الهوية المصرية بين الفرعونية والإسلامية/العربية
تقديم
يثار الجدل حول الهوية المصرية، (والهوية بضم الهاء وليس بفتحها، فكلمة الهوية جاءت من فعل هو)، هل هي دولة فرعونية، أو عربية، وما مدى عروبتها، خاصة أن العروبة المصرية لا تحتاج إلى تأكيد، ولكن في الوقت نفسه تحتاج إلى تفنيد بعض الآراء التي اتهمت مصر بفرعونيتها قبل مصريتها وإسلامها وعروبتها؟
ولو عدنا إلى تعريف الهوية، نجد أن الهوية عبارة عن شعب ولغة وجغرافيا وتاريخ، ومن خلالها تظهر الهوية عبر مئات السنين حتى تستقر، لا يشذ شعب عن هذا الأمر.
ومصر الدولة التاريخية، حدّد شعبها هويتها عبر جغرافيا وادي النيل، وتاريخ الحضارات التي استقرت على أرضها، والديانات التي اعتنقها شعبها.
أفكار نادت بعروبة مصر، وأخرى رأت فرعونية مصر مثل أحمد لطفي السيد، وآخرون مثل الدكتور طه حسين رأوا ضرورة أن تندمج الثقافة المصرية مع شمال البحر الأبيض المتوسط، ويقصد أوروبا.
ولكن في النهاية عاد الجميع إلى حضن العروبة، فكان “أحمد لطفي السيد” أستاذًا لجيل من كبار المفكرين، منهم طه حسين نفسه، ومصطفى عبد الرازق، وعلي عبد الرازق، وعبد المتعال الصعديدي، وقبلهم قاسم أمين، وسيزا نبراوي، وفاطمة إسماعيل… إلخ، وعددهم يفوق الحصر، وما يعنينا أن كل من نادى بمصرية مصر أو فرعونية مصر، عاد بحكم الضرورة الشخصية والدينية والعروبية، فكتب طه حسين “على هامش السيرة والفتنة الكبرى”، وكتب محمد حسين هيكل “حياة محمد” وغيرهم وغيرهم كثيرون، بمعنى أن العروبة المصرية تصهر الجميع مسلمين ومسيحيين على السواء.
نلاحظ مثلًا أن أكبر دولتين أثرتا في التاريخ الإسلامي ونقصد بهما (فارس وتركيا) أخذوا الإسلام ولم يأخذوا اللغة، كذلك الدول الكبرى مثل أندونيسيا وباكستان وبنغلاديش ونيجيريا وغانا والكونغو وغيرهم من الدول والشعوب، كلهم أخذوا الإسلام بدون اللغة، والمسلمون غير العرب يشكّلون أكثر من 75% من إجمالي المسلمين في العالم.
وهو دليل على أن اللغة العربية سادت الشمال الأفريقي لأن له جذورًا لغوية سامية، فالفينيقيون الساميون وصلوا من لبنان إلى الغرب الأفريقي في تونس والجزائر الأمازيغية.
هوية مصر وتاريخها
عرفت مصر التوحيد، وعرفت الرسالات السماوية، وليس من قبيل الصدف أن يكون إله الفيضان المصري نوء، وهو تصحيف لاسم نبي الله نوح، وأول البشر هو آتوم، وهو تصحيف آخر لآدم (ع).
ومن خلال التوحيد المبكر، بدأت تتشكل شخصية مصر.
وفي كتابه “شخصية مصر… دراسة في عبقرية المكان” يقرّر الدكتور “جمال حمدان” أستاذ الجغرافيا الراحل، أن المصريين من أكثر الشعوب تجانسًا، وقد وضح الأساس لهذا التجانس في عصر ما قبل التاريخ، ولكنه لم يمنع من كونهم ومن جاورهم من شعوب ينتمون جميعهم إلى سلالة جنسية واحدة.
كما أن التدفقات الخارجية إلى مصر كانت أسيرة الموقع والموضع معًا، وكانت هذه التدفقات بالأساس غزوات لا هجرات، لم تترك تأثيرًا في التكوين العرقي للمصريين، لعزلة هؤلاء الغزاة النسبية عن سائر المصريين.
بداية العروبة… الهجرات السامية إلى مصر
إن الهجرات الحقيقية إلى مصر ثلاث هجرات: الهكسوس وبنو إسرائيل والعرب، وجميعهم رعاة وساميون، والهجرتان الأولى والثانية عاشتا بمعزل عن المصريين إلى أن رحلتا عن البلاد.
أما الهجرة العربية فكانت أول إضافة حقيقية إلى تكوين الشعب المصري وآخرها، منذ أن وضعت قاعدة الأساس في عصور ما قبل التاريخ، وهذه الهجرة العربية أتت إلى مصر على مراحل، بعضها سابق للإسلام، والبعض الآخر والأهم أتى مع الإسلام، خصوصًا في أعقاب الفتح، ثم في الفترتين الفاطمية والأيوبية.
وإن هذه الهجرات العربية لم تغير التركيبة الأساسية للسكان، كما صارت اللغة العربية هي لغة كل المصريين، والرسول محمد (ص) قال: “ليست العربية لكم بأب أو أم، ومن تحدث العربية فهو عربي”، فعروبة مصر وليدة اللسان العربي.
ونرى أيضًا أن العنصر العربي يعود إلى أصل قاعدي واحد مشترك مع العنصر المصري، والأهم بالنسبة لهذه الهجرة، هو ما صاحبها من تغيير في القلب واللسان، أي الدين واللغة، ما أدى إلى انقلاب كبير في تاريخ مصر وشخصيتها منذ نشأة الحضارة الزراعية قبل الفرعونية حتى مقدم الحضارة الغربية الحديثة، وهو انقلاب بالمعنى الحضاري.
الجد فرعوني والأب عربي
وينتهي جمال حمدان إلى أن مصر فرعونية بالجد، عربية بالأب، وكل من الجد والأب من أصل جد أعلى واحد مشترك، غير أن العرب هنا وقد غيروا ثقافة مصر بالدقة والتحديد.
الأب هو الأب الاجتماعي في الدرجة الأولى، وليس الأب البيولوجي إلا في الدرجة الثانية، وعلى هذا الأساس فإن عروبة مصر محسومة بالنسبة لجمال حمدان الذي يعتز بأصولها الفرعونية.
ومع ذلك يؤكد أن أعظم أمجاد مصر الوطنية تحققت في إطار القومية، فتوسع القرن التاسع عشر أكبر من توسع الفراعنة، وأعظم معارك مصر لم تكن معركة تحتمس ورمسيس الثاني، إنما كانت معارك حطين وعين جالوت مع قطز وبيبرس، ثم محمد علي في بداية العصر الحديث.
وهكذا، فإن قدر مصر في الوحدة العربية، وهو قدر يفرضه عليها أمنها، فبعض الأقطار العربية أقرب مسافة إلى مصر، أو أجزاء من مصر، والأخطار التي واجهتها جاءت أساسًا من الشمال والشرق.
إن الشام في ذاته ليس مقرًّا للخطر، لكنه ممر للخطر، ولذا فمن يهدد أمن الشام يهدد تلقائيًّا أمن مصر، بل إن معظم معارك مصر منتصرة أو مهزومة خاضتها على أرض الشام.
التوحيد المصري القديم
نعتقد أن كل الشعوب عرفت التوحيد في المراحل الأولى للتاريخ البشري، فالله أودع في البشر نبتة التوحيد، وأرسل أنبياءًا ورسلًا عندما ترتد البشرية إلى الوثنية، وعادة ما كانت الأقوام ترفض دعوة التوحيد، يصب الله عليهم العذاب ويهلكهم، ثم أقوام ورسل جدد، وهكذا. وحدث أن صار بنو إسرائيل شعبًا كاملًا يدين بالتوحيد، ولكنهم احتكروا المثالية لأنفسهم، وبدلًا من دعوتهم الشعوب إلى التوحيد، صاروا مصدر قلاقل، في مسيرة مشهورة لبني إسرائيل.
ومن ضمن الشعوب التي عرفت التوحيد مبكرًا، الشعب المصري، ولأنه شعب نهري، يلقي الفلاح البذرة ثم ينتظر الحصاد، صار لديه وقت للتفكير في الحياة والموت وما بعد الموت، وخلال مسيرتهم التوحيدية، أشادوا القصور والمعابد، وآمنوا بأن الروح تعود إلى الجسد بعد الموت، ورمزوا لكل ذلك بالميزان المعنوي في الآخرة، غرب نهر النيل حيث تغرب الشمس.
يقول المؤرخ الأمريكي جيمس هنري بريستيد في كتابه “فجر الضمير”: إن المصريين بنوا الأهرامات قبل فجر الضمير أو في مراحل الوثنية الأولى، وعندما عرفوا التوحيد وآمنوا بأن الإنسان بعد الموت لا يحتاج لهرم، كفّ المصريون عن بناء أهرامات جديدة، وسارت مسيرة التوحيد في طريقها، تخللته مراحل وثنية.
ولكن بقيت معرفة التوحيد راسخة عندهم، وعاش نبي الله إدريس في أرضها، وكذلك نبي الله أيوب، وولد فيها موسى، وجاء إليها إبراهيم، وهربت إليها العائلة المقدّسة هربًا من بطش الرومان، وتزوج منهم رسول الله السيدة مارية القبطية…. وكل ذلك رسخ في المصريين العقيدة الإيمانية.
وإلى جانبها عرف المصري القديم التعدد والتنوع، ويمكن ملاحظة ذلك التوحيد في أنشودة الفرعون “إخناتون”، التي ترنّم فيها بــ (آتون)، وهو اسم من أسماء الله، ورمز إليه إخناتون بقرص الشمس، الذي يمد يديه إلى البشر بالدفء والضياء والنماء.
ولقد قارن بعض الباحثين بين أنشودة إخناتون وما جاء بسفر المزامير بالعهد القديم.
وعلى أيه حال نقرأ بعضًا مما جاء في أنشودة إخناتون لنعرف أنه اقترب كثيرًا من الوحدانية الإلهية، وربما كان ذلك هو السبب الرئيس في الانقلاب عليه ومصرعه على يد القائد (حور محب)، ونقرأ بعضًا مما جاء في هذه الأناشيد:
أيها الإله الأوحد الذي لا شبيه له
لقد خلقت الدنيا كما شئت
والطيور التي تطير من أعشاشها
تمد أجنحتها لتمدح قوتك
وتقف الحيوانات على أرجلها
وكل ما يطير أو يحيط
إنهم يعيشون لأنك أشرقت من أجلهم
وتسير السفن نحو الشمال ونحو الجنوب
لأن الطرق كلها مفتوحة عندما تظهر
وتمرق الأسماك في النهر أمامك، لأن أشعتك تتغلغل في المحيط
أنت الذي يعطي النفس ليحفظ حياة كل من يخلقهم
عندما ينزل الطفل من بطن أمه ليتنفس
في اليوم الذي يولد فيه
تفتح فمه، وتمده بكل ما يحتاج إليه
العروبة المصرية
إن دول الأنهار عرفت الخالق، وبنت الحضارة وعرفت الطغيان في وقت واحد، فعندما احتاج الفلاح إلى الماء وعلم أن الحاكم يتحكم فيه، ظهر الطغيان.
ولكن الفرعون لم يكن في كل الأحيان جاهلًا أو شريرًا، بل كان يعرف أرضه وشعبه، وكيف يبني حضارة، بآدابها وثقافتها والتحكم في فيضان النيل، فاستقر المصري بالوادي، لم يهاجر منها، ويأتيها الغرباء هاربين من المجاعات، أو غزاة ما إنْ يستقروا فيها حتى يذوبوا في أرضها.
عرف المصريون التعدد والتسامح، وكانوا خير عون للأديان التي اعتنقوها.
حموا المسيحية وضحوا من أجلها في عصر الشهداء، تمامًا مثلما حموا الإسلام بعد أن صار دين الأغلبية، ولعبت مصر أدوارًا متميزة عبر تاريخها العروبي.
الأصل عند المصري هو الدين، والدين الإسلامي دين عالمي، ولكن به أيضًا العروبة والعرب بما فيهم مصر، وليس الأعراب بطبيعة الأحوال…
المقالات المرتبطة
العلم والتفكير العلمي والإرهاب
ليس ثمة من يجادل في اعتماد حياة البشر على العلم، بل قد لا يجادل أحد في حاجة بلادنا تحديدًا إلى العلم لاجتياز تلك الفجوة التي تزداد اتساعًا بيننا
إلام آل علم الإناسة؟ أو هل من حاجة إلى “طبيعة بشريّة”؟
كان من آثار الاستقطاب الحادّ بين مقولتَي الطبيعة والثقافة أن فقدت الإناسة موضوعها، وبالتالي تماسكها
تعالوا نتعلم كيف نفرح
من الناحية الاجتماعية ثمة شعوبًا وأممًا، لديها القدرة النفسية والعملية لاغتنام فرصة أعيادها ومناسباتها الاجتماعية والوطنية والعائلية للتعبير عن فرحهم