الفلسفة السياسية لولاية الفقيه -3 –

الفلسفة السياسية لولاية الفقيه  -3 –

27th أبريل 2024

الفصل الثالث

ولاية الفقيه في السياق الإجرائي والتنفيذي

اكتسبت فكرة ولاية الفقيه العامة المطلقة أهمية كبرى بعد أن تمّ تطبيقها على أرض الواقع وصبغت بصبغة دستورية[1]، وأصبحت الأساس الذي يقوم عليه نظام الحكم في إيران حتى وقت كتابة هذه الدراسة. توسع هذا الاهتمام ليشمل أطرافًا دولية، حيث إن عمومية حكم الفقيه لا تتوقف عند حدود سايكس بيكو، في قبال خطاب فقهاء الدولة الذين يبنى خطابهم السياسي على صيانة (الشأن الداخلي) للقُطر، وهو أمر مخالف تمامًا لما يستندون إليه ويدعون للتمسك به من سلطان للفقه يسري حكمه على عامة المكلفين من دون اعتبار لحدود الجغرافيا للخطاب[2].

وبين التنظير لنجاح التجربة أو فشلها لم تعد ولاية الفقيه مجرد “نظرية” لها ما لها وعليها ما عليها، بل أصبحت شعار وراية ورمز للإسلام السياسي، ومؤشر على صلاحية التراث الإسلامي بما هو منظومة معرفية متكاملة، ودرس ديني، وقرون من التراكم المعرفي، وصحة ادعاء امتلاك الإجابة على أسئلة الواقع. بعد أن كانت “الدولة الإسلامية” (ككيان سياسي/اجتماعي) قاصرة على الثبوت في التراث الإسلامي بالاقتضاء كما كان يقول أغلب أصوليو الشيعة قبل 1979[3].

الحكومة الإسلامية

تبعًا لنظرية الإمام الخميني (قده) هناك سلطات ثلاث تتولى إدارة البلاد وهي: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويرى (قده) أنّ الله وحده واضع العقد الاجتماعي ولا يحق لأحد من البشر أن يقترح قوانينًا لتنظيم المجتمع. أما من الناحية التنفيذية، يُقر الإمام أنه حتى يمكن لتلك القوانين أن تُنفذ فإن هذا ما يتطلب وجود سلطة تنفيذية يتولاها الحاكم الإسلامي تتمثل بالحكومة الإسلامية للإشراف على تطبيق هذه التشريعات المتفرعة عن العقد الاجتماعي الإلهي. يقول الإمام الخميني (قده): “الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي للناس، والفارق الأساسي بين الحكومة الإسلامية والحكومة الدستورية [التعاقدية] والجمهورية، هو أن أعضاء هذه الأنظمة يخوضون في التشريع وسن القوانين، والحال أن ذلك يختص بالله، فالتقنين للشارع المقدس ولا يحق لغيره التشريع أبدًا”.

آلية تعيين ولي الفقيه في الدستور الإيراني

تناولت المادة الخامسة من الدستور الإيراني آلية تعيين الولي بالشكل التالي: “في زمن غيبة الإمام المهدي (عج)، تعتبر ولاية الأمة وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير ومن أقرت له أكثرية الأمة وقبلته قائدًا لها، وفي حال عدم إحراز أي فقيه لهذه الأكثرية فإنّ القائد أو مجلس القيادة المكون من الفقهاء الحائزين على الشروط المذكورة أعلاه يتولون هذه المسؤولية”.

ويقصد بهذه المادة أنّ مجلس خبراء القيادة يقومون بتعيين القائد، وإن لم يتم الاتفاق على قائد؛ يعملون على تعيين ثلاثة أو خمسة من جامعي شرائط القيادة ويعرفونهم إلى الشعب لاعتبارهم بأعضاء مجلس القيادة. فالتعيين والإقالة يقرهما مجلس خبراء القيادة، الذي هو في الأساس منتخب من الشعب بعد البت بأهلية المرشحين لهذا المجلس عن طريق تصويت مجلس صيانة الدستور. وهذا ما حدث بعد وفاة الإمام الخميني، حيث عين مجلس الخبراء السيد علي الخامنئي خلفًا له بعد إلغاء “شرط المرجعية”، الذي كان موضوعًا سابقًا؛ أي أصبح المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران 1989.

فمن المواد، التي جرى تعديلها في الدستور الإيراني لسنة 1989، هي عدم اشتراط المرجعية الدينية[4] في الولي الفقيه، حيث كان هذا الشرط يمثل صعوبة كبيرة، بسبب عدم توفر من تجتمع فيهم صفة المرجعية والكفاءة في القيادة معًا، بالإضافة إلى المؤهلات الأخرى، ولقد عبّر عن هذا التوجه السيد الخميني بنفسه، بعد ما طلب منه أن يبين رأيه في عمل مجلس إعادة صياغة الدستور في الثلاثين من أبريل/نيسان من عام 1989 بقوله: “للإخوة أن يعملوا حسبما يرونه صالحًا، ولن أتدخّل في ذلك سوى مسألة القيادة، فإنه لا يسعنا ترك نظامنا الإسلامي دون زعيم، لقد كنت معتقدًا أو مصرًّا منذ البداية على عدم اشتراط المرجعية في القائد، فيكفي أن يكون القائد مجتهدًا عادلًا مؤيدًا من قبل مجلس الخبراء. إن الأمة ستكون موافقة على القائد، الذي سينتخبه مجلس الخبراء، وذلك لأن الأمة هي التي انتخبت مجلس الخبراء”[5].

شروط الولي الفقيه

طبقًا لدستور الجمهورية الإسلامية فهناك مجموعة من الشروط التي يجب توافرها بالحاكم الإسلامي [أي الولي الفقيه][6]:

أولًا: يجب على الحاكم الإسلامي أن يكون مسلمًا، وعاملًا بالشريعة الإسلامية، ولا يكفي أن يكون فقط مسلمًا، إنما أن يكون لديه علم وفقاهة وثقافة واسعة في الدين؛ أي أن يكون قد وصل إلى مرحلة الاجتهاد وألا يكون مقلّدًا لمرجع آخر.

ثانيًا: يفترض على الحاكم الإسلامي أن يكون عاقلًا؛ أي أنه يمتلك القدرات العقلية التي يحتاجها لتنظيم وإدارة المجتمع، وذلك لاتخاذ القرارات وتشخيص المصالح والمكاسب.

ثالثًا: على الحاكم الإسلامي أن يمتاز بالعدالة وذلك ليحكم بالعدل، وأن يكون قادرًا على الوقوف بوجه الظلم والطغيان.

رابعًا: يجب أن يمتاز الولي بحسن الإدارة والتدبير. وهذا يتطلب أن يكون لديه خبرة واسعة في الأمور الإدارية والسياسية ليتمكن من اتخاذ القرارات الصائبة، والنهوض بالأمة ومواجهة كافة التحديات. “وأن يمتلك، مضافًا إلى الخبرة بالأسس الإدارية والسياسية، علمًا بمقتضيات زمانه وعواقب الأمور، وتشخيص الأصدقاء من الأعداء…”.

وظائف الولي الفقيه – نموذج الدستور الإيراني

للحكم الإسلامي مجموعة من الوظائف التي عليه القيام بها والتي تختلف حدودها تبعًا لآراء الباحثين المؤيدين للولاية المطلقة أو الولاية الخاصة، حيث سيتم التطرق للفرق فيما بينهما خلال الفقرة التالية. ولكن بشكل عام، تتجلى أبرز وظائف الولي فيما يلي:

الوظائف الدينية: نشر المعرفة الإسلامية، وذلك ليتمكن من بناء مجتمع على تعاليم الإسلام يعرف فيه الشعب الحلال والحرام. ويكمن دوره بتهذيب النفوس، ونشر الأخلاقيات من خلال شرح المسائل الأخلاقية. بالإضافة إلى إقامة الواجبات الدينية وإحياء السنن وحفظ الشريعة بوجه الانحرافات.

الوظائف الإدارية والاقتصادية: العمل على تنظيم الإدارات والمؤسسات العامة للمساهمة في عمران البلاد من خلال مختلف المجالات؛ أي خلق فرص عمل، زيادة الإنتاج، رفع النمو الاقتصادي، زيادة معدل التنمية.

الوظائف القضائية والاجتماعية: العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية والدفاع عن الحق ومواجهة الظلم وتأمين الرفاهية في المجتمع الإسلامي لشعبه وذلك لتوفير الأمن. ولا سيما دور الولي بإدارة الأموال وتحديد طرق صرفها.

الوظائف السياسية والعسكرية: يلعب دور الولي من خلال تعزيز القدرات القتالية من خلال تدريب المجاهدين عسكريًّا وروحيًّا. كذلك لديه دور في العلاقات الدولية من خلال تحديد طبيعة العلاقة مع الدول الأخرى.

الولي الفقيه أو القائد بنص المادة (107) من الفصل الثامن في الدستور أيًّا كانت تسميته، هو أهم منصب في إيران بعد الثورة، لأنه القائد الأعلى بموجب الدستور الإيراني.

كما أنّ في المادة (110) من الدستور الإيراني، حدّدت مجموعة من الصلاحيات والوظائف للقائد السياسية التي تتجلى بالتعيينات في بعض المناصب والعزل منها، ولدوره في تشكيل بعض المجالس وإعلان الحرب والسلم والتعبئة العامة. وبعض هذه الوظائف والقرارات قد تبنى بالاستناد إلى اقتراحات من قبل الجهات المعنية. ونصت المادة (110) من الدستور الإيراني صراحة على قيام القائد بالوظائف وتمتعه بالصلاحيات الآتية:

  • تعيين السياسات العامة.
  • الإشراف على حسن إجراء الانتخابات.
  • إصدار الأمر بالاستفتاء.
  • القيادة العامة للقوات المسلحة.
  • إعلان الحرب والسلام والنفير العام.
  • نصب وعزل وقبول استقالة كل من:
  • فقهاء مجلس صيانة الدستور.
  • أعلى مسؤول في السلطة القضائية.
  • رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون.
  • رئيس أركان القيادة المشتركة.
  • القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية.
  • القيادة العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي.
  • حل الخلافات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث.
  • إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب.
  • عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد.
  • العفو أو التخفيف عن عقوبات المحكوم عليه، في إطار الموازين الإسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية.
  • ويستطيع القائد أن يوكل شخص لأداء بعض وظائفه وصلاحياته[7].

وتميّز تنظير الإمام الخميني للولاية العامة المطلقة للفقيه بالأخذ في الاعتبار الاعتراضات التي أسس أصحابها وجهات نظرهم في نموذج الحكومة الإسلامية بناءً على الدعاية الغربية، فكتب الإمام الخميني ضمن شروط عمل الولي:

أن يعمل طبقًا لمصلحة المسلمين، التي يملك صلاحية تحديدها مجلس الخبراء ممن يناظرونه في المستوى العلمي ولهم صلاحية عزل الولي الفقيه إذا ثبت استبداده برأيه[8]، أو فساد رأيه أو عمله، أو مخالفة قوانين الإسلام[9]، أو اتباع الهوى والمصلحة الشخصية[10].

أن إعمال الولاية المطلقة للفقيه يحتاج إلى قبول الأغلبية الشعبية سواء بالبيعة للفقيه، أو بالانتخاب، وذلك من أجل إعلان استعداد الأمة للطاعة، لا من أجل إعطاء مشروعية للفقيه؛ لأن مشروعية الفقيه من الله تعالى، يقول السيد الإمام: “تولي أمور المسلمين وتشكيل الحكومة مرتبط بقبول أكثر المسلمين، وقد أشار إلى ذلك الدستور، وفي صدر الإسلام يعبّر عنه بالبيعة لوليّ المسلمين”[11].

تطوير صلاحيات الولي الفقيه في عهد السيد علي خامنئي

كانت للسيد علي خامنئي قراءة مختلفة على أرض الواقع عن القراءة النظرية للدستور، فأدخل تعديلات نحو مأسسة المنصب وتعزيز اتصاله الشعبي كان أهمها إقامة ثلاث شبكات متداخلة[12]:

الشبكة الأولى: فرض بها سلطته أولًا على أصحاب المناصب الرسمية في الدولة عن طريق تعيين ممثلين له في كافة المصالح الحكومية.

الشبكة الثانية: تحققت من خلال تشكيل سلاح الحرس الثوري الإسلامي ليكون فصائل شعبية موازية للجيش النظامي. (نتناول دورها الدستوري لاحقًا).

الشبكة الثالثة: كانت من خلال تدعيم السيد علي خامنئي صلتة بالطلاب ومدرسيهم داخل الدوائر الدينية، ووضعهم في المناصب الدينية الهامة بعد قيام الثورة (باعتبار المدارس الدينية هي الرافد الأساس للفقهاء).

[1] ينظر: أحمد مغنية، الخميني أقواله وأفعاله، بيروت، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، 1979 م.

[2] معتز الخطيب، بحث بعنوان: “الفقيه والدولة في الثورات العربية”، مجلة تبيُّن، عدد (9)، عام 2014، الصفحة 66.

[3] أمية حسين أبو السعود، المعارضة الدينية في السياسة الإيرانية في الفترة من 1924 إلى 1979 م، أطروحة دكتوراه غير منشورة، القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، أجيزت: 1987 م.

[4] المرجعية الدينية: هو تقليد يعتمد عليه المذهب الشيعي، بل ويعتبرها الأساس في الفكر الشيعي، هو منصب لا يتم الاختيار فيه عبر عملية زمنية محددة، وإنما يتم من خلال اعتراف من هم على المذهب الشيعي ورجالات المؤسسة الدينية بالمكانة العلمية المتميزة للشخص نفسه، وهي عملية إفراز ذاتي للمجتهد العالم إلى منصب الأستاذية شبيه بآلية إفراز منصب “أستاذ كرسي” في النظام الأكاديمي في الجامعات، والتي يحصل عليها عبر سنوات طويلة من الدراسة الدينية والعلمية الرصينة تصل أحيانًا إلى 30 عامًا من البحث والدراسة. ينظر: أمل حمادة، الخبرة الإيرانية الانتقال من الثورة إلى الدولة، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008م، الصفحة 174.

[5] علي الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، بيروت، جمعية المعارف الإسلامية، 2013، الصفحة 18.

[6] وزارة الإرشاد الإسلامي.

[7] دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، طهران، المشرق للثقافة والنشر، 2000 م، الصفحتان 74 – 75 (مجلس خبراء القيادة).

[8] روح الله الموسوي الخميني، البيع، طهران، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده)، 1421 هـ، الجزء 2، الصفحة 461.

[9] روح الله الموسوي الخميني، الحكومة الإسلامية، بيروت، مركز بقية الله، 1389 هـ، الصفحة 129.

[10] روح الله الموسوي الخميني، البيع، طهران، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده)، 1421 هـ، الجزء 2، الصفحة 461.

[11] روح الله الموسوي الخميني، البيع، طهران، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قده)، 1421 هـ، الجزء 20، الصفحة 459.

[12] عادل نبهان النجار، أثر النظام السياسي على عملية صنع القرار فى إيران (1997-2005)، رسالة ماجستير، القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2011م، الصفحة 21.



المقالات المرتبطة

صعوبات تحديد الدين

اصطدم المؤلفون، منذ القرن الثامن عشر ميلادي، عندما بدأت المحاولات الأولى لدراسة الدين دراسة علمية، بمشكلة تحديده، وهي مشكلة ستتعقد بقدر ترسّخ المذهب الإنسي الفلسفي

دعوة للعودة

من ألطاف الباري سبحانه وتعالى اختصاصه ببعض الأزمنة لنفسه، ونسبتها إليه سبحانه كشهر رمضان المبارك المسمى بـ”شهر الله”.

  وفي حين أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله، و كلّ الشهور لله، إلّا أنّ شهر رمضان أفضل الشهور وأشرفها، ففي رحاب هذا الشهر – شهر العفو والرحمة والمغفرة

النشيد وحركات التحرّر

يُفرِّق أهل الفن، وأهل الشرع، بين الإنشاد والغناء. كما إنهم يفرزون للابتهالات والتواشيح بابها الخاص. ويذهب المتشرّعة إلى اعتبار الإنشاد حلالًا جائزًا في الوقت الذي يحرِّمون فيه الغناء. ولمـّا كان المائز بين الاثنين – الغناء والإنشاد – أمرًا غير معلوم لدى غالبية المتشرّعين، فقد ذهب بعض الفقهاء لاعتبار الأمر على ذمة المكلَّف.

  1. السيد قصي الخباز
    السيد قصي الخباز 1 سبتمبر, 2023, 11:06

    أعتقد أن الدراسة بأجزائها الثلاثة صالحة للطباعة لتوفر مقومات الدراسة الأكاديمية من ناحية ومنجهة أخرى مادة علمية تعطي وضوح الرؤية حول موضوع مهم جدا (ولاية الفقيه) بأبعاد مختلفة التعاريف والمهام والشروط والمحذورات

    حبذا لو انتشرت بصورة أوسع

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

<