“المقاومة في التنظير الفلسفي بين إرادة القوة والاقتدار”

برعاية معالي وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى ممثلًا بالأستاذ روني ألفا، أقام معهد المعارف الحكمية، واحتفاء باليوم العالمي للفلسفة الخميس 16/11/2023 الساعة الثالثة عصرًا، في مجمع الإمام المجتبى (ع)، ندوته الفكرية تحت عنوان: “المقاومة في التنظير الفلسفيّ بين إرادة القوة والاقتدار“، شارك فيها: سماحة الشيخ شفيق جرادي، الأستاذ مصطفى الحاج علي، الدكتور جهاد سعد، والدكتور أحمد ماجد. أدار الندوة الإعلامي حسن سليم. حضر هذا اللقاء نخبة من الأساتذة والمثقفين والمهتمين بالشأن الفلسفي والفكري.

بداية الكلام كانت مع الأستاذ روني ألفا، فقال: أوّل ما تبادر إلى ذهني لدى قراءتي دعوتَكم الكريمة وطلب معالي وزير الثقافة القاضي محمد وسام المُرتَضى تمثيله في هذه الفاعلية بمناسبة يوم الفلسفة العالمي، هو تسلُّلُ الفلسفة إلى حياتي المزدحمة بفلسطين، وكنا قد انفصلنا الفلسفة وأنا من دون خلاف يُذكَر منذ أكثر من خمس عشرة سنة. ظننت لوهلة بأني أنزلُ من جديد درجات كهف أفلاطون محاولًا إعلام رفقاء الأسر أن الحقيقة فوق الكهف لا في داخله دون أن أنجح طبعًا في ذلك.

وتابع، أنه ما زال في دائرة التهمة. انتقوا ما تريدون من سلة الاتهامات: عميل، مجنون، كريه، متشيّع، ذِمّي، مرتَدّ وما سوى ذلك من الاتهامات فأرجو منكم وأنتم من أهل الفلسفة تحتفون بيومها العالمي ألا تعيروا هؤلاء اهتمامَكم فنحن معًا خارج الكهف الأفلاطوني نتمتّع بالتأمل في عالم المُثُل.

واعتبر أنه في هذا العالم بالذات تنبتُ أشجار القناعة. من ميزاتها أنها قد تكون قصيرة القامة في جزئها الظاهر فوق الأرض إنما طاعنة في جذورها تحت الأرض. شجرة القناعة لا تُقتلَع بسهولة. بل عليك قتلها بالاقتلاع لقتل زهور القناعة فيها.

وأكّد أن الفيلسوف الحقيقي هو الذي تلتقي قناعاته بأفعاله، فلا ينطبق عليه ما وصف المسيح الفريسيون به أي”اسمَعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم”.

وأضاف، علَّمتني الفلسفة أن ألتزم. بشكل أدق علمتني أن التزم بأن التزم؛ أي أن يكون التزامي دائمًا ومستمرًّا ومستدامًا لا يضاف عليه ما يضعفه ولا يُنتَقَص منه شيء من أسباب قوته.

ثم أشار إلى أنه عندما سُئِلَ الغزالي عن العلم اليقيني أجاب أنه العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة، لو تحدى بإظهار بطلانه مثلًا من يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا، لم يورث ذلك شكًّا وإنكارًا؛.. لافتًا إلى أن كل علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني.

واعتبر أنه مع ترسخ اليقين يترسخ السلوك. لست بحاجة إلى قوة إسناد. اليقين هو قوتك الداخلية. معها تتجرأ الحرية. والحرية لا تسامحك اذا استكنت أو تراجعت أو ترددت. مزيج اليقين والقوة والحرية يصنع المقاومة؛ أي القدرة على الرفض. رفض الاضطهاد والقمع والفرض وإرهاب الذات.

ورأى أن المقاومة تبدأ بالجرأة على الاعتراض. قل لا لمرة واحدة تصبح مقاومًا. بقية الكلمات تأتي لاحقًا.. هذا هو معنى عبارة “الروح هي التي تقاتل فينا”.

وتابع قائلًا: الأخلاق تبدأ من رفض الفرض. إرادة الاعتراض لا اعتراض الإرادة في رحلتها الاعتراضية. أخلاقية المقاومة هي أيضًا عدم قطع الطريق على اليقين المُريد. المقاومة جهادية بالنخاع الشوكي وليست مشروع سلطة بالنخاع المصلحي.

وصرّح أنه مع تشكُّل المقاومة يتبلور الماضي. يتوقَّف عن كونِه انفراطًا للضبابِ في الزمن. يتحوّل الماضي إلى أمثولة. أفضل أيضًا يتحوَّلُ إلى معلّمٍ ومَعلَمٍ لأننا نُحييه بشهادته وشهدائه.

ورأى أن أشنع جريمة أخلاقية يمكن أن يقترفها المقاوم بعد عبوره كل هذه المعموديات هي جريمة اللامبالاة. بالتالي لا يمكن أن تكون مقاومًا ولا مباليًا في آنٍ معًا.

وختم الأستاذ روني ألفا كلامه بالتأكيد على أن الروح المقاومة معذّبة لأن الحرية صعبة. ليس سهلًا أن تلتزم وأن تفعل. غالبًا ما تكتفي الأنفسُ باليقين النظري. إنها خطوة ما قبل المسيح، ما قبل الحسين، ما قبل تشي غيڤارا، ما قبل سقراط. يجب أن تتخطى خوفَك من الموت لتمتلك كل قوة المقاومة. عندها؛ أي عندما تمارس فعل الحرية وتخرجه من حياتك الذهنية إلى حياتك الجسدية الوظيفية، عندها تحررك الحرية من نفسك وتحرر الآخرين وتخلق النموذج.

بعد ذلك انتقل الكلام إلى سماحة الشيخ شفيق جرادي بمحاضرة تحت عنوان: “حضارة الاقتدار الصاعدة”، فتطرق سماحته إلى أن الواجب الفلسفي بات مُلِحًّا علينا أن نكتب في فلسفة التجربة وصناعة الحياة، دون التخلّي عن تأسيسات قامت عليها الفلسفة الأولى والفلسفة الدينية، وما تولّد عنهما من توظيف لمفاهيم مؤثّرة في معرفة الحياة رؤيةً وسننًا واستهدافات، بل بتجاوز تلك الفلسفة التقليدية من دفعٍ للعقل باتجاهٍ أكثر إحيائيةً ونقديةً بالمعنى التأمّلي والتدبّري، الذي يكوِّن ما يمكن لنا تسميته بعقل الخبرة.

 ويطيب لسماحته تسمية هذا النحو الفلسفي بنزعة الخبرة الحيّة. وهي وإن انطلقت من النفس والذات الفردي لتراكم فيهما خبرات كل تجربة خاضها الإنسان بفردانيته، واستطلع منها تجارب من كانوا في التاريخ من عظام الناس، أو المهمّشين، فنظر إليهم ضمن بيئاتهم الحاضنة لهم عبر مرور الزمن وتأثيراتها عليهم، وتأثيرهم بها مما شكّلهم جماعات تزاحمت وتراحمت وتخاصمت وفق سنن وقواعد ذات سمات من التكوين والمواصفات الإلهية والبشرية، مما يدعونا لنسميها بجعلية السنن، أو السنن الجعلية.

ثم أشار سماحته إلى ما ذكره فيلسوف الأخلاق الفيض الكاشاني في كتاب “محاسن الأخلاق”؛ إذ اعتبر في موضوع قوى النفس أن فيها إضافة لما ذكره من سبقوه من القوة العقلية، والقوة الشهوية، والقوة الغضبية، توجد قوة رابعة هي القوة الربوبية، وهي المعنية بحسب فطرتها التحكّم بالنفس وقواها،..

 تابع سماحته، وبما أن جنوح أي قوة من قوى النفس بالتعدّي أو الضمور يؤثر سلبًا على فطرتها، فإنّ خط الاعتدال فيها يكون حصرًا بتهذيب وهداية الوحي أو العقل المسترشد بالوحي، أو ذات العقل المستكمل بالوحي والإلهام.

 ولفت إلى أن دور الوحي هنا ترشيدي هدايتي للسبيل وطبيعة ومآلات المعاناة والحياة، فإذا ما استقلت الربوبية بالعقل أو الشهوة والغضب استشعروا الإطلاق في الكمال والاستطالة العنفية، والسطوة على كل شيء من كيانات العالم وحقائقه وأسراره ورزقه، فصار العقل جربزة، وتفاهة في الثقافة، وتوظيف العلم، ومؤلّهًا ذاته في التحكم، وكذا الأمر مع الشهوة والغضب، الذي إذا ما استشرى صار عنفًا وجريمة لا تعرف الحدود ولا مساحات الإنسان والمقدّس كما هي عليه الحضارة المادية المتمثلة اليوم بجغرافيا الغرب، وعقل النموذج الحداثي المسيطر بسطوة الكذب، وسحر القوة الغاشمة؛ إذ وصل بعلوّه أنه المالك للأرض وما فيها ومن فيها، وبالتالي هو إله الحياة ورب استمرارها. وهي المرحلة التي لا يمكن تحطيمها إلا من خلال نموذجين:

النموذج الأول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾[1]؛ إذ ينهدم بنيان حضارة الاستعلاء بنفس ميكانيزمات صعوده عبر مشكِلات تقع فيه من نفس أفق الاستكبار والعتو في الأرض التي تشكل فيها فلسفة العنف والمكر جوهر تلك الحضارة.

النموذج الثاني: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾[2].. إلى أن قال: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾[3]. وهي طبيعة فلسفة الاقتدار المؤهلة لكسر أصنام الوهم، وإسقاط أرباب الجبروت والقوة العنفية الغاشمة،..

وأضاف، فإذا كانت ربوبية القوة الغاشمة تحرق الحرث وتبيد النسل، فإنّ لحضارة الاقتدار الاستطاعة والأهلية لإحياء الحرث والعمران، وتنمية نسل الأجيال الخيِّرة.

وأشار إلى أنه وقبل أن ندخل بإيضاح مرتكزات فلسفة الاقتدار، من الضروري البحث عن مصدر الاقتدار وسر نموّه وتأثيره وديمومته. فالاقتدار هو سعة الاستطاعة التي يتخيَّر صاحبها وِفقَ رؤيةٍ وهدفٍ معين ما الذي ينبغي القيام به، وما ينبغي تأجيله، وما ينبغي الإعراض عنه بملء إرادته، فهو قادر على أخذ أي خيار لكنه يختار المناسب؛ إذ لا تسيطر عليه نزعة العتو والاستعلاء العنفي الغاشم.

واعتبر أن مصدر هذا النحو من تحريك الاستطاعة بالقدرة إنما هي حصرًا من الله القادر على ما يشاء، والذي تصرفت قدرته بعظيم وبجميل صنعه. أما سر استمرار القدرة وديمومتها فإنما يعود للبناء التكويني عند الإنسان المتصل بتوحيد الله في كل ذاته وكينونته وأحواله.

أضاف، وبما أن الوجود وكل موجود قائم بين الأول والآخر والظاهر والباطن الحق سبحانه، فأيًّا كان البلاء والتحدّي والنتائج طالما هي بعينه التي لا تنام، فالمجاهد صاحب هذه القدرة في الرؤية والموقف لا يمكن له أن ييأس أو أن ينهزم.

وفي معرض حديثه عن مرتكزات الاقتدار تطرق سماحته إلى أن فلسفة الاقتدار تقوم على ركيزتين لكل منها تفرّعاتها. إلّا أن هذه الثنائية ليست من المركّبات الصلبة والحادة؛ إذ الجدلية لا تتقابل وفق قانون التناقضات، بل ولا المتضادات. لافتًا إلى أن تعارضها يصح فيه أنه جدلي خلّاق إنشائي ينقل من خلال الاحتكاكات ما هو في الكمون إلى الفعلية..

وصرّح، إذا كانت الركيزتان تتجادلان ارتقائيًّا لخلوص الوحدانية، فإن مسارهما هو أيضًا ساحة واحدة هو الإنسان مبدأً وسيرًا وكمالًا.

ويرى سماحته، أن مقتضى فعل التصدي وِفقَ فلسفة الاقتدار، يرى أنّ العقلانية إن تمحضت تنازلت عن ذاتها لتتحول إلى ناف لها بعد أن تعاطت معها بما لم تقبله، وهو القداسة لعقل ألّه نفسه إلى درجة الشيطنة وتدمير كل شيء بما فيها نفسه.

وأكد بأن وجود المرتكزين معًا العقلانية بأوسع مدياتها، والتقانة والسياسة والثقافة، من طلب البرهان، أو القيام بالتجربة وفق حسابات تتقوّم على طبيعة علاقة الأشياء ببعضها ومستلزماتها وفهمها وفق حسابات دقيقة تمارس فعل الثقافة وآليات الضبط والإدارة في التوقع، والإدارة والتهيئة والاستعداد والخطط والبرامج. كلها تحضر لكن بروحية الذي أستأمنه صاحب الأمر، لا بروحية المالك المستقل،.. موضحًا، حينها تكون القدرة عضوًا كما أنها إلزامًا، لكن وهنا الأهم تكون القدرة ثقة على تحقيق كل المأمول الحضاري والجهادي في الحياة الخاصة والعامة.

أضاف، وهكذا اقتدار هو المولّد للأمّة الشاهدة، والمرء الشاهد والشهيد.

وختم سماحة الشيخ شفيق جرادي محاضرته بالقول: من هنا اسمحوا لي بأن أنقل المشهد في صراعِ نَموذَجَيْ فلسفة الاقتدار، وفلسفة القوة الغاشمة، إلى مشهدية الحرب المفروضة على غزة اليوم من قوة غاشمة ضد مقاومة ثورية تمثّل فلسفة الاقتدار قدرها الحياة، ونبراسها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[4].

وكان الكلام بعد ذلك للأستاذ مصطفى الحاج علي بمحاضرة تحت عنوان: المقاومة وسؤال المعنى؟ فتطرق في مقدمة البحث إلى أن الوعي لا يتأتى لنا بمعنى المقاومة اليوم، إذا لم نكن على وعي دقيق بطبيعة العصر الذي نعيش، وبطبيعة العدو الذي نتعامل معه..

وفي السياق التاريخي العام أشار إلى أن البشرية تنخرط في واقع كوني مختلف تسهم في صياغته الشبكات السيبرانية، والقنوات الفضائية، والشركات العابرة. مضيفًا، ولكون “العولمة” اليوم باتت الاسم المرادف للهيمنة، وتحديدًا للهيمنة الأمريكية، فإن من وصف هذا الواقع الكوني المستجد بالأمركة لم يجانب الصواب.

واعتبر أن ما نعيشه اليوم هو شكل أوسع وأعقد وأخطر من أشكال الإمبريالية الشاملة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

وتابع، أنه طالما ارتبطت الرأسمالية بالهيمنة الإمبريالية والتوسع الاستعماري، فمع اتساع مصالح الرأسمالية وتجاوزها حدودها الوطنية، لعبت مؤسسات الدولة الرأسمالية والعسكرية دورًا هامًّا في حماية وتدعيم مصالح رأسماليتها خارج الحدود الوطنية، واستمرت الدول الرأسمالية الكبرى في حراسة المصالح الاقتصادية في الخارج عبر الاستعمار العسكري المباشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية…

 ولفت إلى أن الإمبريالية قامت طوال فترة الحرب الباردة بقمع الحركات الثورية وحركات التحرر والأنظمة المناوئة عبر العمل العسكري المباشر أو غير المباشر، لتأكيد نفوذها وحماية مصالحها.

أضاف، في هذا السياق يبرز دور مؤسسات العولمة الإمبريالية كأطر ناظمة للهيمنة الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة. فهناك منظمة التجارة العالمية التي أوكل إليها مهمة رئيسية هي تحرير التجارة بين الدول، وفتح الأسواق، بما يتيح للرأسمالية العالمية توسيع أسواقها من دون قيود جمركية…

وقال: تعد الديون التي تعاني منها دول العالم المتعثرة أو الفقيرة، والتي تتحمل الشعوب بسببها المعاناة، لاضطرار هذه الدول إلى الإنفاق على الصحة والتعليم والدعم، أحد آليات الهيمنة الاستعمارية في عصر العولمة.

ولفت إلى أن العسكرة والحروب لصيقة بالطبيعة الاستعمارية للرأسمالية العالمية لما تدره من أرباح كبيرة لشركات صناعة السلاح، أو لمتعهدي الإعمار بعد الحروب.

وتحت عنوان: فرض الخصوصية ومحو الهويَّات قال الأستاذ الحاج علي بأننا نحن إزاء فرض خصوصية دولة بعينها على باقي العالم هي الولايات المتحدة، هذا ما يعنيه التطابق بين العولمة والأمركة، ما يعني أنه لا وجود بالفعل على مدى العالم، وفي أرض الواقع، إلا لهذه الخصوصية. يقتضي فرض الخصوصية محو الهويات الخاصة، أو تفكيكها، أو الاستحواذ والسيطرة عليها، وبكلمة واحدة تقتضي “الأمركة” تصفية الوجود الخاص لكل ما عداها، والتصفية هنا تأخذ أشكالًا وأنماطًا متنوعة، منها ما هو إبادي إحلالي، ومنها ما هو إلحاقي استحواذي، ومنها ما هو إفراغي لكل ما هو ثقافي وأيديولوجي وديني وقيمي من محتواه الذاتي كمقدمة ضرورية لصناعة الهشاشة الكيانية الوجودية.

وشدد أن “الأمركة” لا تقبل التعدد ولا التنوع. لا تقبل نوع العلاقات التي تقوم على الندية والاحترام، وهذا هو نمط كل الأنويات عندما تحاول التشبه بالآلهة أو أن تستبدل نفسها بها.

وفي معرض حديثه عن العالم مادة للاستعمال أو الاستهلاك تطرق إلى منطق الاستحواذ، الذي تقوده الهيمنة الأمريكية بمرجعياتها الليبرالية أو نيو-ليبرالية -لا سيّما بتمظهراتها الاقتصادية والمالية، يلزم عنها تحويل كل شيء إلى مادة للاستعمال، كما يلزم عنها تسليع كل شيء، وإخضاعه لمنطق الربح والخسارة، والفائدة والجدوى بمعناها المادي البحت.

ورأى أن الاستهلاك يكون من خلال تسييد نمط اشتهاء الأشياء تحت سطوة الوهم بأن هذا هو الطريق السوي إلى تحقيق السعادة، وبحيث لا تقتصر العلاقة بين المستهلِك والمستهلَك على الطابع الشخصي فقط، وإنما تأخذ أبعادًا أخرى تتعلق بمكانته الاجتماعية، وبمدى ظهور قوته، وبناء ذاته.

وتساءل، ثم ماذا يعني أن يفرض عليك أن تكون مجرد كائن استهلاكي؟ يعني بكل بساطة أن لا تصبح كائنًا منتجًا، كائنًا إيجابيًّا وفاعلًا نشيطًا وخلّاقًا ومبدعًا في الحياة. عندما لا تملك مقومات الإنتاج والعملية الإنتاجية، فأنت محكوم عليك بالتبعية المطلقة لمن يُنتج لك.

وأوضح أن هنا ثمة ملاحظة جوهرية، مفادها: أن ما تروم إليه الهيمنة من خلال تحويل نمط الحياة إلى نمط تملكي واستهلاكي، هو إفقادنا قدرة السيطرة على أنفسنا، وعلى التحكم بمواردنا وحسن إدارتها واستخدامها من خلال الالتزام بمبادئ ومعايير يجري العمل بموجبها، أي بكلمة أخرى، تروم الهيمنة إلى إفقادنا جوهر السيادة الحقيقية.

وتابع، تهدف الهيمنة إلى تفكيك وتجويف العلاقات بين البشر من أي مضمون إنساني فهي تشيّء كل الكائنات بحيث لا تُبقي لهم إلا علاقات التجاور المكاني، والتواصل الجسدي والبصري والسمعي في حدودها الحسية، ولذا فهي تحرص على إفقادهم عمقهم الروحي والقيمي والعقلي والجمالي.

ثم انتقل الأستاذ الحاج علي إلى الحديث عن سيادة التَّفاهة فقال: إن العالم اليوم، وفي ظل السيطرة الرأسمالية المعولمة، أو الرأسمالية الشبكية، باتت السيطرة فيه لطبقة الأشخاص التافهين على معظم نواحي الحياة كما يذهب الفيلسوف الكندي المعاصر “آلان دونو” في كتابه “نظام التفاهة”.

وأشار أن هناك مصانع للتفاهات الثقافية وللتفاهات السياسية، وأخرى للفنون التافهة، إلى آخر قائمة مجالات الحياة المتنوعة.

وصرّح أنه في هذا النظام يتحول الإنسان تدريجيًّا وبشكل متسارع في الوقت ذاته، من ذاك المحترف أو صاحب الحرفة إلى موظف أجير عند غيره، ليس له دور سوى أداء ما هو مطلوب منه من صاحب العمل، مقابل أجر مادي ينتظره آخر الشهر. معتبرًا أن دخولك عالم التفاهة، يعني دخولك مصانع التفاهة المتنوعة، ولك بعد ذلك أن تختار أي مصنع شئت، لتنتج تفاهة تتناسب ورغباتك وإمكانياتك وقدراتك، ومن ثم ترويجها وبيعها، وتحقيق الكسب السريع.

وأكّد بأن خطورة التفاهة وصناعها لا يقف تأثيرها على الحراك الثقافي واتجاهاته، وإنما يشمل تأثيرها العميق على مدخلات المعرفة والرؤية للحياة لا سيما عند جيل المراهقين الذين يشكلون العامود الفقري لجمهورهم.

ولفت إلى أن سلب القيمة والجدية من الحياة، يسلبنا الشعور بأهمية الوقت، ويجعلنا نبعثر جهودنا وإمكانياتنا وطاقاتنا في أمور لا قيمة لها ولا فائدة منها.

واعتبر أن ثمة اغتراب لا يقل أهمية عن السَّابق هو الاغتراب عن الكلمة والكلام، فالتافه يستغرق في الثرثرة التلقائية والمباشرة، ولسانه منفصل عن عقله.

ورأى أن العنصرية مسكن التوحش، وهي سمة من يعلي من شأن الأنا، وكلما تعاظم هذا الإعلاء كلما تعاظمت هذه السمة. وسمة العنصرية بل جوهرها هو الاستكبار المفضي إلى  الخفض من قدر الآخر تمهيدًا لاستبعاده أو استئصاله.

شدّد أن هذه العنصرية لها مسارها التاريخي الثقافي والفلسفي والديني والعملي. في الغرب عمومًا، هي التي تقف وراء كل مظاهر الإبادات سواء بمعناها الفيزيائي أو بمعناها الثقافي.

أضاف، العنصرية هي واحدة من الآليات التي يستخدمها الغرب للحفاظ على مركزيته، وللحفاظ على مكتسباته، وعلى ما يعتبره حديقته الغنّاء، التي تفرض عليه حمايتها دائمًا من أي تهديد يمكن أن يأتيها من قبل الغابة أو الغابات.

وذكر أن هناك عدة خصائص للكيان الصهيوني:

الخاصية الأولى للكيان الصهيوني هو تكثيف شديد لكل خصائص مسار الاستعمار الغربي لا سيما في تجلياته الأشد سطوة في عالمنا اليوم. فالإحلالية والصهيونية مترادفات يعبران عن الشيء نفسه.

 أما الخاصية الثانية فهي عمالة الاستعمار الصهيوني. فالمشروع الصهيوني لم يكن ابتداءً من الممكن تنفيذه من الناحية التكنولوجية البحتة إلا بعد الثورة الرأسمالية التي ربطت أجزاء العالم وحوّلته إلى سوق واحدة تقريبًا، متماسكة أجزاؤه، وهي الثورة التي جعلت عملية نقل الملايين من قارة إلى أخرى وتوطينهم أمرًا ممكنًا.

والخاصية الثالثة هي خاصية الدولة المطلقة التي تمثل واحدة من الأفكار المحورية في التشكيل الحضاري الغربي الحديث، بوصفها الدولة التي تعتبر نفسها المرجعية النهائية، والتي لا تحتاج إلى أي شرعية، وبالتالي فإن مصلحة هذه الدولة هي القيمة المطلقة التي تتفرع عنها كل القيم الأخرى ..

أما الخاصية الرابعة، هي أن النظرة العنصرية، والنظرية العنصرية، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثورة الرأسمالية، خصوصًا بعد الصناعية التي عزّزت من شعور الغرب بتفوقه على بقية الشعوب.

الخاصية الخامسة، فكما أن الغرب لا يرى إمكان للتعايش الحضاري مع الحضارات الأخرى، لا سيما الحضارة الإسلامية، فإن الدولة الصهيونية تصر على أن تكون في الشرق الأوسط “جغرافيًّا” دون أن تنتمي إليه حضاريًّا.

والخاصية السادسة، هي أن الفكر الصهيوني هو ترجمة لكل من الرؤيتين الداروينية والنيتشوية: إن جوهر الرؤية الداروينية أن العالم في حالة تغير مستمر وتطور إلى الأرقى، وإن آلية التغيير هي الصراع، وهو صراع يحسم لمصلحة الأقوى، ولذا فإن البقاء ليس دائمًا للأصلح أخلاقيًّا، وإنما للأقوى ماديًّا.

وتحت عنوان: معنى أن نقاوم اليوم، يلفت الأستاذ مصطفى إلى أن سؤال “الأنا” المقاومة يتجاوز حدود الكوجيتو الديكارتي، الذي يهدف إلى إثبات الوجود في صميم الفكر أو التفكير، إلى حدود صياغة “الأنا” كشرط ضروري لإعادة صياغة الوجود، في سياق الصيرورة التاريخية وقوانينها الحاكمة، التي يشكل الوعي بها شرطًا ضروريًّا، لتكون جزءًا منه، ولتأكيد الفاعلية التاريخية.

ويعتبر أنه لا يمكن الحديث عن المقاومة كمفهوم متجرد، أو كماهية وظائفية ثابتة، أو فاعلية تاريخية معزولة عن سياقها التاريخي الخاص، أو عن إطارها المرجعي النظري لا سيما القيمي.

ويرى أن المقاومة كفاعلية تاريخية، وكنشاط إنساني إيجابي، مغروزة في صميم الواقع، تعي ظروفه وملابساته، وتدرك تحدياته ومخاطره، وكذلك فرصه وإمكانياته، كما تعي تمامًا لحظته التاريخية الاستثنائية، بقدر ما تعي أشواقها وتطلعاتها..

أضاف، والمقاومة بقدر ما هي فكرة ونظرية فهي علاقة. العلاقة هي التي تغرس الفكر في صميم الكينونة، وهي التي تمنحها بعدها الأنطولوجي.

ولفت أن كل مقاومة وكأي علاقة فهي محكومة للتغير، ولقوانين التغير ما دام الواقع بطبيعته متغيرًا، وهي محكومة دائمًا بأن تراجع ظروفها وملابساتها وأسئلتها التاريخية المفروضة عليها في إطار من النقد التجاوزي..

واعتبر أن المقاومة نزوع أصيل يحفر عميقًا في طبيعتنا، بل في طبيعة جميع الكائنات الحية التي لديها ميل للنمو والتفتح والازدهار وفق ما تقتضيه طبيعتها،..

أضاف، عندما نقاوم، نكون أشد التصاقًا بإنسانيتنا، بطبيعتنا كبشر. عندما نقاوم إنما نقاوم من موقع “التحرر من”، إلى موقع “التحرر إلى”. المقاومة مهمة تاريخية، المهم فيها عامل الوزن النوعي التاريخي لما نقوم به، وليس عامل الوزن الظرفي.

تابع، معنى أن نقاوم اليوم، أن نسترجع كينونيتنا الإنسانية، هويتنا الثقافية والحضارية، قيمنا الأخلاقية. معنى أن نقاوم اليوم، أن نسترجع سيادتنا على أنفسنا أولًا، وعلى خيراتنا ثانيًا، وعلى التمكن من حسن إدارتها بما يلائم آمالنا وتطلعاتنا ثالثًا.

وأضاف، معنى أن نقاوم اليوم، أن نعيد إلى الكون وحدته وتكامله، في مقابل آليات التفكيك التفتيت، واختزال الإنسان في بوتقة الفردانية الخانقة… معنى أن نقاوم اليوم، أن نتحرر من أسر الشبكة المعقدة لمنظومة الهيمنة،… ومعنى أن نقاوم اليوم، أن نعيد للحرية الحقة مكانتها، الحرية التي تسترشد بالمبادئ السامية، والقيم العالية، والتي تعني فيما تعنيه تعبئة الوجود من أجل النمو  والازدهار والتفتح، من خلال إزالة كل الآلهة المزيفين من الطريق.

شدد، عندما نقاوم في هذه اللحظة التاريخية الاستثنائية، في هذا السياق التاريخي المركب والمعقد، إنما نعيد صياغة أنفسنا، والعالم في آن معًا، من خلال إعادة تشكيله وفق رؤانا الخاصة.

وختم الأستاذ مصطفى الحاج علي قائلًا: إن المقاومة بقدر ما تخرج أسوأ ما في عدونا، فهي تُخرج أفضل وأحسن ما لدينا. لا يمكن أن نحقق ذاتنا، ولا أن نعيش الذي نريد، كما لن يكون لنا ما نطمح إليه، إلّا في خضم الاشتباك مع هذا العدو، ولا هوادة في هذه المعركة، فالمقاومة “للتحرر من” متلازمة تلازمًا منطقيًّا وموضوعيًّا مع “المقاومة للتحرر من أجل”.

ثم انتقل الحديث إلى الدكتور جهاد سعد، بمحاضرة تحت عنوان: “المقاومة: فلسفة التحرير وآفاقها”.                                                                                                       

 فاعتبر أنه لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، يتقدم الفعل على القول، لا بمعنى السبق الزمني، بل بمعنى الفاعلية، ثقافة عربية بقيت تنتصر على المنابر والورق وتخسر المعركة على الجبهات لعقود، رأيناها تنتصر على الجبهة وتتكلم أقل مما يجب.

أضاف، فاذا كانت الثقافة هي: “المضاف الإنساني على الطبيعة”، فإن ثقافة المقاومة هي: “ما أضافته المقاومة على الثقافة السائدة”، وهو إعادة الاعتبار للفعل ولصناعة الأحداث، بدل الاكتفاء بالتغني بالماضي.

وصرّح أنه عندما تهدأ المدافع، يجب أن تلهث العقول والأفكار واللغة والمفاهيم وراء الإنجاز، لتحصنه من الحرب الناعمة، وفي هذا المضمار لا نزال أقل من إنجازنا وأضعف من عدونا، الذي جهد هذه المرة بسلاح القول والصورة النمطية وتقنيات الإعلام والتواصل المتطورة، لحبس الإنجاز ومحاصرته حتى أصبحت المقاومة التي حررت بحاجة إلى تحرير في وعي الناس ومخيالهم.

ولفت، أنه في آتون الحرب على المقاومة عام 2006 كان للصمود الأسطوري وتضحيات الشهداء والمدنيين صوت أعلى من النميمة الإعلامية والنفاق السياسي، ولكن ما إن هدأت الحرب حتى ارتفعت أصوات الفضائيات والنفاقيات مجددًا لتتمكن من نقل خطوط التماس إلى كل نفس وكل دار. موضحًا، أما الآن في ملحمة غزة فيبدو أن النفاقيات تعلمت من تجاربها وبدأت معركة الفصل بين المقاومة الشيعية والمقاومة السنية والدم يسقط على الأرض، والمعركة لم تفصح عن نهايتها بعد، لتهفيت العمل المقاوم ككل وزرع بذور الفرقة المانعة من استثمار الإنتصار.

ورأى أن قتال الصهيوني المحارب أقل تعقيدًا من مواجهة المنافق، الذي يشن حربًا ناعمة، وفيما أمكننا رد المعتدي الصهيوني على أعقابه وظهرت خطوط التماس بيننا وبينه واضحة في الجغرافيا الطبيعية، تداخلت خطوط التماس مع النفاق في الجغرافيا الفكرية والنفسية والإعلامية.

وأكد أن التفوق على النفاق تفوق لغوي فكري حضاري سلمي مدني إعلامي نفسي، يحتاج إلى ورشة عمل معقدة هي بالتأكيد أكثر امتدادًا من الحرب العسكرية والأمنية.

وفي معرض حديثه عن تجليات الفعل المقاوم، قال:كل أمم العالم تمجد من يحمل السلاح في مواجهة الأعداء، وتعتبر من يؤثر إلقاء السلاح في ساحة الحرب عارًا على نفسه وأمته، والقرآن الكريم اعتبر الفرار من الزحف من أعظم الكبائر، ومن أسباب الغضب الإلهي، ولكن غرفة عمليات الحرب الناعمة في قوى النفاق روجت مقولة “حزب السلاح” وكأنها وصمة، ورددتها باعتبارها “سبة”، وكأن على المجاهد أن يستحي بجهاده، وعلى الجبان أن يفتخر بعاره.

وتابع، أما التحريض المذهبي الصارخ، فلعب دورًا أساسيًّا في تحضير النفوس لقبول أي صورة نمطية سلبية عن الآخر المسلم، والتعصب يحدث حالة شلل في الوعي وعجز عن التحليل، ومهمته الأساسية هو نقل المعركة إلى الداخل، والانسحاب من المواجهة الكبرى مع الصهاينة إلى مواجهات تستنزف وحدة الأمة وقدراتها ومقدراتها.

وأشار إلى أن الإعلام والضخ المستمر للأفكار السامة، هو الثغر المفتوح اليوم لإحداث الشرخ، الذي يولد الفتن والمحن والدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية.

وأوضح أن المعركة من هذه الجهة بين صناعة الوهم بتقنيات الإعلام، وبين الطبيعة البشرية في أوج تألقها وقد اتحد فيها القول والعمل، الإيمان والفاعلية، الفكر والإشراق، الكرامة والشهادة، التنمية والتحرير.

أضاف، والمقاومة بمعناها الأوسع في مواجهة الحرب الناعمة، أكبر من مجرد رد فعل على احتلال، بل نسف للواقع المتخلف الذي  جرأ المحتل على الاعتداء، يعني تنمية، وتحرير للإنسان المقهور والمهمّش من عقدة الدونية والتبعية وإعداده لموقع الندية للعدو، والمساواة مع الآخر يعني إعداده لقتال عدوه وحوار نظيره.

وفي معرض حديثه عن اللغة والمفهوم تطرق إلى أن المقاومة على وزن مفاعلة، وهذا الوزن يتضمن الفعل ورد الفعل، والمادة “قوم” تفيد القيام والنهوض والحركة، كما  يشتق منها التقويم للاعوجاج، والتقويم بمعنى منح القيمة والتقييم بمعنى قياس القيمة.

تابع، ويضيف القرآن الكريم على الدلالة اللغوية، معنى قيميًّا في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم﴾.(النساء، الآية 135).

وذكر أن المقاومة والقيام لا يكون نهوضًا وتقدّمًا، إلا إذا كان قيامًا بالقسط أي بالعدل، وشهادة لله بعد التجرد من الأنا والذات “ولو على أنفسكم” الحرية.  

أما بخصوص المنظور العلمي فيرى الدكتور سعد أن العلم يعالج مسألة المقاومة في الكون والطبيعة، ويقرر أنها ظاهرة وفاعلية كونية، هادفة إلى أن يحفظ كل موجود خصائصه التي تميزه عن بقية الموجودات ليقوم بوظيفته التي سخر لها.

وأشار أنه في البيولوجيا، تعتبر المقاومة للأجسام الغريبة من وظائف الأجسام الحية، وهي أيضًا تصاب بالحمى عندما يستنفر جهاز المناعة لطرد الجسم الغريب، والمقاومة هنا ليست فقط وظيفة حيوية، بل من أدلة الوعي والحياة،…

تابع، في علوم البيئة، تبادر الطبيعة إلى الغضب عندما تشعر أن الإنسان قد أخل بتوازنها، وتدخل بتوازناتها الدقيقة، فرفع نسبة الكربون وقلل من نسبة الأوكسجين، وهنا تقوم المقاومة الطبيعية بدور إعادة التوازن لتعالج طغيان الإنسان في الميزان على حد تعبير القرآن الكريم.

وأوضح أنه يمكننا أن نعبر عن هذه الظاهرة الطبيعية بأنها ناتجة عن توقف الحوار بين الإنسان والطبيعة، فهو بعبثه في ثروات الأرض يأخذ من دون أن يعطي، ويتصرف كأن الطبيعة مادة جامدة لا حياة فيها، وهي ترد على هذا التجاهل بإعلان حياتها بغضب… لكي يكون هناك حوار، ولتجبر الإنسان على أن يصغي لصوت أنينها من طغيانه.

ثم يتساءل، ترى ما الذي تريده البيئة الطبيعية من الإنسان، وما هي الرسالة التي يحملها هذا الغضب؟ لأنها ترى أن الإنسان يسعى إلى التحكم بمقدراتها عن طريق إلغاء التنوع البيئي، وصناعة التصحّر، وترى أنه يلعب على هذا العبث ويسميه تقدمًا، والواقع أنها لم تجن من هذا التقدم إلا التلوث..

ويتساءل أيضًا، ما هي أزمة الغرب المستكبر مع بقية العالم؟ يكاد الجواب يتطابق مع ما تريده الطبيعة من الإنسان، فالعالم يرى أن الغرب يسعى إلى التحكم بمقدراته، عن طريق استنزاف ثرواته وإلغاء التنوع الحضاري وصناعة التصحر الثقافي، ويرى أنه يلعب على الألفاظ ويعبث بالمعاني والحقائق فيسمي نظام التحكم والتفرد تارة حداثة، وتارة أخرى عولمة، والواقع أن العالم المستضعف، لم يجن من الحداثة إلا الاستعمار، ولم يعرف العولمة إلا كنظام تنميط وتعليب لثقافته وحضارته وثرواته وإنسانه،…

وأوضح أن المقاومة، شأن المعادن الصلبة، والأجسام الحية، والبيئة المتوازنة، والعالم الحر، والمجتمع الحي، والكل يقاوم من أجل أن يحفظ خصائصه ويقوم بوظيفته ويحمي توازنه ويشارك في صنع الحياة من حوله.

 ورأى أن العالم المستضعف عندما يغضب وينتفض ويقاوم، فإنه يمارس في الحقيقة ما هو أكثر من رد فعل طبيعي، بل هو يطبق نظام الطبيعة في وجه الصناعة، وبتعبير القرآن رد الخلق والفطرة على العبث بالخلق والفطرة…

وفي معرض حديثه عن المنظور الاجتماعي، أشار إلى أن المعادن الصلبة تستبدل بالمجتمع الأصيل، والجسم الحي بالمجتمع الحي، والبيئة المتوازنة بالدولة العادلة، وعندما يتعرض مجتمع حي للغزو ولخطر الإبادة فإنه يقاوم ليدافع عن وجوده وأصالته، وليقوم بدوره في دورة الحياة.

ويرى أن دعاة الإنهزام يمثلون الشكل الاجتماعي من فيروس نقص المناعة، الذي يهدف إلى إصابة المجتمع بنوع من الإيدز الحضاري، فهم يستهدفون الوعي بوصفه جهاز المناعة، ويركّزون على الإعلام كوسيلة لإسقاط الوعي ليتمكن فينا الغزو، فيسقط منا الحياة والروح، ويبقي منا العيش، يسقط فينا الإنسان، ويبقي منا الحيوان.

تابع، هم إذن أصحاب  ثقافة العيش، ونحن  أصحاب ثقافة الحياة، هم سماسرة الطغيان والإقصاء والإلغاء، ونحن دعاة التوازن والعدل والمشاركة، هم صوت الصناعة والتلوث البيئي والاجتماعي والسياسي، ونحن صوت الطبيعة الأم التي تغضب لترحم، وتقاوم لتشارك… ولكي يكون هناك حوار.

وعن البعد السياسي، من التفاوض إلى الحوار، يعتبر الدكتور سعد أنه في ظلال هذه الحرب المستمرة التي شنت على الشرق والإسلام من بداية القرن الماضي والتي ازدادت استشراسًا مع بدايات الألفية الثالثة على أثر أحداث 11 أيلول، وبعد 75 عامًا على إنشاء وزرع وفرض الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني المظلوم، أقصى ما يعرضه علينا الغرب وربيبته إسرائيل هو التفاوض.

تابع، التفاوض عملية يكمّل فيها الذكاء الديبلوماسي ما أنتجه التفوق العسكري بهدف تحويل المكاسب الآنية إلى مكاسب مؤبدة غير قابلة للتغيير حتى لو تغيرت بشكل نسبيّ توازنات القوى.

وصرّح، أنه في فلسطين فقد شهدت الساحة الفلسطينية انقسامًا حادًّا بسبب إصرار بعض القيادات السياسية على المراهنة العبثية على تحصيل مكاسب من المفاوضات، فيما تتغير توازنات القوى على الأرض لمصلحة إسرائيل، مما يدل على نوع من الجهل أو من التجاهل لأصول علم التفاوض، الذي لا يكف عن تأكيد حقيقة مرة تفيد بأنك لا تستطيع أن تنتزع من عدوك مكسبًا على الطاولة إذا لم تكن مؤهلًا لانتزاعه بالقوة على الأرض…

أضاف، وهنا يبرز الفارق الأساسي بين التفاوض والحوار، فالتفاوض ممكن بين الأعداء، أما الحوار بينهما  فمستحيل، لأنه لا يكون إلّا بين ندّين هما الذات والآخر، مع احترام متبادل يمنح مصالح كلا الطرفين فرصة للتحقق عن طريق الحوار.

وأشار إلى أنه من أخبث الألعاب اللغوية التي تمارس اليوم هي تحويل العدو إلى آخر، وتصوير التفاوض على أنه حوار، مما يمنح القتل مشروعية الاستمرار طالما أن التفاوض المسمّى حوارًا يتغذى من دم القتلى والشهداء.

وأوضح أن أطروحة المقاومة قائمة أولًا على الفصل بين التفاوض والحوار لكي يتعرّى التفاوض من مشروعية الحوار، ولتتهيأ الظروف الموضوعية لحوار ندّي مع الآخر، الذي يعترف بنا كآخر ويحترمنا كذات حضارية، ولكي تكون هناك حرب مكشوفة مع العدو، كاشفة لمكر السياسة وألعاب اللغة التي تلبس حربها علينا لبوس “عملية السلام” المستمرة حتى آخر فلسطيني، وآخر زيتونة وبعد بناء آخر مستوطنة.

وشدد بأن المصرّين على مقولة التفاوض مع إسرائيل من دون أي مكسبٍ ملموس إلا للعدو، من المستبعد أن يكونوا أغبياء ولهذا فهم شركاء، شركاء في دم المقتولين يوميًّا باليد الإسرائيلية في فلسطين التاريخية.

واعتبر أن المقاومون وحدهم هم الذين يدركون بعمق ويعبّرون بصدق ووضوح عن العلم بأهمية توازنات القوة في عالم تحكمه في كل مجالاته توازنات القوة. والمقاومون وحدهم يعلمون أن كسر معادلة الحرب- التفاوض وتحرير الأراضي المحتلة تمثل مقدمة بديهية لحوار حضاريّ بين الشرق والغرب.

ورأى أن خيار مقاومة العدو على الحدود ومحاورة الآخر في الوطن فيؤسس للسلام الداخلي، ويحول إسرائيل إلى عبء على الغرب يجبره على الاعتراف بأهل الشرق الذين أدمن ظلمهم واضطهادهم ونهب ثرواتهم والتهوين من شأنهم.

وصرّح أن دمنا مهدور مجانًا إذا فاوضنا، ومثمر نصرًا محققًا إذا قاومنا، فليحص دعاة الصلح مع إسرائيل الشهداء المظلومون الذين قتلتهم “عملية السلام” منذ انطلاقتها، وشهداء المقاومة، إن لغة الأرقام تفصح عن صوابية خيار المقاومة حتى بالمعنى البراغماتي للسياسة، وتظهر بوضوح أن إسرائيل تخيرك بين موتين وليس بين موت وحياة، فهل هذه هي ثقافة الحياة؟

وفي معرض حديثه عن تكامل الأبعاد في مفهوم “الاقتدار”، يرى أن من أبرز أسباب محنة الشعب الصامد والمجاهد في غزة اليوم، عجز الشعوب عن ترجمة غضبها إلى سياسة، بسبب عجزها عن إنجاز ثورة حقيقية على طريقة الثورة الإسلامية في إيران وليس على طريقة جين شارب والربيع السلفي الذي كان نتيجة تحالف بين الغرب وجماعات السلفية التكفيرية بهدف تحويل كل دول الطوق إلى دول فاشلة.

واعتبر أن الحاجة إلى الإنجاز السياسي أصبحت أكثر إلحاحًا اليوم لأننا أمام هجمة غربية جديدة تريد أن تبني إنطلاقًا من الحرب على غزة نظامًا دوليًّا جديدًا بلا قانون دولي إنساني تسوده شريعة الغاب، ومعادلات القوة الفيزيائية العارية. 

ولفت إلى أنه يستخدم في تشخيص هذه الأزمة هنا مصطلحين من مدرسة التجربة الإيرانية المعاصرة:

– المصطلح الأول هو معاناة العالم الإسلامي والعربي من “نقص في الخمينية”: وأعني به النقص في الإحاطة بكل أبعاد التحدي والمواجهة مع الهيمنة الغربية.

وتابع، لقد أدرك المستكبرون من الغرب والعرب خطورة النموذج الإيراني – الخميني ، فرفعوا في وجهه السدود والحدود المذهبية والقومية، ومنعوا تأثر الشعوب العربية بالأسلوب الخميني في الثورة والتغيير، فلم يبق للشعوب العربية من ثورة إلا تلك التي تعرضها عليها دوائر المخابرات الأميركية والخليجية والتي تذهب بالواقع العربي من سيء إلى أسوأ، وتهدف في النهاية إلى أن يكفر الشعب العربي بالثورات ويخاف من سلوك درب التغيير السياسي.

– المصطلح الثاني هو النقص في الخامنئية:  وأعني به ما استفدناه من إصرار السيد القائد الخامنئي (دام ظله) على تأصيل التنمية في الدولة تحت الحصار، وتأخير الانفتاح الاقتصادي على الغرب، عن طريق تحويل أزمة الحصار إلى فرصة نهوض للقدرات الوطنية الإيرانية والسير بها في خطط محكمة نحو الاكتفاء الذاتي في كل المجالات وخصوصًا المجال الاقتصادي، الذي أصبح ساحة الحرب الجديدة ووسيلتها.

ثم أكّد، والآن بعد أن رأى الغرب بكله، أن رمز هيمنته على المنطقة قد اهتز، كشف عن شراسته وإجرامه وهمجيته، واتضحت صوابية “الخامنئية”، بأن الغرب لن يكون بأي حال من الأحوال إلّا مصدرًا للخطر على العالم العربي والإسلامي، فلنذهب في حل مشكلة فلسطين بعيدًا عن الغرب، ولنحرر دول الطوق من الأنظمة العميلة له بثورة خمينية هذه المرة، بالتوازي مع السعي لوقف النار في غزة العزيزة وتكريس الانتصار. 

ختم الدكتور جهاد سعد محاضراته قائلًا: يعاني العالم العربي اليوم من نجاح الجهود التي بذلت على أكثر من صعيد لفصله عن تأثيرات الثورة الإسلامية في إيران، مما جعله يفقد النموذج، الذي يمكنه من تكملة المقاومة التي تعبر عن إرادة الشعوب العربية بإنجاز سياسي … هذا الإنجاز الذي نحتاجه اليوم بشدة لفك الحصار الأميركي الصهيوني المصري الأردني السعودي عن غزة الجريحة والعزيزة… واستثمار الانتصار باستكمال تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. وتأسيس دولتها المستقلة بدورها عن النفوذ الغربي، بعاصمتها القدس كل القدس.

وختام المحاضرات كان مع الدكتور أحمد ماجد في ورقة بعنوان: المقاومة فلسفة حياة بمواجهة البيوسياسة، فاعتبر أن الدراسات المتعلقة بالمقاومة درجت إلى تبوبيها تحت عنوان مواجهة المحتل، لذلك نرى ميل التعريفات إلى اعتبارها: “عمليات القتال التي تقوم بها عناصر وطنية من غير أفراد القوات المسلحة النظامية، دفاعًا عن المصالح الوطنية أو القومية ضد قـوى أجنبيـة، سـواء أكانت العناصر تعمل في إطار تنظيم يخضع لإشراف وتوجيه سلطة قانونية أو واقعية، أو كانـت تعمل بناء على مبادراتها الخاصة، أباشرت هذا النشاط فوق الإقليم الوطني أو من قواعد خارج هذا الإقليم”،

وأشار إلى أن هذا التعريف الذي يحمل بعدًا قانونيًّا بحاجة إلى مراجعة جدية في عالم سقط فيه القانون الدوليّ، ولم يعد بالإمكان التعامل معه إلا باعتباره كلمات، لا تُفعّل إلا عند الحاجة إليها كإحدى وسائل الضبط والسيطرة،..

وتحت عنوان: في الإنسان والسلطة: رأى أن مفهوم السلطة لم يغادر الفكر الإنسانيّ، فهي تدخل في نسيجه، لذلك تركزت التنظيرات الفلسفية على هذا الجانب، وعُولِجت في البداية من خلال كيفية العمل عليها من أجل بلوغ الإنسان لكماله، فالسلطة ليست أمرًا عشوائيًّا، يقوم على مبدأ القوة، إنّما هي عملية إدارة للقوى من أجل جعلها تخدم الوجود الإنسانيّ، لذلك نرى أفلاطون يتحدث عن ضرورة وجود الدولة المماثل للأفراد، … ولا ينكر أفلاطون السلطة أو أهميتها، بل يؤكد عليها، ولكنّه يسعى باتجاهها كوسيلة أخلاقية، يحقق من خلالها القانون الكليّ الذي يحكم الكون والمتمثل في عالم المثال.

تابع، اختلف أرسطو مع أفلاطون في كيفية بناء مفهوم السلطة، واعتمد في تنظيراته على التجريب الواقعي، منطلقًا من واقع: “إنّ الدولة هي من عمل الطبع وأنّ الإنسان بالطبع كائن اجتماعي”[5]، ..

ويرى أن “أرسطو” أقام بناءه السلطويّ على أرضية أصالة الجانب الاجتماعي، التي تحتم ضرورة وجود قانون أعلى أو دستور، يتمّ تسيير الجماعة على أساسه.

واعتبر أن “توماس هوبز”Hobbes قدّم أول تصور مفارق لمفهوم السلطة، حيث ناقشه كمفهوم كليّ بوصفه مجموع الوسائل، التي يمتلكها الإنسان ويوظفها للحصول على فائدة مستقبلية له، وانطلق “هوبز” في نظرته إلى السلطة من خلال الحديث عن العقد الاجتماعيّ، الذي ينطلق من الحالة الطبيعيّة في البداية.

وأوضح أن هذه الفكرة التي قدمها “هوبز” تنطلق من نظرة للطبيعة الإنسانية، التي تسعى دائمًا باتجاه المصالح الأنانية، التي تحفظ الذات على حساب الآخرين، مما يؤدي إذا تركت على عواهنها إلى ضرب النوع، لذلك كان إنشاء سلطة سياسية مشروعًا لضبط هذه النزعة التي تميل إلى القوة والعنف. مشيرًا إلى أن مفهوم القوة عند “هوبز” له أهمية كبيرة في فلسفته السياسية، لأنّها الوحيدة القادرة على تقديم الضمانات الضرورية للناس،… وبهذا يؤسس “هوبز” السلطة على أساس الحكم المطلق، الذي يستطيع أن يؤمن السعادة والرفاهية للتابعين له،..

وذكر أن مفهوم العقد الاجتماعي، الذي انطلق مع “هوبز”، الذي ربط بين السلطة ومفهوم السيادة، تطور بعد ذلك مع شخصيات أخرى كـ”جون لوك”، الذي رأى الدولة مجالًا عامًا، يقوم على مبدأ التعاقدية المرتبط بالفردانية المتحررة، وهكذا يؤسس “جون لوك” لمفهوم السلطة من خلال رؤية ليبرالية، تكون فيه الدولة المجال، الذي تتجلى فيه السيادة، بما هي ممثلة لجميع الأشخاص الّذين التزموا به من أجل حماية ملكياتهم ورعاية شؤونهم، وهي وإن تجلت بشخص الملك بمقتضى التنازل عن بعض حقوقهم الطبيعية، إلا أنّ هذه السلطة تبقى مرهونة بالتزامه صيانة الحقوق والحريات الفردية، وإلا فللناس حق الثورة عليه.

ومع جون جاك روسو:  يعتبر الدكتور ماجد أن هذه الأفكار والتأسيسات الأولى، ساهمت وبشكل كبير في بروز الأفكار السياسية والاجتماعية عند “روسو”، حيث جسد في كتابه “العقد الاجتماعي “du contrat social” السعي إلى إيجاد نظام اجتماعي، يستخدم السلطة الجماعية لحماية حقوق الفرد وحرياته ومصالحه، منطلقًا من أنّ الحالة الطبيعية، هي حياة خيرة، فالفرد عند روسو، يعيش وفق التعاقد الاجتماعي نتيجة تزايد السكان، بحيث يكون هذا التعاقد الوسيلة الوحيدة التي تفيد وتنظم حريات الأفراد، باعتبار أنّ الإنسان حر.

تابع، ويرى روسو على غرار فلاسفة عصر التنوير، بأنّ الشعب هو الذي يجب أن يصدر عنه القانون الذي يحكم بموجبه، فلا يحق لأيّ فرد مهما كان أن يسلبه هذا الحق، لأنه هو الذي يبرر وجود الدولة، فالحكم المطابق أكثر للطبيعة الإنسانية هو الحكم الذي يعطي السيادة للشعب…

وأوضح، من خلال هذا الفهم، تصبح الدولة: “شخص معنويّ، تكمن حياته في اتحاد أعضائه، ولما كانت أبلغ ضروب العناية التي للدولة، إنّما ما توليه لبقائها هي بالذات، لزم أن تكون لها قوّة كليّة جامعة وقاهرة لتحريك كلّ جزء وترتيب وضعه الترتيب الأوّتى للكلّ. وعلى نحو ما تفعل الطبيعة إذ تهب كلّ إنسان سلطانًا مطلقًا على جميع الأعضاء التي له، فإنّ الميثاق الاجتماعي يهب الجسم السياسيّ سلطانًا مطلقًا على جميع الأعضاء التي تكونه؛ وإنّ هذا السلطان بالذات، وهو الذي تسوسه الإرادة العامة[…] هو الموسوم باسم السيادة”[6]، …

ويعتبر أن هذه المقاربات الفكرية لمفهوم السلطة، يمكن استعراض الكثير منها، ولكنّها مع التحولات التي شهدها العالم ابتداءًا من الحداثة، وصولًا إلى الحرب العالمية الثانية ونتائجها، أخذت تتآكل، فالنتائج المترتبة عن هذه الحرب، دفعت باتجاه إنتاج مفهوم جديد للسلطة، وإن كانت هذه الأفكار غير غائبة في التأسيسات النظرية الأساسية، بل تشكل أصلًا لها، حيث إنّ مفهوم السيادة على تنوعه الذي كُنا رأيناه في المقاربات الفلسفية والمتمثلة بالأخلاق أو القانون، أو الاجتماع أو الدين أو الدولة، أخذ ينحسر في ظل نشوء مفهوم جديد للسلطة، ينطلق من كيفية سيطرة حركة رأس المال في المجتمعات، مما أدى إلى الانتقال من مفهوم الإنسان الفلسفيّ إلى مفهوم الإنسان الحيوي.

 وفي معرض حديثه عن السلطة والبيوسياسة: يتطرق الدكتور ماجد إلى الحديث عن ميشال فوكو، الذي يعتبر أن البيولوجيا السياسية الحجر الأساس للحداثة الغربية، على أساس أنها تضع الإنسان ككائن بيولوجي حيوي في قلب النظام السياسيّ، فمع نمو الرأسمالية في القرن الثامن عشر، بدأت تتشكل رؤية جديدة من السلطة، تسعى للسيطرة السياسية، والاقتصادية والاجتماعية على الجسد عبر الاهتمام به وزيادة قدراته، والاستجابة لمتطلباته الحيوية، وأنماط عيشه،…

تابع، الكلام السابق، يضعنا أمام واقع أنّ الرأسمالية كسلطة، شددت من خلال حركتها على العمل وفق اتجاهين مترابطين أو تقنيتين سلطويتين موجودتين على مستوى الاجتماع، وهما السلطة التشريعية والسلطة البيولوجية، حيث تعمل الواحدة بجوار الآخر، الأولى تتجه إلى الأفراد لترويضهم وإدخالهم في إطار السلطة الانضباطية، والثانية تعمل على الجماعات البشرية كافة، وتخضعها لرهاناتها من خلال تمكين آليات للتعامل معها، ..

 وأضاف، هكذا يتخذ القانون صيغة مختلفة في سياق حضور السياسات الحيوية، أي إن السياسات الحيوية التي تُعنَى بحياة السكان بوصفهم الجسد الاجتماعي الذي يخضع للمراقبة، والتنظيم، والاختبار، والتحسين، والحماية، لا تعتبر القانون نموذجًا للسلطة السيادية؛ إذ لا تنسجم صيغة القانون التي تقوم على العقاب والإماتة مع السياسات الحيوية التي تهدف إلى الإحياء والتنظيم والمراقبة،..

ولفت إلى أن هذه النظرة تجعل من القانون، الذي يهدف إلى الإلزام بالتشريعات، يتنحى جانبًا، بحيث يؤدّي المعيار دورَه في تنظيم حياة السكان، بناءً على نوعهم البيولوجي وطبيعتهم الحيوية.

واعتبر أن السلطة تصبح هي مفعول مجموع مواقعها الاستراتيجية، فهي ليست ملكية أو تبعية دون نفيهما، فهي علاقات إنتاجية قبل كلّ شيء، هي استراتيجية ومحايدة ومتفرعة بمعنى أنّ السلطة تنتشر في جميع مفاصل المجتمع، وهي إجرائية تعكس إجراءات معلنة وخفية في الوقت ذاته، يبحث عنها في أسفل المجتمع وليس في أعلاه في الممارسات اليومية في المستشفى والمدرسة والسجن، في الجيش وفي كلّ المواقع التي تُمارس فيها السلطة الميكروفيزيائية، وهي سلطة مضاهية للسلطة التقليدية (المتمثلة في البرلمان والأحزاب)، باعتبارها مؤسسات للمراقبة التي أنشأتها الحداثة،….

وفي معرض حديثه عن المقاومة كأصل بان للحياة، يرى الدكتور ماجد أن أهمية دور المقاومة يظهر بوضوح بمواجهة البيو سياسة، حيث تصبح خيارًا إنسانيًّا ملزمًا، فالمجتمعات العارية التي تعاني من سطوة هذه السلطة: توجد المقاومة حيث توجد القوة لعلّ هذا المبدأ من أبرز أفكار ميشال فوكو حول القوة، وأكثرها اقتباسًا كأي من علاقات القوة، فإنّ المقاومة لا توجد بشكل مستقل عن غيرها من العلاقات، حيث إنّها تتوزع على شكل نقاط كثيرة تتخلل شبكات القوة، لذا فليس هناك مركز واحد للثورة والرفض، بل هناك تعددية من المقاومات ضرورية وممكنة وفردية وعفوية، فالمقاومة تعيد بناء الذوات المتشظية، وتفعِّل الكامن والمخفي، فهي تعيد ترميم الذوات انطلاقًا من خصوصياتها، وتعمل على إعادة التوازن له، ويشير إلى ما قاله إقبال: والذات ضرورة لمصالح الحياة والقدرة على الاستمساك بقضايا الحق والعدالة والواجب… إلخ حتى في مواجهة الموت. ومثل هذا السلوك أخلاقي في نظري إذ إنه يساعد في دمج قوى الذات ويضفي عليها صلابة في مقابل قوى الانحلال والتفكك …

وتابع، لم يتوقف إقبال عند حد الدعوة إلى تقوية الذات، بل ذهب إلى تحديد وتوضيح الأسس التي من شأنها المساهمة في تحقيق هذا الهدف الأسمى، ومن أهم الأسس التي تعمل على تقوية الذات نجد:

أ- عقيدة التوحيد: الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص هو من أولى أسس تقوية الذات عند إقبال؛ فالتوحيد هو القوة الإيمانية التي تسمو بالذات نحو الكمال.

 ب- خلق المقاصد: جعل إقبال خلق المقاصد من أولى الشروط التي ينبغي التحلي بها للوصول إلى تقوية الذات لأنها منبع الحركة والنشاط والإقدام.

ج- الشجاعة ومواجهة الصعاب: يرى إقبال أن الخوف الذي ابتلي به المسلم هو من أهم أسباب ضعفه وتخلفه، ولهذا كان إقبال كثيرًا ما يدعو إلى الشجاعة فالذات لا تقوى ولا تسمو بدون الشجاعة، فهي تؤهله لخوض صعاب الحياة وتحدي مخاطرها.

ويرى أن المقاومة هي التي تسمح للقيام بفعل المراجعة الدائمة القائمة على أرضية الاقتدار الحضاري، وعبر إنتاج مفاهيم نظرية تأصيلية تسمح بدفع ما قلناه إلى الأمام.

وختم الدكتور أحمد ماجد بالقول: إن المقاومة تُعيد تنظيم رؤية الإنسان لنفسه وعالمه، فهي تعيد فعالية القدرة على الحكم، وتعتبر الحرية سلوكًا نظريًّا وعمليًّا معًا قائمًا على تصور أخلاقي للإنسان، وجاعلًا من التنوير أيضًا تقدّمًا أخلاقيًّا نحو الخير الأسمى، وهذا ما جعل كانط في كتابه نقد ملكة الحكم الفقرة 28، يعتبر المقاومة فكرة جمالية معتبرًا أن الشعر بوصفه ضربًا من السمو نحو مقام الأفكار الجمالية (الفقرة 53) هو ضرب من مقاومة حدود المخيلة في تمثل ما لا قدرة لها على تمثله. فالشعر هو القدرة على الخروج عن حدود المخيلة إلى مجال الفكرة الجمالية وهو ما تعبر عنه فكرة الرائع.

[1]  سورة مريم، الآية 83.

[2]  سورة طه، الآيتان 42 و 43.

[3] سورة طه، الآية 46.

[4] سورة آل عمران، الآية 139.

[5]  – أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، بيروت، دار الجمل، 2009، الصفحة 99.

[6]  – جون جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون الأساسي، مصدر سابق، الصفحة 112.



المقالات المرتبطة

“المشروع الفكري لسماحة آية الله الشيخ اليزدي وتأثيراته على الفكر الإسلامي المعاصر”

الشيخ المصباح هو عَلَم بارز واسم علمي كبير… هو شيخ غزير الإنتاج، ولا يكلّ من التدريس ومن الوعظ ومن الإرشاد.

حوار منهجي في العلمانية

أقام المنتدى الدولي للحوار المسؤول في معهد المعارف الحكمية ندوة فكرية بعنوان: حوار منهجي في العلمانية، وذلك عبر الفضاء الافتراضي

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<