من منظور مستقبلي ماذا تبقى من جماعات الإسلام السياسي
تمهيد … مولد الإسلام السياسي المعاصر
تستعد جماعة الإخوان المسلمين، مثل كل عام، الاحتفال بالذكرى 116 لميلاد حسن البنا المرشد الأول لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، حيث وُلد يوم 14 أكتوبر 1906، وهو مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في 22 مارس من العام 1928، وهو العام الذي يعتبره المؤرخون المعاصرون ميلادًا للإسلام السياسي، ثم ما تفرع من فكرها أو بتأثيراتها الجماعات الكثيرة المنتشرة في كثير من دول إسلامية وغير إسلامية.
ولكن الأمر ليس كما رأوا ويرون ونرى، حيث توجد شروخ فكرية ودينية وسياسية، لا بدّ من التعرف عليها لنحاول رصد مستقبل ما تبقى من جماعات الإسلام السياسي، وما هو مستقبلها.
الإسلام السياسي
ظهر مصطلح الإسلام السياسي كتعبير غربي استشراقي، لوصف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام، باعتباره نظامًا سياسيًّا للحكم، وأن الإسلام ليس عبارة عن ديانة فقط، وإنما عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي متكامل، يصلح لبناء مؤسسات دولة.
ويشير المصطلح إلى مجموعة واسعة من الأفراد أو الجماعات، الذين يرون أن للإسلام نظام حكم سياسي، متمثل في الخلافة الإسلامية، ونظام تشريعي وجنائي متمثل في الشريعة الإسلامية، ويدافعون عن تشكيل الدولة والمجتمع، وفقًا لفهمهم للمبادئ الإسلامية، وللإشارة إلى النشاطات واسعة النطاق للأفراد والمنظمات المؤيدة لتحويل الدولة والمجتمع ككل للاستناد إلى مرجعية من القوانين الإسلامية.
ويستخدم المصطلح غالبًا في سياق الربط مع الحركات التي تمثل القوى السياسية الحالية باسم الإسلام والتي نشأت في نهاية القرن العشرين، ويستخدم بعض المؤلفين الأكاديميين مصطلح الإسلاموية لوصف نفس الظاهرة، أو يستخدمون كلا المصطلحين بشكل تبادلي.
ولكننا نرفض مصطلح الإسلام السياسي، كما نرفض مصطلح الأصولية، لأنها مصطلحات غربية تهدف في المقام الأول النيل من الإسلام كدين روحي ثوري إيماني تلقائي، من خلال التمييز والتفريق، ثم الدمج بين الإسلام كدين، والسلوك الاستبدادي الخاطف للدين، عبر أجواء التاريخ.
بداية الإسلام السياسي
بالتأكيد يمكن اعتبار ظهور الإسلام السياسي، إلى ما بعد وفاة النبي الأعظم (ص)، لأن ما حدث في سقيفة بني ساعدة، واختيار أبي بكر خليفة، كان هذا الاختيار هو مشروع السلطة السياسية التي ظلّت تحكم المسلمين طوال عصورها، واعتبرت السلطة الحاكمة منصبًا إلهيًّا.
لم يفرق المسلمون بين منصبي الخلافة والإمامة، وانكبّ اهتمامهم بالسلطة في صورة الخلافة، وتركوا منصب الإمامة إلى بعض رجال الدين من شيوخ وفقهاء رغم عظم وخطر منصب الإمامة، والتي يتولاها أئمة أوصياء، ولكن المسلمين أخذوا التدين السياسي من رجال الحكم، فاعتقد المسلمون أن الخلافة من ضمن العقائد الدينية، وأن من مات وليس في عنقه بيعة تكون ميتته جاهلية، ودام ذلك الفهم للإسلام عند المسلمين حكّامًا ومحكومين، ودام هذا الأمر حتى سقطت آخر خلافة، وهي الدولة العثمانية عام 1924، فمنصب الخلافة إذن ارتبط بالمفهوم السياسي/الديني للسلطة الحاكمة، وهو لب ما عُرف حديثًا بالإسلام السياسي؛ فالإسلام السياسي المتمثل في مدرسة الخلفاء امتد منذ وفاة الرسول (ص) وحتى العصر الحديث، وعندما أمسى المسلمون بلا خليفة، حاول بعض الملوك ملء منصب الخلافة الشاغر، كما حدث من الملكين عبد العزيز آل سعود وفؤاد الأول ملك مصر.
وفشلت المحاولة بعد أن تجاوزها الزمن، وظهور مفكرين وحتى رجال دين يطعنون في منصب الخلافة وقداستها، واتهموا كل الخلفاء من أمويين وعباسيين وعثمانيين بالاستبداد وتشويه المعارضة والحصار الاقتصادي لها، منذ منع السيدة فاطمة (ع) من ميراثها وحتى سقوط الخلافة.
لم يتوقف الزمن ولا ماتت فكرة الخلافة، ولا تلاشى الداعون إليها، فحاول بعض المسلمين إحياء الخلافة.
ومن هنا ظهر ما عُرف في العالم الغربي بالإسلام السياسي، جماعات الإسلام السياسي، وأول من ظهر من تلك الجماعات، كانت جماعة الإخوان المسلمين، وتلتها جماعات السلفية، والسلفية الجهادية، منها شبه المعتدل كالإخوان المسلمين، ومنهم من جعل الدعوة دموية إرهابية، ولكن في العقيدة يتفقون جميعًا على تحريم زيارة القبور والاستماع للموسيقى وغيرها من المحرمات الجماعاتية المشهورة، كما أنهم يكفّرون الصوفية والشيعة، وككل حركات الدين الباحثة عن السلطة لم يفرقوا بين التصوف الشعبي وبين التصوف الفلسفي كما عند ابن عربي، وابن الفارض، وأبي حامد الغزالي، والبسطامي والجنيد وباقي علماء التصوف.
كما أنهم لم يفرقوا بين الإسلام الثوري الذي تمثله مدرسة الإمامة، ولا بين مدرسة الخلافة التي تمثل السلطة، كما نعرفها في تاريخ المسلمين، ولقد حاول الإخوان المسلمون الاستفادة من تجربة إيران في الثورة الإسلامية، ولكن منعتهم خلفيتهم الدينية المنتمية إلى مدرسة الخلافة، وهي التي وُلدت منها كل الجماعات بلا استثناء.
الإخوان المسلمون ممثلو الإسلام السياسي
ظهرت جماعة الإخوان المسلمين عام 1924؛ أي بعد سقوط الخلافة العثمانية بأربعة أعوام لا غير، حاملين على أكتافهم فكرة العودة للخلافة وأستاذية العالم، من خلال منصب المرشد الروحي والسياسي أيضًا.
وقد انتشر فكر الجماعة في أنحاء العالم.
في البداية كانت دعوة دينية، ولكنها كما يحدث لكل الحركات الأيديولوجية، سارت في طريق الدعاية السياسية، والبحث عن الوصول للسلطة لتغيير المجتمع، فكان من الطبيعي الاصطدام بكل الحكومات، ودخلوا في صراعات مع كل الحكومات التي عاشوا معها، سواء في مصر أو الدول العربية، بالإضافة إلى أن جماعة الإخوان استهدفت الحكم منذ بداية التأسيس، حتى لو زعموا أنهم يستهدفون المجتمع بالتربية إلى حين الوصول إلى الحكم، فقد اعتبروا أنفسهم جماعة المسلمين وليست جماعة من المسلمين، كما انتقدهم الكاتب الصحفي الراحل “حسن دوح” عندما خرج من الجماعة.
ولعب من ثمّ الإخوان المسلمون على ذلك الوتر الحسّاس، ولكن المجتمع المصري كان يعيش في نفس الوقت فترة الليبرالية، بزعامة حزب الوفد التاريخي بقيادة الزعيم مصطفى النحاس، وشعبية النحاس الطاغية جعلت المظاهرات تخرج تقول: “الشعب مع النحّاس”.
وعندما غضب الملك فاروق، أخرج الشيخ حسن البنا مظاهرات تقول: “الله مع الملك”، وخرج المرشد الثاني للجماعة “حسن الهضيبي” بعد لقائه بالملك فاروق قائلًا: “لقاء كريم مع ملك كريم”، أي أنهم عادوا للفكر السلطاني الذي مارسه الخلفاء والسلاطين والأمراء عبر تاريخ المسلمين.
التورط السياسي
كانت بداية تورط جماعة الإخوان في السياسة، والعودة لتقاليد الاغتيال السياسي، فتورطوا في قتل رئيس الوزراء أحمد ماهر عام 1945، ثم تورطوا في قتل القاضي أحمد الخازندار أول عام 1948، الذي كان يحقق في قضاياهم.
والعجيب أنه وفي عام 2013 حاول أعضاء من الجماعة اقتحام محكمة “باب الخلق” في القاهرة لسرقة أوراق قضية الخازندار، التي ما زالت مستنداتها فيها، ولكنهم فشلوا في ذلك، كما تورط الإخوان في قتل رئيس الوزراء الثاني محمود فهمي النقراشي في ديسمبر 1948، بعد أن حلّ جماعتهم في ديسمبر/كانون الأول 1948.
وكانت النتيجة مقتل المرشد الأول حسن البنا في شهر فبراير/شباط 1949، ثم دخلوا في صراعات بعد التحالفات مع ضباط ثورة يوليو 1952، وحاولوا اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في الإسكندرية عام 1954، ودخلوا السجون عام 1964، ومن الطبيعي أن تنفي الجماعة أي علاقة لها بكل الأحداث الدموية في العهدين الملكي والجمهوري.
وما بين العامين 1954 – 1964 ومن داخل مستشفى السجن، ألف “سيد قطب” كتابه “معالم في الطريق”، ونرى أن مجرد قدرة “سيد قطب” على الكتابة والتأليف والنشر، ينفي التعذيب الذي تعرض له، فلا يمكن لكاتب أن يكتب وهو تحت أدوات التعذيب، والتي روّجت لها الجماعة الأم.
وجاءت الخطيئة الكبرى من النظام السياسي المصري عندما أعدم سيد قطب ورفيقيه “محمد هوّاش” و”عبد الفتاح عبده إسماعيل”، فقد اعتبر الإخوان دم سيد قطب مثل دم الإمام الحسين(ع) في كربلاء، وهيهات ما بين باحث عن السلطة، وطالب للإصلاح السلمي كما في الحالة الحسينية.
على أن الرئيس أنور السادات أخرجهم من السجون لمواجهة المد الناصري، ولكنه في النهاية راح ضحية جماعة من جماعات الإسلام السياسي، من اليمين الإخواني وحتى أقصى يسار الفكر التكفيري الوهابي، ودام الحال على ما هو عليه حتى اليوم، وأيضًا ينفي الإخوان أي صلة لهم بمصرع “أنور السادات”.
ولقد قال الراحل جمال البنا الشقيق الأصغر لحسن البنا عن الجماعة: “إنهم مثل أسرة البوربون في فرنسا، لا ينسون شيئًا ولا يتعلمون من شيء”، وهو تشبيه ربما فيه بعض مغالاة ولكن أيضًا قابل للوصف، لأن أسرة البوربون لم تستفد من سقوط “نابليون بونابرت” عام 1815، ولكن فرنسا هي التي استفادت، حيث أنهت حكم الفرد النابليوني وحكم الفرد الملكي المطلق.
ولكن الجماعة الإخوانية بعد أن وصلوا إلى الحكم عام 2012، حدثت فوضى ضربت كل أرجاء مصر، ولم يفرّق المصريون بين الإخوان وغيرهم، فجميعهم بلحى مرسلة، وظهر التكفيريون الدمويون يحرقون الكنائس ومساجد أهل التصوف.
لا نسرد تاريخ جماعة الإخوان المسلمين بقدر ما هو تأريخ لحركات الإسلام السياسي المعاصر، التي خرجت أو تأثرت بالفكر الإخواني، حيث نجد أن الإسلام في الشتات في الستينيات من القرن الماضي، عاش أغلبهم في المملكة العربية السعودية، فتوهبنوا وصاروا وهابيين فعلًا وقولًا، ولم يستطع الفرد العامي معرفة الفرق بين الجماعات، فلقد تبنى هؤلاء الفكر السعودي الذي كان يناهض الرئيس جمال عبد الناصر، وتبنوا فتوى الشيخ ابن باز الذي أفتى بأن جمال عبد الناصر كافر حتى لو صلى أو صام، لأنه يتعامل مع السوفيات الكفّار، كما عاشوا في دولة ألمانيا الغربية متخذين مدينة “ميونخ” عاصمة ثقافية لهم، فتعاملت معهم مخابرات الدول الكبرى.
ماذا تبقى من الإسلام السياسي بمنظور مستقبلي
الفكرة لا تختفي ولا تموت، إذا وجدت من يرعاها ويتبناها، ومن ثمّ نرى أن جماعات الإسلام السياسي تعيش في شتات جغرافي وبيات شتوي، ولكنه غير مميت، بعد أن حدث كسل فكري وهمود وقتي لتلك الجماعات.
بالإضافة إلى تراخي المخابرات الإمبريالية في دعمهم، مكتفين بانشقاقات الدولة الإسلامية، وتوجد وثائق متعددة على تأريخ الإسلام السياسي، كما نرى في كتاب “مسجد في ميونخ”، للمؤلف الأمريكي “إيان جيبسون”، حيث قام الزعيم النازي “أدولف هتلر” بالموافقة على بناء وتأسيس مسجد للمسلمين في مدينة ميونخ، ومعه إذاعة موجهة للمسلمين في الإتحاد السوفياتي للثورة على النظام السوفياتي.
ولكن وبعد هزيمة هتلر، ظل المسجد كما هو، ولكن برعاية مخابراتية أمريكية، وموجه أيضًا إلى مسلمي الإتحاد السوفياتي، والتعامل مع جماعات الإسلام السياسي، لوقف المد الشيوعي.
ثم تحوّل المسجد في مدينة ميونخ الألمانية إلى مفرخة للفكر التكفيري الذي انتشر في كل مكان، وهو أيضًا نفس ما جاء في كتاب” النبي والفرعون” للكاتب الفرنسي “جيلز كيبل”، والذي يعمل حاليًّا رغم كبر سنه مستشارًا للرئيس الفرنسي لشؤون مسلمي فرنسا وأوروبا، وأن الاستغلال الغربي للجماعات الإسلامية، هي من تمنع الشعوب من تصديقهم، هذا بالإضافة إلى ما كتبه مؤرخون ومفكرون عرب مثل “رفعت سيد أحمد”، و”جمال البنا”، و”فهمي هويدي”، و”محمد حسنين هيكل”، وما جاء في موسوعة “مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية” وكثيرون غيرهم يفوقون الحصر.
إن مستقبل الإسلام الجماعاتي هو الكمون الوقتي، والترقب السياسي، والنظر المستقبلي للدعم الغربي، والجماعات جميعها تعيش مرحلة شتات فكري وسياسي، أو ما يمكن تسميته بالانتظار والتريث، وهم في كل الأحوال لا يمثلون الدين الإسلامي.
الإسلام دين شامل متكامل، والسياسة القائمة على العدل هي صلب العقيدة، والإمام علي (ع)، قال ضمن رسالته للأشتر النخعي عندما ولّاه مصر: “الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
ولكن السياسيين والخلفاء والسلاطين منذ البداية أخذوا من الإسلام ما يحرض على طاعة الحاكم المسلم حتى لو ضرب الظهر وأخذ المال، وللدرجة التي يقول فيها أبو الحسن الماوردي في كتاب “الأحكام السلطانية”، إنه لو ظهر رجل ذو شوكة وغلبة وتمكن من قتل الخليفة القائم، ونصّب نفسه خليفة، فلا يبيتن مسلم إلا وفي عنقه بيعة للمتغلب الجديد”.
هذا هو فكر السياسة في تاريخ المسلمين منذ تأسيس منصب الخلافة وتعدد الخلفاء، ثم محاولة البعض المسلم إحياء المنصب المقدس وفي سبيلهم لذلك حدث توتر شعبي وبطش حكومي وفتن مستمرة، وعندما ارتبط مفهوم الخلافة بمفهوم التدين الفردي والجماعي حدثت، وما زالت تحدث الكوارث في تاريخ الأمة، كما نشاهد في واقعنا العملي.
وفي النهاية نجد أن مقولة الإسلام السياسي مقولة غير دينية، فالإسلام دين ثوري في المقام الأول، فالموت بعزة خير من الحياة بذلة، كما قال سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، وكما يتمثل ذلك في قول أمير المؤمنين (ع): “الحياة في موتكم قاهرين والموت في الحياة مقهورين”.
المقالات المرتبطة
القدر
إن ما يمكن أن نسميه بالقدر؛ أي القدر الذي يسير فيه الإنسان. إن حياة الإنسان عبارة عن جملة من الأمور المحسوبة بحسابات إلهية مرتبطة بما يسمى بالسنن؛ بمعنى أن الحياة، على سبيل المثال، فيها ابتلاءات
قصيدة نزار قباني عن الإمام الحسين (ع)
القصيدة من بحر الكامل والقافية الباء الساكنة، وهي عبارة عن حوار دار بين أحد الروافض ومخالف له، وتقع في سبعة عشر بيتًا.
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه-4-
كان ولا زال أكبر إشكال نظري لدى فلاسفة الحكم هو معالجة معضلة التوفيق والموازنة بين فاعلية السلطة المطلقة وفسادها وكذلك المباشرة الشعبية…