وجهة نظر طبقة العمال بين الأيديولوجيا والنوستالجيا
مقدمة
لا شك أن إقامة عيد للاحتفاء بالعمال باعتبارهم فئة كادحة من أبناء الشعب يقعون في أدنى درجات السلم الاجتماعي تحقيقًا للدخل المادي، ويتحمّلون الجهد والتعب الجسدي والنفسي لتحصيل لقمة العيش والمحرومون من أبسط الحقوق الإنسانية خاصة في الظروف الراهنة التي تمر بها بلادنا والعالم، هو موقف نبيل يعرب به المجتمع عن تضامنه وتكاتفه وعرفانه بالجميل اتجاه شريحة نبيلة من أبنائه المستضعفين،كما أن الاحتفاء بالعمل باعتباره مصدرًا للقيمة المادية والمعنوية لهو أمر في غاية الأهمية حين يصبح الفساد والهدر وعدم الإنتاجية والبحث عن الربح السريع والمغنم غير المبرر نموذجًا يحتذى به في كل مجالات العمل المؤسسي وكذلك المجتمعي، وبعد أن تفشت في مجتمعات العالم قيم المجتمعات الرأسمالية التي تقيم الناس على قدر محافظهم، ورغم الطابع الفولكلوري الرتيب الذي يطبع هذا الاحتفاء ورغم النفاق الذي يسم الخطب التي تدبج لتلقى من على منابره رفعًا للعتب الطبقي الذي ينتسب إلى “نوستالجيا” القرن الماضي والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا تحقق للعمّال مطلبًا محقًّا، ولا ترد عن عامل غائلة فقر وعوز، ورغم ذلك قد يدفعنا هذا الاحتفاء دون شك للتساؤل والمطالبة بضرورة الاحتفاء والاهتمام بفئات أخرى من أبناء شعوبنا مثل الفلاحين والطلاب والمهمّشين والعاطلين عن العمل وخاصة منهم أرباب الأسر، أو حملة الشهادات الذين لم يستوعبهم سوق العمل وضرورة إدماجهم وغيرهم من الذين يعانون من ظروف قد تكون مشابهة أو أسوأ في هذا الاحتفاء، لكن هذا الاحتفاء السنوي يأخذنا بالطبع إلى ذكريات النضال العمالي العالمي وما رافقه من تضحيات أعطت للعمال رمزية نضالية عالمية متميزة عن الفئات الأخرى المستضعفة، وذلك بسبب الخصائص التي حظي بها العمال في البلدان الصناعية عنوة عن غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى والتي طبعت حركتهم والمنسوبة إلى مواصفات بنيوية خاصة بهذه الفئة الاجتماعية لم يكن بالإمكان توفرها في أية فئة اجتماعية أخرى قبل نشوء المجتمعات الرأسمالية بمصانعها الكبيرة التي تحوي جيوشًا من الرجال والنساء العاملين بكد وانتظام، والمنفصلين بشكل قاطع عن جذورهم الاجتماعية الريفية، الأمر الذي حفّز الآباء الأوائل للفكر الطبقي على دراسة واكتشاف تقنية تحقيق الاستغلال وعلاقتها بمفهوم الجهد والحركة وتقدير الزمن اللازم للإنتاج، وبالتالي ما يتطلبه الأمر من نظام ودقة منعًا للهدر، الأمر الذي أدّى إلى اكتشاف وجود كائن اجتماعي يحمل سمتان أساسيتان متلازمتان: الأولى أنه لا يملك في سبيل العيش إلا قوة عمله، ولا يحظى بغيرها ملكية يبيعها بسعر يساوي فقط ما يكفي لاستدامتها (أي عدم موتها)، وهو ما يسمح بتحقيق فائض القيمة التي يسرقها منه الرأسمالي، والثانية أنه كائن منظم لا يستطيع كسب قوته إلا بالتزامه بشروط الوقت والجهد والإنتاجية، لذلك فهو صاحب مصلحة بإلغاء الملكية الفردية التي اعتبروها مصدر الشرور المطلق خلال التاريخ الإنساني، وبالتالي الافتراض بأن الغاءها سيؤدي إلى إقامة مجتمع الإنسانية العادل، وأن هذه العملية التاريخية مرتبطة بشكل مطلق بوجود هذه الطبقة وقيامها بدورها التاريخي، وهو ما يدفعنا إلى الاستطراد في ما يحمله عيد العمال من استبطان أيديولوجي لمفهوم تغييري للعالم يتمحور حول الطبقة العاملة باعتبارها صاحبة فكر سمي باسمها “فكر الطبقة العاملة” قائدة المسار التغييري للحتمية التاريخية المفضية إلى نهاية التاريخ الطبقي للعالم حسب المنظومات الفكرية التي سادت في المرحلة القريبة الماضية، ولا زالت تعتبر رغم ما اعتراها من قدم وجمود وأدلجة من أهم ما أنتجه الفكر الغربي بامتداداته المتشعبة في محاولة تفسير الرأسمالية.
ما لها وما عليها
واذا أخذنا بعين الاعتبار الانتشار الواسع لما سمي بفكر الطبقة العاملة وامتداده على المستوى العالمي، فلم يبق بلد لم يتشكل فيه حزب أو أكثر يدعي وصلًا بليلى، وتم إقامة أنظمة في الكثير من البلدان استلهمت هذا الفكر كليًّا أو جزئيًّا، وقامت حركات من الطراز نفسه نافست على الحكم في معظم بلدان الأرض، لذلك يمكن اعتباره من أهم الاتجاهات الفكرية التي سادت بين المعارضة العالمية في عصور الاستعباد الرأسمالي الغربي لشعوبه، وقد قدم هذا الفكر خدمات كبيرة في مساعدة هذه الشعوب على تصور فهم ما للعالم ولطبيعة الصراعات القائمة في داخله (وإن كان يعتبر فهمًا مشوهًا أو غير مكتمل)، وكذلك في إيجاد الأدوات لمواجهة الطغيان والاستكبار والفرعونية الحاكمة له. وقد تكون قد شهدت نجاحًا في مفاصل هامة، وفشلت في معارك فاصلة أخرى كبيرة أودت بها إلى السقوط لكنها كانت مرحلة من الصعب رؤية العالم الذي عشنا فيه من دونها، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين السياسيين الصينيين: إن الإدارة الشيوعية للصين كانت سيئة جدًّا وأدّت إلى حدوث كوارث في بعض المجالات لكن من دونها هل كان بإمكاننا أن نرى الصين اليوم عملاقًا عالميًّا؟ فأهم ما فعلته أفكار الطبقة العاملة على طريقة ماوتسي تونغ ليس تصعيدها للصراع الطبقي، بل هو أنها وحّدت الصين، وبنت فيها دولة مركزية منعت القوى الاستعمارية العالمية من السيطرة عليها أو التدخل في شؤونها، كذلك فالأمر نفسه ينسحب على البلدان الأخرى، فهل كان يمكن أن نرى روسيا كما هي عليه اليوم لولا ثورة أكتوبر عام 1917؟ هل كان بإمكان النظام القيصري مهما أحدث فيه من ترميم من مواجهة الشهية المفتوحة لبلدان غرب أوروبا الفتية الساعية في ذلك الحين للسيطرة على العالم؟ وهل كان يمكن ردع وتحطيم جموح النازية الموتور ليس في ألمانيا فقط، بل في أوروبا كلها لولا صمود الشعب الروسي بقيادة الحزب الشيوعي بزعامة ستالين وقدرته على تعبئة عشرات الملايين من أبناء الشعب لخوض هذا الصراع الشرس وتقديم أكثر من عشرين مليون شهيد في معتركه؟ أو هل كان بإمكان العالم كبح جماح الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت بكامل قوتها بعد الحرب العالمية الثانية مسلحة بالقنبلة النووية لولا قواعد اشتباك الحرب الباردة؟ كذلك لا يمكن تناسي أثر وجود هذا الفكر حيث قامت أنظمة أو عملت حركات مقاومة للرأسمالية وللإمبريالية الغربية الساعية لاستعباد العالم وإبادة ما يمكن إبادته من أهله، وسرقة ما يمكن سرقته من ثرواته وتبديدها دون وازع وبشكل عبثي يشي بدفع البشرية إلى الفناء، وكذلك السيطرة المادية والفكرية على ما يمكن السيطرة عليه واستعباده من أبنائه ودفعهم بشكل إكراهي أو إرادي لخدمتها، يعني ما يسعى إليه أصحاب هذا المنهج في دراسة الأفكار هو إنصاف هذا الفكر (بعد كل ما تعرض له من ضربات) من خلال محاكمته ضمن سياق تاريخي واقعي غير أيديولوجي نظري لرؤية ما حققه في الواقع كآلية من آليات الصراع لا باعتباره بديلًا عقائديًّا يصلح لبناء نظام جديد للبشرية.
في المقابل يؤخذ على هذا الفكر المسمّى بفكر الطبقة العاملة أنه لم يعد هناك من علاقة تربطه عضويًّا بالطبقة العاملة إلا الاسم، فقد استعيض عن الطبقة بفكرها المفترض لأن وجودها الفعلي في أوروبا الغربية قد تمت رشوته من نتاج الغنائم القادمة من المستعمرات والتفت الشعوب الأوروبية بما فيها طبقاتها العاملة حول السلطات الحاكمة فيها، وشكّلت جيوشها الغازية في سعيها للسيطرة على العالم، بل يمكن اعتبار أن الطبقة العاملة التي عرفت في بدايات عصر الثورة الصناعية قد تم تصفيتها عبر سيادة مفهوم دولة الرفاه التي تم تطبيقها في معظم الغرب، فانتفت إمكانية الثورة بالرغم من تأكيد الآباء المؤسسين أن هذا الغرب الرأسمالي هو الموقع الطبيعي لنشوئها حسب السيرورة المفترضة للبناء النظري للمادية التاريخية، وقامت أول ثورة تنتمي إلى الطبقة العاملة في روسيا القيصرية في أوكتوبر 1917 بجيش من الفلاحين حيث كانت روسيا تحوي مئة مليون فلاح مقابل أربعة ملايين من العمال حديثي العهد فقط، فاعتبر بعض الباحثين أن الثورة البلشفية التي يتم نسبتها إلى الطبقة العاملة قد أثبتت عكس الفكر الذي أنتجها.
من جهة أخرى فقد أثبتت التجربة العملية أن هذه الطبقة العمالية بضفتها الغربية المرتشية والتي فقدت قدرتها على التعرف إلى مصالحها بسبب القمع أو الهيمنة الأيديولوجية، أو بضفتها العالم ثالثية غير المستكملة لشروط تشكلها الطبقي بسبب امتناع التاريخ عن التطور باتجاه الرأسمالية، فقد صار لزامًا عليها في سبيل تحقيق السيرورة المادية التاريخية استجلاب قطع غيار من طبقات أخرى للعب دور التلقيح الفكري عبر إنتاج المفكر الملهم القادر على إنتاج فكر مناسب لهذه الطبقة العاملة في المكان والزمان المحددين، وكذلك المحفّز والمحرض وعنصر إيصال الوعي الطبقي إلى العمال، وحتى تتم هذه العملية فقد تم إنتاج مصطلح “المثقف الثوري”، ثم “المثقف الثوري العضوي” ولتفسير كيف يمكن أن يقوم أعضاء من طبقة مصنفة حسب المعايير الطبقية بأنها بورجوازية صغيرة متذبذبة وغير جذرية (تم استعارة هذا المصطلح لوصف البورجوازية الصغيرة في الترجمة العربية من المصطلح القرآني الذي يصف المنافقين في سورة النساء) بخدمة نضال طبقة أخرى جذرية وحاسمة وليس لديها ما تخسره، فقد كان لا بدّ من إنتاج مفهوم “الخيانة الطبقية”، ولفهم كيف يتم تحويل هذا المثقف الثوري إلى مثقف عضوي وكيف يقوم بواجبه العملي داخل صفوف الطبقة العاملة (الأمر الذي كان مقتصرًا في القرن التاسع عشر على التفكير والكتابة والتنظير)، فقد تم استعارة مصطلح البراكسس من الفلسفة اليونانية لشرح العملية المعقدة بين الفكر والممارسة العابرة للطبقات، رغم كل ذلك بقيت قضية العلاقة بين المثقف الثوري والطبقة العاملة علاقة مبهمة، ويروي أحد المشاركين في العمل السياسي اليساري اللبناني في بداية سبعينيات القرن الماضي أن مجموعة من الطلاب الثانويين والجامعيين قرروا حل هذا الإشكال الفكري المعقد بترك مقاعد الدراسة والانتقال للعمل في بعض المصانع القائمة في ضواحي العاصمة لمحاولة الانخراط فعليًّا في صفوف الطبقة العاملة.
ولأجل تأمين الأدوات اللازمة للفكر الموسوم بفكر الطبقة العاملة لخوض الصراع واستلام السلطة السياسية (التي كان من المفترض أن تكون عملية ولادة تاريخية طبيعية) باتت أمام التغيرات التي رافقت العملية المعقدة برمتها وظروف القمع من جانب السلطات القائمة بحاجة إلى تشكيل أداة ثورية مناسبة لإدارة هذا الصراع فتم التنظير لتشكيل حزب الطبقة العاملة (الأمير الحديث)، وإن لم يكن بين من ينتسب إليه عامل واحد ويعتمد هذا الحزب على نظرية المركزية الديمقراطية كأسلوب تنظيمي لإدارته وينتقل من العلنية إلى السرية ومن النضال السلمي إلى ممارسة العنف الثوري، ومن الحراك المطلبي إلى التغيير السياسي حسب ظروف المزاج السياسي السائد وموازين القوى القائمة.
لأن هذا الفكر ينتمي بالأصل إلى أحد تفرعات الفلسفات المادية الغربية والتي تتموضع خارج عالم الإله والأديان والغيب وأسراره الوجودية وعلاقته بنظرة الإنسان لنفسه وللخلق، ومن ثم علاقته بالخالق وبحثه عن الخلاص الروحي بالدرجة الأولى، وحيث تنطبع كل تفاصيل حياته وعلاقاته ومنظومة قيمه وأبنيته الاجتماعية بعملية الخلاص هذه، فإن هذه الطبقة العاملة الافتراضية وجدت نفسها في تناقض مباشر ليس مع الطبقات التي تناهضها المصلحة المادية الطبقية الممثلة بالطبقة الرأسمالية أو البرجوازية، بل مع البنى الفكرية للطبقة المستهدفة في عملية التثوير أي مع الدين والعادات والتقاليد والقيم الاجتماعية السائدة، ولتبرير ذلك فقد تم إعطاء كل هذا البناء الفكري والقيمي القائم طابعًا طبقيًّا، فصار ينسب أيديولوجيًّا إلى البرجوازية، وصار الالتزام بفكر الطبقة العاملة يعني التفلت الثقافي والانحلال الاجتماعي والدعوة إلى نبذ الأديان وتحرر المرأة والانفلات من الارتباطات العائلية والقبلية واعتبارها قيمًا، وارتباطات رجعية وغير ذلك من سقطات، وبذلك فإن فكر الطبقة العاملة وجد صعوبة في اختراق كثير من الأوساط الاجتماعية ذات البنى الفكرية المتماسكة، وبقي محصورًا ضمن إطار بعض المثقفين المدينيين من ذوي الثقافة الغربية الذين ما انفكوا أن عاد (كثير منهم) إلى مواقعهم القديمة بعد أن انفض عقد النضال وسيادة الفكر الليبرالي العالم بقوة ماكينات الولايات المتحدة الخشنة والناعمة، ولم يستطع أن يتبوأ موقعًا جماهيريًّا واسعًا إلا حين تصديه لخوض معترك الصراع السياسي والوطني، وبالتالي تحول الاستقطاب إلى استقطاب سياسي وطني وليس استقطابًا طبقيًّا الأمر الذي شهدناه في بعض ساحات الصراع وعلى سبيل المثال في النموذج الصيني وفي بلدان جنوب شرق آسيا الأخرى.
في الغرب حيث أعلن بعض مثقفيه عن موت الإله، وتم بناء منظومات فكرية مادية ورموز ذات دلالات محورية مثل السوق والمصنع والاستهلاك واللذة والإنسان والجسد ليتم الاستعاضة بها عن المنظومات الفكرية الدينية ورموزها ودلالاتها، (وإذا كان لا بدّ من بقاء بعضها فيتم استجلابه إلى حقل الدلالات الجديد وتوظيفه في خدمته)، وإذا كان يفترض أهل الفكر المادي أن المجتمعات الغربية قد تم فيها تعميم الطابع التعاقدي للعلاقات الإنسانية، وتم تسليع الناس الذين دخلوا في غربة عميقة بين ذواتهم وحياتهم المادية، وتمت السيطرة عليهم وإحاطتهم بالمؤثرات الأيديولوجية المناسبة من كل ناح، وكان من الممكن افتراض القدرة على نشر وتعميم هذا النوع من الأفكار المادية بسبب انتسابها حسب السلالات الفكرية إلى الشجرة الفكرية القائمة، فإنه قد كانت ولا زالت طبيعة الأفكار والثقافات في الأجزاء الأخرى من العالم تنتمي إلى عالم آخر، وكانت العلاقات الإنسانية لما تزل ذات طابع تراحمي يفترض فيها الإنسان التأثير الفعلي لسلوكه وتعاملاته على خلاصه الروحي، ويعيش دفء السلوك السوي القائم على الإحساس بالرقابة العلوية، وحيث لم يكن قد حدث انقطاع بين الفئات الاجتماعية المختلفة من أغنياء وفقراء كما حصل في المجتمعات الغربية بسبب أنظمة التراحم التي تطبع علاقة مختلف الأوساط، وبسبب وجود المؤسسات الاجتماعية الوسيطة، (العائلة الصغرى والعائلة الكبرى، القبيلة، القرية، الحي، الطائفة، الطريقة)؛ ذلك أن الانفصال الطبقي الذي نشهد بعض صوره في مجتمعاتنا حاليًّا لم يتم لأسباب متعلقة بالتفاوت بامتلاك الثروة، بل لأسباب ثقافية تُمثّل أحد نماذج تَمثُّل الذات المتخيلة في النموذج الغربي (المشاهد عبر مستحضرات الثقافة الغربية كهوليود مثلًا)*، فلم تستطع هذه الأفكار إحداث تغيرات حقيقية في البنى الفكرية لأوساط جماهيرية واسعة، واستقطاب قوى عقائدية معتبرة رغم النية الحسنة والتضحيات الكبيرة التي بذلها كثير من المناضلين والتي يجب أن تكون موضع تقدير واحترام حين تصب في الاتجاه السليم. وقد منعتها غربيتها وغرابتها الثقافية من الاستفادة من المدخرات الثورية المتأصلة في ثقافة المجتمعات خاصة حيث يوجد ثقافة إسلامية ليس من السهل اختراقها، وإن تم فإنه يظل سطحيًّا وعرضة للانقلاب والنكوص، لذلك ساد الكثير من الأوساط اليسارية الكلام عن الاستعصاء الثوري وعدم القدرة على استكمال المشروع التاريخي، فسرت في أوساطهم رياح اليأس والعبثية، وذهب كثير من مثقفيهم إلى أسواق الارتزاق تحت شتى الأعذار، ويذكر بعض كتاب المذكرات أن الشيوعيين الأوائل حاولوا عدم القطع المبكر مع الفكر الديني السائد، ويتباهى أصحاب الاتجاه الصيني أن ماوتسي تونغ أعطى للجيش الأحمر توجيهات دقيقة في الحفاظ على حرمات المساجد واحترام رجال الدين، وعدم رفع الكلفة مع النساء في المناطق الإسلامية، الأمر الذي أدّى إلى انضمام الكثير من المسلمين إلى صفوف الجيش الأحمر أثناء المسيرة الكبرى،كما يتباهى السودانيون منهم بأنهم كانوا من رواد المساجد وحلقات الذكر،كما يروي أحد المؤرخين اللبنانيين أن أول اجتماع لخلية شيوعية في قرية عيناتا في منطقة بنت جبيل الجنوبية اللبنانية قد افتتح بمجلس عزاء حسيني طلبًا للبركة، ويلفت بعض المتابعين كذلك إلى أن الفكر قد استطاع الوصول إلى تبنيه من قبل أبناء بعض كبار رجال الدين، وأنه استطاع أن يجد صدى له في أفكار رجال دين آخرين، لكن كل ذلك لم يجعل من هذا الفكر قادرًا على الانسياب والتجذر والتوطن والاستقرار.
استقرت سياسات الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية على احترام حدود الخنادق وقواعد الاشتباك الخاصة بتلك المرحلة، فانضبطت أحزاب الطبقة العاملة العالمية ضمن البرامج المعدة من قبل الإدارة الأممية بشكل حول أحزاب الطبقة العاملة في العالم إلى أدوات قتالية في ترسانة الحرب الباردة التي كانت استراتيجيتها ترتكز على التعايش السلمي والتغيير الديمقراطي والنضال المطلبي السلمي، لذلك فقد استقر فكر الطبقة العاملة في بلادنا على الاعتراف بكل منتجات المرحلة الاستعمارية من تقسيم وتجزئة واحتلال لبعض أجزائه العزيزة، وإقامة الكيان الصهيوني باعتباره أمرًا واقعًا، وقامت كل محاولات العمل النضالي من داخل البيت الكياني، الذي أرساه الاستعمار ولم يجرؤ على تخطيه عبر طرح مشروع للأمة، أو بوضع موضوع تحرير فلسطين أولوية نضالية.
كما ويؤخذ على أصحاب هذه المنظومة الفكرية وبسبب التمركز على موضوعة الصراع الطبقي سعيها الدائم إلى فتح وتضخيم الصراعات الاجتماعية الداخلية، فقد نتج عن ذلك أن فقدت الشعوب قدرتها على الوحدة والتلاحم أمام التحديات الكبرى، فانتابتها حمى الصراعات الداخلية والاتهامات المتبادلة بين مختلف القوى بخيانة الخط الوهمي لهذه الطبقة العاملة غير المنظورة، مما أدى إلى حدوث صراعات دموية واغتيالات وتصفيات وإفشال مشاريع وتسرب فئات هامة من أبناء الشعب ورؤوس أموال وخبرات إلى الخارج كان يمكن الاستفادة منها لولا رهاب الصراع الطبقي، والخوف من المصادرة والتأميم والاعتقال، ولو أردنا سرد حكايات تلك المرحلة لن ننتهي لما فيها من غرابة وسذاجة وطرافة، لكنها شكّلت مأساة بالنسبة للشعوب، وهدرت إمكانيات وأبعدت طاقات وأجهضت فرصًا كان يمكن أن تشكل عناصر في صمود هذه البلدان وتعظيم مقاومتها.
كما يؤخذ على هذا المنهج صنميته الفكرية بالتعامل مع فهمه لقضايا التنمية الداخلية واختياره المتواصل تقليد النموذج المعتمد حسب الترتيب المنصوص عليه في الكتب الإرشادية؛ يعني السعي لتطوير الصناعة ليس من أجل التحول إلى بلد صناعي، بل من أجل إنتاج الطبقة العاملة المقدسة أداة المادية التاريخية التي بإمكانها أن تحمل المشروع الثوري لتغيير العالم، يعني عمليًّا وعلى سبيل المثال الواقعي فقد تم أخذ الفلاحين في أكثر من بلد أفريقي الذين يعيشون على الزراعة المنتجة وتربية الدواجن (بسبب توفر كل عناصرها الضرورية من تربة غنية وماء وحرارة)، واستجرارهم إلى تجمعات الصفيح في ضواحي المدن وبناء مصانع لهم لتحويلهم إلى عمال من الطراز الطبقي المنصوص عليه، فخسرت البلاد مواردها الزراعية ولم تحدث الطفرة الصناعية المرجوة، وبددت الطاقات المادية عبر تحول الماكينات الصناعية إلى خردة نتيجة سوء الاستعمال من قبل عمال غير مهرة والذين تحولوا بدورهم إلى كم مهمل يعيش في ضواحي المدن بأكثريته عاطلًا عن العمل، وما يرافق ذلك من تشوهات اجتماعية، ولقد أدت هذه الصنمية الفكرية إلى كوارث في إدارة الصراع لاعتبارها أن كل من لا يوافق على برنامجها الاقتصادي بما يحمله من نظام منافع فئوية يعتبر منحرفًا عن خط الطبقة العاملة فأفسحت في المجال أمام تطور الصراعات الداخلية بشكل غير مسبوق.
لقد أدّى تطور النضالات المطلبية في القطاعات العمالية إلى الحد من تطور الاستثمار الصناعي حيث يصبح مستوى المغامرة أكبر، وتصبح تكاليف الإنتاج عرضة للتغير وعدم الاستقرار فيجعلها أضعف أمام منافسة البضائع الأجنبية الأمر الذي برر دعم بعض منظمات المجتمع المدني الممولة من بعض الدول الصناعية في أوروبا لهذه التحركات، خاصة في البلدان حيث المصانع الكبرى ذات الملكية العامة مثل الجمهورية العربية المتحدة خلال حكم الرئيس عبد الناصر، وبالرغم من التحالف بين نظام عبد الناصر والنظام البروليتاري في الاتحاد السوفياتي، وبالرغم أيضًا من تنظير اليسار آنذاك لموضوعة التحالف مع الرأسمالية الوطنية لكن نزعة الصراع الطبقي التي عززها المثقفون اليساريون الذين تربوا في مدرسة اليسار الجديد الفرنسي كانت أشد وقعًا، وقد عبر أحمد فؤاد نجم الشاعر اليساري المصري المعروف قائلًا بسخرية من موضوعة الرأسمال الوطني: “مكن شغل كايرو… ما يتعبش دايرو”.
في خضم الغرق في الصراعات والتناحرات الطبقية الصغيرة لم يستطع الأعم الأغلب من الذين ينتسبون إلى هذا الفكر (إلا من رحم ربي) من فهم ظاهرة “الهيمنة” الأميركية باعتبارها أرقى أشكال الاستكبار العالمي، وأن هناك هوة كبيرة قد فصلت بين طرفي العالم، وأن لا مصلحة للطرف المتقدم بتشييد جسر يمكن استخدامه من قبل الشعوب للتقدم، بل من شروط بقائه سيدًا على العالم أن يبقى الجميع في دوامة التخلف، ولم يلحظوا أن تمركز القوة ورأس المال جعل من المنظمات الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة، ومن أسواق وتحالفات تجارية ومالية عالمية وإقليمية أدوات لنظام الهيمنة. هذا وأن نظام الاستغلال الحقيقي هو نظام عالمي قائم على نهب الغرب لبلدان العالم قاطبة، وأن أي عملية تغيير حقيقية لا يمكن أن تتم عبر تصعيد الصراع مع القوى المحلية للهيمنة فقط، بل لا بدّ من أن يأخذ هذا الصراع طابع المواجهة مع المهيمن العالمي الذي يستفيد من النظام القائم ويوظف حكامه في أدوار وظيفية محددة، وهو لن يسمح بالتغيير إلا إذا كان المقصود منه تغيير واستبدال الأدوات لا تغيير المناهج والسياسات، وبالتالي فإن أي حركة تغيير حقيقية لن تمضي دون قطع فعلي مع نظام الهيمنة وصدام مع منظومته الأمنية وقواعده العسكرية المنتشرة على امتداد الكوكب.
خاتمة
أخيرًا وليس آخرًا هناك من يعتبر أن “فكر الطبقة العاملة” قد أدى قسطه للعلى، وأن شعوب العالم الناهض قد تخطت هذا الفكر وطرحته وراءها وأن أمامها خيارات أخرى أكثر أصالة في نفوس البشر وأكثر قدرة على التعبير عن هموم الإنسان وشجونه، وتفتح آفاقًا أوسع للإنسانية في فهمها لنفسها وللوجود وللصراعات العالمية وكيفية تخليص هذا العالم من نير الاستعباد والعنصرية والهيمنة الغربية التي تهدده بالفناء البيولوجي والنووي الأمر الذي بدأ يبرز من خلال نهوض بلدان الشرق في جزئه الإسلامي النهضوي المقاوم الذي أخذ على عاتقه مهمة بناء عناصر القوة وتحرير بلاده من الوجود العسكري المباشر للغرب، كما من تأثير هيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية عليها، أو في جزئه الآخر الذي بدأ يستعيد منظومات دينية وحضارية أخرى طبعت تاريخه السابق ويعمل على إعادة تأهيلها واستلهام عناصرها الإيجابية ليستطيع مقاومة فكر ما بعد الحداثة التفكيكي العدمي وغير المنسجم مع ناموس البقاء الإنساني في محاولة لصناعة مستقبل بلدانهم التي لا يمكن فصلها عن صناعة مستقبل البشرية خارج تأثير سياسات الهيمنة، الأمر الذي يبشر بفتوحات في التجربة الإنسانية النابضة بالخير، وهناك أيضًا من الجهة الأخرى من يعتبر أنه لا زال بإمكان هذا الفكر أن يلعب أدوارًا أخرى في صنع التغيير في العالم، وبالإمكان إعادة انتشال هذه الظاهرة الفكرية من السقوط التي تسبب بها انهيار الاتحاد السوفياتي عبر إعادة أنسنتها وتثويرها وإدماجها ضمن منظومات دينية أو هوياتية مثل لاهوت التحرير، الذي انتشر في أميركا الجنوبية كتوليفة يسارية مسيحية رغم ما يبدو على هذه المهمة من صعوبة بالغة، ولم تستطع حتى الآن إنتاج نموذج ناضج وواضح الدلالة على هويته الفكرية أو العملية، أو عبر إنتاج منظومة فكرية تساعد على إخراج أوروبا من آتون الهيمنة الأميركية التي تتسبب بانهيارها وتراجعها، وتحولها إلى أحجار شطرنج في صراعها مع الشرق كما يعبر الاستراتيجيون الأميركيون، أو في أضعف الإيمان يمكن بقاء هذه المنظومات الفكرية عبر تسرب مقولاتها وأنماط تفكيرها وتحليلها إلى منظومات أخرى عن طريق الاستعارة والبدل على ما في ذلك من صعوبة وعسر، وهذا الأمر متروك الحكم فيه للمستقبل. ولكننا من المؤكد سنبقى نحتفي بالعمال وبقيمة العمل وسنمضي في خط توحيد مجتمعاتنا بكل فئاتها الاجتماعية المخلصة لإنجاز مهام صناعة أوطان حرة قوية وعادلة لا يعاني أي من فئاتها من القهر والغربة والاستضعاف.
* في حدث معبّر قام مجموعة من الشباب اليساريين بهجوم على باص محمل بالمنتجات المصنعة في أحد المصانع المحلية أثناء تواجده في حي شعبي، فوزعوا موجوداته على الناس وأحرقوا الباص انتقامًا لوفاة أحد العمال أثناء قمع الشرطة اللبنانية للعمال المضربين عن العمل والذين يطالبون بتحسين شروط عملهم، وذلك في بداية سبعينيات القرن الماضي، بعد عدة سنوات اكتشف هؤلاء الشباب أن أصحاب هذا المصنع هم من العائلات المتميزة بموقفها الإيماني الديني والوطني، وأنهم من المعروفين بأعمال الخير فانتابهم ندم شديد وقاموا بإرسال وفد لزيارة هذه العائلة والاعتذار منها .
المقالات المرتبطة
مسيرة ومحاولات تجديد الخطاب الديني في مصر
بعضهم يساري مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وكاتب إسلامي مثل خالد محمد خالد، وبعضهم ليبرالي مثل القاص والأديب نجيب محفوظ، الذي لم يكن باحثًا ولكنه في رواياته يدين وينتقد الخطاب الديني
الحوار السياسي في خطب أمير المؤمنين (ع)
الحوار عند أمير المؤمنين (ع)، هو حوار رسالي سماوي، يرتبط بالأرض من خلال نشر قيم الإسلام في العدل والإخاء والمساواة، ولأن الإمام (ع) حكم الأمة الإسلامية، فقد كان له حوارات سياسية متعددة وكثيرة ومتنوعة، حتى قبل أن تؤول الخلافة إليه
الحوار السياسي العقلي والدور الرسالي للإمام الرضا(ع)
يتبين بوضوح كافي أن الإمام الرضا (ع) سار على النهج الرسالي المحمدي، رفض الظلم، لأن سياسة العترة الطاهرة هي سياسة بنّاءة تعمل على إيجاد الوسائل السليمة لرقي المجتمع وبلوغ أهدافه في الحياة الحرة الكريمة،