قراءة في الجزية … بين العُرف الفقهي والمفهوم السياسي

قراءة في الجزية … بين العُرف الفقهي والمفهوم السياسي

تقديم

من المصطلحات التي دار حولها جدل كثير، هو مصطلح الجزية، والجزية كما ذهب أغلب الفقهاء هي أموال سنوية، أو ضريبة رؤوس، تؤخذ من أهل الكتاب، مقابل حمايتهم، وقد قام كثير من المفكرين بالرد على من يقول بوجود الجزية في العصر الراهن، مثل كتاب (مواطنون لا ذميون) لـ فهمي هويدي، و( مصريون لا طوائف) لـ محمد جلال كشك، هذا فضلًا عن آراء جاءت داخل كتب أمثال: حسن حنفي – محمد أركون – محمد عابد الجابري، وغيرهم كثيرون يفوقون الحصر.

ووجدنا في السنوات الماضية، من طالب بتحصيل المال من الأقليات غير المسلمة في بلاد المسلمين، رغم أن الفقهاء في الأزهر والحوزات العلمية، والمفكرون ردوا على كل من قال: إن الجزية لها وجود مستمر، وأنها لا تسقط مهما طال الزمن، وأضاف الفقهاء القدامى المجوس إلى أهل الكتاب؛ لأنهم كما قالوا كان لديهم كتاب سماوي ولكنهم أضاعوه، كما يحرص علماء المسلمين على أن الجزية تؤخذ في مقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلمين، وأنها تؤدى بالصغار أي بالدونية لتشعرهم بالذل، وبأنهم تحت الحكم الإسلامي، أو أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وكل دلائلهم على ذلك أحاديث منسوبة وتفسيرات مبتسرة لآية الجزية، لتأكيد ما ذهبوا إليه، وهي جميعها تفسيرات غير منطقية وغير تاريخية، وتخالف المنهج الإسلامي في إحياء قيم العدل وكرامة الإنسان.

نذكر بعض مما قاله الفقهاء القدامى والمعاصرون:

قال أبو الحسن الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية”: “فأما الجزية فهي موضوعة على الرؤوس، واسمها مشتق من الجزاء، إما جزاءً على كفرهم لأخذها منهم صغارًا، وإما جزاءً على أماننا لهم لأخذها منهم رفقًا”، وهو تفسير يحاول أن يمسك العصا من المنتصف، فكيف نحنيهم ونحن نشهرهم بالذل والدونية.

وقال ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم: “هذه الآية الكريمة أوّل الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهّدت أمور المشركين ودخل النّاس في دين اللّه أفواجًا واستقامت جزيرة العرب، أمر اللّه رسوله بقتال أهل الكتاب، وكان ذلك في سنة تسع”، وقال الطبري في تاريخه: “ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعًا عنها”.

وهو تبرير فقهي للقتل بسبب الاختلاف في العقيدة، وهي أقوال لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولذلك ظل مفهوم الجزية عند الفقهاء المعاصرين، أنه حكم أبدي، ولكن غير مفعول به، بسبب الظروف المعاصرة، ووجود أقليات إسلامية في الدول الأوروبية، واعتبروا أن حد الجزية لا يُطبّق مثله مثل الرق وملك اليمين، وباقي الأحكام التي لا تتفق وروح العصر الحديث.

أما في العصر الحالي فقد قال الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره الشفهي: “أما معاملة رسول الله (ص) مع أهل الكتاب فكانت، إما أن يسلموا، وإما أن يعطوا الجزية مع استبقاء الحياة، ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: ﴿حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون﴾؛ أي: حتى يؤدوا ما فُرِض عليهم دفعة من أموال مقابل حصولهم على الأمان والحماية، وفي هذا صون لدمائهم … وأخْذُ الجزية دليل على أنهم ظلوا على دينهم وظلوا أحياء، وهاتان نعمتان من نعم الإسلام … فالجزية ليست فرض قهر، وإنما هي مقابل منفعة أدّاها الإسلام، تجاوزها الزمن، لهم؛ إبقاءً على حياتهم وإبقاءً على دينهم الذي اختاروه … ولماذا يعطونها عن صَغار؟ لأن الحق عز وجل أراد للإسلام أن يكون جهة العلو … وصاغرون أيضًا تعني أن يؤدوها عن انكسار لا عن علو”.. وهو تفسير يتفق مع التفاسير القديمة، حد موجود ولكنه غير مطبق، ولذا لم نستعجب ولم تأخذنا الدهشة، عندما طبّق تنظيم داعش الإرهابي حد الجزية، وباعوا النساء في أسواق حديثة للعبودية، وهم لا يشكّون في أفعالهم غير الإنسانية.

من طرائف الجزية

كانت الدولة العثمانية تأخذ الجزية من مصر سنويًّا، من مسلميها ومسيحييها على السواء، وظلت مصر تدفع الجزية حتى عام 1955 رغم سقوط الخلافة رسميًّا عام 1924، كما ورد في وسائل الإعلام المصرية الرسمية والمعارضة منذ عام 1955، وملخصه أن “الرئيس عبد الناصر اكتشف أن مصر ظلت تدفع الجزية المقررة عليها لتركيا زمن الخلافة بسبب أخطاء محاسبية”.

وظلت حتى عام 1955، وقد دفعت آخر جزية، بالتحديد إجمالي ما تم دفعه بالجنيهات الذهبية 23.174.984  جنيهًا، أي حوالي 800 ألف جنيه في تلك الأيام.

وطالبت مصر بالمال المدفوع لتركيا العلمانية، دون أي جدوى، ولجأ محامون مصريون برفع القضايا على تركيا من أجل استعادة أموال الجزية المدفوعة بالخطأ، كان آخرها عام 2020، عندما بدأت محكمة القضاء الإداري المصري، النظر في دعوى أقامها محامون، لاتخاذ إجراءات التقاضي الدولي ضد تركيا، لمطالبتها برد الأموال التي حصلت عليها دون وجه حق تحت مسمّى الجزية، التي كانت تسددها مصر للدولة العثمانية إبان الاحتلال العثماني لمصر.

وما زالت القضية أمام المحاكم حتى اليوم… والذي نفهمه أن الجزية للدولة العثمانية، كانت مجرد جزية مالية عن كل رؤوس المصريين مسلمين وأقباط وغيرهما، وهي جزية سياسية، لا علاقة لها بالجزية أو الجزاء في الفقه الإسلامي.

آية الجزية في العرف الفقهي

نعود إلى مصطلح الجزية، نجد أن الآية القرآنية الوحيدة التي تحدثت عن الجزية تقول: ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾. سورة التوبة، الآية 29.

ونقرأها بتمهل ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾، ونفهم من الآية، ليس القتال لكافة أهل الكتاب أو الأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية.

أهل الكتاب كما نعلم يعترفون ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويحرمون في التوراة والإنجيل تحريمات مشابهة للمسلمين، أما دين الحق المقصود كما نرى، هو الخروج على الدولة والتمرد عليها، وهنا تكون العقوبة جزية؛ لأن فعل الجزية، جاء في القرآن بمعنى المثوبة أو العقاب، مثل جزاء سيئة سيئة بمثلها، فالجزية كما في معاجم اللغة مشتقة من فعل جزى يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه، ولذلك فإن القتال (وليس القتل)، الذي شرعه القرآن في تلك الآية، هو قتال بسبب أدى إلى وقوع الجزاء عليهم، فالجزية هنا بمعنى الجزاء، وهو سبب لا يمت لإيمان أهل الكتاب بدينهم، وإلا فإن حرية العقيدة وحكم لا إكراه في الدين يتم نسفه، وهو ما لا يقول به إنسان مسلم على الإطلاق.

وهنا نقول: إنه لا يمكن للقرآن الكريم أن ينال من كرامة إنسان أيًّا كان الإنسان، لأن القرآن جاء لتكريم الإنسان وحريته، وأنه لا إكراه في الدين، وأن كل إنسان له حرية الدين حتى لو كان الكفر، وأن الإبقاء على حياة المخالف في الدين ليسن منحة من أحد.

ومن ثم لا يمكن القول: إن الجزية تؤخذ بالعنف من دافعها وهو صاغر. كلها أمور لا بدّ من مراجعتها جيدًا لكي نعرف أن أي فهم يخالف النص القرآني مردود على قائله، وأي حديث يخالف النص القرآني فإن النبي (ص) لم يقله أبدًا.

ولذا، فإن الآية لها سبب نزول، وسبب النزول هو ما قام به يهود بني قريظة، عندما دخلوا في التحالف الخليجي القديم في معركة الخندق، مع قريش وباقي القبائل التي هاجمت الدولة الإسلامية، وذلك بعد أن تعهدوا لحماية المدينة من جهتها الجنوبية، بعد أن حفر المسلمون الخندق شمالًا، ولكنهم غدروا بالتعهد، بل قاموا بالقتال ضد المسلمين، أي أنهم نقضوا اتفاقًا سياسيًّا ليس له علاقة بحرية التدين أو حرية الاعتقاد، وكان لا بدّ من محاسبتهم.

الجزية في المفهوم السياسي

في العرف السياسي في أي دولة في العالم، يؤدي نقض الاتفاقيات وتغيير التحالفات أثناء الحروب إلى معاقبة الناقضين لتلك المعاهدات، ومواجهتها عسكريًّا، وعادة ما يقوم المنتصر بفرض عقوبة مالية وعسكرية على المهزوم، كما فعل الحلفاء ضد ألمانيا في الحربين العالميتين.

وهذا كان حال بني قريظة، فبعد أن انتهت حرب الأحزاب، عاقبهم النبي (ص) بسبب خيانتهم ونقضهم للحلف الموقّع بينهما، وتم قتل من غدر، ولم يقتل من استمر على وفائه بحلفه، بل قال النبي (ص) عنهم بأنهم حموا أنفسهم بوفائهم، ولم يقتل النبي (ص) كل بني قريظة كما يُشاع ظلمًا وعدوانًا، ولم يُقِم لهم مجزرة جماعية، ويتضح ذلك جليًّا عندما عفا عن أهل مكة بعد الفتح، وأطلقهم فصاروا طلقاء، وجرائم أهل مكة ضد النبي (ص) طوال 22 عامًا لا تُقارن بما فعله بنو قريظة، والمشهورة كما في كتب السنن والصحاح تقول: “تُقتل مقاتلتهم …”؛ أي الذين قاتلوا ونقضوا العهد، وعددهم قليل ربما لا يتجاوز عشرة رجال.

فالجزية هنا هو الجزاء الذي طُبق على بني قريظة، وتم دفعها، وهم يشعرون بالهزيمة والعار والصغار؛ أي صغير النفس، مهزوم، وأُخذت الجزية من المقاتلين دون غيرهم، وأخذ الجزية مرة واحدة، وليست ضريبة سنوية على رؤوس المواطنين غير المسلمين تؤخذ كل عام، كما كانت تفعل الدولة الرومانية مع الشعوب التي كانت تحتلها.

وحتى لو كان ذلك المال جزية، فإنه يُدفع مرة واحدة فقط بمفهوم آية الجزية، وليس كل عام كما ذهبت كتب التراث التي لم تفهم معنى الجزية على حقيقتها.

سيرة النبي (ص) وأقوال أمير المؤمنين(ع)

لم يؤثر عن النبي (ص) أنه أخذ مالًا كجزية كل عام من المخالفين في العقيدة، ولكن بعد وفاته الشريفة، أُخذ المال على أنه جزية سنوية مقابل الأمان الممنوح لهم، وساروا على ما سار عليه الرومان والفرس من قبل، وهو أخذ مال سنوي أو ضريبة الرؤوس. أما عن مصطلح الصغار، فذهب أغلب الفقهاء بمعاملة الذمّي بالقسوة ليشعره بالذل والمهانة والدونية، وقال البعض تؤخذ الجزية، ثم يُداس على رقبته، ليشعر بالذل، وهو كلام ربما لا يستحق الرد عليه.

والإمام علي (ع)، لم يذكر الجزية في خطبه، إلا مرة واحد، كما جاء في نهج البلاغة في رسالة الأشتر: “واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة…”.

ونفهم من كلام أمير المؤمنين (ع)، أن الجزية تماثل الخراج في المعنى، والخراج يؤخذ على المحصول الزراعي سنويًّا، والجزية إذا حاول البعض التمرد.

وما يؤكد هذا هو قوله (ع): “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، ومن كان نظيرًا في الخلق، فلا يجب إهانته أو التقليل من كرامته، أو جعله مواطنًا من الدرجة الدنيا.

وفي كل الأحوال أخذ المسلمون بهذا المفهوم غير القرآني، ولكن العصور الحديثة تجاوزته كما تجاوزت غيره من أحكام، وطالب الوهابيون السلفيون المصريون مثلًا، أن يدفع الأقباط تلك الضريبة على أنها ضريبة سنوية لخزانة الدولة دون تحديد موارد نفقاتها، دون اعتبار للدولة الحديثة، ولا لمفاهيم المواطنة، وقبل كل شيء دون اعتبار لدين الله.

وهو ما هاجمه كل المفكرين ورجال الدين الأزهريين على السواء…

والله تعالى أعلى وأعظم وأعلم..

 



المقالات المرتبطة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | الشخصانية الإسلامية عند الحبّابي

بعد أن قدّم الحبّابي الشخصانية الواقعية انتقل بعد ذلك للحديث عن الشخصانية الإسلامية، حيث عمل على تقديم قراءة تأويلية للإسلام،

الفكر العربي الحديث والمعاصر | القول الفلسفيّ وماهيته عند الدكتور علي زيعور

تستمر الرحلة الفكرية مع الدكتور علي زيعور، وننتقل إلى الحديث عن تطبيقاته المنهجية على التراث العربي – الإسلاميّ، وهنا سنلاحظ

شيلر، فيلسوف البراغماتيّة

ولقد توصلت بعض أدبيات العولمة للربط بينها وبين الفكر البراغماتي الأميركي عامة مما حدا بها إلى اقتراح إبدال مصطلح “العولمة” بمصطلح “الأمركة”.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<