة وإجرائية.
أمّا إذا اعتمد نظامُ حكمٍ في بلدٍ من البلدان الفلسفةَ الشمولية، فإنّ المنهج في هذه الحالة يؤكّد على أهمّية تمركز السلطة في أيدي المسؤولين في الحكم… ونجد في المجتمعات الديمقراطية يُوجّه جلّ الاهتمام للعمليات الفكرية على أساس أنّها تُسهم في خلق المواطن الواعي، والقادر على اتّخاذ القرارات العقلانية الحكيمة.
أمّا في المجتمعات الشمولية، فيتمّ الاهتمام بالمواد الدراسية لذاتها؛ لأنّ ذلك يخلق الإنسان النمطي، الذي يوافق عادةً على القرارات الفوقية[4]، وهذا يشير إلى ما للمناهج التربوية من أثر في صنع الإنسان، ليس من الناحية المعرفية التقليدية، بل يتعدّى ذلك إلى الجوانب القيمية والوجدانية والانفعالية، وكيفية بناء شخصية الفرد والمجتمع، وتوجيه المجتمع بالاتجاه الذي تبغيه الفلسفة التربوية للسلطة.
ومن هنا؛ فبإمكان القائمين على العملية التربوية توظيف ما يتواءم مع الفلسفة التربوية من حركات ووقائع تاريخية في تدعيم تلك الفلسفة.
ولنتعرّف الآن على المجال الوجداني الذي يُعدّ الميدان لاستلهام الثورة الحسينية في المواد الدراسية:
المجال الوجداني للأهداف التربوية
يشمل المجال الوجداني النواتج التي تدلّ على المشاعر والاتجاهات، وأنّ الأهداف في هذا المجال غالبًا ما تختصّ بالجوانب الانفعالية والعاطفية، التي تتّصل بتقبّل الشخص لشيءٍ ما أو رفضه له، وبذلك يكون مضمون هذه الأهداف نواتج تعليمية ترتبط بالميول والاتجاهات والقيم وما يتّصل بالذوق العام؛ إذ إنّ لهذه الأُمور تأثيرًا كبيرًا في إحداث النمو في شخصية المتعلّم في هذا الجانب[5].
وقد قسّم التربويون السمات الانفعالية التي تقع ضمن هذا المجال إلى ستّ سمات، هي: التكيّف، التذوّق، الاتّجاهات، الميول، القيم، والمواقف الذاتية.
ومن بين السمات أعلاه نتوقّف عند سمتين على تماس مع موضوعنا، وهي استلهام نهضة الإمام الحسين (ع) في مناهجنا، والسمتان هما:
1 . السمة الأولى: الاتّجاهات: وهي نزعات تؤدّي إلى تصرّفات نحو بعض الأشياء في الصف أو الواقع أو الأشخاص، وهي ميول ثابتة نسبيًّا للتقرب من، أو تجنب أشياء ومواقف.
2 . السمة الثانية: القيم: معايير شخصية في واحد من ستّة مجالات: جمالية، اقتصادية، سياسية، دينية، اجتماعية، ونظرية[6].
وهنالك مَن صنّف مجموعة من الأهداف التربوية ضمن مجالٍ أسماه: (المجال الاجتماعي)، وهي بحقيقتها مشتقّة من المجال الوجداني، وهذه الأهداف هي:
- أهداف حفظ وصيانة القيم والتقاليد والمعتقدات.
- أهداف تحسين استعمال القيم والتقاليد والمعتقدات.
- أهداف استقرارها واستمرارها واستعمالها.
- أهداف تطوير التقاليد والمعتقدات وإنتاج القيم.
- أهداف تعديل واستبدال التقاليد والمعتقدات غير المرغوبة[7].
يقول بنجامين بلوم: “إنّ الأهداف في المجال الوجداني (الانفعالي أو العاطفي)، هي الأهداف التي تؤكّد على نغمة المشاعر، أو تضرب على وتر الانفعالات، أو درجة من التقبّل أو الرفض، وتتفاوت الأهداف العاطفية بين الاهتمام المجرّد البسيط بظواهر مختارة، وبين صفاتٍ للخلق والضمير معقّدة، لكنّها متناسقة داخليًّا، وقد وجدنا عددًا كبيرًا من هكذا أهداف في الكتب، وقد جرى التعبير عنها كمصالح ومواقف واتجاهات وتقديرات وقيم، ومجموعة من الانفعالات أو الأهواء”[8].
مستويات المجال الوجداني
عمد (كراثولر) ورفاقه إلى تصنيف الأهداف التربوية في المجال العاطفي والوجداني إلى خمسة مستويات، هي:
- الانتباه للمثيرات القيمية.
- الاستجابة الإيجابية.
- إعطاء القيمة للأشياء.
- تنظيم القيمة في النسق القيمي.
- تمثيل القيمة والاعتزاز بها[9].
وبالعودة إلى التراث الذي خلّفته ثورة الإمام الحسين (ع)، نجد أنّها مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية ذات الأبعاد الإصلاحية والاجتماعية والسياسية، ولا يمكن تصنيفها كموروث يرتبط بالفلكلور الشعبي والفنون الخاصّة بإحياء الذكرى، إنّما هي مجال فكرٍ يجب دراسته بأبعاده الثورية الإصلاحية متعدّدة الجوانب، وبذلك فهي تدخل ضمن هذا المجال (الوجداني).
كيفية استلهام المناهج في نهضة الإمام الحسين (ع)
ولمّا كانت دروس النهضة الحسينية تقع ضمن المجال القيمي، وتؤثّر في اتّجاهات المتعلّمين، فهي من صلب المجال الوجداني للأهداف التربوية، وهو مجال رئيس للأهداف وللمناهج التربوية، ومن الممكن استثمار تلك المناهج من أنشطة ومواد دراسية في استحضار تلك الثورة والتعلّم من دروسها الإصلاحية.
يقول إسبر: “إنّ استشهاد الإمام الحسين (ع) في كربلاء هو الذي أرسى قواعد الإسلام من جديد على صخرة الخلود، بعدما قلقلتها الجاهلية الأُموية التي اتّخذت لها من جبّة الإسلام رداءً… فلقد ثار الإمام الحسين (ع) لنفس الغاية التي جاء من أجلها جدّه محمد (ع)… وثار سخطًا لجماهير الشعب الكادحة التي سحقتها الفردية المتعالية المتكبّرة. وثار (ع) لتكون السياسة التي تحكم الناس سياسة الذكر الحكيم، لا سياسة الأوثان والغدر والسيطرة، وثار ليخلّص الشعب من الجمود، ويدفع به في ميادين العمل الخلّاق؛ لينشئ حضارة، ويرفع مدنية، ويحقّق عدالة الإسلام.
فمن أجل ذلك ثار الإمام الحسين، وفي سبيل ذلك استُشهد، وقد كانت ثورته (ع) للعرب جميعًا، وللمسلمين جميعًا، وللإنسانية كلّها”[10].
لقد قام الإمام الحسين (ع) بثورة تربوية تصحيحية، وأعلنها حربًا شعواء لا هوادة فيها على الفساد والظلم والطغيان، حيث قال: “إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي(ص)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين”[11].
ونهضةٌ مثل هذه تستحقّ أن تكون موضع اهتمام المناهج الدراسية في المجتمعات، التي تشكّل جزءًا من تراثها الديني والاجتماعي والثقافي، ولا بدّ من استثمار الدروس والعِبر التربوية في تدعيم عملية الإصلاح الاجتماعي، من خلال المواد الدراسية في مدارس التعليم النظامي في مختلف مراحله، وكذلك من خلال الأنشطة والفعّاليات الطلابية.
المحور الثالث
كيف تستفيد الأمة من المنهج التربوي الحسيني؟
إنّ ثورة الإمام الحسين (ع) لم تكن حَدَثًا عابرًا، ولم تكن محاولة تغيير سياسي أو استيلاء على السلطة، إنّما كانت محاولة تصحيح مسار منحرف، تعدّى حدود الانحراف السياسي إلى الانحراف العقائدي والتشويه الثقافي؛ ممّا نتج عنه تشكّل صورة مشوّهة للإسلام غير تلك التي جاءت بها الرسالة السمحاء لنبي الرحمة محمد (ص): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[12].
فجاءت ثورة الإمام الحسين (ع) بهدف رئيس هو الإصلاح، وكان الإصلاح، وبقي العنوان الرئيس لتلك الحركة على مرّ العصور.
وبناءً على ما تقدّم من عرض لمفهوم وأدوار المنهج، وعرض للمجال الوجداني للأهداف التربوية، والتي تقع محاولةً استلهام مبادىء النهضة الحسينية ضمنه، يوصي الباحثان إسبر وكراثولر كما ذكر الدكتور سلام الغضبان في بحثه حول الدور النهضوي للإمام الحسين المنشور في مؤسسة وارث الأنبياء[13]، بما يلي:
- إنّ نهضة الإمام الحسين (ع) يجب أن تأخذ بُعدها الفكري ذا المنحى الإصلاحي بشكلٍ أكبر من الجانب الاحتفالي، مع استمرار الثاني، والذي أصبح جزءًا من الفلكلور الشعبي في مجتمعاتنا.
- تدخل ثورة الإمام الحسين (ع) ضمن المجال القيمي الوجداني للأهداف التربوية؛ وبالتالي فهي من صلب عمل المناهج الدراسية.
- هنالك الكثير من المواد الدراسية التي من الممكن توظيفها في استلهام الدروس من النهضة الحسينية ومنها:
أ ـ مادة التربية الإسلامية: لكون الثورة الحسينية ثورة دينية بالدرجة الأساس، وجاءت لتصحيح مسار الرسالة التي نالها الانحراف.
ب ـ كتب القراءة والمطالعة: من أهداف كتب المطالعة تعريف المتعلّم ببعض القيم والمبادئ الحياتية، ومن هنا أصبح بالإمكان بثّ موضوعات للمطالعة تتحدّث عن قيم ومبادئ الثورة الحسينية وعلاقتها بإصلاح المجتمع.
ج ـ كتب الأدب والنصوص: خلّف التراث الحسيني أدبًا رفيعًا من مختلف العصور الأدبية التي تلت واقعة الطف؛ ومن هنا فيفترض اختيار بعض النصوص الأدبية، الشعرية والنثرية، التي تعرض لقيم الثورة الحسينية، لا سيما تلك التي ترتبط بالهدف الرئيس للنهضة، وهو الإصلاح.
د ـ مادة التعبير: يُعدّ التعبير غاية الغايات في مواد اللغة العربية، ففيه ينتقل أثر التعلّم من المواد الأُخرى كافّة، وتُستخدم خبرة المتعلّم في التعبير عمّا يجول بخاطره، ولا بدّ من استثمار هذا الدرس في إتاحة الفرصة للطلبة للتعبير عن قيم الثورة الحسينية ومعانيها السامية.
هـ ـ مواد التربية الوطنية: حركة الإمام الحسين (ع) حركة وطنية جاءت لتصحيح المسار في أُمّة تُمثّل انحدارًا تاريخيًّا لمجتمعنا؛ لذا فلا بدّ من أخذ البُعد الوطني لتلك الحركة من خلال مواد التربية الوطنية وأبوابها في كتب الاجتماعيات.
وـ مواد التاريخ الإسلامي: الثورة الحسينية حدثٌ تاريخيّ وقع في القرن الهجري الأوّل، وكُتُب التاريخ معنيةٌ بتغطية تلك الثورة تاريخيًّا، مع إظهار القيم العظيمة والمبادئ السامية لها.
ومع عرضنا أعلاه فلا يمكن أن نغفل أنّ بعض المواد الدراسية في مناهجنا الحالية قد تعرّضت للثورة الحسينية.
4ـ النشاط: يُعدّ النشاط عنصرًا رئيسًا من عناصر المنهج، ولا بدّ من استثمار الأنشطة الطلّابية ـ سواء الصفّية منها أم غير الصفّية ـ في استلهام الدروس والعِبَر من نهضة الإمام الحسين (ع) الإصلاحية والاقتداء بها.
[1] عبد الرحمن الغنطوسي ،وسلام عبود حسن، تأمّلات ومواقف إنسانية وتربوية من ثورة الإمام الحسين (ع) وأثرها في إصلاح الفرد والمجتمع، المجلات العراقية – https://www.iasj.net/iasj?func=article&aId=132656
[2] سلام ناجي باقر الغضبان، وإيثار عبد المحسن المياحي، مقاربة لاستلهام نهضة الإمام الحسين (ع) في مناهجنا في ضوء الأهداف التربوية، مؤسسة وارث الأنبياء – https://www.warithanbia.com/?id=1309
[3] عبد الغني عبود، في التربية الإسلامية، الصفحة 118.
[4] مجدي عزيز إبراهيم، موسوعة المناهج التربوية، الصفحتان 292ـ 293.
[5] محمد علي حبيب الموسوي، المناهج الدراسية (المفهوم، الأبعاد، والمعالجات)، الصفحة 162.
[6] مارغريت غريدلر، التقويم الصفّي والتعلّم، الصفحة 205.
[7] إيناس عمر محمد أبو ختلة، نظريات المناهج التربوية، الصفحة 74.
[8] بنجامين بلوم، وآخرون، نظام تصنيف الأهداف التربوية (تصنيف الغايات التربوية في المجال الوجداني)، الصفحة 36.
[9] منى يونس أبحري، المنهج التربوي (أُسسه وتحليله)، الصفحة 55.
[10] محمد علي إسبر، هل تعرف أهل البيت؟ الصفحة 204.
[11] هشام أبو عبد الملك الموسوي، الأساليب التربوية عند أئمّة أهل البيت عليهم السلام، الصفحة 157.
[12] سورة الأنبياء، الآية 107.
[13] من كتاب الأستاذ محمد علي حبيب الموسوي، المناهج الدراسية المفهوم الأبعاد المعالجات، بيروت: دار الموسوي للنشر والتوزيع، 2011.
المقالات المرتبطة
بين زمنين ثقافيين (2) النهوض المستأنف يظهر في “جنة المواجهة”
القول بوجوب وعي جدلية الهزيمة والممانعة في آن، يرمي إلى إنشاء التحيّز الضروري بين ثقافة الامتناع والمقاومة وثقافة القبول والتمثيل.
لماذا التعاند بين النص والعقل
السؤال رغم مباشرته وطبيعته التكرارية يستحق بعض التأمل، النص هنا لا نعني به كل ما هو مكتوب ومدون. بل ما نعنيه المعنى الخاص له. أولئك الذين حصروا العقل بالصور البرهانية البحتة، بل بالتحديد أولئك الذين اعتبروا أن العقل هو مولّد الحقائق وخالقها.
العرض في الطبيعيات الحديثة بين السفسطة واليقين الموضوعي(1)
ما يملأ الوجود الخارجي فليس إلا مراتب الوجود أي مراتب الوحدة… وهو مطلب ينسحب على النقاش في الوجود والماهية، وهو ما لا يحلّ بالدقّة في رأينا إلا بالاستناد إلى نظريّتنا في فلسفة المعلومات.