الحق والحقيقة
البحث عن الحق والحقيقة غاية إنسانيّة، ما زال الإنسان يسعى نحوها جيلًا بعد جيل، بحيث إنّنا لا نكاد نجد فترة من الزمن أو جماعة من الأمم خلت من مثل هذه الغاية. ومن هذا الحراك نشأت علوم ومعارف وأيديولوجيات وفلسفات. بل ليكاد المرء أن يقطع أن أديانًا ومذاهبًا وطوائفًا تشكّلت تحت راية البحث عن الحق والحقيقة. ممّا يعكس انطباعًا كون طبع الإنسان، بل نكاد نقول: إن جوهر الإنسان نزّاع نحو تحقيق هذه الغاية والسير على دربها.
والحقيقة، وإن كانت من الأمور التي انطبع البحث فيها بالتجريد والتعقيد، إلّا أنّ موقعها من الحياة الإنسانيّة حميم للغاية، الأمر الذي أعطاها قيمة عملانيّة وحيويّة. وأوّل البحث عن الحقيقة هو البحث في الحقيقة نفسها. ليصار بعد ذلك البحث عن إمكانيّة معرفة الحقيقة، وعن نوع هذه المعرفة، وقيمتها وتأثيراتها وغير ذلك…
الحقيقة
ورد بحسب قاموس العين أنّ: “الحقيقة ما يصير إليه حقُّ الأمر ووجوبه… وبلغت حقيقة هذا: أي يقين شأنه”، “وحقيقة الرجل: ما لزمه الدفاع عنه من أهل بيته، والجميع حقائق”، “والحقيقة: خلاف المجاز، والحقيقة: ما يحق على الرجل أن يحميه، وفلان حامي الحقيقة، ويقال: الحقيقة الراية. قال عامر بن الطفيل: “أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر”[1].
“وبلغ حقيقة الأمر؛ أي يقين شأنه، وفي الحديث لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لا يعيب مسلمًا بعيب هو فيه؛ يعني خالص الإيمان ومحضه وكنهه”[2].
وقد استقل [لسان العرب] بالتعبير: “الحقيقة في اللغة ما أُقرّ في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز ما كان بضد ذلك، وإنّما يقع المجاز ويُعدَل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاث، وهي: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن عُدِم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة”.
إنّ من يريد استجماع الموارد التفسيريّة اللغويّة لمفردة الحقيقة سيقف عند أمور منها:
الأمر الأوّل: إنّ الأساس اللغويّ للحقيقة كونها في مقابل المجاز، بحيث يكون المعنى تطابقيًّا لا يحتاج إلى إعمال ذهن، أو فذلكات لفظيّة من توكيد وتشبيه واتساع معنى.
الأمر الثاني: إنّ استخراج معنى الحقيقة إنّما نناله من خلال موارد الاستعمال، فتارة نذهب ليكون المقصود بها ما يصير إليه حقُّ الأمر، وأخرى اليقين، وثالثة الإخلاص.
الأمر الثالث: أن نقول الحقيقة ونقصد بها مصاديق مشخّصة لهذه المفردة، من مثل: الراية، أو ما يلزم الدفاع عنه مما يرتبط بعائلة المرء أو…
لكنّ الذهاب بعيدًا في دراسة هذه المفردة يأخذنا لدراسة اشتقاقاتها، وهذا لا يرتبط به بحثنا حول “الحقيقة الفلسفيّة”، أو أن ندرس أهم ما يتصل بها من الشبكة اللفظيّة – المفهوميّة، وهو هنا كلمة: الحق. والحق حسب اللغة هو: “نقيض الباطل، حق الشيء يحق حقًّا؛ أي وجب وجوبًا”[3].
و”حقَّ الأمر يُحقّه وأحقَّه: كان منه على يقين، تقول: حققت الأمر وأحققته إذا كنت على يقين منه”. “وحقَّه وحقَّقه: صدَّقه… ويقال أحققت الأمر إحقاقًا إذا أحكمته وصحّحته”. وفي التنزيل: ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾[4]؛ أي ثبت… وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[5]؛ أي وجبت وثبتت، وكذلك: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾[6]، “وحقَّه حقًّا وأحقَّه، كلاهما: أثبته وصار عنده حقًّا لا يشك فيه”. “والحق من أسماء الله عزّ وجل، وقيل: من صفاته. قال ابن الأثير: هو الموجود حقيقةً المتحقّق وجوده وإلهيته”.
هذا ومن معاني الحق: “الحق: صدق الحديث. والحق اليقين بعد الشك… واستحقّ الشيء استوجبه”، “والحق المِلْك”.
وقبل أن نبدأ بالاستنتاج، لا بدَّ أن نذهب باتجاه استعمال كلمة الحق والحقيقة؛ لأن هذا يساعدنا كثيرًا على فهم المراد من اللفظ، سواءً في جانب من مدلوله اللغويّ، أو في أبعاده الاصطلاحيّة.
ونبدأ المراجعة مع كتاب الراغب الأصفهاني، إذ يعتبر في كلمة “حق: أصل الحق المطابقة والموافقة… والحق يقال على أربعة أوجه:
الوجه الأوّل: يُقال لموجِد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحق، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ﴾[7].
الوجه الثاني: يقال للموجَد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال: فِعل الله تعالى كلّه حق، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً﴾[8]، إلى قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَ بِالْحَقِّ﴾[9]، وقال في القيامة: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾[10].
الوجه الثالث: في الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه كقولنا: اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق، قال الله تعالى: ﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾[11].
والوجه الرابع: للفعل والقول الواقع .. بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، كقولنا: فِعلك حق، وقولك حق، قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾[12]“[13].
ثمّ يستكمل المبحث ليقول: “والحقيقة تُستعمل تارة في الشيء الذي له ثبات ووجود، كقوله (ص) لحارثة: “لكلّ حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟”؛ أي ما الذي ينبئ عن كون ما تدّعيه حقًّا”[14].
أمّا التهانوي في اصطلاحات الفنون، فيقول: “الحق: بالفتح ومعناه في اللغة الفارسيّة: الثابت واللائق والصحيح، والصدق والواجب والأمر المتحقّق وقوعه، والحقيقة. واسم من أسماء الله تعالى، وقول الصدق والوفاء بالوعد كذا في المنتخب. وهو عند الصوفيّة عبارة عن الوجود المطلق غير المقيّد بأي قيد في كشف اللغات. إذن، الحق عندهم هو ذات الله ويجيء في لفظ الحقيقة”[15]، “وفي العرف هو مطابقة الواقع للاعتقاد، كما أنّ الصدق مطابقة الاعتقاد للواقع”[16]. قال التفتازاني في شرح العقائد: “الحق هو الحكم المطابِق للواقع، يطلق على العقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل”[17].
هذا وينقل عن المولوي عبد الرحمن الجامي في شرح الفصوص، في الفص الأوّل: أن الحقائق عند الصوفيّة ثلاث: الأولى حقيقة مطلقة فعَّالة واحدة عالية واجبة وجودها بذاتها، وهي حقيقة الله سبحانه. والثانية: حقيقة مقيَّدة منفعلة سافلة قابلة للوجود في الحقيقة الواجبة بالفيض والتجلّي، وهي حقيقة العالم. والثالثة: حقيقة أحديّة جامعة بين الإطلاق والتقييد، والفعل والانفعال والتأثير والتأثّر، فهي مطلقة من وجه، مقيّدة من آخر، فعّالة من جهة، منفعلة من أخرى. وهذه الحقيقة أحديّة جمع الحقيقتين، ولها مرتبة الأوّلية والآخريّة؛ وذلك لأنّ الحقيقة الفعّالة المطلقة في مقابلة الحقيقة المنفعلة المقيّدة، وكلّ متفرقتين فلا بدّ لهما من أصل هما فيه واحد، وهما فيهما متعّدد مفصَّل. وظاهريّة هذه الحقيقة هي المسمّاة بالطبيعة الكلّيّة الفعّالة والمنفعلة من آخر، فإنّها تتأثّر من الأسماء الإلهيّة وتؤثّر في موادها. وكل واجد من هذه الحقائق الثلاث حقيقة الحقائق التي تحتها، وللحقيقة بهذا المعنى تقسيمات أُخر تجيء في لفظ الماهية. وبعض ما يتعلق بهذا المقام يجيء في لفظ الذات أيضًا. ومنها الماهية باعتبار الوجود، فعلى هذا لا تتناول المعدوم، وإطلاق الحقيقة بهذا المعنى أكثر من إطلاقها بمعنى الماهية مطلقًا… وفي مجمع السلوك، أمّا الحق والحقيقة في اصطلاح مشايخ الصوفيّة؛ فالحق هو الذات والحقيقة هي الصفات[18].
إلى هنا نلحظ أن تماوجات من الاستخدام العرفيّ للاستعمال اللغويّ وللتداول الاصطلاحّي، دخلت على مفردتي الحق والحقيقة. وهي كانت تحمل بالغالب الأعم أبعادًا ترتبط أحيانًا بجانب المعنى، إذ يختلف التطابق اللغويّ عن ذاك المجازيّ ولو بتوسّع عند التعريف اللغويّ للمسألة. وفي بعض الأحيان كان يشير إلى البعد التملّكيّ الذي يلقي بالمسؤوليات على المرء عندما يرتبط معنى الحق بما يتوجب على الإنسان اتجاه أهله، والدفاع عن ذاك الحق الذي يمثّل خصائص القيمة الإنسانيّة من مال وعرض وحميّة في حفظ الكرامات. وتأخذ المفردات معنى النظام القيميّ بمعنى القسط والحكمة، أو معنى العقل العمليّ، أو معنى الحكمة النظريّة، أو المعنى السلوكيّ الصوفي الذي يحمل مجمل أو كلّي ما يعنيه النظام المعرفيّ الصوفيّ لهذا المصطلح. وقد لحظنا هذا التحليل بشكل واضح في موارد ثلاث:
المورد الأوّل: القرآنيّ: وقد استند النص القرآنيّ إلى الجانب اللغويّ باعتباره البيان، الذي من خلاله يدخل النص نحو عالم المعنى، ثمّ تحرّك النص نحو حركة المفردة في الصياغات التي أرادها القرآن الكريم في نظام هدايته المعرفيّ والقيميّ والأخلاقيّ؛ إذ الحق كلمة، وإن كان الأصل فيها المطابقة والموافقة، إلّا أّنها كانت تشير – حسب الآيات – أحيانًا إلى إيجاديّة الموجِد سبحانه على طبق نظام الحكمة، وبطبق نفس الحكمة كانت المفردة تذهب لإظهار عظمة الموجَد بما هو آية تكشف فعل العظمة والحكمة لدى الخالق سبحانه.
وسواءً أكنا مع الآيات نستكشف الجانب الإيجاديّ من جهة الموجِد أو الموجَد، ففي الحالتين هناك نفي لأي لغو ولعب أو عبثيّة في الإيجاد، وهو الحق. ثمّ إنّ نظام الهداية القرآنيّ استعمل الحق بمعنى مطابقة الاعتقاد لما عليه الواقع ونفس الأمر، وليس أي مطابقة، بل بما يشمل حكمة الفعل والقول والواقع نفسه، هذا الواقع الذي يشير في ثبات صدق معناه إلى الحقيقة نفسها… ومن هذا الميدان القرآنيّ تشبَّعت الذهنيّات الكلاميّة والصوفيّة، وإن بالنحو الذي شكّلت فيه هذه الاستفادة القاعدة الغائية لمعنائيّة المفردة لديهم.
ولو أردنا الاستزادة في هذا المعنى، فسنجد في كتاب التحقيق في كلمات القرآن الكريم قوله: “إنّ الأصل الواحد في هذه المادّة [الحق] هو الثبوت مع المطابقة للواقع، فهذا القيد مأخوذ في مفهومها في جميع المصاديق ﴿فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾[19]، بسوء أعمالهم وانكدار سريرتهم: ﴿وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾[20]، ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[21]، ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾[22]؛ ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَ الضَّلاَلُ﴾[23]… فاستعمل الحق في هذه الآيات الكريمة في مقابل الباطل والضلال، والباطل ما ليس له ثبوت، والضلال ما خرج وانحرف عن ما هو عليه. والحق قد يتصف بأمور: نزّل الكتاب بالحق، القصص الحق، إنّ الرسول حق، إلى الله مولاهم الحق، قوله الحق، والوزن يومئذٍ الحق، دين الحق، ربكم الحق، إنّ وعد الله حق، لقد جاءك الحق من ربك… فإذا كان الله تعالى حقًّا، وكذلك قوله وما آتاه، وما من عنده، وما يقضي به ويحكم، وما يدعو إليه، وما أنزله وما أرسله، فكيف يجوز للفرد العاقل أن يميل عنها، ويسلك مسالك غيرها، مع العلم بضلالها وبطلانها وبعدها عن الحقيقة والواقعيّة؟
ثمّ إنّ الاستعمال بحرف الباء كما في: إنا أرسلناك بالحق، نزَّل الكتاب بالحق، نتلوها عليك بالحق، قد جاءكم الرسول بالحق… إشارة إلى أن التنزيل والتلاوة والخلق والفتح والهداية كلّها من قبيل الفعل والتأثير، والفعل من الأعراض لا تحقّق ولا ثبوت له إلّا في موضوع، والمعنى إنّا إرسلناك على منهاج وبرنامج صحيح حق، وكذلك سائر الآيات. وأما التعبير بالباء دون على؛ فإنّ الإرسال ليس على طبق الحق وصورته، بل بالحق وبمنهاج الحق، وهذا أبلغ”[24].
وهكذا نجد حجم الأثر القرآنيّ في تكوين ذهنيّة فلسفيّة، حِكميّة في البحث بالأمور، بحيث إنّ هناك تماهيًا في معالجة الموضوع على طبق البناء القرآنيّ وبلغة فلسفيّة.
ومن هنا، رأينا إشارات اللغة إلى دلالات تشير إلى الهويّة بمعناها الفلسفيّ في مثال “الراية” وما ترمز إليه، كما رأينا أصل المطابقة الثبوتيّة مع الواقع والمعنى.. ثمّ لما ذهبنا لتحليل الصوفيّة فقد وجدناها تقوم على الموجِد بما هو حق، وعلى الحقيقة المقيّدة القابلة للوجود من الحقيقة الواجبة بالفيض والتجلّي. إلى أن تركَّب عندهم البعد الثالث للحقيقة، وهو الجامع للحقيقتين الفاعلة والمنفعلة بلحاظ الجمع بين الحيثيتين، وهنا تظهر بوضوح اللغة الخاصة التي آلت إليها الصوفية بتأثّر من البناء القرآنّي واللغة الفلسفيّة. وليس بعيدًا عن هذا، وجدنا الكتابات الصوفيّة التي أخذت الطابع البحثيّ العرفانيّ بمعناه الحكميّ قد قسّمت سير معرفة الدين إلى: سر الشريعة، وأطوار الطريقة، ثمّ أنوار الحقيقة. ليرتكز أنّ الحقيقة هي ذاك المحور الثابت للمعنى والواقع الذي عنه يصدر كلّ معنى وتجلّيات الوقائع.
وليس بعيدًا عن هذه الدلالات تشكّلت المعاني الكلاميّة لمفردَتَي الحق والحقيقة؛ فالحق “هو في العرف كلّ ما كان اعتقاد ثبوته أو نفيه علمًا، أو ظنًا، أو صوابًا، أو الخبر عن ثبوته صدقًا وصوابًا، والباطل عكسه [الحدود والحقائق للمرتضى]، كلّ فعل حسن [المعتمد في أصول الدين]، هو ما علم صحته، سواء علم ذلك بدليل أو بغير دليل [الرسائل العشر]، هو الحكم المطابق للواقع يطلق على الأقوال والعقائد والمذاهب [شرح العقائد النسفية].
أمّا الحقيقة: “كل لفظ أفيد به ما وضع له في أصل اللغة لمواضعه اللغويّة أو الشرعيّة أو العرفيّة. ويستعملها المتكلّمون في نفس الشيء، وتستعمل في التصور الجاري في الفعل مجرى نفس الشيء [الحدود والحقائق للمرتضى]”[25].
من الواضح في هذه التفسيرات لدلالة الحق والحقيقة انتسابها للبيئة اللغويّة والقرآنيّة بشكلٍ أساس. مما يؤكّد مرة جديدة أنّ البناء المركزيّ لحركة المعنى في هاتين المفردتين كان قرآنيًّا، وأنّ البيان عاد ليتسم بسمات الجهد الذي بذله أهل الاختصاص كلّ حسب العلم أو الفن الذي ينتسب إليه.
وهذا ما يضعنا أمام حقيقة أنّ الفكر الإسلاميّ يقوم على تصورات وأصول قرآنيّة تشكّل بُعد “الإلهياّت” فيه. ثمّ إنّ التحليل والبيان والرسوم تتخذ بُعد المعرفة التخصّصيّة لدى أهل كلّ فن وعلم.
المورد الثاني: الفلسفة: من الملاحظ في الدراسات الفلسفيّة للمسلمين، أو تلك التي تشكّلت في إطار الحضارة الإسلاميّة، أنّ مفردة الحقيقة توفّرت في مجالين: المبحث المنطقيّ وخاصة في القضايا، والمبحث الفلسفيّ أو ما اصطلح عليه بالأمور العامّة، والإلهيات بالمعنى الأعم أو الأخص أحيانًا. أمّا المنطقيّ منه فقد “قال المنطقيون، الشرطيّة المنفصلة التي اعتبر فيها التنافي في الصدق والكذب، أي في التحقّق والانتفاء معًا تسمّى حقيقيّة، كقولنا: إمّا أن يكون هذا العدد زوجًا، وإمّا أن يكون فردًا. ومنها قضيّة يكون الحكم فيها على الأفراد الخارجيّة المحقّقة والمقدّرة موجِبةً أو سالبة، كلّيّة كانت أو جزئيّة. وإنمّا سمّيت حقيقيّة لأنّها حقيقة القضّية، أي وهي المتبادر عن مفهوم القضية عند الإطلاق، فكأنّها هي حقيقة القضيّة.
قال المنطقيون: فالحكم في الحقيقيّة ليس على الأفراد الموجودة في الخارج فقط، بل على ما قدِّر وجوده من الأفراد الممكنة، سواء كانت موجودة في الخارج أو معدومة فيه، فخرج الأفراد الممتنعة. فمعنى قولنا: كلّ (ج) (ب)، كلّ ما لو وجد كان (ب) هكذا ذكر المتأخّرون. ولما اعتبر في هذا التفسير في عقد الوضع، الاتصال، وكذا في عقد الحمل فسَّره صاحب الكشف ومن تبعه، فقالوا: معنى قولنا كلّ ما لو وجد كان (ج)، فهو بحيث لو وجد كان (ب) أنّ كلّ ما هو ملزوج (لج) فهو ملزوم (لب). وقال الشيخ: معناه كلّ ما يمكن أن يصدق (ج) عليه بحسب نفس الأمر بالفعل، فهو (ب) بحسب نفس الأمر. ثمّ تعميم [الأفراد] الخارجيّة بالمحقِّقة للاحتراز عن [القضيّة] الخارجيّة. وهي قضيّة يكون الحكم فيها على الأفراد الخارجيّة المحقّقة فقط، فيكون معنى قولنا: كلّ (ج) (ب) على هذا التقدير كلّ (ج) موجود في الخارج (ب) في الخارج. وصدقها يستلزم وجود الموضوع في الخارج محقّقًا بخلاف الحقيقيّة، فإنّها تستلزم وجوده في الخارج محقّقًا أو مقدّرًا…
فنقول: أحوال الأشياء على ثلاثة أقسام:
قسم يتناول الذهنيّة والخارجيّة المحقّقة والمقدَّرة؛ وهذا القسم يسمّى بلوازم الماهيّات كالزوجيّة للأربعة، والفرديّة للثلاثة، وتساوي الزوايا الثلاث في المثلّث للقائمتين.
وقسم يختص بالموجود في الذهن؛ كالكلّيّة، والجزئيّة، والذاتيّة، والعرضيّة ونحوها.
وقسم يختص بالموجود الخارجيّ؛ كالحركة والسكون، فينبغي أن تعتبر ثلاث قضايا، إحداها ما يكون الحكم فيها على جميع أفراد الموضوع ذهنيًّا كان أو خارجيًّا، محقّقًا أو مقدّرًا كالقضايا الهندسيّة والحسابيّة وتسمّى هذه حقيقيّة. وثانيتها ما يكون الحكم فيها مخصوصًا بالأفراد الخارجيّة مطلقًا محقّقًا، أو مقدّرًا كقضايا الحكمة الطبيعيّة، وتسمّى هذه القضيّة قضيّة خارجيّة. وثالثتها أن يكون الحكم فيها مخصوصًا بالأفراد الذهنيّة، وتسمّى هذه قضيّة ذهنيّة كالقضايا المستعملة في المنطق… وأمّا القضيّة التي يحكم فيها مخصوصًا بالأفراد الخارجيّة الموجودة المحقّقة فقط دون المقدَّرة، فليست معتبرة في العلوم، ولا يبحث عنها فيها؛ لأنّ البحث عنها يرجع إلى البحث عن الجزئيات، والبحث عن الجزئيات لا يُبحث عنها في العلوم لوجهين:
الوجه الأوّل: أنّها غير متناهية؛ بمعنى أنّها لا يمكن ضبطها وإحاطتها، ولا يتصور حصرها؛ لأنّها توجد واحدة بعد واحدة وكذا تعدم.
الوجه الثاني: أنّها متغيّرة متجدّدة لتوالي أسباب التغيّر عليها، فلا يمكن ضبط أحوالها”[26].
إنّ هذا التحليل للقضيّة، وإن كان نقله طويلًا، إلّا أنّ إثبات النص هنا يغنينا عن كثير من الكلام والبيان. والذي يعنينا بنحوٍ خاص فيه، أن استخدام الحقيقة في القضّية إمّا أن يكون جامعًا لمتضادات المعنى كما في قوله: إنّ المعتبر فيها الثنائي في الصدق والكذب، وإمّا أن يعود استخدام مفردة الحقيقة لما يتبادر إلى الذهن من مفهوم القضيّة، وهذا فيه جنبة معرفيّة تأخذنا بشكل أو بآخر نحو المبحث المعرفيّ. ثمّ إنّ التحليل للقضيّة الحقيقيّة ذهب لاعتبار أنّ الأساس فيها ليس ما هو تحت دائرة المتحقّق أو المتوفّر فعلًا، بل نحو الكلّيّة التي تنطلي على ما هو متوفّر وقائم، وما هو مقدَّر ومحتمل.
بل يترقّى المبحث لاعتبار أنّ كلّ ما يدخل في “نفس الأمر” هو يصدق عليه القضيّة الحقيقيّة. وهذا ما سيضعنا أمام أصل ركين في المبحث الفلسفيّ ومعالجته لمعنى نفس الأمر، لما يؤسّس ذلك لطبيعة القضيّة الميتافيزيقيّة، والبحث الفلسفيّ والميتافيزيقيّ. هذه الحقيقة أو القضيّة التي ينبغي أن تتسم بالكلّيّة والثابت، أو الصدقيّة في الهويّة، حتى يصحّ دخولها إلى حقل العلوم المقصودة في الفلسفة عمومًا، ونقصد هنا الفلسفة بمعناها الأنطولوجيّ الكلاسيكيّ، أو الميتافيزيقيّ المعهود.
فالحقيقة المنطقيّة كأنّما هي توأم الحقيقة الفلسفيّة، كما سوف نعمل على معالجتها، ثمّ سنحيل الأمر لمعرفة مدى تطوير العلّامة الطباطبائي لهذه المسألة بالذات، وكيفيّة معالجته لها.
أمّا بالعودة للحقيقة والحق، أو الحقائق في دائرة المعالجة الفلسفيّة، فإنّنا نجد في كتاب الشفاء لابن سينا قوله: “أمّا الحق فيفهم منه الوجود، في الأعيان مطلقًا، ويفهم منه الوجود الدائم، ويفهم منه حال القول أو العقد الذي يدلّ على حال الشيء في الخارج إذا كان مطابقًا له، فنقول: هذا قول حق، وهذا اعتقاد حق. فيكون الواجب الوجود هو الحق بذاته دائمًا، والممكن الوجود حق بغيره، باطل في نفسه، فكلّ ما سوى الواجب الوجود الواحد باطل في نفسه”[27].
إنّ الحق في معناه الفلسفيّ يساوي الوجود نفسه، سواءً أكان الوجود بإطلاقه، أو بما هو حقيقة دائميّة. وهذا ما يأخذنا لاعتماد القراءة الفلسفيّة في هذا المجال، والتي تُفرِّق بين لحاظ الأمر في نفسه، وهو الحق الأصيل، أو الفعليّ القائم في الخارج وصاحب الذات والعين. وبين لحاظه كما يتبدّى لنا، وكما نراه متمثّلًا لأذهاننا ولعالم وعينا ومعرفتنا، وهو هنا مركّب من أمرين اثنين، حسب ما ذهب إليه الفلاسفة، وكلاهما ينتميان – حسب تقرّرهما الذهنيّ – إلى عالم الاعتبار، وهو خلاف الذات العينيّة، أو الحق، أو الفعليّة، أو الحقيقة الخارجيّة.
لكن أحد هذين الاعتبارين يتطابق ويشير بالمباشر إلى الحق والحقيقة الخارجيّة، والآخر مفهوم يحدِّد نطاق المفهوم الأوّل يتمكّن ذهننا من معرفته ومعالجته.
وهذه القراءة المميِّزة بين ما هو في الخارج، وبين ما هو ذهنيّ، هي التي فتحت الباب واسعًا أمام الفلسفة الإسلاميّة للقيام بمعالجات اصطلحت عليها اسم “الأصالة والاعتبار”؛ ذلك أنّها لما وجدت أنّ الذهن ينقل الحقيقة الخارجيّة الواحدة إلى أمرين ذهنيين، وكلاهما بلحاظ وجودهما الذهنيّ اعتباريان، سألت أيّ الأمرين، أو المعقولين أو المفهومين هو الذي يفيدنا بالأصالة أو الحق الأصيل الذي نريده ونقصده، هل المطابق للخارج هو مفهوم الوجود أو الماهية؟
من هنا، فإنّ ابن سينا انطلق من الخارج مباشرة في تحديد الحق؛ إذ اعتبره هو القائم في عالم الوجود بما هو موجود فعلًا وبنفس الأمر، أو بتعبير آخر هو “الوجود في الأعيان مطلقًا”. ولم يكن في تحديده لمعنى الحق معنيًّا بالإشارة إلى ما عليه الذهن إلّا بلحاظ ما يتطابق مع ما هو في عالم الخارج. أو حسب بعض تعابير العلّامة الطباطبائي، مع ما يتطابق مع متن الواقع. فليس الحق بالأمر الذهنيّ، أو العلميّ، أو المعرفيّ، بل الحق هو وجود فعليّ خارجيّ. وهنا تأتي التمايزات الفلسفيّة بين معنى الحق والحقيقة، وبين معنى الصدق؛ فالصدق وإن تشابه الأمر فيه عند بعض الباحثين، إذ اعتبروه بمعنى الحقيقة أو الحق، إلّا أنّه في واقع الأمر ليس كذلك؛ لأن الصدق هو التطابق أو عدم التطابق بين ما في الذهن، وبين الحق والواقع العينيّ، لذا ذهب ابن سينا للقول: “وأما الحق من قبل المطابقة فهو كالصادق، إلّا أنّه صادق فيما أحسب باعتبار نسبته إلى الأمر، وحق باعتبار نسبة الأمر إليه”[28]. فالحق هو المحور الذي يدور حوله المعنى، وهو الأصل الذي نبني عليه ونقيس إليه الأمر، ونفس الأمر، وما صدق القضيّة أو المفهوم أو الصدق بعينه إلّا باعتبار انتسابه إلى الحق والواقع.
عليه، فإنّ الحق بمعناه الفلسفيّ هو الوجود الفعليّ الذي يتمحّض كلّما تمحّضت الوحدة فيه ليصير منتسبًا لمصداق واحد هو الواجب الوجود، أو الذات، أو الله سبحانه فيما عبَّرت عنه الأديان. وهنا، نحن مع لقاء جديد بين محورية البحث الدينيّ، والبحث الفلسفي؛ إذ البحث الفلسفيّ إنّما يهدف ويصدر عن وإلى الحق بما هو واقع في العين وبذاته الواحديّة، ومنه تمّ تأسيس القاعدة الأولى، بل كلّ قاعدة في البحث الفلسفيّ؛ إذ كلّ قول وتطابق إنّما يصدق على ضوء محورية هذا الحق، الواقع، العين، الخارج، الوجود الواحد. “وأحق الأقاويل أن يكون حقًّا ما كان صدقه دائمًا، وأحق ذلك ما كان صدقه أوّليًّا ليس لعلّة. وأوّل كلّ الأقاويل الصادقة الذي إليه ينتهي كلّ شيء في التحليل، حتى إنّه يكون مقولًا بالقوّة أو بالفعل في كلّ شيء يبيّن أو يتبيّن به، كما بيناه في كتاب البرهان هو أنّه: لا واسطة بين الإيجاب والسلب. وهذه الخاصة ليست من عوارض شيء إلّا من عوارض الموجود بما هو موجود، لعمومه في كلّ موجود”[29].
فالبرهان بما هو روح المنهج الفلسفيّ ومقصده إنّما يقوم على هذا الأصل الأنطولوجيّ الذي هو الحق، وكشف الحقيقيّة ومحوريتهما في كلّ مبحث أو مطمح فلسفيّ. حتى إذا ما سقط الحق أو الوجود الواقع، انهار بنيان كلّ حقيقة وكلّ صدقيّة لمبحث أو مفهوم أو قول. وهذه الحقيقة هي التي وضعت الفلسفة في مواجهة مع السفسطة، وألزمت الفيلسوف أن “يتدارك ما عرض لأمثال هؤلاء من وجهين: أحدهما حلّ ما وقع فيه الشك، والثاني التنبيه التام على أنه لا يمكن أن يكون بين النقيضين واسطة”[30]. وهذه الوظيفة للفيلسوف إذا ما انطلقت من الحق، أو قصد الحق، صارت مهمّة إنسانيّة تأسيسيّة لشؤون تُخرج الفلسفة من بيئة المعالجات التي لا طائل تحتها، إلى بيئة تؤسِّس لقواعد المعرفة والعلم، ممّا يجعل قرابة وصلة بين الحق والتوحيد وبقية العلوم والمعارف والمناهج. ومن هنا، جاء عند الملّا صدرا في بعض تعريفاته للحق: “أنّ حقيقة كلّ شيء هي وجوده الذي يترتّب به عليه آثاره وأحكامه، فالوجود إذًا هو أحق الأشياء بأن يكون ذا حقيقة، إذ غيره به يصير ذا حقيقة”[31].
فالوجود عنده، هو الحق وهو صاحب الحقيقة التي بها يأخذ كلّ ما سواه حقيقته، وهو الأمر الذي يجعل من الحق في المبحث الفلسفيّ معيارًا لإضفاء أو معرفة الواقعيّة في أي مورد من الموارد، فذات كلّ شيء إنّما ترتبط بذات الحق الواحد، وحقيقة كلّ شيء إنما تُنال من حقيقته. وهذا الكلام وإن كان متوافقًا مع مضمون الدين، إلّا أنّه على طِبق البحث الفلسفيّ، فيما أثارته الفلسفة الإسلاميّة من مباحث وموضوعات.
وعندما أراد العلّامة الطباطبائي أن يسير وفق مسار من سبقه من الفلاسفة في تعريف الفلسفة وغايتها، فإنّه قال طارحًا مقدّمة لهذا التعريف: “إنّا معاشر الناس أشياء موجودة جدًّا، ومعنا أشياء أُخر موجود ربما فعلت فينا أو انفعلت منا، كما إنّا نفعل فيها أو ننفعل منها”[32].
إذن، هناك ذات هي عين الواقع الخارجيّ، وهناك ما هو خارج عن هذه الذات هو عين الواقع الخارجيّ أيضًا. وأنّ علاقة من التأثير والتأثّر الحقيقيَيْن والموضوعيَيْن يقومان بين هذه الذات وما هو خارجها. ومجموع ذلك هو الذي يصدق عليه بـ “الواقع”، أو “الموجود”، أو “الحقيقة والحق”، لذا يكمل العلّامة: “وجميع هذه الأمور التي نشعر بها، ولعلّ معها ما لا نشعر بها [مقصوده المجرّدات] ليست بسدًى لما أنّها موجودة جدًّا، وثابتة واقعًا، فلا يقصد شيء شيئًا إلّا لأنّه عين خارجيّة، وموجود واقعي أو منتهٍ إليه”[33]. “فلا يسعنا أن نرتاب في أنّ هناك وجودًا، ولا أن ننكر الواقعيّة مطلقًا، إلّا أن نكابر الحق فننكره، أو نبدي الشك فيه، وإن يكن شيء من ذلك، فإنّما هو في اللفظ فقط”. إنّ ما انتهى إليه هنا، وإن كان مسبوقًا بما أورده وقرّره ابن سينا في الشفاء، إلّا أنّه استرسل بنقاشه بشكل مفصّل في كتابه أسس الفلسفة والمذهب الواقعيّ، والذي استفاض العلّامة المطهري بعرضه وشرحه وتبيان المدارس الفلسفيّة القديمة، وبعض المدارس الحديثة فيه، وقد عدَّ المطهري أنّ هذه الريبية والسفسطة أخذت في الدراسات الحديثة شكل الأبحاث النفسيّة أكثر ممّا هي في إطار الفلسفة بمعناها الكلاسيكّي، إلّا أنّه ولمّا كان الخطأ واردًا في درك الواقع وإصابته، احتجنا إلى ما نعرف من خلاله الحق من الوهم، والواقع من السراب.
غير أنّا كما لا نشك في ذلك، لا نرتاب أيضًا في أنّا ربما نخطئ، فنحسب ما ليس بموجود موجودًا أو بالعكس… فمسّت الحاجة إلى البحث عن الأشياء الموجودة، وتمييزها بخواص الموجودية المحصَّلة مما ليس بموجود بحثًا نافيًا للشك منتجًا لليقين، فإنّ هذا النوع من البحث هو الذي يهدينا إلى نفس الأشياء الواقعيّة، بما هي واقعيّة[34].
فبما أنّ الجهاز الإدراكيّ الذي يسلّم وجود الحق والواقع، قد لا يميّز بين ما هو حق وما هو باطل إلّا بتعمُّل وتدقيق منتج لتمييز الحق من الوهم، وهذا الطريق للمعرفة إنّما هو “القياس البرهانيّ… المنتج للنتيجة اليقينيّة من بين الأقيسة، كما أنّ اليقين هو الاعتقاد الكاشف عن وجه الواقع من بين الاعتقادات”[35].
عليه، فإنّ وجود الواقع – الحق هو أمرٌ لا ريب فيه، وكلّ تشكيك فيه إنّما هو من باب الفذلكة اللفظيّة التي تحمل نفيها معها، إلّا أنّ معرفة أو عدم معرفة هذا الواقع الحق هو أمرٌ آخر اعتنت الفلسفة بالاشتغال عليه لتعرف الصدق من الكذب، وما ينطبق على الواقع ممّا لا ينطبق عليه.
فالحقيقة الفلسفيّة إذن، هي هذا الحق الموجود خارجًا، والذي تعمل الفلسفة على تمييزه والتثبّت منه بخاصيّاته أو ذاته، وبنفي ما لا ينتمي إليه أو يرتبط به. وعلى هذا المنوال، يأخذ العلّامة الطباطبائي في كتابه الفلسفيّ المركزيّ نهاية الحكمة بعرض خصائص الموضوع والمنهج والمسائل، ومدار الاهتمام الفلسفيّ دون أن يلتزم بتعريف محدَّد على غرار ما كان عليه من سبقه، وفي هذا تطور في لغة تقديم الفلسفة عمّا كانت عليه حتى في فلسفة الملّا صدرا (قده).
ولمّا لم تكن وظيفتنا هنا البحث في اللغة الفلسفيّة، أو تعريف الفلسفة عند العلّامة إلّا بمقدار كشفها عن “الحقيقة الفلسفيّة”، فإنّا سنُعرض عن الدخول في الموضوع، لنورد ما أورده (قده) في مجال تبيان خصائص البحث الفلسفيّ، وبالتالي كيفيّة تقييم الحقيقة الفلسفيّة ومعرفتها، وذلك من خلال عرض الخطوات التالية:
أوّلًا: إبراز وتأكيد أنّ “الفلسفة أعم العلوم جميعًا؛ لأنّ موضوعها أعمّ الموضوعات، وهو الموجود الشامل لكلّ شيء”.
ثانيًا: إنّ محمولات الموضوع الفلسفيّ إمّا نفسه، وإمّا أخص منه، لكنها ليست غيره. إذ لا يصح أن ينسب لهذا الموضوع ما ليس منه، بل لا غيره على نحو الحقيقة.
ثالثًا: إنّ مسائله مسوقةٌ على نحو معكوس الحمل، بمعنى أنّنا بدل أن نقول: الوجود إمّا واجب أو ممكن، أو إمّا علّة أو معلول.. وإمّا واجب الوجود أو ممكن الوجود، فنظن أنّ الوجود هو المحمول بسبب هذه الهيئة اللفظية، لكن واقع الأمر أنّ الموضوع حقيقة هو الوجود أو الموجود، وما المحمول إلّا ذاك المعبِّر عن موضوعه الذي ليس إلّا الوجود.
رابعًا: إنّ غاية الفلسفة ذاتيّة مقصودة بنفسها، لأن معرفة الوجود؛ أي حقيقة الحق وواقع الأمر، إنّما هو غاية بذاته وعنها تصدر كلّ غاية.
خامسًا: إنّ معرفة هذه الحقيقة إنّما يتم بالبرهان الذي يوجب موضوع الفلسفة أن يكون من باب انتقال من لازم للازم.
إنّ هذه الخطوات الخمس التي ثبّتها العلّامة (قده) إنّما تؤكّد على كون “الحق” هو “الوجود”، وأنّ “الحقيقة الفلسفيّة” تارة نقصد بها نفس هذا الحق الذي هو الوجود، والذي يطيب للعلّامة أن يسمّيه ببعض الأحيان “بالواقع”. وقد نقصد بالحقيقة الفلسفيّة تارة أخرى نفس معرفة هذا الحق. والمعرفة هنا إنّما هي غاية بذاتها، لأنّها ترتبط بما ترتبط به كلّ ذات وهو الحق. وعليه، وإن لم يذكر العلّامة هذه الغاية المتوخّاة في كتابه نهاية الحكمة، إلّا أنّه في كتابه الآخر بداية الحكمة أعلن أنّ هذا الفن “غايته تمييز للموجودات الحقيقيّة من غيرها، ومعرفة العلل العالية للوجود، وبالأخص العلّة الأولى التي تنتهي إليها سلسلة الموجودات، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا”.
إذن، إنّ الغاية هي معرفة أصل الوجود الذي هو الحق ومعرفة لسلسلة معاليل الموجودات، وبالتالي سنن ارتباطها ونشوئها. كما أنّه، وبحسب تعبير العلّامة، معرفة لما تنتهي إليه هذه السلسلة من العلل، وما هي أسماؤه وصفاته العليا؟ وهو التعبير الذي إنّما يُستخدم بغية الحديث حول الله سبحانه وتعالى. وبالتالي، فنحن أمام تجلّيَيْن في لغة الاستخدام الفلسفيّة التي يمارسها العلّامة الطباطبائي، أّولهما: إبراز التواصل والتماهي بين أصل كلّ حقيقة ذاتيّة تتحدّث عنها وفيها الأديان والفلسفات، وهو الحق بما هو الله سبحانه. والتجلّي الآخر هو الفلسفة والحقيقة الفلسفيّة في ممارستها الاكتشافيّة للوجود، أو كما يطيب للعلّامة أن يسمّيه “بالواقع”.
وقبل أن أقفل هذا الجزء من الموضوع، من المفيد استثمار المناسبة بالإشارة إلى كون شرّاح الطباطبائي أكّدوا، وبشكل دائم، إلى بناء تعبيرات فلسفته في موضوع الوجود على مفردة أو اصطلاح “الواقع”. وفي ظنّي، أنّ الواقع بما يعنيه من “الوجود الحق”، إنّما هو تعبير يتماشى مع الجدل الفلسفيّ الذي دخلته المدارس الفلسفيّة الحديثة، من مادّيّة ومثاليّة، وما قالته بعض هذه المدارس من أنّ الواقع هو ما يتم التوافق عليه، أو هو ما ننتجه في مقولاتنا وطروحاتنا عبر مفاهيم ذهنيّة، أو أحكام تمثّل واقع الموضوع، أو الموضوع بعينه.
وهنا تأتي كلمة الواقع والواقعيّة عند العلّامة (قده) لتشير إلى إيمانه بالوجود المادّيّ الخارجيّ، وأنّه مصدر لعالم الخيال الذهنيّ، وحليف الأحكام والمقولات العقليّة، إلّا أنّ هذا الوجود المادّيّ ليس وحده هو الواقع، أو الحق، بل كلّ ما له ذات فعليّة مادّيّة أو مجرّدة هو واقع. عليه، فإنّ متن الواقع أوسع دائرة وانتشارًا من الوجود المادّيّ، لذا، فالحقيقة الفلسفيّة وإن لم يكن بإمكانها التخلّي عن عالم الحس والمادّة، لكنها تتجاوزه نحو متن واقع أوسع وأكثر بساطة وتجرّدًا. ومهمّة الفلسفة في معرفة الحقيقة الفلسفيّة هي (درك هذا الحق)، أو الواقع، أو بحسب تعبير مدرسة الحكمة المتعالية، “الأصيل”.
ومن المعلوم أنّ الأصيل يأتي في قبال الاعتباريّ، ويُحمل السؤال التالي على مهمّة الفلسفة: لمن الأصالة للوجود أو الماهية؟ إذ بعد أن تقرّر الفلسفة أنّ الحق أو العين الخارجيّة واحدة، وأن العقل يدركها بثنائيّة مركّبة من اثنين هما: الوجود والماهيّة، فإنّ البحث – حسب الحكمة المتعالية – يجري حول أيّهما الأصيل، وأيّهما الاعتباريّ؟ ولما تقرّر في فلسفة الحكمة المتعالية أنّ الوجود هو الأصيل، بمعنى أنّ المتقرِّر خارجًا، أو المجعول من العلّة الأولى الذي يوفّر الفعل أو التفاعل والتأثّر والتأثير هو الوجود. فإنّ الحق بمعنى الذات الإمكانيّة هو رديف مصطلح الوجود، وهو كصنوه يصدق على الوجود الواجب أنّه عين الوجود وأنّه الحق سبحانه. ومنه يصدق الوجود والحق على كلّ مجعول وموجود. أمّا الماهيّة فهي ما يقابل الوجود، وهي الاعتبار الذي يقابل الحق.
والحقيقة الفلسفيّة إنّما هي انعكاس للكشف عن هذا الحق (الواقع).
وعليه، فكلّ مباحث الوجود، في فلسفة العلّامة الطباطبائي، أو الواقع، إنّما هي مباحث حول الحق وخصائص الحقيقة الفلسفيّة. أمّا هذه الحصة الخارجيّة الواحدة التي اعتبرها الملّا صدرا أّنها حاصلة للوجود “بنفس حقيقته الواجبيّة، وبسبب مراتبها المختلفة ضعفًا وشدّة، وأضاف إليها قسمًا آخر وهو ما يحصل بسبب الإضافة إلى المهيات”.
[أمّا عند الطباطبائي]، وتبعه على ذلك الأستاذ، وصرّح بأن التخصّص بسبب المهيات أمر ينسب إلى الوجود بعرض المهية. وجدير بالذكر أنّ الأستاذ لم يصف حقيقة الوجود بصفة الوجود بخلاف صدر المتألهين، بل الظاهر من كلامه أنّ المراد بها الواقعيّة المطلقة الشاملة للواجب والممكنات[36].
وليس هذا الحق إلّا الحقيقة الواحدة القابلة لأن ننتزع منها مراتب وحصص متكثّرة في عين أنّها واحدة. وعن هذه الوحدة الكثيرة المنتزعات، قامت في الفلسفة الباحثة عن الحقيقة الفلسفيّة مسائل من مثل الاشتراك المعنويّ، والوجود التشكيكيّ أو الشخصيّ، ومراتب الوجود، والعلّة والمعلول… وغير ذلك من الأمور العامّة التي أثّرت وتماهت مع مباحث الإلهيات بالمعنى الأخص، والمرتبط بأمور المبدإ أو الواحد الحق، أو الواقع المطلق والوجود المطلق…
والمتابع لطبيعة المعالجة المتعلّقة بهذه المباحث، سيجد نفسه أمام تبيان لطبيعة الحقيقة الفلسفيّة وخصائصها، وقبل أن نذكر أمورًا من هذه الطبيعة والخصائص، علينا التأكيد أنّ مبحث الأصالة ولأي شيء تعود، للوجود أو الماهية؟ إنّما تشق طريقها نحو إدراك الفائدة والثمرة من خلاف معرفة الارتباط بين أهمّية الحقيقة الفلسفيّة وعلاقتها الأكيدة بمبحث الأصالة؛ إذ من دون هذا الربط سيبقى الأمر في غاية الإشكاليّة، حول أنّ أيّهما الأصيل: الوجود أو الماهية، نزاع لفظيّ. أو ما هي الثمرة والعبرة من هذه المباحث المطولة؟ إنّ ربط المبحث: الوجود، والماهية بمساره المتعلّق بالحق أو الحقيقة الفلسفيّة هو الكفيل ببيان أهمّية هذه المباحث فلسفيًّا، إذ سنتعرّف من خلالها إلى جملة أمور، منها:
أ. أنّ الحق واحد يتمظهر بمظاهر متعدّدة، هي أشبه بآيات وعلامات تشير إلى وحدته عبر أصالة الوجود بما هو واحد مفهومًا، وإن تعدّدت مصاديقه عينًا. وهذا ما تشير إليه مباحث “أحكام الوجود الكلّيّة” في كتاب نهاية الحكمة، الذي تعرّض فيه إلى كون مفهوم الوجود مشترك معنويّ، بمعنى أنّه واحدٌ في معناه برغم ما يحمل عليه من أمور وماهيات متنوّعة. عليه، فإنّه؛ أي هذا الوجود الواحد؛ إنّما “يراد به نفس الحقيقة العينيّة والذي يُحكى عنها بهذا المفهوم العام”[37].
ب. أنّ هذا الربط بين المباحث الكلّيّة للوجود والحقيقة، سيسمح لنا ببيان الفوارق المقصودة من التشابه اللفظيّ حين استعمال كلمة الحقيقة في الفلسفة؛ لأنّ لفظ الحقيقة قد تُستعمل مرادفة للمهية ومقابلة للوجود. قال الشيخ في إلهيات الشفاء (إنّه من البيّن أنّ لكلّ شيء حقيقة خاصة هي مهيته، ومعلوم أن حقيقة كلّ شيء الخاصّة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات)، وقال تلميذه في التحصيل: (الإنسانيّة في نفسها حقيقة ما، والوجود خارج تلك الحقيقة)، وقد تستعمل مرادفة للوجود العينيّ، وهذا هو المراد بقولهم: (حقيقة الوجود أصيلة دون مفهومه). وقد تستعمل في ألسنة العرفاء في مورد الواجب تبارك وتعالى في مقابل الوجود المجازي الذي ينسبونه إلى الممكنات. كما أنّ القائلين بوحدة الوجود في عين كثرته، قد يستعملون حقيقة الوجود في الوجود الساري في جميع الموجودات سريانًا عينيًّا مشابهًا لسريان مفهوم الجنس في أنواعه سريانًا ذهنيًّا، أو لسريان الكلّيّ الطبيعيّ في أفراده، كما أنّهم قد يخصّون حقيقة الوجود بأعلى مراتبه؛ أعني مرتبة وجود الواجب تبارك وتعالى. وقد يستعمل الحقيقة مرادفة الكُنْه، كما يقال حقيقة الوجود مجهولة؛ أي لا يُدرك الذهن كنهه[38].
هذا المقطع من كلام مصباح اليزدي، يوفّر علينا رفع كثير من إشكالات استخدام مصطلح الحقيقة في كلام أهل (العقليات الإسلاميّة) من أصحاب المدارس الفلسفيّة، أو التوجه العرفانيّ، ولا ضير هنا أن نشير أنّ الاستناد إلى قوله في تحليل موضوعنا يكتسي أهمّيته من كونه فيلسوفًا معاصرًا، وهو رغم تمثيله لمدرسة الصدرائيّة الجديدة، ورغم اعتباره أحد أبرز تلامذة العلّامة الطباطبائي، فإنّ له آراء خاصة في الفلسفة تقرّبه من الاتجاه المشائي في الفلسفة.
وهو في هذا المقطع وجّه النظر إلى الفارق بين البحث في المفهوم، والبحث في العين، فالحقيقة عندما تطلق لدى بعض المدارس الفلسفيّة إنّما يراد بها الماهية، وهم يميّزونها عن الوجود – أي عن الواحديّة في المعنى – حتى إذا ما أرادوا الإلفات إلى العين الخارجيّة قصدوا بذلك الوجود، وهؤلاء على اختلاف في تفسير هذه الحيثيّة، فمنهم من يعيدها إلى الذات الإلهيّة حصرًا، ومنهم من يعيدها إلى الوجود بما هو سارٍ في الموجودات، واحدٌ على تنوّعه، ومنهم من ينسبها؛ أي الحقيقة، إلى الكُنْه، ويعتبر أنّ هناك ترادفًا بينهما، ممّا يعني أنّ الحقيقة وإن انطوت على سريان في عالم الكثرة، إلّا أنّ ذلك لا يخرجها عن واحديتها المكتملة بالواحد الأحد تبارك وتعالى.
لكن ما لا ينبغي إهماله هنا، هو كون هذه الحقيقة أمرٌ لا يُدرك كُنْهه. وهذا ما سيأخذنا إلى العلاقة بين الحقيقة الفلسفيّة والمعرفة، بعد أن كان البحث في البعد الأنطولوجيّ للحقيقة الفلسفيّة.
وقبل أن نقفل هذا الجانب، فإنّ مدارات هذه المباحث ستسمح لنا فهم ارتباط المفهوم بالذهن حينما يقابل الخارج فيكون مُحدِّدًا لذاك الخارج، وهو هنا نصطلح عليه بالماهّية، أو بالماهيات (بالجمع). لنعتبر أنّ الخارج هو مستوطن الحقيقة الذي نسمّيه الحق… بل إّننا لو نظرنا للوجود الذهنيّ خارج مقابلته للعين الخارجيّة، وتعاطينا معه كخارج، صار هو أيضًا حق؛ بمعنى وجود، وهذا ما يسمح لمداركنا التمييز بين الحق بما هو هو، وبينه بما هو أمرٌ أصيل تعبِّر عنه الحقيقة الفلسفيّة – حسب مدرسة الصدارئيّة –
ج. إنّ سياقات هذه المباحث تسمح بالقول: إنّ خاصّيّة هذه الحقيقة هي البساطة؛ بمعنى عدم التركّب، وما مبحث التركّب إلّا بهدف يعود لطبيعة تفاعل الإدراك الذهنيّ مع القضايا والحقائق لفهمها. لكن هذا العقل أو الذهن هو نفسه أيضًا قادر وبمستوى أرفع على تجريد هذا التركّب لمعرفة خاصّيّة الوحدة والبساطة.
د. إنّ هذه الجدلية بين ما هو ذهنيّ وخارجيّ، وبين الحق والحقيقة، وبين تنوّع العلاقة بين الوجود والماهيّة، وبين السعي لنيل البساطة من التركّب هي التي تهيء لنا أرضيّة الحديث عن التناسب المؤثّر للحقيقة في نفس الأمر؛ أي عند الحق بما هو تطابق وتماهٍ لا انفكاك فيه بين الواقع، والتعبير عنه بشكل سليم يمنع كلّ وجوه السفسطة.
هـ. إنّ الوجود الحق، أو حقيقة الوجود قائمة بذاتها ولا شيء أو سبب وراءها، بل كلّ ما عداها إمّا مرتبط بها يعود إليها، أو هو وهم وفراغ.
و. إنّ فلسفة العلّامة الطباطبائي إنّما تتبنّى في وحدة الوجود، الوحدة التشكيكيّة لا الشخصيّة، بمعنى أنّ الحقيقة الفلسفيّة إنّما تتبدّى وتكشف عن نفسها واحدة في عين الكثرة. ومن هنا، أقرّت فلسفته (قده) بالواقع بمراتبه المادّيّة وما وفوقها. ممّا سمح له أن يسمّي فلسفته بالواقعيّة. وقد أطلق بهذا الصدد اسمًا لكتاب شرحه المطهري (قده) في تبيان موقع الفلسفة الإسلاميّة من المادّيّة الجدليّة، وبعض المدارس الفلسفيّة المعرفيّة، أسماه أسس الفلسفة والمنهج الواقعيّ. وإذا أردنا تحديد الفائدة المرجوّة من مضمون “الوحدة التشكيكيّة”، فهي في الإجابة عن سبب تشخّص العين في الحقيقة الفلسفيّة، التي تجاوزت القول بأنّ التشخّص الماهويّ يكون بالعوارض، وهذا بما أنّه مدعاةٌ للاستهجان؛ إذ العوارض في أنفسها مهيات كلّيّة، فكيف يتشخّص كلّيٌّ بكلّيٌّ آخر؟ الأمر الذي دفع مدرسة (أصالة الوجود) للقول: إنّ التشخّص للكلّيّ الطبيعيّ إنّما يكون بالوجود، فصار الحديث حول الوجود بذاته، والوجود بمراتبه، والوجود بما هو مشخِّص للماهيات. ممّا يعطي للوجود حقيقة واحدة تتنوع بتنوعات شتى.. وهذا ما عبَّر عنه العلّامة بالقول: إنّ للوجود بما لحقيقته من السعة والانبساط تخصّصًا بحقيقته العينيّة البسيطة، وتخصّصًا بمرتبة من مراتبه المختلفة البسيطة التي يرجع ما به الامتياز فيها إلى ما به الاشتراك، وتخصّصًا بالماهيات المنبعثة عنه المحدِّدة له. ومن المعلوم أّن التخصّص بأحد الوجهين الأوّلين مما يلحقه بالذات، وبالوجه الثالث أمرٌ يعرضه بعرض الماهيات[39].
والملفت، قبل أن نطوي مبحث الحقيقة الفلسفيّة عند فلاسفة ومفكّري “الحكمة المتعالية”، بمن فيهم العلّامة الطباطبائي، أمور ثلاث:
الأمر الأوّل: إنّ هذه الفلسفة لا يقع فيها أي مكان للعدميّة، وبالتالي للعبثيّة. فالعدم لا شيئيّة له، وبالتالي فلا أحكام خاصّة ترتبط بالعدم؛ إذ مقتضى وجود أحكام أنّ يكون هناك ذات ما للموضوع، وطالما أنّه لا ذات للعدم، فلا أحكام خاصّة به، بل إنّ العدم أو العدميّة إذا ما طرحنا في حقّها أي حكم فهو بسبب المقابلة بينها وبين الوجود، أو من باب إضافتها للوجود، لذا ورد: “الملكة وعدمها”، أو أنّ “عدم العلّة علّة لعدم المعلول”، فهي أمور نربطها بالوجود حتّى يكون لها نحو من التصريح بالكلام.
لكن هنا، من المفيد الإلفات أنّ مفهوم أو فكرة العدم بما هي أمرٌ مفهوم ذهنيّ، فهو وإن كان يتمّ عبر تصور وجود مفهوميّ للعدم، إلّا أنّه يسمح لنا بإبجاد ولحاظ الحيثيات والفوارق والتمايزات، التي يصعب على الذهن تقريرها دون العدم، أو مفهوم العدم.
الأمر الثاني: إنّ الحقيقة الفلسفيّة بهذا البعد الأنطولوجيّ – الميتافيزيقيّ، تشكّل قاعدة لصلاحية أي مبحث فلسفيّ، بل ومنطقيّ؛ لأن أيّ فلسفة أو منطق لا يقوم على أصالة الحقيقة، لا يمكن تصور منظومة أو أطروحة فلسفيّة ممكنة بحقه.
عليه، فلو توسّعنا في طبيعة المبحث الفلسفيّ للحقيقة الفلسفيّة بما يلحظ تطورات الفكر والفلسفة، بل والعلم، فإنّ بإمكان التوفّر على إنشاء قاعدة أو أرضيّة مشتركة لعموم مباحث المدارس الفلسفيّة، والفلسفة اليوم هي بأمس الحاجة لتعيش مناخًا من التقارب، بعيدًا عن هذا الاغتراب الذهنيّ والثقافيّ الذي تعيشه المدارس والاتجاهات الفلسفيّة عن بعضها، ونفس كلام العلّامة الطباطبائي وطلّابه من فلاسفة (الصدرائيّة الجديدة)، لطالما أشاروا إلى أنّ محوريّة أصالة الوجود تعفينا من الاعتناء الفلسفيّ بمستويات عديدة من مسائل ومقولات مباحث الماهيّة. وكما هو معلوم، فإنّ إجراء أي تخلخل في هيكليّة نظام ما، فإنّه يفتح الطريق لمثل هذه الممارسة حسب ما يلزم وما يقتضي إعادة ترميم أو ترتيب النظام؛ وبمعنًى آخر، فإنّ الأرضيّة لإجراء فعل نقديّ في أنساق وهيكليّة النظام الفلسفيّ الإسلاميّ القائم هو أمرٌ ممكن، إذا ما انطلقنا من محوريّة الحقيقة الفلسفيّة باعتبارها غاية لموضوع هو: عين الحق. وما ينبغي علينا التأكيد عليه أنّ كثيرًا من المسائل الفلسفيّة التي ضمّتها المتون الفلسفيّة، لم تعد تستجيب للأسئلة الفلسفيّة الكبرى بلغة الزمن الراهن والاحتياجات المعاصرة. من هنا، فإنّ التركيز حول محوريّة الحق والحقيقة الفلسفيّة كأصل، وأنّ ما سواها أمور اعتباريّة، قد يشجعنا على التجديد والاجتهاد الفلسفيّ في معالجة خارطة البحث الفلسفيّ، إن من حيث الشكل، أو من حيث المضمون.
الأمر الثالث: إلى هنا، كنا نقوم بدراسة الحقيقة الفلسفيّة في بيئتها الأنطولوجيّة؛ وهي بيئة تفسح لنا الدخول إلى ميادين مختلفة من المستويات والأصناف. من ذلك: المستوى المعرفيّ لمبحث الحق والحقيقة، أو المستوى المرتبط بالتأويليّة وعلاقتها بالفهم واللغة، أو المستوى الذي يدخلنا لدائرة دراسة العلوم الإنسانيّة أو العلوم الدينيّة. ولإبراز هذه الفسحة الأنطولوجيّة من مبحث الحق والحقيقة الفلسفيّة، سوف نفرد استكمالات ما عالجه العلّامة الطباطبائي وبعض طلابه في هذا الشأن. لما يحقّق لنا ذلك اتساعًا في دائرة الانشعاب الفلسفيّ في درس الإشكاليات والأفكار، وهو ما سنحيلة لمناسبات أخرى.
* رئيس معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، بيروت- لبنان.
[1] أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، بيروت، دار العلم للملايين -1987 م، الجزء4، الصفحة 161.
[2] ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1414، الجزء 10، الصفحة 52.
[3] الخليل الفراهيدي، قاموس العين، تحقيق: مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، بيروت، دار ومكتبة الهلال، الجزء 3، الصفحة 6.
[4] سورة القصص، الآية 63.
[5] سورة الزمر، الآية 71.
[6] سورة يس، الآية 7.
[7] سورة الأنعام، الآية 62.
[8] سورة يونس، الآية 5.
[9] سورة يونس، الآية 5.
[10] سورة يونس، الآية 53.
[11] سورة البقرة، الآية 213.
[12] سورة يونس، الآية 33. وسورة غافر، الآية 6.
[13] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، بيروت/ دمشق، دار القلم/ الدار الشامية، 1412 هـ، الصفحة 246.
[14] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[15] محمد بن علي بن القاضي التهانوي، موسوعةكشاف اصطلاحات الفنون، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية: د. جورج زيناتي، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة 1، 1996، الجزء 1، الصفحة 682.
[16] المصدر نفسه، الصفحة 682.
[17] المصدر نفسه، الصفحة 682.
[18] موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون، مصدر سابق، الصفحة 687.
[19] سورة الأعراف، الآية 30.
[20] سورة البقرة، الآية 42.
[21] سورة الأعراف، الآية 118.
[22] سورة الأنفال، الآية 8.
[23] سورة يونس، الآية 32.
[24] حسن مصطفوى، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، تهران، وزارت فرهنگ وارشاد اسلامي، المجلد الثاني، الصفحتان 262 و 263.
[25] مجموعة الكلام في مجمع البحوث، شرح المصطلحات الكلامية، قم، مجمع البحوث الإسلامية، 1415، الصفحة 128.
[26] موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون، مصدر سابق، الصفحتان 688 و 689.
[27] ابن سينا، الشفاء، “الإلهيات”، تحقيق: حسن زاده آملي، تهران، مكتب الإعلام الإسلامي، 1425، الصفحة 62.
[28] الشفاء، “الإلهيات”، مصدر سابق، الصفحة 62.
[29] الشفاء، “الإلهيات”، مصدر سابق، الصفحتان 62 و 63.
[30] المصدر نفسه، الصفحة 65.
[31] جعفر سجادي، قاموس المصطلحات الفلسفيّة عند صدر الدين الشيرازي، بيروت، دار المعارف الحكمية، 2006، الصفحة 195.
[32] العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، إشراف: الشيخ ميرزا عبد الله نوراني، قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، دون تاريخ، الصفحة 4.
[33] نهاية الحكمة، مصدر سابق، المعطيات نفسها.
[34] المصدر نفسه، الصفحتان 4 و5.
[35] المصدر نفسه، الصفحة 5.
[36] العلامة محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، علق عليه: الأستاذ الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، المجلد الأوّل، الصفحة 50.
[37] المصدر نفسه، الصفحة 22.
[38] المصباح اليزدي، شرح نهاية الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 23.
[39] محمد حسين الطباطبائي، أسس الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ترجمة: عمار أبو رغيف، قم، دار أم القرى، الصفحة 58.
المقالات المرتبطة
تاريخ علم الكلام | الدرس السابع | كلام أهل السنّة من القرن الرابع حتّى القرن التاسع: تاريخ الأشاعرة وعقائدهم
سنعمل في هذا الدرس على بيان وتوضيح مسائل تتعلّق بمدرسة الأشاعرة لناحية تأسيسها وأفكارها الكلاميّة.
جدلية الداخل والخارج
ينفرد لبنان بموقع جيوسياسي يجعله في قلب كل نزاع أو تصادم دولي- إقليمي، ويحول دون عزله عن محيطه بصراعاته المتجاذبة، فضلًا عن التهديدات الأمنية والعسكرية العدوانية الإسرائلية والإرهابية، إلى جانب خصوصية نظامه السياسي
الأيديولوجية الصهيونية والديانة اليهودية
كانت المعركة الحقيقية التي خاضتها الصهيونية في العقود الثلاثة الأولى من القرن الميلادي الماضي، هي التغلب على الرفض اليهودي لها، وأن تُقنع القوى الاستعمارية بأنها تبوأت موقع القيادة ليهود العالم.