تقرير موسع عن محاضرة “اللغة والفلسفة والإنسان والكون”

تقرير موسع  عن محاضرة  “اللغة والفلسفة والإنسان والكون”

أقام معهد المعارف الحكمية وضمن برنامجه الدوري “المنتدى الفلسفي” نهار الخميس 21/9/2023 الساعة الخامسة عصرًا،  محاضرة تحت عنوان: “اللغة والفلسفة والإنسان والكون” للأستاذة الدكتورة مها خير بك، فاستهلت محاضرتها بالحديث عن أن اللغة المنطوقة والمكتوبة تشكل الحقل المعرفي الأكثر أمنًا وأمانًا لحركات الفكر وابتكارات العقل وإبداعات العلماء والأدباء والفلاسفة.

واعتبرت أن اللغة هي المختبر الأساس الذي شهد ودوّن أشكال صراع الإنسان مع ذاته ومع عالم خارجي يجهله ويرغب في معرفة ظواهره المرئية وغير المرئية، ليضمن لنفسه السلام والسيطرة.

ولفتت إلى أن البحث عن الذات وعن علاقتها بالعالم الخارجي أنتج إشكاليات تبحث عن ماهية اللغة المنطوقة والمكتوبة، وعن العلاقة الجدلية بينها وبين الفكر الفلسفي المنطقي.

ورأت أن دقة القوانين اللغوية ساعدت على تدوين نتاج الفكر الفلسفي وصوغها في نظريات علمية مدّعمة بالأدلة والبراهين والحجج المنطقية، فحفظت الأجساد اللغوية ما أبدعه الفكر الإنساني، وصار إرثًا علميًّا وحضاريًّا تتناقله الأجيال وتخبر به عن رتبة العقل في إنتاج العلوم والمعارف.

وأضافت، ابتكر الإنسان في خلال رحلة البحث والاستقصاء بفضل عقله ورغبته المعرفية، مصطلحات لغوية استخدمها دوالّ إلى مدلولات تحيط به، أو يدرك معناها من دون إدراك ذواتها، ومن هذه الدوال ألفاظ (اللغة، الفلسفة، الإنسان، الكون).. موضحة أن مصطلح اللغة دل على إشارات صوتية لغوية،… ومصطلح الفلسفة أفاد دراسة الأسئلة عن الوجود وتفسير الموجودات بما هي موجودة، وربطها بالأدلة والبراهين والحجج المنطقية،… فربطت اللغة مصطلح الكون بمفهوم الحدث، أي أن الكون ليس بالأزلي أو الأبدي، لأن محدِثًا أحدثه، وهو الله المكون كل شيء، فنشأ الوعي بالكون مع نشأة كينونة الإنسان المفكر الحر،… أما لفظ كلمة إنسان فتضمن دلالة إلى مخلوق عاقل مفكر، يتمايز بالإدراك والتنظيم والتحليل وبالرغبة في البحث والكشف وبالقدرة على حمل أمانة الخالق،…

واعتبرت أن الإنسان استطاع بعقله أن يبتكر اللغة بنعمة إلهية، وأن يعبّر بها عن مشاهداته، فدوّن قراءاته المشاهد والمظاهر الكونيه، وآراءه وأفكاره عن كون رأى فيه بعد التأمل والتنبّه، كمال اتساق أجزائه ودقة تنظيم عناصره وفق علاقات رياضية حسابية هندسية دقيقة، يعجز عن ضبطها إلّا مهندس أعظم خالق قادر على إبداع هذا الكون، فتوصل بفكره الفلسفي إلى الإيمان بوجود إله ضابط النظام الكوني وأنه عبدٌ لذلك الإله العظيم.

وأكدت أن التفكير الفلسفي حرّض على طرح أسئلة قوامها التأمل والنظر من أجل معرفة المجهول المستتر من المعلوم المنظور، فانصب نشاطه على دراسة أصل الكون وعلى معرفة قوانين اتساق عناصره وانسجامها، وعلى علاقة الإنسان بالكون، فتبين بالمشاهدة والتحليل والربط أن الإنسان هو مركزية الكون، وأنه قادر على تسخير ما خلقه الله لمصلحته بقدر ما يتسع إدراكه وفهمه،…

تابعت، استنادًا إلى ما كل ما سبق، يجوز القول: إن الكون مسخر للإنسان، يتعلم ويفيد منه بقدر ما يتأمل فيه ويستبطن ظواهره، لأن الإنسان، وفق النص القرآني، خليفة الله في الأرض، كرّمه بالعقل والأخلاق والإدراك والمعرفة، فجعله خليفته في الأرض…

وأوضحت، أن نظر الإنسان إلى ذاته وإلى ما يحيط به يرتبط بالنظر إلى ما يجب أن يمثله من حب وعدالة وخير وطاعة وعطاء وبر وإحسان ليكون مستحقًّا صفحة الإنسان.

وعن العلاقة بين اللغة والإنسان والفلسفة والكون، قالت الدكتور خير بك: إنها علاقة حتمية، فلا معرفة حقيقية بالكون من دون إنسان مفكر تحرّضه مظاهر الكون على الشك والسؤال والبحث والكشف بلغة لا تكون من دون إنسان ناطق عالم متعلم مفكر يصوغ المشاهد معارف وعلومًا بلغة تشكل مختبر التجارب وفضاءها المكاني، الذي يتسع كل ما ينتجه الفكر العلمي والفلسفي من أفكار وآراء وعلوم ونظريات، وبالتالي، لا قيمة لفكر فلسفي من دون لغة تحتضن نتاجه…

ثم قالت: تجلت وظيفة اللغة الأساس في نقل العملية الفكرية ضمن المجموعة الواحدة، من رمزية التصور إلى ظاهر الصورة ليصير المحتجب ظاهرًا خاضعًا للقبول والرفض والتأويل والتفسير والحوار والتفاعل والخلق والتوليد، فتكون اللغة، بذلك، أهم مظهر من مظاهر النشاط الذهني..

ورأت، أن حياة المجتمعات والأمم ترتبط بثوابت قيمية قابلة التفاعل مع عناصر الحياة الخاضعة، في نظام تكوينها، إلى تفاعلات متنوعة في مختبر الحضور الإنساني،… بغية الحصول على معرفة جديدة تتجاوز المألوف، وتسهم في خلق حضارة إنسانية متمايزة ببنية عامة مممهورة بالتواصل المعرفي بين الأمم؛ لأن الحضارة ليست نتاج أمة معينة، بل هي نتاج تفاعل فكري إنساني متجذرن في القدم، ومتحرك في الحاضر والمستقبل.

وشددت على أن المعارف كلها لا تكون من دون لغة ترسخ نتاج كل فكر مجدد في أشكال لغوية، تختزل شكل المنتج الكيميائي الجديد، فتحفظ اللغة جوهر المنتج وتصونه،…

وعن أهمية اللغة، أكدت على القول: إن اللغة هي المؤسس الحقيقي لمستقبل سيادي إذا استطاعت الأجيال أن تفعّل مهمّات اللغة القومية والحضارية والإنسانية وفق ما تفرضه شروط الكينونة ومركزية الانتماء وسمات خصوصية الهوية القومية.

 ولفتت إلى أنه لا قيمة لمكان من دون لغة تفصح عن أعجمية السكون وتتبنى نقل شيفرات التجارب الإنسانية بوضوح وصدق وشفافية، لأن اللغة تحفظ شخصية المكان المعنوية، وتصون تراثه وتاريخه من الضياع، فهي، إذًا، ضمانة الكيان من التفتت والتشظي.

ثم أفردت الدكتورة خير بك للغة العربية مساحة في ورقتها، فاعتبرتها المكون الأساس لوجود المجتمعات العربية، وترسيخ ثقافة الكيان والجغرافيا، وهي العامل الرئيس في تطور الذات العربية من الداخل وتخليصها من عقدة الدونية، ومن تعظيم كل وافد غريب، وبها يكتسب العقل العربي نشاطًا لا حدود له، وبالنشاط العقلي عينه تكتسب اللغة حياة وخصبًا ونماء، لأن العلاقة بين اللغة والعقل علاقة تلازم وتكامل.

ثم ختمت الدكتورة مها خير بك محاضرتها بالقول: إن الإبحار في حتمية العلاقة بين اللغة والفلسفة والإنسان والكون يحيل الباحث إلى صحراء الشوق إلى المعرفة، فيشتد ظمأٌ لا يعرف الارتواء، وتصير الأسئلة ماء عبور إلى ما لا يقين، ويبقى العطش هو العطش، والجواب في محارق المرايا.

وفي نهاية اللقاء دار نقاش بين الدكتورة مها خير بك والحضور تمحور حول القضايا التي طُرحت في محاضرتها.



المقالات المرتبطة

تقرير ندوة: المقاومة ومعركة الوعي ضد الاحتلال والتطبيع

إسرائيل ليست إلا قاعدة من قواعد النفوذ الأمريكي في العالم، وهي تحاول أن تستفيد منها إلى أقصى حد ممكن.  

لقاء المنبر المفتوح

مناسبة ولادة السيدة الزهراء (ع) أقام معهد المعارف الحكمية ضمن برنامجه الدوري منتدى قارئ للشباب منبرًا مفتوحًا في مجمع الإمام المجتبى (ع) وذلك نهار الأربعاء الواقه فيه 07-03-2018،  بإدارة الاعلامية نلا الزين

ومضات فكريّة| سقوط الأيديولوجيا

ساد المناخ العالمي في القرن العشرين صراع بين أبرز أيديولوجيتين حكمتا العالم الماركسية والرأسمالية. ادعت كل منهما امتلاك الحقيقة المطلقة، فقُسّم العالم إلى قسمين: شرق يدور في فلك الماركسية وغرب يدور في فلك الرأسمالية.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<