الفلسفة السياسية لولاية الفقيه-4-
الفصل الرابع
الفلسفة السياسية للحكومة الإسلامية وولاية الفقيه
السلطة والمأسسة والتقييد والرقابة
كان ولا زال أكبر إشكال نظري لدى فلاسفة الحكم هو معالجة معضلة التوفيق والموازنة بين فاعلية السلطة المطلقة وفسادها وكذلك المباشرة الشعبية، وانشغل منظّرو علم الفلسفة السياسية بصياغة إجراءات دستورية تحقق التوازن، الذي يحول دون استغلال السلطة عن طريق آليات لا تخل بقدرتها على أداء واجباتها السياسية[1]، فيصبح التساؤل الأساسي لهذا الفصل هو: ما هو أسلوب منظّري الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه للحيلولة دون استغلال سلطة الولي الفقيه؟
بشكل عام، يحدّد علماء فلسفة السياسة[2] طرق السيطرة على القدرة السياسية بطريقين: داخلي وخارجي.
أما الطريق الداخلي فيعني وجود صفات خاصة في شخصية الحاكم تمنعه من استغلال السلطة.
وأما الطريق الخارجي فيعني إيجاد أساليب ناجحة للإشراف على السلطة السياسية ومراقبتها والسيطرة عليها بواسطة المؤسسات البشرية.
وتتفاوت إجابة المفكرين السياسيين حول كيفية السيطرة على السلطة حسب فهم وإدراك كلّ واحد منهم للسلطة ولقيمتها الأخلاقية. فالرؤية التي تعتبر السلطة خيرًا بالذات، تنظّر للأسلوب الداخلي في السيطرة عليها، وفي المقابل الرؤية التي تعتبر السلطة مصدرًا للشر والفساد، تؤمن بأسلوب السيطرة الخارجية على السلطة.
فالطريق الداخلي من الضوابط الذاتية التي تتجه مباشرة إلى جذور الآفات السياسية ومناشئها ونوازعها الكامنة في النفس البشرية، فتعمل على تربيتها على الأخلاق الإلهية والفضائل الكريمة، وعلى حب العدل وإرادة الخير وحُسن الولاية والسير بين الناس بالعدل والرحمة. وهذه الضوابط الداخلية الذاتية لها عدة ميزات لا تتوفر في غيرها من الآليات الإجرائية في النظريات السياسية، فتعمل على معالجة الآفات من جذورها، وتتجلى فاعليتها عند اختيار شخص الولي الفقيه من قبل أهل الخبرة في العلم الشرعي والتربية الأخلاقية، من خلال الآليات المؤسساتية في اختيار الولي الفقيه والتي تتجلى فيها هذه الضوابط من خلال آليات الانتخاب ويراجع الدستور الإيراني كأحد النماذج في صياغة هذه الآليات الإجرائية[3].
السلطة السياسية في الفكر الشيعي ومحورية الله تعالى
تشير دراسة “تكوّن المقولات السياسية للأفراد، والفئات، والمجتمعات”[4] إلى غلبة وقوعها تحت تأثير أحد العوامل التالية:
- المصالح والميول الفردية.
- المصالح المادية المشتركة لفئة ما.
- المشاعر العنصرية والقومية.
- العواطف الإنسانية، والدفاع عن الحرية، والاستقلال، والعدالة.
يُعتبر العامل الرابع العاملَ الإنساني الوحيد من بين العوامل المذكورة، حيث تمتدّ جذوره في الطبيعة الإنسانية المتجاوزة للحيوانية، أمّا العوامل الثلاثة الباقية، فليست ضدّ الإنسانية، بل يمكن أن تكون سببًا في نتائج إيجابية تستحقّ التقدير، لكنّها في الأساس غير مختصّة بالإنسان، حيث يمكن مشاهدة عوامل شبيهة بها في الحيوانات عند دفاعها وهجومها.
وحينما تكون عناصر تكوين نظرية سياسية واحدةً من هذه العوامل الثلاثة فمن المترقّب حصول مظاهر سلطوية سلبية يفترض السعي لضمان عدم تخطّيها حدود المنطق والسلامة، ومن ثمّ يكون المطلوب إصلاحها.
إنّ التدبير، الذي تبنّاه الفكر الديني ـ وفق الرؤية القرآنية ـ لحلّ هذه المشكلة تمثل في طرح مقولة قادرة على البتّ من الأعلى في سلبيات هذه العناصر الثلاثة، ألا وهي محورية الله.
والتاريخ حافل بنماذج كثيرة لأفراد أو جماعات توجهوا نحو النشاطات السياسية بباعث مقارعة الاستعمار والاستبداد، أو بباعث العواطف الإنسانية الصادقة، ولكن في النهاية استُبدلت تلك الحركات المناهضة للاستبداد والاستعمار إلى حركات استبدادية! على سبيل المثال: يقول الإمام الخميني: “حدثت في العالم نهضات كثيرة وثورات عديدة، لكن أكثرها كان نهضة ظالم على ظالم آخر.. كان يأتي نظام ظالم ويزيل النظام الآخر، ويستخلف نفسه مكانه ويستمرّ في الظلم..”[5].
مواجهة الطاغوت والخروج من سلطته
ثمّة مجال لجعل مقولة محورية الله لجميع الأعمال والأفكار والمجالات الفردية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية للإنسان، لكن حينما نضعها أساسًا للقضايا الاجتماعية والسياسية والإدارات الجماعية، تتولّد بشكل تلقائي ظاهرة محاربة الطاغوت، لأن الطاغوت يعني المتعدّي على الحقوق، إن القبول بهكذا سلطة سواء في شكلها الظاهري أو في جانبها الفكري والاقتصادي الخفي واللامحسوس هو أمر يتنافى ومحورية الله. وعلى هذه المبادئ استند الإمام الخميني عند محاربة الطاغوت[6].
ويخالف السيد الخميني الفكرَ السياسي المادّي الإنساني، الذي يعتبر القانون نتاجًا للحكومة[7]، أو نتاجًا للعقل البشري في أعلى مراحل تكامله[8]، ويستدلّ على ذلك بقوله: “ينبغي للمشرّع أن يكون شخصًا مجتنبًا للنفعية والانسياق للشهوة والأهواء النفسانية والظلم، وألا نحتمل فيه هكذا أمور، وليس ذلك سوى الله العادل… من هنا يقول العلماء المتدينون: الدين هو قانون إلهي عظيم جاء لإدارة البشرية ومن أجل دوران عجلة الحياة”[9].
ولاية الفقيه نوع جديد من السلطة
في كتابه “منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر”، يميز ناصيف نصار بين ثلاثة مستويات من “الأمرية”، هي: السلطة، والسلطان، والسيطرة، محدّدًا السلطة بالحق في الأمر، وهو ما يستلزم أمرًا وآمرًا ومأمورًا به، ويحدّد فيه مقولة السلطان بأنها لا تتركز على عنصر الأمر بحق، بقدر ما تتركز على عنصر النفوذ كأمر واقع، أما السيطرة بمعناها العام، فهي الإخضاع المفروض بالقوة وتسخير الأضعف لأغراض الأقوى، فهي علاقة أمر وطاعة بين طرفين متغالبين يسعى أحدهما إلى فرض إرادته على الآخر فرضًا، وإلى حمل هذا الآخر على تنفيذ أمره بالقوة الجبرية”[10]. ولكن حسب علي فياض فمفهوم السلطة في التراث الشيعي لا يمكن أن يكون متعلقًا بالسياسي فقط، فالسلطة في التلاقي الديني والسياسي تمتد من رتبة التدبير السياسي حتى رتبة التوجيه والامتلاك الروحي (رتبة: أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، يقول فياض في كتابه “نظريات السلطة: “السلطة في المجال الإسلامي الشيعي هي ولاية.. تكون الدولة فيه غاية من غايات السلطة، إلا أنها لا تنحصر بها، فقد يكتب لها الأسبقية عليها دون أن يكون للدولة تحقق فعلي، وقد تنفصل عنها فتجاوزها، وقد تقترن بها فتكون إحدى تعبيراتها”[11].
سنحاول تناول الفلسفة السياسية لنظرية الحكم الإسلامي مع مراعاة عدة أمور:
البعد عن الفكر المادي، الذي يسيطر على الفلسفات السياسية للمفكرين الغربيين الذين يضعون “الحرية من السلطوية” كهدف نهائي يجب أن تصل إليه (الحتمية التاريخية)، فلا يصبح غرض القيادة إلا مجرد إدارة شؤون الدولة والشعب لتحقيق الرفاه للمواطنين، وتعزيز روح الفردية (Individualism)، والحرية الفكرية (Liberalism)[12].
البعد عن النظرة القاصرة للحياة الدنيوية بدون اعتبار الحياة الآخرة، ليكون غاية الحكومة الإسلامية هو التكامل المعنوي والأخروي، وأولوية الصالح العام في قبال الرفاه المادي للفرد أو لطبقة معيّنة.
أن السياسة والحكومة مثل سائر القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، جميعها أجزاء من كل، مترابطة فيما بينها وليس بعضها مستقلًّا عن بعضها الآخر، وبالتالي فالإسلام مجموعة من المقولات المترابطة، والسياسة واحدة منها، وهكذا الاقتصاد، النظام التربوي، القوانين الاجتماعية والمدنية و… فجميعها عناصر لمجموعة واحدة. وإن دراسة كل جزء أو عنصر من هذه المجموعة بشكل مستقل ودون الأخذ بالعناصر والأجزاء الأخرى يؤدي إلى فهم منحرف وغير صحيح عن الإسلام[13].
البعد الأممي؛ أي أن الارتباط الأساسي والمقدس في الثقافة الإسلامية، بين الناس ليس على اشتراكهم في الدم والعرق، أو الأرض والحدود الجغرافية، أو الاجتماع والاشتراك على غاية هدف (أيًّا كان)، أو التشابه في شكل العمل واستخدام أدواته، أو بسبب التشابه في الحيثية والمكانة الاجتماعية وطريقة الحياة، أو لوجود عدو مشترك، والاشتراك في المصالح الطبقية، بل إن أهم عامل في الوحدة والارتباط الاجتماعي، هو تحرك الناس على طريق معين اختاروه عن وعي للوصول إلى هدف محدد، وهنا تكون القيادة المشتركة من مستلزمات هذا النوع من الوحدة والارتباط الاجتماعي، لهذا فإن لفظتي الإمام والأمة، وفي تحليل نهائي لـهما معنيان متلازمان، أو حسب التعبير المنطقي، نسبيان ومتضايفان[14].
الإمامة لا يعني القيادة التي تهدف إلى مجرد إرضاء ميول الناس وإدارة عجلة حياتهم المادية وضمان راحتهم وحرية شهواتهم، بل إن الإنسان الكامل والملتزم والمسؤول هو الذي يسعى لأن تكون حكومته على أساس أيديولوجي ومن أجل تحوّل وتكامل سريع في الفرد والمجتمع وهدايتهما نحو الكمال المطلوب.
يتحمل الإنسان مسؤولية إصلاح الظروف السائدة وتغييرها، وتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية في حياة الإنسان تأتي بإرادته: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[15]، وعلى أساس هذه الفلسفة السياسية، تكون مسؤولية الإشراف العام -تحت قاعدة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- على عاتق الجميع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -في حقيقته- قانون يعطي شرعية تمرد الفرد على فساد المجتمع وانحرافه.
المجتمع السياسي، في المنظار التوحيدي، كائن حي لـه حياته وموته وتطوره وبقاؤه وزواله، تحكمه قوانين وروابط منطقية عبّر عنها القرآن الكريم بالسنن الإلهية، وقد عبرت السنّة أيضًا عن هذه الوحدة وهذا الانشداد بالجسد الواحد.
المسلم هو من استند في قراراته وأحكامه السياسية والاجتماعية و… إلى حكم الله، أو من تستند أحكامه إلى الوحي (النبي/الولي/الفقيه)، ولا يُصدر قراراتٍ وأحكامًا شخصية ويعمل في ضوئها، وهذا يصدق أيضًا على القوانين الوضعية وما يتعلق بأركان السلطة وقواها، مثل السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية.
الإذعان لأحكام أي شخص حقيقيًّا كان أم اعتباريًّا، من دون الاستناد إلى الوحي والأنبياء، يعدّ شركًا، والأنبياء هم الواسطة الوحيدة لتبليغ أحكام الله إلى البشر عن طريق الوحي والكتاب. وفي إطار النظام السياسي فإن هذه الأحكام والقوانين تستند إلى الوحي ومصدرها الكتاب والسنة، وهذا النظام يعد تجلّيًا للسيادة القانونية والسياسية الإلهية، وطاعة الله عز وجل تكون في الامتثال لمثل هذا النظام. في قبال مبارزة الله تعالى باختراع قوانين بناءً على رؤى قاصرة أو مباني معرفية متوهمة.
يجوز للإنسان التصرف والاستفادة واتخاذ أي سبيل من أجل تسخير الطبيعة وقواها لصالحه وصالح الإنسانية، إلا في الموارد المحددة التي منعها الله سبحانه وتعالى. (مثل: الاحتكار – الإسراف – الإفساد في الأرض)، وعلى هذا الأساس صار الإنسان خليفة الله في الأرض، لكي يبدع ويبتكر ما يحتاجه، وفيه صلاحه وسعادته، من خلال الإمكانيات التي أودعت بيده في العالم وعلى أساس الحكمة والعدالة.
شروط الخلافة الإلهية في الأرض هي: الإيمان والعلم والتقوى، ولا يحق لأحد تقلّد منصب الخلافة الربانية في الأرض إلّا بالشروط المذكورة.
قضت المشيئة الإلهية بانتصار الحق على الباطل، والصالحين على الجبابرة في النهاية، ومن أجل تحقيق هذه الإرادة الإلهية لا بدّ من الوقوف بوجه الظالمين والجبابرة ومعاضدة الصالحين ومساندتهم.
ليست هناك طاعة مطلقة للدولة حتى لو كانت على أساس الإسلام، بل هي مشروطة بالتزامها أحكام الله سبحانه وتعالى وأوامره، والعمل في حدود صلاحيات الأحكام الثابتة والمتغيِّرة في الإسلام.
الموارد التي سكت عنها الشارع المقدس فيمكن للدولة التشريع فيها مع الأخذ بالأصول الإسلامية العامة وروح الشريعة؛ لأن المعنى المنطقي لسكوت الشارع المقدس هو أنه سبحانه وتعالى ترك الأمر للدولة والحاكم لاتخاذ القرار المناسب في شأنه.
السلطة السياسية عند فقهاء الشيعة قبل 1979
مع قيام دولة شيعية في إيران في القرن العاشر تحرّكت أذهان الفقهاء نحو رسائل الخراجيات؛ فكان منها ما ألّفه المحقق الكركي والأردبيلي والفاضل القطيفي وغيرهم في جواز أخذ السلطان لضريبة الخراج[16]، والجديد الذي ظهر في شروط إقامة الجمعة مثل رسالة في صلاة الجمعة للمحقق الكركي والرسائل الجهادية، والتي من خلالها ظهرت على يد المحقق الكركي بواكير إعادة التفكير بنظرية الدولة.
السلطة السياسية عند الإمام الخميني
السلطة من وجهة نظر الإمام الخميني (قده) هي خير بالذات[17]، وقد وهب الله تعالى حق تطبيقها في الوهلة الأولى إلى الأنبياء والأئمة المعصومين (ع)، فهم يمثلون المصاديق التامة للإنسان الكامل، وقد حصلوا عليها في سفرهم المعنوي للحق تعالى، لكنهم لم يختاروا العزلة والانزواء عن الخلق، وقد أمرهم الله بتوضيح الطريق وهداية المذنبين والمنحرفين. وقد وصلوا إلى هذه المرحلة من الكمال في ذلك السفر المعنوي[18]، وأن أعظم المصائب التي يمكن أن تحلّ بأمّةٍ هي أن تسلب منها حكومتها الإلهية[19]. وفي عصر غيبة الإمام المعصوم (ع)، يتولى الفقهاء الجامعون للشرائط أمر الحكومة في المجتمع الإسلامي، ويحل فيهم شرط العدالة (بمعنييها: الأخلاقي[20] والعرفاني[21] والفقهي[22]) بدلًا عن شرط العصمة في الإمام المعصوم[23]. وشرط العدالة مفهوم مشكك معتبر -بدرجاته المختلفة- في خمسة أشخاص: الحاكم الإسلامي، مرجع التقليد، القاضي، إمام الجماعة، الشاهد.
لذلك فشرطي العدالة والأعلمية هو القيد الداخلي القبْلي في الوليّ الفقيه، واللتان تتحققان فيه من خلال آليات:
الاختيار المقيّد: أن يقتصر الترشح لمنصب عضوية مجلس خبراء القيادة على أساس التحصيل العلمي والفضالة الأخلاقية، وفي دوائر انتخابية ذات مساحة انتخابية واسعة، وبالشروط المنصوص عليها في كتاب “الحكومة الإسلامية” للسيد الخميني، التي تستبعد جدًّا -إذا ما تم تطبيقها- شبهة أي تحالف بين السلطة ورأس المال، وتأثير المال السياسي على عملية اختيار الشعب، وكذلك فإن تقييد الاختيار إلى جماعة وظيفية بعينها (رجال الدين وأهل الخبرة) تضيّق جدًّا من احتمالات التأثير عليها بالمجمل واختراقها من قوى معادية، ويصعب تصوّر اختيارها لشخصية وليّ فقيه لا تليق بالمنصب من الناحية الأخلاقية والعلمية.
الاختيار الشعبي الحر غير المباشر (ديموقراطية غير مباشرة): فيتم اختيار الخبراء (أهل الحل والعقد بالمفهوم الفقهي السنيّ) من عامة الناس اختيارًا مقيّدًا، ثم يختار مجلس الخبراء[24] (الوليّ الفقيه) بناءً على القيم المشتركة الغالبة عليهم (العلم والفضالة الأخلاقية)، فيستبعد جدًّا نظام الديموقراطية غير المباشرة تأثير المال السياسي وقوة الإعلام والدعاية في إفراز ولي فقيه لا يراعي أحكام الإسلام أثناء إشرافه على الجوانب الثلاثة للسلطة الإسلامية، وأسلوب الاختيار غير المباشر هو المعمول به الآن في انتخابات الرئاسة الأميركية (ما يعرف بالمجمع الانتخابي)، أو انتخاب المستشار الألماني من خلال البوندستانج (مجلس النواب الألماني)، ولكن باختلاف القيم المشتركة بين ممثلي النظام الإسلامي والنظام المادي.
السيادة الشعبية الدينية: امتلاك النخبة الثورية الشعبية المتديّنة (نموذج: الباسيج/الحشد الشعبي) القوة الصلبة المسلحة وتحلّيها بالشجاعة والتزامها بتعاليم الدين الإسلامي وخاصة تكليف (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، هي الضمانة الأكبر ضد انقلاب أو استبداد. في قبال النظريات الغربية التي تفرض احتكار القوة لجماعة بعينها (داخليًّا الشرطة – خارجيًّا الجيش)، والتي كانت في أغلب الأوقات بسبب المسانخة بينها وبين نظيرتها في المجتمعات الغربية من ناحية الهوية الوظيفية (المادية الآلية الميكانيكية) من أضعف مناطق النفوذ التي ينفذ إليها الاستعمار للسيطرة على المجتمعات الإسلامية لصناعة نخب مستبدة، وطالما كان حق الشعوب في امتلاكها السلاح ودفاعها عن حريتها وعقيدتها مقابل أي نخبة مستبدة هو الضمانة الحقيقية لعدم الانقلاب أو الاختراق أو الاستبداد[25]. فضلًا عن تحقيق المناعة الوطنية ضد الاستعمار.
قيادة رجال الدين: من الضروري أن تتشكل طبقة حاكمة حول الحاكم (بِطانة)، وهو أمر لازم بداهة؛ إذ لا يمكن تصور هرم السلطة بدون طبقات وسيطة تنوب عن الحاكم في رأس الهرم في تحمل المسؤوليات التنفيذية في الإدارات العليا والسلطات التشريعية والعلاقات الخارجية والإدارة المالية والإشراف الثقافي والإعلامي، فتقديم الفقهاء العلماء والفلاسفة الأخلاقيين المتألهين أو النخب المتديّنة لشغل مواقع السلطة حول الولي الفقيه هو الخيار الأمثل للمجتمع، في قبال مجموعات المصالح والشركات في الأنظمة الغربية أو العائلات والقبائل الثرية حول رأس الأنظمة الملكية.
في الجزء السادس من كتاب الجمهورية، يصف أفلاطون على لسان سقراط في حواره مع أديمانتوس، الديمقراطية بسفينة الحمقى، يقول الفيلسوف الإغريقي: إن الديمقراطية نظام يتجاهل الفروق العلمية لأفراد المجتمع ويتجاهل قيمتهم بفرض نوع من المساواة غير المشروطة بينهم؛ أي إن مصير السفينة لن تحدده النخبة العالمة، بل الأغلبية الجاهلة، أي الحمقى الذين لا دراية لهم بكيفية قيادة السفينة، الديمقراطية إذًا تفضل الكم على الكيف لأنها تطبق مبدأ سيادة الأغلبية/حكم الأغلبية، وهي ترجيح لمنطق الكثرة مقابل الحقانية، مخالفة بذلك المنطق القرآني والفطري: (أكثر الناس لا يعقلون/ لا يعلمون/ للحق كارهون/ لا يؤمنون/ لا يسمعون).
يقول أرنولد توينبي: “الديمقراطية مجرد شعار من دخان، لإخفاء الصراع الحقيقي بين مبدأي الإنصاف والمساواة”. تقوم الديمقراطية أساسًا على مبدأ المساواة؛ المساواة هي رفع أحد الطرفين إلى مكانة الآخر، بينما العدل إعطاء كل ذي حق حقه، انطلاقًا من هذا التعريف، بدأ الجدل عن نجاعة مبدأ المساواة مقابل طرح مبدأ العدل أو الإنصاف.
تشرعن الأنظمة الديموقراطية سلطتها بدعوى “حكم الأغلبية”، فيما أن حقيقة المستوى التمثيلي للأنظمة الحالية لا يعني إلا حكم الأقلية السياسية، ما بين الديمقراطية النظرية والديمقراطية العملية، لو حققت الديمقراطية حكم الأغلبية، التي ستنقاد وراء ممثليها، فيكون الرأي في ظاهره رأي الشعب، أما في حقيقته فهو رأي قلة من الشعب تمكنت من السيطرة على الحكم بفضل قوة المال السياسي والإعلام.
كذلك فإن قصر مدة الحكم مما يؤدي إلى عدم الاستمرار في التزام سياسة واحدة مدة كافية لتحقيق نتائجها وتغير سياسات الحكم قد يخلق جوًّا من الفوضى خصوصًا على الصعيد الخارجي وسياسات الدولة مع نظيراتها[26].
لا يمكن عزل مبدأ الديموقراطية عن منظومة الدولة الوطنية التي تفرض مبدأ احتكار الدولة للقوة، التي أدت في كثير من الأحوال لإفراز دولة عميقة غالبًا ما تستطيع السيطرة على الإعلام (من خلال المؤسسات الأمنية والقوة الصلبة)، واحتكار السلطة والثروة لطبقات وعائلات بعينها.
الفساد يشكل جزءًا لا يتجزأ من النظم الديكتاتورية، وحسب سوزان روم أكرمان في كتابها “الفساد والحكم”: “إن الديمقراطية تسمح بتمرير الفساد. فالفساد لديه قدرة كبيرة على التفشي في النظم الديموقراطية، خاصة في غياب آليات عملية على أرض الواقع تستطيع منعه بالشكل الكافي”[27].
وتلخص فكرتها في قدرة المؤسسات المالية الضخمة على التلاعب بأصوات الناخبين من خلال دفع الرشاوي الانتخابية، أو تمويل الحملات الانتخابية لمرشحين معينين لمناصب سياسية مهمة. وجميعنا يعرف كيف يحتاج حزب ما أو شخص ما ينوي الترشح لمنصب سياسي إلى تمويل حملته الانتخابية، وهذا يفتح الطريق للمال السياسي – بطرق غير قانونية – وقد يتحمل عبء توفيره الأثرياء مقابل ضمان ولاء السياسيين الآتين من صناديق الاقتراع لهم.
وحتى مع تنظيرات كارل بوبر القائلة بأنّ وظيفة حقّ الإدلاء بالصوت العامّ ليس لاختيار حكومة جيّدة، إنّما هي لإزالة استبداد حكومة ليست كفؤًا، فبالتجربة العملية لم يؤدِّ إلّا إلى استبدال وجوه مكان أخرى ظلت تسيطر عليها دولة عميقة أو جماعات مصالح (لوبيات) لا تهدف كذلك إلّا إلى تعزيز سلطتها وزيادة ثروتها.
يقول جوستاف لوبون العقل الجمعي غالبًا ما يكون ذا اختيارات عاطفية اندفاعية، وفي أنظمة تمثيل مباشر يحتاج الممثل عن الشعب تغذية شهوات العقل الجمعي للشعور بالإنجاز والتفوّق ولو على حساب الشعوب الأخرى، فآخر ما يكون في اعتبار هذه القيادات “الديموقراطية” هو الإنسانية بمفهومها الشامل أو البيئة. حيث لا وازع أخلاقي يضاهي حاجته النفسية للاستمرار بالسلطة، ولا يمكن الجمع بين رضا الناس والاختيارات الأخلاقية التي غالبًا ما تكون مكلّفة (سياسيًّا واقتصاديًّا).
[1] ينظر: إبراهيم الدسوقي شتا: الثورة الإيرانية: الجذور الأيدولوجية، بيروت: الوطن العربي، 1979 م.
[2] محمد تقي مصباح يزدى: نظريه سياسى اسلام، قم: انتشارات اسماعيليان، 1422 هـ، ص 73- 75. (باللغة الفارسية)
[3] محمد شقير: فلسفة الدولة: في الفكر السياسي الشيعي – ولاية الفقيه نموذجًا، بيروت: دار الهادي، 2002 م، ص 305.
[4] مصطفى جعفر بيشه فرد ولاريجاني وكديور: مطارحات في الفكر السياسي الإسلامي، ترجمة: حيدر حب الله، بيروت: الانتشار العربي، 2011 م، ص 355.
[5] روح الله الموسوي الخميني: صحيفة نور، طهران: مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، 1429 هـ، ج 13 ص 32.
[6] مصطفى جعفر بيشه فرد ولاريجاني وكديور: مطارحات في الفكر السياسي الإسلامي، ترجمة: حيدر حب الله، بيروت: الانتشار العربي، 2011 م، ص 355.
[7] ANTHONY QUINTON: Political Philosophy. Oxford: Oxford University Press, 1973 p.p. 22.
[8] Jones, W. T. ; Foster, Michael B.; Lancaster, Lane W.;. Masters Of Political Thought: 2, Machiavelli To Bentham. London: George G. Harrap, 1977, vol. 1 p.p. 315.
[9] ينظر: روح الله الموسوي الخميني: صحيفة نور، طهران: مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، 1429 هـ.
[10] علي فياض: نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2010 م، ص 9.
[11] علي فياض: نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2010 م، ص 10.
[12] مرتضى المطهري: المجتمع والتاريخ، قم: انتشارات إسماعيليان، 1988، ص 147.
[13] عباس علي عميد الزنجاني: “الفلسفة السياسية في الإسلام”، مقال في مجلة المنهاج عدد رقم (10)، نشر في 2004، ص 278.
[14] عباس علي عميد الزنجاني: “الفلسفة السياسية في الإسلام”، مقال في مجلة المنهاج عدد رقم (10)، نشر في 2004، ص 278.
[15] سورة الرعد، الآية 11.
[16] ينظر: المحقق الكركي: الخراجيات، قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة – جماعة المدرسين، 1413 هـ.
[17] ينظر: محمد باوي: “قدرت از ديدگاه امام خميني”، فصلنامه علوم سياسي 9، 1377 هـ.ش. (باللغة الفارسية)
[18] روح الله الموسوي الخميني: موعد اللقاء (رسائل الإمام الخميني إلى نجله السيد أحمد الخميني)، طهران: مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، 1374 ه.ش، ص 83.
[19] روح الله الموسوي الخميني: الكوثر (مجموعة خطابات الإمام مع شرح لأحداث الثورة الإسلامية)، طهران: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1371 هـ، ص 237.
[20] راجع في ذلك: روح الله الموسوي الخميني: شرح الأربعون حديثًا، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1998م، ص 6 و 169 و 391 و 510-511.
[21] راجع في ذلك: روح الله الموسوي الخميني: الكوثر (مجموعة خطابات الإمام مع شرح لأحداث الثورة الإسلامية)، طهران: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1371 هـ، ص 108- 114.
[22] راجع في ذلك: روح الله الموسوي الخميني: تحرير الوسيلة، المجلد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1988، الصفحات 11 و 232- 233.
[23] روح الله الموسوي الخميني: تحرير الوسيلة، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1988، ج1 ص 415. & روح الله الموسوي الخميني: الرسائل، قم: مؤسسة إسماعيليان، 1368 هـ.، ج2، الصفحتان 101و 102.
[24] مجلس الخبراء: تعود خلفيات تأسيس مجلس الخبراء إلى بداية عام 1979 عند انتصار الثورة الإيرانية، وترجع فكرة تأسيسه إلى اقتراح قدم به محمود طالقاني كحل وسط بين الاتجاهين (الليبراليين- المحافظين)، ثم تبنى فكرة انتخاب جمعية مصغرة أطلق عليها تسمية مجلس خبراء القيادة. ينظر: كريم، الصفحة 140.
[25] انظر مثلًا: أسس التعديل الثاني في الدستور الأميركي الذي يعطي الحق للشعب في امتلاك السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل، بل وتشكيل ميليشيات مسلحة محلية.
[26] Graham, Gordon. The Case Against the Democratic State. Charlottesville: Im-print- Academic, 2004.
[27] ينظر: سوزان روم أكرمان: الفساد والحكم، بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع والطباعة، 2003.
المقالات المرتبطة
نحو تجاوز “الإسلاموفوبيا”
كما احتاج شفاء المريض بالخوف من اللون الأحمر إلى محلّل نفسي يكشف له عن الأسباب الحقيقية والعميقة والمنسبة لمرضه، فإن
أخلاقيات العلم ما بين الإسلام والغرب
باتت مسألة العلم المعاصر ذات صلة وثيقة بمدى وعي الإنسان لقيمته ولتطبيقاته، وازدادت الحاجة لتنمية المعارف حول العلم
تأثيرات جائحة كورونا على النّظام التّعليميّ
يشهد العالم أجمع حدثًا جللًا يتمثّل في جائحة كورونا؛ هذا الفيروس الخفيّ الذي أثبت للعالم ككل، أنّ الإنسان خُلِق ضعيفًا، إذا مسّه الشرّ جزوعًا، هذا الوباء الذي لا يُرى بالعين