منهجية سيد قطب في قراءة الإسلام

منهجية سيد قطب في قراءة الإسلام

(منهجية الإسلام السياسي)

 شكّل الإسلام السياسي منذ سقوط السلطنة العثمانية، وإلى يومنا هذا، الشغل الشاغل للمهتمين بالواقع السياسي للعالمين العربي والإسلامي. وقد أدّى سقوط الخلافة العثمانية أمام الغرب بما يمثله من قوة ونفوذ، ومن طروحات فكرية ودينية، إلى حالة من الخوف والضياع والاضطراب فتحت الباب أمام الأفكار والطروحات التي تعيد للأمة وجودها السياسي ونفوذها على الساحتين الداخلية والدولية. ونظرًا للتباينات الواسعة دينيًّا واجتماعيًّا بين الأمة الإسلامية التي خسرت رمزية وجود قوي استمر لأكثر من ألف سنة، واستمر عبر ثلاث إمبراطوريات توالت على الإمساك بمقوّمات العالم الإسلامي، وشكّلت تهديدًا لأوروبا وحكوماتها، وهي إمبراطوريات الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وبين الأمم والدول المنتصرة التي شكّل المعتقد المسيحي أساس بنيانها الفكري والثقافي، كان من الطبيعي أن يبحث قسم المسلمين عن مستند المواجهة في تراثهم وثقافتهم، وفي تجربتهم السياسية على مدى ألف عام ونيّف، فيما توجّه قسم آخر إلى البحث عن خشبة الخلاص فيما لدى الأمم المنتصرة في المواجهة، فيمّموا وجوههم شطر الغرب وما قدّمه من نظريات سياسية، وتوجهات ثقافية واجتماعية.

ورغم أن الغرب قد ناصر القوى التي تبنّت طروحاته وكانت قريبة منه، ومستعدة للتعاون معه ولخدمة مصالحه، ورغم أن الشعوب الإسلامية قد وافقت على مضض وقبلت بالتسليم للزعماء الوطنيين المتعاونين مع الغرب، وسلّمت بتفتيت الكيان الإسلامي السياسي الواحد، إلى كيانات صغيرة على أسس جغرافية أو عرقية أو مذهبية عبر تبنّي خرائط سايكس بيكو لتقسيم المنطقة، إلا أنها بقيت تبحث عن الحل، الذي يمكن أن يعيد إليها وحدتها ومجدها وكيانها السياسي الواحد القائم على الأساس العقائدي الديني، ومن هنا خرج العديد من المفكّرين في مختلف أقطار العالم الإسلامي، من تركيا والعالم العربي، ولا سيما مصر ومن شبه القارة الهندية، ومن إيران بدعوتهم لوحدة الأمة على أساس عقيدتها الدينية.

وربما زاد في المخاوف، أن القوى المنتصرة على السلطنة العثمانية والتي كانت قد وعدت المتعاونين معها ضد السلطنة بكيانات سياسية قومية تحفظ وحدتها وقوتها، لم تلتزم بشيء من وعودها، وعملت على تجزئة العالم العربي، مثلًا، إلى كيانات صغيرة، ووضعتها تحت سلطتها المباشرة تحت مسمّى الانتداب.

طُرحت العديد من النظريات لإعادة اللحمة بين الأقطار والشعوب الإسلامية على يد العديد من المفكّرين والمصلحين الاجتماعيين مثل محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ورشيد رضا، ورفاعة الطهطاوي، ويجب أن لا ننسى في هذا المجال محاولات محمد علي باشا والي مصر لتدارك الأخطار التي كانت تحيط بالدولة العثمانية (الإسلامية)، ودعوة ابن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، وبن باديس في المغرب، وحكمت باشا في تركيا، وأسماء كثيرة أخرى مثل أبو الأعلى المودودي في القارة الهندية.

كل هذه الدعوات على تفاوتها واختلافها شكّلت الإرهاصات التي أدّت إلى قيام أكبر حركة من حركات الإسلام السياسي، وهي حركة الإخوان المسلمين على يد الشيخ حسن البنا في العام 1928، وهي منظمة سياسية إسلامية تهدف إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة اليومية، وإعادة الحكم الإسلامي مستندًا إلى آرائه وأطروحاته لفهم الإسلام المعاصر، حيث قال: “إن الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية، ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف”. في ظل انتهاء دولة الخلافة العثمانية، ووقوع معظم البلاد الإسلامية تحت نير الاستعمار البريطاني، والفرنسي، والإيطالي، والغزو الفكري الأوروبي للوطن العربي، أخذ يدعو الناس للعودة إلى الإسلام ونشر مبادئه في مدن وأرياف مصر.

خاض الإخوان المسلمين غمار الدعوة لإعادة ما يسمّى مجد الإسلام، وذلك عبر الربط الكلي بين الإسلام كدين، وبين السلطة السياسية، واعتبروا أنه لا يمكن إقامة الدين ما لم تكن هناك دولة تقوم على أساسه ومعتقداته لتحميه وتعمل على نشره، وقد أدى ذلك إلى وقوع صدامات بين التنظيم والدولة المصرية التي نشأ التنظيم وعمل على أرضها، إذ ما لبث أن نشب الخلاف.

وأصدر النقراشي باشا قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين، وإقفال مكاتبها وفروعها، واعتقال أتباعها، وبعد ذلك تم اغتيال مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنّا.

ويقال: إنه لردود الفعل في أميركا على هذا الاغتيال أثر كبير في تحول قطب من تبني الفكر اليساري إلى الإسلام، حيث لاحظ أثناء وجوده في الولايات المتحدة الأميركية عقب حادثة الاغتيال وجود حالة من الفرح والارتياح لدى المسؤولين ووسائل الإعلان لاغتيال الشيخ البنّا، مما دفعه للاطلاع على فكر البنّا ودعوته لتبنّي هذا الفكر والالتحاق بصفوف الجماعة عند عودته إلى مصر.

لم يكن سيد قطب قبل ذلك متدينًا، أو عالم دين، بل كان أديبًا وكاتبًا، تأثر بعباس العقاد قبل أن يتجه إلى الأدب الإسلامي، ثم أصبح منظّرًا للفكر الحركي الإسلامي.

ويعتبر سيد قطب من أكثر الشخصيات تأثيرًا في الحركات الإسلامية التي وجدت في بداية الخمسينات من القرن الماضي.

دعوى الحاكمية

لم تكن دعوى الحاكمية بالدعوى الجديدة، فقد سبق إليها الخوارج عند رفضهم التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، حيث زعموا أن الإمام علي قد رضي بحكم البشر، فيما الواجب عليه أن لا يقبل إلا بحكم الله عز وجل، ورد عليهم الإمام بمقولته المعروفة: “كلام حق أريد به باطل”؛ أي إن قول الخوارج إن الحكم إلا لله، وهو جزء من آية قرآنية، كلام حق استغل في دعوة باطلة.

وبعد تمكّن بني أمية من استلام السلطة، والحفاظ عليها لفترة طويلة نسبيًّا، استقر الأمر على قيام تزاوج بين الدين والسلطة، فقدّمت السلطة نفسها على أنها حامية للدين وقائمة على إقامة أحكامه وحدوده، وضعت الفقهاء والعلماء تحت وصايتها، ووجدت الاجتهادات الفقهية التي تحرم الخروج على الحاكم، أو التمرّد على سلطانه، ولم يخل الأمر أحيانًا، من صدام بين الفقيه والسلطان، لكن كان الأمر ينتهي دائمًا بانتصار السلطان الذي كان يستعين لتحقيق النصر بعاملين: الأول: فقهاء السلطان المتعاونون معه، والمنتفعون من ولائهم له. والثاني: سيف السلطان الذي كان يحسم النزاع لمصلحته.

وكان هناك نوع من الفقهاء مهمتهم تبرير أعمال السلطة، والذود عنها، والبحث عن السند الشرعي لأعمالها في النصوص الدينية عبر تطويع هذه النصوص إما بالتحريف، أو بالتأويل أو حتى بالوضع. ومن هؤلاء أبو الحسن الماوردي الذي وضع كتاب الأحكام السلطانية، الذي كانت غايته إثبات شرعية السلطة الحاكمة على الدوام حتى آخر حاكم في عصره.

ورغم ما شهدته دول بني أمية وبني العباس من فتن وحركات تمرد، واستيلاء على السلطة من قبل أصحاب البأس والقوة الذين وصل بهم الأمر إلى وضع بعض الحلفاء بتصرفهم وتحت وصايتهم، إلا أن الجميع كانوا يصرّون على الاحتفاظ بالرابط بين الدين والسلطة، ومهما بلغ النفوذ، وسيطرة الوالي الحاكم الفعلي كان يعلن أنه تحت وصاية الخليفة المنصوب في عاصمة الدولة، ويتمثل ذلك بالدعوة للخليفة الذي لم يكن يملك شيئًا من السلطة على منابر الجمعة، وفي المناسبات، وفي خلافة بني عثمان “الدولة العثمانية”، ظلّ الخلفاء متمسكون باكتساب الشرعية الدينية الشكلية، وبالرغم أنهم حماة الدين والمدافعون عنه، إلى أن سقطت دولتهم على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي أعلن انتهاء دولة الخلافة، وقيام الدولة التركية الحديثة على أساس قومي. وبسقوط دولة “بني عثمان” (الخلافة)، وانتصار الغرب في الحرب العالمية الأولى، وتقسيم البلاد التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية إلى دول صغيرة على أسس عرقية وإقليمية، ووضعها تحت الانتداب، شعر العالم الإسلامي بالخوف من فقدان السلطة والسيطرة على البلاد وخصوصًا لدى النخب المثقفة والمتدينة، مما دفعها للتفكير في كيفية تدارك الأمر لاستعادة وحدة الأمة وقوتها ونفوذها.

من هنا انطلقت الحركية الدينية السياسية المعاصرة، والتي هدفت إلى استعادة الكيان السياسي القوي المستند إلى المرجعية الدينية الإسلامية والتي كانت حركة الإخوان المسلمين المعبِّر الأقوى عنها.

كان سيد قطب واحدًا من الذين تأثروا بفكر الإخوان المسلمين وتفاعلوا مع فكرة عودة الإسلام إلى سدة السلطة، وعملوا على تطوير الفكرة عبر طروحات جديدة جعلت من سيد قطب واحدًا من أهم منظّري حركة الإخوان المسلمين وأكثرهم تأثيرًا فيهم، وأوجد فكره تيارًا خاصًّا ضمن الحركة، عُرف بالتيار العنفي الذي يسعى إلى الاستيلاء على السلطة بالقوة.

وقد تأثّر سيد قطب بفكر أبو الأعلى المودودي المفكّر الهندي حول فكرة الحاكمية التي يعتقد أن المودودي قد استفادها من أحد المفكرين الأتراك المسمّى حكمت باشا.

تقوم فكرة الحاكمية على مبدأ أنه لا حكم إلا لله، وأول من قال بها الخوارج الذين تمردوا على علي بن أبي طالب في مسألة التحكيم، ثم حاربوه باعتباره مرتدًا على الإسلام لقبوله بحكم البشر، ولقد توارت الفكرة ردحًا من الزمن، ثم أُعيد طرحها على لسان أبو الأعلى المودودي، وتقضي النظرية أنه لا مجال للإنسان للتقرير ولا للاجتهاد في أي أمر حَكَم الله فيه؛ أي أنزل فيه نصًّا مبينًا، فليس لأحد أن ينازع الله في حكمه، وما سوى ذلك من الأمور فإن لأهل الحل والعقد أن يجتهدوا في سن الأنظمة التي تحقق مصلحة الأمة بالمشورة المتبادلة.

يقول الشيخ يوسف القرضاوي في قضية الحاكمية: “إن فكرة الحاكمية ليست من اختراع سيد قطب ولا المودودي، بل هي فكرة إسلامية أصيلة قررها علماء الأصول واتفق عليها أهل السنة والمعتزلة جميعًا. وهي بهذا المعنى لا تنفي أن يكون للبشر قدرٌ من التشريع أذن به الله لهم. وإنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع الذي يحل ما حرّم الله، أو يحرّم ما أحل الله، أو يسقط ما فرض الله.

أما التشريع فيما لا نص فيه أو في المصالح المرسلة، فهذا من حق المسلمين.

أما الدكتور محمد عمارة: “فيعتبر أن الحاكمية خصيصة مودودية استدعاها من تراث الخوارج القدماء لملابسات هندية خاصة، ويرى أن مقولة الحاكمية في فكر المودودي وفي فكر الخوارج أساسًا هي فكر سياسي إسلامي، أي اجتهادات إسلامية إن ألزمت أصحابها فهي غير ملزمة للآخرين لأنها ليست (دينًا ثابتًا)، فلا هي بالبلاغ القرآني، ولا هي بالبلاغ النبوي، وإنما هي فكر سياسي يقبل منه ويرفض، يؤخذ منه ويرد، وله معارضون كثيرون، ولا علاقة له بالإجماع.

ومع ذلك، فإن فكرة الحاكمية قد فهمت فهمًا سيئًا لدى الكثيرين ممن تبنوها، فاعتبروا أنها تلغي دور الإنسان في التشريع في كافة مجالات الحياة، وحكموا بكفر أو ردة كل من لم يحكم بما أنزل الله (بزعمهم)، حتى في القضايا التفصيلية أو المصلحية، أو الإدارية، أو الإجرائية، باعتباره متجاوزًا حدود الله عز وجل.

وتطابقت منهجية الحركات الإرهابية والتكفيرية إلى حد بعيد، بل إلى حد بلغ أقصى درجات المغالاة عندما اعتبرت أنها تقيم حكم الله في المناطق التي وقعت تحت سيطرتها في عدد من البلدان العربية والإسلامية، وقدّمت أسوأ نموذج تنفيذي لمسألة الحاكمية.

يقول محمد سيد رصاص: “أما سيد قطب أحد الآباء الكبار للفكر الجهادي الإسلامي تبتدئ فكرة الحاكمية لديه في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، الصادر في العام 1939؛ أي بعد ثمانية أعوام من صدور كتاب المودودي “المصطلحات الأربعة”، الذي لم يكن قد صدر بالعربية، ويرجح أن يكون سيد قطب قد قرأه بالإنجليزية في رحلته الأميركية، ويقول سيد قطب في الكتاب المذكور، حسب سيد رصاص: “تقوم نظرية الحكم في الإسلام على أساس شهادة أن لا إله إلا الله، ومتى تقرر الألوهية لله وحده بهذه الشهادة، تقرر بها أن الحاكمية في حياة البشر عن طريق تصريف أمرهم بمشيئة قدرة في جانب، وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم وعلاقاتهم، وارتباطهم بشريعته ومنهجه من جهة أخرى، وفي النظام الإسلامي لا يشارك الله سبحانه وتعالى أحد لا في مشيئته، ولا في منهجه وشريعته… وإلا فهو الشرك والكفر”.

منهجية الإسلام السياسي

تبلورت فكرة الإسلام السياسي، وتطورت منذ سقوط دولة الخلافة “السلطنة العثمانية” لتتحول إلى منهجية في فهم الدين باعتبار أنه لا بدّ من تلازم الدين والسلطة في الإسلام بدعوى أن هناك أحكامًا دينية لا يمكن إقامتها ما لم تكن هناك سلطة تتولى هذا الأمر. وبناءً عليه صار العمل من أجل إقامة هذه السلطة واجبًا دينيًّا، وهذه السلطة تتجسد في دولة، بمعنى آخر، اعتبر دعاة الإسلام السياسي أن إقامة الدولة هو تكليف ديني.

وبالرغم من أن النصوص الثابتة والصريحة من الكتاب والسنّة، تكاد تكون معدومة، فقد عمد هؤلاء إلى تأويل النصوص وشرحها بما يخدم الفكرة الأساسية عند دعاة الإسلام السياسي، وهي اقتران الدين بالدولة (السلطة)، وحمل إقامة الدولة الإسلامية تكليفًا دينيًّا، وأدخلوا تجربة الصدر الأول السياسية، فاعتبروها من صميم الدين.

وفي الوقت عينه، اعتبر آخرون أن فكرة الإسلام السياسي تسيء إلى جوهر الدين وتصرفه إلى غايات ليست في الأساس من غاياته، لذلك أهملها ولم يتطرق إليها مطلقًا، ولم يتخذ منها موقفًا، بل تركها من جملة المصالح المرسلة، وإذا كان هناك من نص ديني، أو قرآني يتعلق بما يسمى الشأن العام، فهو قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾. وفي هذا النص صريح للناس أو للمؤمنين أن نظم أوامرهم عائد إليهم يتشاورون فيه فيما بينهم.

ومن أهم وأشهر من كتب في تفنيد دعاوى الإسلام السياسي القاضي الشيخ علي عبد الرزاق، الذي وضع كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، والذي يهدف منه إلى إثبات أن الإسلام دين روحي لا دخل له بالسياسة، أو بالأحرى لا تشريع له في مجال السياسة؛ فالسياسة أمر دنيوي يعود للناس اختبار وسائله ومبادئه، وهو يرى أن نظام الخلافة الذي نصب للإسلام ليس من الإسلام في شيء، إنما هو من وضع المسلمين، ومما لا شك فيه أن طرح الشيخ الدكتور علي عبد الرزاق قد لاقى رفضًا ومعارضة شديدة في ذلك الوقت من قبل كثير من العلماء وشيوخ الجامع الأزهر، لا سيما وأن الكتاب اعتبر وقتها موجّهًا ضد رغبة الملك فؤاد الأول الذي كان يطمح لإعلان نفسه خليفة للمسلمين بعد إلغاء كمال أتاتورك لنظام الخلافة في تركيا.

ولم يكتف دعاة الإسلام السياسي بطرح النظرية التي تربط الدين بالدولة، بل اعتبروا أن التحرك هو من أجل تحقيق النظرية على أرض الواقع، هو إسٌّ من أسس المنهجية التي ينبغي اعتمادها، وكان ذلك تأسيسًا لفكر الإسلام الحركي، أو الإسلام الجهادي.

لقد طرح سيد قطب نظريته التي تقوم على أساسين متناقضين، وهما الحاكمية والجاهلية. واعتبر أنه ليس هناك منطقة وسىطى بينهما، فالأمة إما أن تخضع للحاكمية، وإما أن تخضع للجاهلية، وتقوم الحاكمية على تبني الشريعة الإسلامية والاحتكام إليها، والتسليم بها تسليمًا مطلقًا، وإلا فهي في جاهلية تحتكم فيها إلى آراء وأحكام الطواغيت، مما يعني سيادة الفساد في الأرض، واعتبر سيد قطب أنه لا بدّ من طليعة مؤمنة تتصدى للقضاء على الجاهلية وإقامة الحاكمية. وبناءً عليه، فقد عمد إلى تأسيس تنظيم سري من ضمن جماعة الإخوان المسلمين يستخدم العنف والقوة لإحداث التغيير المطلوب، عرف بتنظيم 65، وقد بدأت قصة تنظيم سيد قطب في عام 1961 في مستشفى ليمان طره، حيث كان سيد قطب يقضي عقوبة 15 سنة مؤبد في قضية 1954، وبدأ يكتب رسائله حول فكر التكفير، ويقوم بتدريسها للموجودين معه، ومن أوائل من اعتنقوا أفكاره كان مصطفى كامل حسين، ويوسف قفعر، حيث كان الاثنان ينقلان فكره إلى باقي السجناء، وانتشرت أفكاره بسرعة داخل السجن.

وكان سيد قطب يمهّد الطريق لإعادة إحياء نشاط الإخوان وعودة جهازهم السري من داخل السجن، ولكن صدر قرار الإفراج عنه قبل انقضاء مدة العقوبة.

وقد خطط لقلب نظام الحكم وهو في السجن من أجل إقامة دولة إسلامية، ولكن خططه فشلت وتم القبض عليه وتنفيذ حكم الإعدام فيه.

مما لا شك فيه أن هذه الرواية هي رواية جماعة النظام، ويقال إن سيد قطب لم يعترف بشيء من ذلك، وظل يصر على أنه مجرد مفكر إسلامي.

لقد كان سيد قطب من أكثر المفكّرين الإسلاميين المعاصرين تأثيرًا في جماعات الإسلام الحركي. وكان منهجه في فهم الإسلام يقوم على فكرة أن الإسلام يجب أن يكون فاعلًا في إحداث التغيير في المجتمع من نصوص القرآن الكريم، والسنّة ليست ترفًا فكريًّا، وإنما هي أوامر ونواهي، والأوامر والنواهي لا تكون إلا للتنفيذ.

وبما أن المجتمع الإسلامي هو مجتمع الحاكمية المطلقة فيه لله تعالى، فإنه كما غيره من المفكرين المسلمين القائلين بالحاكمية، اعتبروا أنه لا بدّ من سلطة تقيم حكم الله في الأرض باعتبار أن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب بحسب فهم الفقهاء المسلمين، لذلك اعتبر سيد قطب أن إقامة الدولة شرعًا.

ولكن في الحقيقة حتى السياق التي سارت به الدولة منذ عهد الخلافة وإلى آخر السلاطين في دولة بني عثمان تدل على أن موضوع الدولة ليس أمرًا دينيًّا، وإنما هو أمرٌ يعود النظر فيه إلى الهيئة الاجتماعية، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾.

وما أعتقده أن سيد قطب ومن كان على نهجه في موضوع الحاكمية – الدولة، قد غالوا في هذا الأمر حتى اعتبروا أن وجود الدين مرتبط بوجود الدولة، وهذه مغالطة سببها الرغبة بفرض أوامر الدين على المجتمع، مستعينين بسلطة غير قابلة للطعن بها؛ لأن مصدرها إرادة إلهية.

وعليه، فإن أمر الدولة شأن اجتماعي، وليست شأنًا دينيًّا، أي إن المجتمع هو الذي يقرر شكل الدولة وأنظمتها وقوانينها بما يتناسب مع معتقداته وقيمه ومبادئه. وهذا كما نراه لا يتعارض أبدًا مع الإسلام، وإنما ينسجم انسجامًا تامًا مع توجيهات القرآن الكريم، ومع مبدأ مسؤولية الإنسان على عمله في الدنيا، فهو مخيّر بين إطاعة الله والالتزام بأحكام الدين، وبين اختيار خيارات أخرى ليُجزى يوم القيامة وفقًا لخياراته.

وأخيرًا، لعل الفكرة الأهم لدى سيد قطب، كما أشرنا، هي فكرة الوصول إلى السلطة لإقامة النظام السياسي الديني المستند إلى أحكام الإسلام، ومن المؤكد أن هذه الفكرة شكّلت نقطة الارتكاز أو الغاية الأساسية لدى سيد قطب، ومن تبنى فكرة الإسلام السياسي، وقد أثّرت أيما تأثير في تحديد المنهج الذي اعتمدوه وهو منهج غائي، أي إنه يضع القراءة والتفسير في خدمة الغاية المنشودة التي تمثّل خلفية موجودة في الذهن، لذلك كان همُّ هؤلاء توظيف النص الديني لإثبات نظريتهم، فهي إذن قراءة قائمة على خلفية مسبقة، ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج سليمة أو مجردة.

ولعل ما دفع سيد قطب إلى الاستعانة بالنص والموروث الديني لتعزيز الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية، هو:

 أولًا: عدم ثقته بتوجّه الهيئة الاجتماعية التي عبثت فيها الدعوات العلمانية والإلحادثة، وأثّرت فيها اتجاهات الانحراف الفكري والسلوكي التغريبية.

وثانيًا: بقناعته بقوة تأثير العقيدة الإسلامية في تحريك مشاعر وتحفيز الإرادات للعمل من أجل استعادة مجد الأمة (الدولة)، التي تحكم بما أنزل الله (الإسلام)، والتي تتم بواسطتها مواجهة المخاطر التي أحدقت بالأمة، ومزّقت صفها، وفرّقت شعوبها على أسس عرقية وجغرافية ومذهبية.

وفي اعتقادي، أن المسألة كانت وما زالت تحتاج إلى معالجة مختلفة تعيد الإسلام إلى الحياة الاجتماعية عبر منهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس عبر السلطة الحاكمة التي تستخدم القوة والإكراه لدفع الناس إلى تبني الإسلام.

فالسلطة السياسية ينتهجها المجتمع، وليست هي التي تنتهجه.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
نظرياتالسلطةالدينالإسلامالخوارجالحاكميّة

المقالات المرتبطة

الأبعاد الإنسانية للخلاص الإنساني أصل المسؤولية وحدودها ونطاقها

إن فكرة الخلاص هي فكرة إنسانية بمنحة إلهية، فالله سبحانه وتعالى جعل الخلاص الإنساني في شخص المخلص، والمخلص هو المصلح الإنساني، وبالتالي فإن فكرة المخلص فكرة إنسانية يستفيد منها الإنسان بعد معاناته على الأرض من قوى الظلم والظلام والاستبداد والاستكبار.

موضوع الفلسفة وتعريفها (2)

موضوع الفلسفة: يقول الشهرستاني: “الفلسفة باليونانية محبة الحكمة، والفيلسوف هو فيلاوسوفا. وفيلا philo هو المحب، وسوفيا sophia الحكمة

تاريخ علم الكلام | الدرس السابع | كلام أهل السنّة من القرن الرابع حتّى القرن التاسع: تاريخ الأشاعرة وعقائدهم

سنعمل في هذا الدرس على بيان وتوضيح مسائل تتعلّق بمدرسة الأشاعرة لناحية تأسيسها وأفكارها الكلاميّة.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<