محاربة التشدد والغلو رؤية أزهرية وضرورة دينية وحتمية سياسية

محاربة التشدد والغلو رؤية أزهرية وضرورة دينية وحتمية سياسية

الغلو ومعناه

فى اللغة[1]:

غلوت في الأمر غلوًّا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه.

وغلا في الدين والأمر يغلو غلوًا: جاوز الحد.

والغلو: الأعداء. وغلا بالسهم يغلو به غلوًّا: رفع يده يريد به أقصى الغاية، وهو من التجاوز.

وغلت الدابة في سيرها غلوًّا واغتلت: ارتفعت فجاوزت حسن السير.

ومن هذه التعريفات اللغوية تجد أن معنى الغلو يدور حول مجاوزة الحد.

فإذا جاوز الإنسان الحد في أي أمر من الأمور، فقد غلا غلوًّا.

ومن معاني الغلو أيضًا الارتفاع ومجاوزة حسن السير، فالمغالي والمتشدّد هو أيضًا مرتفع برأيه عن سواء السبيل، وهو أيضًا مجاوز للحد في سيره إلى طريقه.

والوسط هو العدل في الأمور.

قد أمر الله عزّ وجل بترك الغلو، ففي القرآن الكريم ينادي الله عز وجل أهل الكتاب، أهل الإنجيل، ألا يتجاوزوا الحد في الدين، وألا يتجاوزوا الاعتقاد الحق في الله عز وجل، وطالبهم ألا يقولوا على الله إلا الحق، بألا يجعلوا له صاحبة ولا ولدًا، فينبغي أن ينزهوه ـ تعالى ـ عن الشريك والولد. فالمسيح (ع) رسول، أرسله الله عز وجل إلى قومه، وقد خلقه الله بالكلمة، وهي قوله تعالى: “كن” فيكون، فليس الأمر كما زعم هؤلاء أن عيسى ابن الله، أو إله معه، أو ثالث ثلاثة.

وقد طلب الله عز وجل منهم أن يؤمنوا بذلك، أن يؤمنوا بالله ورسوله، ولا يقولوا: الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

وطلب الله عز وجل منهم أن ينتهوا عن ذلك، ويأتوا الذي هو خير، وهو التوحيد، فالله إله واحد منزّه عن أن يكون له ولد، والله له ما في السموات وما في الأرض خلقًا وملكًا وعبيدًا، وكفى بالله وكيلًا وشهيدًا على ذلك.

قال الله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ [2].

فالغلو في الدين ومجاوزة الحد أدى بهؤلاء أن يقولوا ذلك.

ويقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾[3].

وقد حذّر رسول الله (ص) من الغلو، فقال: “إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”[4].

فبين (ص) أن التشدّد ومجاوزة الحد هو الذي أودى بهلاك من كان قبلنا، كما بيّن القرآن الكريم في ندائه لأهل الكتاب، فأصرّوا على غلوّهم فخسروا الدنيا والآخرة.

وقد بيّن رسول الله (ص)كيف أن هذا الدين متين، فأوصانا بالرفق فيه، فقال (ص): “إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”[5].

وفي رواية أخرى “إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق”[6]. فمرة يحدّث رسول الله (ص) الفرد: “أوغل”، ومرة يحدّث الجماعة: “أوغلوا”، فيطلب من الناس أن يسيروا فيه دون تكلّف ولا تحمّل ما لا يطاق، ولا تشدّد، فيعجزوا ويتركوا العمل.

فالإيغال هو السير الشديد. فلا ينبغي أن يكلف الإنسان نفسه من الأعمال ما فيه تشدّد، أو ما يخالف العادة، بل يكون ذلك بتدرج وتلطف، فقد طلب الرسول (ص) أن لا نشق على أنفسنا.

ولذلك يقول (ص) أيضًا: “إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه”[7] .

فقد بيّن رسول الله (ص) يسر هذا الدين، وأوصى بترك التشدّد ولزوم الرفق بالنفس والناس.

ولذلك ورد عن أبي موسى أنه قال: كان رسول الله (ص) إذا بعث أحدًا من أصحابه لبعض أمره قال: “بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا”[8].

فالأمر بالتيسير وبترك التشدّد والغلو وبالالتزام بالرفق شامل للنفس وللناس، فالإنسان المسلم لا بدّ أن يكون الرفق والتيسير حليفه في نفسه، وأن يكون الرفق سلوكه مع الناس.

والغلو والتشدد على النفس فيه تضييع لحقوق الآخرين: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ (رض) ـ قال: قال لي رسول الله (ص): “يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل”، فقلت: بلى يا رسول الله. قال: “فلا تفعل، صم وافطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزورك[9] عليك حقًّا….”[10].

فالتشدّد في أمور الدين، قد يضيع حقوق النفس أو حقوق العباد، والله عز وجل أمرنا بإعطاء كل ذي حق حقه، كما أشار بذلك رسول الله (ص)، فالنفس لها حق في راحتها، ليستطيع الإنسان ممارسة بقية أعماله، ويستطيع الممارسة بقية وقته. والأهل لهم حق، فلا ينبغي أن يضيع هذا الحق بسبب التعمّق والتشدّد في العبادة، والزائر له حق فلا ينبغي إغفاله، والزوجة لها حق. فكان هذا التوجيه من رسول الله (ص) لعمرو بن العاص، والذي التزم به عمرو بعد معرفته ذلك من رسول الله (ص).

وقد كان جمهور السلف وآل البيت وجمهور العلماء على مر العصور بعيدين كل البعد عن الغلو والتشدّد.

وذلك لأن التعمق في العلم، وكثرة الاطلاع والبحث والمدارسة ومعرفة آراء الآخرين، يؤدي بالباحث والعالم إلى التيسير وإلى التخفيف وإلى تبني الوسطية التي حث عليها الإسلام في قرآنه، فقال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾[11].

من أسباب الغلو والتشدد 

في دراستنا هذه نتعرض لبعض أسباب التشدّد والغلو حتى نعرف العلة، ونعرف بعد ذلك علاجها، ثم نتعرّف على موقف الأزهر الشريف ـ وهو يمثل الخط الوسطي في الفكر ـ من ذلك ما يلي:

  1. عدم التفقه والتعمق والفهم

الفقه هو الفهم، والفقه إحسان الإدراك، والفقه هو الفطنة، والفقيه هو العالم الفاهم الفطن بأصول الشريعة الإسلامية وأحكامها.

وعدم التفقه والتعمّق والفهم في أصول الشريعة الإسلامية وأحكامها هو سبب من أسباب التشدد والغلو.

وذلك لأنه يوجد في بعض كتب الدراسات الإسلامية رؤى متشدّدة، ونظريات متعددة، لم يجنح إليها جمهور العلماء وجمهور الناس، ومن قبل فإن هذه الآراء لم يجنح إليها جمهور آل البيت وصحابة رسول الله (ص)، كما أن في بعض هذه الكتب آراء دخيلة لا يعرف كنهها إلا المتخصصون في هذه العلوم.

كما أن هناك آراء ضعيفة ومرجوحة، عرضها العلماء القدامى لبيانها والإجابة عليها، وبيان الراجح بأدلته، والمرجوح بضعفه، إذ إن مذاق الحلو لا يعرف كماله إلا بمعرفة المرّ.

وهذه الآراء دخلت إلى هذه الكتب على مر التاريخ لأسباب سياسية وعلمية، فإن بعض المؤلفين أورد هذه الآراء على سبيل التعجب، وبعضهم أوردها على سبيل السخرية العلمية، وبعضهم أوردها ـ من باب الأمانة العلمية ـ وضعفها، وأشار إلى تضعيفها برموز أو بسند لا يعلمه إلا من تبحر في هذه العلوم، وتمرن على قراءة هذه الكتب.

كما أن بعض هذه الكتب ـ الفقهية مثلًا ـ تعدّد الآراء المختلفة، القوي منها والضعيف، والمسند منها وغير المسند، ثم يترك للباحثين التحقيق والوصول إلى الرأي الراجح.

كما أن بعض هذه الآراء نشأ نتيجة ظهور الفرق السياسية.

لدرجة أن هؤلاء العلماء الذين كتبوا هذه الكتب، قعّدوا بعض القواعد التي تهدي إلى سبيل المعرفة الصحيحة، وقالوا: إن الأخذ بالآراء الفقهية الشاذة والضعيفة جهل بالدين، وخروج عن الجادة، وتقول على الله بغير علم.

فهم قد وضحوا هذا تمام التوضيح. وقد كتبوا هذه الآراء لا على سبيل الأخذ بها، ولكن على سبيل حكايتها وإثراء المسائل، ثم الرد على الرأي المخالف إن كان بغير دليل يعتبر.

  1. عدم الرجوع إلى أهل العلم والتخصص

من أهم الأسباب التي تؤدي إلى التشدّد في الآراء أيضًا، عدم الرجوع إلى أهل العلم وأهل التخصص، لأنهم أعرف الناس بمقاصد الشريعة وغاياتها، وهم أعلم الناس بالراجح والمرجوح والشاذ من الآراء.

وهم أعلم الناس بالأدلة: عامّها وخاصها، ناسخها ومنسوخها، مطلقها ومقيدها. وهم أعلم الناس بالمجاز والحقيقة من الألفاظ، والظاهر والنص والمحكم والمتشابه… إلى غير ذلك.

والناس على مر العصور كانوا يلجأون إلى العلماء في فتواهم وفي أسئلتهم، وهذا شيء يؤيده العقل والشرع، فيقول الله عز وجل: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[12].

والناس على مر العصور إذا أرادوا أن يتعلموا أو يتفقهوا في دينهم لم يجدوا أحدًا يلجأون إليه إلا العلماء، فهم أعرف الناس بذلك.

فليس من المعقول أن يتعلم الإنسان الطب من الكتب فقط، فيقرأها ويكون طبيبًا، يعالج ويطبب. وليس من المعقول أن يتعلم الإنسان الهندسة من الكتب أو القراءات فقط، فيقرأها ويطلع عليها ثم يكون مهندسًا، يبني ويشيد.

وليس من المعقول أن يتعلم الإنسان؛ أي علم دون أن يلجأ إلى أهل الاختصاص، ولكن هؤلاء المتشددين في هذا العصر جعلوا من المعقول والمقبول أن يتعلم الإنسان أفضل العلوم وأسماها ـ وهي العلوم الشرعية ـ بالاطلاع دون أن يلجأ إلى أهل الاختصاص.

وقد يقول قائل: إن الإسلام ليس فيه كهنوت، وإن الدين ليس حكرًا على أحد، ونحن نقول له: نعم، الإسلام ليس كهنوتًا بمعنى أن تكون السلطة الدينية لبعض الأفراد دون بعض ويكون لهم القدسية ـ كما كان في العصور الوسطى ـ ولكنه علم وتخصص، وأي علم وأي تخصص يحتاج إلى دراسته دراسة علمية في أحد معاهده، وعلى أيدي متخصصيه.

والعلوم الشرعية ليست حكرًا على أحد، ولكن لا بدّ من دراستها دراسة واعية على أيدي المتخصصين، وفي معاهد التعليم، فإذا فعل ذلك مسلم فقد تجاوز الحكر، وأصبح يتمتع بهذه الخاصية وهذه الصفة.

أما أن يترك الأمر بلا حدود ولكل إنسان، هذا يقرأ هنا، وهذا يقرأ هناك، فإن هذا يؤدي إلى الوصول إلى التشدّد والغلو، لأن كثيرًا من هؤلاء سيضلون الطريق لا محالة.

وقد حذّر الله تعالى من الجدال في كتابه بغير علم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[13].

وقد ضلّ هؤلاء الذين يأخذون العلم دون أن يرجعوا إلى العلماء أهل التخصص وأئمة الأمة.

 “إن بعضًا من هؤلاء كان إذا سمع أي قرآن يتلى يسجد على الأرض سواء أكان طاهرًا أم غير طاهر، فإذا سئل عن السبب في ذلك، قال: لأن الله تعالى يقول في عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾[14]، ويقول: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾[15].

ولم يعرف هؤلاء أن النبي (ص) كان يسجد عند سماع القرآن أو تلاوته في مواضع معينة، وهي المعروفة بسجدات التلاوة لا في كل موضع. وقد ضل بعض هؤلاء في فهم قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[16]، فقال: المقصود أن يخرج الناس للجهاد، فإذا خرجوا تقوم جماعة منهم للاستطلاع والتعرف على أخبار العدو، ثم يعودون ليحذروا بقية إخوانهم ويستعدوا، وهذا هو المراد بالتفقه في الدين! أين هؤلاء من قول النبي (ص): “من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين”. ودعائه لابن عباس بالفقه! كما ضلّ آخرون فرفضوا توبة الغلام اليهودي الذي زاره النبي (ص) في مرضه، وقالوا: كيف تقبل هذه التوبة مع أن الله سبحانه يقول: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾[17]، لم يفهموا أن التوبة لا تقبل إذا كان الإنسان في حالة الاحتضار ووصل إلى الغرغرة التي يتأكد بعدها الموت، أما إذا كان مريضًا حتى لو كان مرضه شديدًا، ولم يصل إلى حد الغرغرة في الاحتضار، فإن توبته تقبل، وذلك لحديث النبي (ص)، الذي رواه الترمذي: “إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر؛ والغرغرة هي وصول الروح إلى الحلقوم”[18].

  1. 3. إطلاق التحريم على كل شيء

من أسباب الغلو والتشدّد أيضًا أن هؤلاء المتشددين يطلقون التحريم على أدنى الأشياء، وذلك بسبب عدم معرفتهم وتفقهم واطلاعهم على مقاصد الشريعة وأصول الفقه، فإن الأحكام الشرعية منها ما هو فرض، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه ـ تحريمًا أو تنزيهًا ـ ومنها ما هو مندوب، ومنها ما هو مباح. وليست الأحكام أو الأمور كلها في درجة واحدة، ولكن درجات بحسب الطلب الإلهي أو بحسب الطلب النبوي.

فقد عرف العلماء الفرض بأنه ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه، كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج والإيمان بالله تعالى، وحكم الفرض أنه لازم اعتقادًا وعملًا، فإذا أنكره أحد كفر، وإذا تركه ولم يعمله كان فاسقًا آثمًا. وفرض العين هو فرض ثابت على كل واحد من المكلفين بعينه، كالصلاة، وأما فرض الكفاية فهو فرض إذا قام به البعض سقط عن الكل، كالجهاد وصلاة الجنازة، وإذا تركه الكل أثموا. والواجب: هو ما ثبت بدليل فيه شبهة ـ كأحاديث الآحاد ـ وحكمه أنه لازم عملًا لا اعتقادًا، فمنكره لا يكفر لقيام الشبهة، وتاركه يأثم إثمًا أقل من إثم الفرض، لأن من ترك الفرض يعاقب بالنار، أما من ترك الواجب فالتحقيق ـ عند العلماء الأحناف ـ أنه لا يعذب بالنار، بل يحرم من شفاعة المصطفى (ص)، وأما الحرام: فهو ما يقابل الفرض، فيعذب فاعله بالنار ويثاب تاركه امتثالًا[19].

وهو أيضًا ما ثبت تحريمه بدليل قطعي لا شبهة فيه، كتحريم الخمر والزنا.

والمكروه تحريمًا: ما كان إلى الحرام أقرب، ويقابل الواجب.

والمكروه تنزيهًا: هو ما لا يعاقب على فعله، ويثاب على تركه أدنى ثواب.

وعلماء الشافعية لا يفرقون بين الفرض والواجب، وهو ما يثاب فاعله على فعله، ويعاقب تاركه على تركه.

والمندوب والمستحب والنفل والتطوع: كل هذه المصطلحات تطلق على ما طلبه الشارع طلبًا غير جازم، وخفف أمره، وإذا فعله المكلف يثاب، وإذا تركه لا يعاقب، ولا يلام على تركه.

وسمّي مستحبًا من حيث إن الشارع يحبه ويؤثره، وسمّي مندوبًا من حيث تعديد محاسنه، وسمّي نفلًا من حيث إنه زائد على الفرض والواجب، ويزيد به الثواب، وسمّي تطوعًا من حيث إن فاعله يفعله تبرعًا من غير أن يؤمر به حتمًا[20].

والمباح: هو ما لم يطلبه الشارع، ولم ينه عنه، ففاعله مخيّر بين فعله وتركه.

والسنة: قسمان سنة هدى، أو سنن الشعائر، وهي المؤكدة، وسنة زوائد. فالسنة إن كانت مؤكدة فتركها مكروه تحريمًا، وإن كانت غير مؤكدة فتركها مكروه تنزيهًا[21].

وهؤلاء المغالون والمتشدّدون لم يتعرفوا على درجات هذه الأحكام، ولا أقصد المسميات والمصطلحات التي ذكرتها آنفًا، فإنها سهلة المعرفة والحفظ، ولكن أقصد أنهم لم يتعرفوا على تطبيق هذه المصطلحات تطبيقًا عمليًّا فقهيًّا وإسقاطها على المسائل الفقهية نفسها، بحيث تعرف الأحكام ودرجاتها، وهل يقع هذا الحكم أو ذاك تحت مسمّى الحرام، أو تحت مسمّى الكراهة، أو تحت مسمّى الإباحة… إلخ.

وقد كان العلماء الثقات بدءًا من عصر الصحابة وآل البيت (ع)، ثم التابعين، ثم العلماء فى كل عصر، كانوا حريصين على عدم إطلاق التحريم على أمر أو شيء إلا إذا كان بدليل صحيح شرعًا، لأن الذى يحرّم شيئًا تمامًا كالذي يحل، فقد بلّغ بتحريمه هذا عن الله عز وجل، ولذلك فقد كانوا يتحرجون من هذا الأمر، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾[22].

  1. التعصب للرأي الواحد

من أسباب الغلو والتشدّد التعصب للرأي الواحد، وهذا هو أهم صفات هؤلاء المتشددين، فإن التشدّد يجعلهم متعصبين لآرائهم ولا يرون الحق إلا فيما وصلوا إليه، أو بمعنى أصح فيما وصل إليه مذهبهم.

ولذلك تراهم يتصادمون مع الناس كثيرًا بآرائهم، لأن الناس والعوام يعرفون من غيرهم ومن العلماء آراء أخرى، فإذا تلفظوا بها أمامهم كانت الطامة، وكان التفسيق والتبديع وإبطال الأعمال، بل ربما يكون التكفير على ألسنتهم.

إن هذه الطريقة وهذه الدعوة رفضها السلف، ورفضها العلماء السلفيون من الأئمة العظماء، وذلك لأنهم عرفوا الحق، وعرفوا أن ما وصلوا إليه من اجتهاد إنما يقع تحت الظن ولا يقع تحت اليقين، فلا يقين إلا بما اتفق عليه العلماء قديمًا وحديثًا واتفقت عليه الأمة بالنصوص القطعية الدلالة والقطعية الثبوت أيضًا، مثل قضايا التوحيد والرسالة المحمدية والفرائض كالصلاة والزكاة والحج والصيام… إلخ، وكذلك المحرمات كالزنا وشرب الخمر… إلخ، وكل ما يسمّى في الفقه المعلومات من الدين بالضرورة.

وفي غير ذلك فالأمور اجتهادية لا يستطيع أحد أن ينكر على إمام من الأئمة اجتهاده ـ ما دام هذا الإمام أهلًا للاجتهاد ـ فالأحكام الفقهية ليست كلها في درجة واحدة، لأن أدلة الأحكام الشرعية ليست في درجة واحدة من ناحية الثبوت، فهناك أدلة قطعية الثبوت (أي إنها ثبتت بطريق القطع واليقين) كآيات القرآن الكريم جميعها والأحاديث المتواترة، وهناك أدلة ظنية الثبوت (أي إنها ثبتت بطريق ظني) كأحاديث الآحاد. وأدلة الأحكام أيضًا ليست في درجة واحدة من ناحية الدلالة، فهناك أدلة قطعية الدلالة؛ (أي إنه ليس لها سوى معنى واحد متفق عليه) كآيات القرآن الكريم التي تتعرض للعقائد والتوحيد، وهناك أدلة ظنية الدلالة؛ (أي إنه ليس لها معنى واحد متفق عليه وإنما لها أكثر من معنى ووجه). وذلك كثير في القرآن والسنة فيما يتعلق بمجال الفقه والشريعة والأمور العملية[23].

“إن الرأي الاجتهادي لا يجوز التعصب له أو اعتقاد أنه هو وحده الصواب، ولا صواب غيره، ومن هنا يستحسن الاطلاع على آراء الآخرين فقد يكون فيها الصواب، ولا يجوز أبدًا إغلاق الفكر على معلومات معينة من مصدر واحد مهما كان قدر هذا المصدر، فإذا جاء بعض الغلاة ورفضوا كل نقاش فيما يعتقدون مما تلقوه عن إمامهم أو أمير جماعتهم، كان هؤلاء مخالفين لأدب البحث والعلم وعرضه للانحراف.

إن الله يقول: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[24]، وبالحوار والبحث في الأصول المحكمة يمكن رد محل النزاع والتشابه إلى ما هو أقرب إلى الصواب، أو إلى الراجح من الأقوال على الأقل، والمهم أن نبذل ما في وسعنا من جهد، وألا نتلقى كل معرفة اجتهادية دون نقاش، فمن قبلها فهو مخطئ، ومن منع غيره من العدول عنها فهو مخطئ أيضًا، فلا عصمة لأحد من المجتهدين، فضلًا عن غيرهم ممن ليسوا أهلًا للاجتهاد”[25].

5 النظر في المتشابهات دون دراية

من الأسباب التي تؤدي إلى الغلو والتشدّد النظر المتعمّق والكثير في المتشابه من الآيات، وهي الآيات المتعلقة بالصفات والأفعال المضافة إليه سبحانه وتعالى، مثل قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[26]، وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾[27]، وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾[28]، وقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[29]، وقوله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾[30]، وقوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾[31]، وقوله تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾[32]… وغير ذلك من الآيات.

وجمهور علماء أهل السنة على أن هذه الآيات تقتضي التفويض إلى الله تعالى في معناها، وينبغي ألا يخوض أحد فيها ولا يحاول أحد أن يدرك معناها، لأن الذين يتبعون المتشابه في قلوبهم زيغ، فالراسخون في العلم يقولون في هذه الآيات “آمنا” لأنها من عند الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾[33].

وقد جرّهم هذا إلى أن يتكلم بعضهم عن هذه الصفات وإثباتها دون خروجها عن الظاهر أو تأويلها، فيثبتون الفوقية لله عز وجل، وأن الله تعالى فوق ـ أي في جهة ـ، ويستدلون بالآيات المتشابهات دون تفويض أو تنزيه أو تأويل.

فالتفويض والتنزيه كان مذهب السلف الصالح، والتأويل كان مذهب الخلف.

وقد سئل الإمام مالك (رض) في حلقة من حلقاته، ودرس من دروسه عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، فقال للسائل: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمره أن يخرج من مجلسه، لأنه رآه مبتدعًا. 

فهكذا كان العلماء والأئمة والسلف يحرصون على ترك الكلام في مثل هذه الأمور، حتى لا يفهمها عوام الناس على غير مراد الله سبحانه وتعالى، وحتى لا يتخيل عوام الناس أثناء استماعهم أمورًا بأذهانهم تخالف ما عليه الإيمان، فإن العوام مؤمنون بالله تعالى وينزهونه بفطرتهم، فلا حاجة إلى هذا التفصيل وهذه الرؤى، لأن المسلم ليس مطلوبًا منه أن يصل في تفكيره إلى هذا التفصيل، بل إنه منهي عن هذا، ولذلك اعتبر الإمام مالك الكلام في هذه الأمور من البدع، بل أمر السائل أن يخرج من المجلس، لأنه سيذبذب الناس، وسيوقعهم في حرج عقائدي، ولأنه يريد للناس أن يبتعدوا عن المقاصد، ويلتهوا في أمور لا يريدها منهم الشرع الحنيف.

فإنني سمعت في إحدى قنوات التليفزيون الفضائية داعية قد خصّص حلقات كاملة للكلام عن الفوقية، وأن الله تعالى في مكان، والكلام عن الاستواء على العرش، فيا للعجب من هؤلاء!

فالله عز وجل منزّه عن المكان، والله عز وجل هو خالق الزمان والمكان.

والذين يتكلمون بأن الله عز وجل له مكان وهو على العرش حقيقة، فأين كان قبل أن يحدث العرش، وهل العرش غير محتاج إلى من يحمله، أم هو محتاج إلى من يحمله، وكذا حامله أيضًا، حتى تصل إلى حامل غير محمول كما يقتضيه البرهان، وهل يقولون إن الله محتاج إلى العرش، والعرش غير محتاج إليه، أم كلاهما محتاج لصاحبه، أم ماذا يقولون؟ وهل العرش أكبر منه تعالى أم مساو له، أم هو عز وجل يزيد عليه! ومن أي العناصر هو، وكيف تركيبه…؟ إلخ.

فهذه كلها مناقشات قالها علماء السنة يردون بها على هؤلاء، ولذلك فإنه لا ينبغي أن يكون السؤال عن الزمان والمكان، لأن الله عز وجل خالق الزمان والمكان.

وإذا كان هؤلاء يقولون بالمكان في السماء بمقتضى قوله تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾، فلماذا لا يقولون إن الله في الأرض أيضًا بمقتضى قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ…﴾.

وإذا كانوا يقولون باليد على الحقيقة، فهل سيثبتون لله يدًا واحدة بقوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ أم سيثبتون يدان بقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، أم سيثبتون أيدي بمقتضى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾.

وإذا كانوا يقولون بإثبات العين على الحقيقة، فهل سيثبتون أن لله عينًا بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾؟ أم سيثبتون أعينًا بمقتضى قوله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾؟

وماذا يقولون في قوله (ص): “القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن”.

وماذا يقولون في قوله (ص): “الحجر الأسود يمين الله في الأرض”.

فهل سيأخذون هذه الألفاظ على ظاهرها؟

فينبغي تنزيه الله سبحانه عن الجارحة.

والخلاصة، أن السلف يفوضون بعد التنزيه، وأن الخلف يؤلون خوفًا من التشبيه.

وهذه مسائل يطول النظر فيها، لكننا نتكلم فقط من باب ضرب الأمثلة لما يقولونه.

خطورة التكفير

التكفير هو أمر ابتلينا به في هذه الأمة بصورة لم تعهد من قبل، وقد أوضحنا من قبل أنه لا ينبغي إطلاق الكفر على أحد إلا إذا ظهر عليه ما يقتضى ذلك، كإنكار شيء علم من الدين بالضرورة، فمن أنكر الفرائض المتفق عليها، أو أحل شيئًا اتفق على تحريمه، كالخمر والميسر، أو حرم شيئًا اتفق على حله، كالطيبات من الطعام والشراب، كان خارجًا عن ربقة الإسلام.

كما أن التكفير لا يطلق إلا على من اعتنق فكرًا مضللًا خارجًا عن الأصول الإسلامية، أو اعتنق فكر فرقة من الفرق الضالة الخارجة عن حدود الإسلام وتعاليمه كالبهائية والقاديانية… وغيرها من فرق الغلاة.

كيف يكفر الإنسان مسلمًا نطق بالشهادتين، ولم يكن فيه ما يخرجه عن الإسلام؟

وقد قال (ص): “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله”[34].

فقد قرر الرسول (ص) أن الإنسان إذا تلفظ بهذه الشهادة فلا ينبغي تكفيـره، بل ينبغي معاملته معاملة كاملة على أنه مسلم، وهكذا كان رسول الله (ص) يتعامل مع من ينطقون بالشهادتين، ويقيمون الفرائض، فالله تعالى يقول: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[35]، فالذي يشهد بالشهادتين ويقيم فرائض الإسلام، ويقر بها لا يطلق عليه كلمة الكفر أبدًا.

وقد أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله عز وجل يتولى القلوب والسرائر.

فالمسلم يدخل الإسلام بالشهادتين، فلا يخرج من الإسلام إلا بإنكار التوحيد، أو بعمل شيء ينقض الشهادتين.

وقد قرّر العلماء ـ جمهورهم ـ أن من مات على الإسلام استحق أن يدخل الجنة ولو بعد حين، فقد يعذب المسلم بسبب ذنوب فعلها أو كبائر ارتكبها، لكن هذه الذنوب والكبائر لا تكون سببًا في خلوده في النار، فقد كتب الله عز وجل على من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أن يخرج من النار ويدخل الجنة.

قال (ص): “يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان”[36].

وفي رواية “أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة”[37].

وقد قال العلماء أيضًا: إن كل شيء غير الشرك مفوض أمره إلى الله إن شاء عذب، وإن شاء رحم وغفر.

فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾[38].

وقد جاءت ألفاظ الكفر في بعض النصوص من الكتاب والسنة، ولكن لم يحملها العلماء على الكفر الذي يخرج من الملة، وذلك بدلائل رأوها، وإنما حملوها على عظيم أمر هذا الشيء عند الله، أو على أنها كبائر، أو على أنها كفران للنعمة، أو على أنها صفات في الجاهلية، أو على أن المقصود كفر من أنكر الفريضة من أصلها.

فعلى سبيل المثال: يقول الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[39].

وقد اتفق العلماء على أن من كسل عن الحج، وكان مستطيعًا أنه لا يكفر، إلا إذا أنكر فريضة الحج وجحدها، ولكن إن كسل عنها فهو قد فعل كبيرة، ويكون تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.

وقد قال (ص): “لا ترجعوا بعد كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”[40].

وقد اتفق العلماء على أن مفهوم الكفر في الحديث ليس الكفر المخرج عن الملة، لأنه قد حصلت حروب عديدة بين المسلمين وبعضهم، وقتل بعضهم بعضًا، ولم يحكم أحد على كفر أحد من الجانبين.

وقد قال (ص): “….. وأريت النار فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء”، قالوا: بم يا رسول الله قال: “بكفرهن”، قيل: يكفرن بالله. قال: “يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا قالت ما رأيت منك خيرًا قط”[41].

إن الذين يطلقون الكفر على الناس من غير تحقق، نسوا أن هذا الإطلاق يترتب عليه أمور، ولذلك فإن العلماء قالوا بأننا لا نرتب هذه الأمور إلا إذا حكم الحاكم أو القاضي بكفر الرجل، وذلك حتى تكون هناك حماية للناس ولأعراضهم، فمما يترتب على التكفير:

أنه يفرق بينه وبين زوجته، وأنه لا يرث قريبه المسلم ولا يرثه قريبه، وأنه لا يدفن في مقابر المسلمين.

فالذين يقولون مثلًا بتكفير تارك الصلاة كسلًا هل نرتب هذه الأمور بناء على تركه صلاته؟ فنفرق بينه وبين زوجته، ونمنع التوريث بينه وبين أقاربه المسلمين، ونمنع دفنه إذا مات في مقابر المسلمين؟

الجواب: إننا لا نفعل ذلك إلا إذا حكم القاضي المسلم بذلك، ولا يحكم القاضي المسلم بمثل ذلك إلا إذا كان التكفير في المسألة متفقًا عليه بين العلماء.

ومن العجيب أنك لو تعمقت في كتب الفقه لفهمت هذا المعنى، ولفهمت مقصود من أطلق التكفير مثلًا على تارك الصلاة كسلًا مثل الحنابلة.

فقد ذكر ابن قدامة ـ صاحب كتاب المغني ـ بعد أن سجل في كتاب المغني تكفير تارك الصلاة كسلًا ـ ذكر حديثًا لأحد كبار علماء الحنابلة القائلين بتكفير تارك الصلاة كسلًا، وقد سئل: هل نفرق بينه وبين امرأته؟ قال: لا. فسئل: وهل يرثه أقاربه المسلمون إذا مات أو يرث هو أقاربه المسلمين إذا مات أحدهم؟ فقال: نعم. فسئل: فهل ندفنه في مقابر غير المسلمين إذا مات؟ فقال: لا إنما يدفن في مقابر المسلمين.

ومن هذا الكلام يتضح أن إطلاق الكفر على تارك الصلاة كسلًا في مذهب الحنابلة ليس المقصود منه الكفر الأكبر، الذي يخرج صاحبه من الملة، ولكن المقصود كفر أصغر هو شبيه بكبائر الذنوب، لأنه أطلق على بعض الذنوب كفرًا في بعض النصوص الشرعية لتعظيمها، فأخذ الحنابلة يتمسكون بهذه الألفاظ.

وإطلاق الكفر على المسلم له جانب آخر وهو قذفه وسبه إذا كان بغير حق، وقد أوجبت شريعتنا التعزير على من سب مسلمًا أو أطلق عليه كلمة الكفر، وهذا بالإضافة إلى كونه آثمًا عند الله تعالى.

بل أقول لك أكثر من هذا: فإن شريعتنا تمنع على المسلم أن يسب أحدًا من أهل الذمة أو من أهل الكتاب أو أن يقول له: “يا كافر”، فيبوء بالإثم، ورغم ما يبدو من نقد قرآني لأهل الكتاب،  إلا أنه لم يبوخهم، نبّه فقط عن الأخطاء، يقول الله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾[42]. وقال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾[43]. وهو كما نرى يصف القرآن من قال ثالث ثلاثة، وأهل الكتاب من النصارى لا يقولون بالتثليث، ومنعت شريعتنا أن نقول له: “يا كافر” إذا كان ذلك يثقل عليه ويضايقه، قال في رد المحتار على الدر المختار: “وإن قال ليهودي أو مجوسي يا كافر يأثم إن شق عليه ومقتضاه أنه يعزر لارتكابه الإثم”[44]، وذلك لأن “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”. وهذه قاعدة معروفة في معاملة أهل الكتاب أو أهل الذمة.

هذه هي سماحة الإسلام مع غير المسلمين، فما بالك بالمسلم.

ولذلك يقول الإمام الغزالي: “الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم”.

فإطلاق الكفر على الناس لا يكون بالشك، وإنما تطلق كلمة الكفر على من يستحقها بيقين.

وهذه هي نفس القاعدة التي يقولها الفقهاء في مجال الجنايات: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.

أي أن يخطئ القاضي بالحكم على مجرم يستحق العقاب فيعفو عنه، لأنه وجد بعض الشبهات في الأدلة، خير من أن يخطئ فيحكم على بريء بالعقوبة، وهو لا يستحقها.

وهكذا لم يكن العلماء يطلقون كلمة الكفر حتى على من يخالفونهم في المسائل الخلافية، وإن كانوا من أصحاب الفرق، كالمعتزلة، والإباضية، والجبرية… إلى غير ذلك من الفرق، وذلك لأن لهم تأويلًا فيما قالوه.

وصف المجتمع بالجاهلي  

مفهوم المجتمع الجاهلي هو مفهوم قد أثاره بعض المتشددين والمغالين في الآونة الأخيرة، فقد أطلقوا على المجتمع بأنه مجتمع كافر ومجتمع جاهلي.

والذي نحاول أن نبينه ـ أن العرب قبل الإسلام كان يطلق عليهم أهل الجاهلية، إما أنه مأخوذ من الجهل، وإما أنهم مجتمع منتقم ومتعدي؛ فالجاهلية في مفهومها تعني السفه والحمية والمفاخرة والغضب والعمل بخلاف الحق.

وعندما جاء أسامة بن زيد يشفع في حد سرقة لامرأة مخزومية، قال له النبي (ص): “إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”.

وقال النبي (ص) لأبي ذر وقد عير رجلًا بأمه: “إنك امرؤ فيك جاهلية”[45].

والله عزّ وجل يقول: ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى﴾.

فلا ينبغي أن يطلق على المجتمع كله بأنه جاهلي أو أنه كافر، لأن مجتمعنا مجتمع توحيد، ولا ينبغي أن يكفر المجتمع كله بكفر قلة منه أو بعضهم، أو بانحلال بعضهم وخروجهم عن الطريق المستقيم.

فمجتمع تقوم فيه الشهادة، ويكرر فيه الأذان، ويسمعه كافة الناس هو مجتمع مقر بالتوحيد، وتكفير المسلم أو المسلمين بسبب ذنوب اقترفوها لا ينبغي أن يكون، لأن الفسق شيء، والكفر شيء آخر، وهذا التكفير لا ينبغي أيضًا أن يكون بأيدي عوام الناس وعلى ألسنتهم، فالذي يحكم بذلك إما العلماء في جملتهم ـ بأن تصدر المجامع الفقهية فتوى بتكفير جماعة معينة كالبابية والبهائية مثلًا ـ أو القضاة ـ إن كان المحكوم عليه قد خرج عن الملة بإنكار معلوم من الدين بالضرورة ـ.

والخلاصة، أنه لا ينبغي أن يطلق على المجتمع بأسره جاهلي، ويصح أن يطلق على شخص معين إذا فعل فعلًا خلاف الحق.

موقف الأزهر من قضايا الغلو  

يتميز الأزهر بالوسطية والاعتدال في آرائه، سواء ما كان عبر المؤسسات، أو كان عبر جمهرة علمائه. ومن القضايا المهمة التي تعبر عن هذه الوسطية، والتي غالى فيها البعض، قضية التكفير، فقد كان مسلك الأزهر الشريف على مر العصور عدم رمي الناس بالكفر، وعدم التعصب لرأي واحد أو لمذهب واحد، فالتعصب والمغالاة كلاهما يؤدي إلى تفرق المسلمين وتمزقهم، وقد أوصانا القرآن الكريم بالوحدة، وقد يصل ذلك التعصب أيضًا إلى رمي بعضهم بعضًا بالكفر.

فديننا يدعو إلى الاعتدال، ويدعو إلى الوحدة، ويدعو إلى ترك الإسراف في الأمور كلها.

ومما يفعله المغالون اللجوء إلى نصوص قرآنية نزلت في الكفار، ثم يطبقونها وينزلونها على المسلمين الذين يؤمنون بالله ربًّا، وبمحمد (ص) رسولًا، وبالإسلام دينًا.

وهذا ما لجأ إليه الخوارج، واضطرهم إلى الحكم على كثير من الناس بالكفر، باستدلالهم بنصوص وردت في الكافرين ونزلت فيهم.

فعن عبد الله بن عمر [46] (رض) أنه قال: شرار خلق الله الخوارج عمدوا إلى آيات نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين، وقال ذلك ابن عباس أيضًا.

والوسطية تقتضي أن من اعتقد الوحدانية والإيمان بخاتم النبيين، وارتضى الإسلام دينًا ألا يُرمى بالكفر إلا إذا أنكر شيئًا مما دخل به الإسلام، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة.

وتأمرنا شريعتنا أيضًا عندما نجد خطأ في قول أو فعل للمخالف أن نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر، فالله تعالى يقول: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[47]، فقد تميزت هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وينبغي أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[48]، فالجاهل ينبغي أن نعلمه، لا أن نقذفه بالكفر.

ومن كان على علم فينبغي أن ننبهه بالحكمة والأدلة والبراهين.

والوسطية في الدين تقتضى أن نعتبر النية أساسًا عند الحكم على أي فعل أو قول، لقوله (ص): “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”[49].

وقد قال (ص) أيضًا: “إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم”[50].

وقد يستعمل شخص بعض الألفاظ في اللغة على سبيل المجاز، فالفعل تارة يسند للكاسب، وتارة يسند للخالق، وهذا موجود في اللغة العربية، وموجود في القرآن الكريم أيضًا، فالله يسند الفعل إلى نفسه حقيقة وخلقًا في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[51]، ويسند الفعل إلى العبد كسبًا في قوله تعالى:﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[52].

وقد وضح ذلك في بيان رأي الشرع الحنيف في قضايا مختلفة.

وتبني الأزهر للوسطية، ومشيه على منهجها كان من خلال ثلاثة أمور:

 الأمر الأول: هو التعليم: فالتعليم الديني في الأزهر يتميز بأنه متنوع، وتتعرض الدراسة في الأزهر لكافة الآراء والمذاهب والمدارس المختلفة، فبدءًا من التعليم الثانوي، والذي يسبق الجامعة يتعود الطالب على دراسة المذاهب المختلفة في دراسته للفقه، فيدرس الفقه على المذاهب الأربعة.

وفي الدراسة الجامعية يتعرض الطالب لدراسة المذاهب الفقهية الثمانية، الأربعة السنية (مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ومذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل)، بالإضافة إلى مذهبين من مذاهب الشيعة (الشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية)، كما يدرس أيضًا مذهب الإباضية، ومذهب الظاهرية.

كما يدرس الطالب المدارس والمذاهب الكلامية المختلفة، كمذهب الأشاعرة، ومذهب الماتريدية، ومذهب المعتزلة، ويتعرف على آرائهم جميعًا مع الترجيح.

فالطالب في الأزهر معرفته متنوعة، ويتعود منذ نعومة أظفاره على رؤية الاختلافات الفقهية التي نشأت بعد أن لحق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى.

هذه الاختلافات نشأت نتيجة اختلافهم في مناهج البحث وطرقه، فقد يعتمد بعضهم من السنة ما لا يعتمده الآخر، وقد يعتمد بعضهم من أقوال الصحابة ما لا يعتمده الآخر، وقد يكون هذا الاختلاف نتيجة للأخذ بالقياس والإجماع، وقد يكون نتيجة لاختلافهم حول دلالات الألفاظ والأساليب الواردة في القرآن والسنة، فهناك العام والخاص، والمطلق والمقيد من الألفاظ، كما أن هناك الألفاظ المشتركة.

وهذا التنوع والتعرف على الاجتهادات المختلفة للعلماء والفرق المختلفة يجعل الطالب مستعدًّا لقبول الرأي الآخر ودراسته ومناقشته ومجادلته ورده بالأدلة والبراهين، أو ترجيحه.

الأمر الثاني: هو التقريب بين المذاهب الإسلامية، فقد سعى الأزهر إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية، وتقبّل الرأي الآخر منذ الدراسة الأولى، كما سعى الأزهر إلى هذا التقريب، الذي يؤدي إلى وحدة المسلمين بإنشاء دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في الأزهر في غضون الأربعينيات من القرن الماضي، وكان الهدف من هذا هو نبذ الفرقة، ونبذ الآراء التي فيها غلو وتشدد، وفيها تكفير وتبديع وتضليل للآخر، أملًا في أن تتماسك الأمة، وتقوى ويشتد عودها ضد أعدائها الذين يسعون إلى الفرقة بين أبنائها.

اجتمع في هذه الدار العلماء من السنة والشيعة ليناقشوا سبل التقريب ويناقشوا سبل التيسير، والعمل على نبذ الغلو، الذي يكون من هنا أو من هناك.

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إن علماء الأزهر سعوا ويسعون دائمًا إلى هذا التقريب عن طريق دعواتهم، وعن طريق كتبهم، وعن طريق مناقشاتهم الدورية.

فقد كان للشيخ شلتوت دوره في هذا التقريب، وفي نبذ الآراء التكفيرية والمتشددة، وكانت فتواه باعتبار مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية الجعفرية مذهبًا خامسًا يجوز التعبد به كبقية المذاهب السنية الأربعة، كانت هذه الفتوى سببًا في التقريب، وكانت سببًا في تضييق مفهوم الغلو إلى أن يتلاشى في الفكر الديني الأزهري.

الأمر الثالث: هو الفتاوى التي تصدر عنه: سواء من خلال مؤسساته أو من خلال علمائه، فالأزهر الشريف كمؤسسة، بها لجنة الفتوى، التي تقوم بالرد على فتاوى الناس وأسئلتهم اليومية، بالطريق الشفهي، وعن طريق التلفنة، تتبنى هذه اللجنة الآراء التي تتسم بالوسطية، وتقدمها للسائل وتفتي بها مع اشتراط اعتمادها على الأدلة من القرآن والسنة النبوية المطهرة، ملتمسين ذلك مما ورد في البخاري عن عائشة أنها قالت ما خيّر رسول الله (ص) بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه.

وكذلك دار الإفتاء، فهي وإن كانت مؤسسة مستقلة، إلا أنها منبثقة أساسًا عن الأزهر، فقد كان الأزهر هو الذي يتولى الإفتاء، وأيضًا فإن أعضاءها من علماء الأزهر.

ودار الإفتاء أيضًا تتبنى الآراء الفقهية التي تتسم بالوسطية في كل ما تستفتى فيه، ملتزمة طريق الوسطية التي أمر بها الإسلام الحنيف.

ومن خلال فتاوى علماء الأزهر المستقلين أيضًا والذين ينتشرون في المساجد والجامعات ومؤسسات التعليم المختلفة، فإنهم يلتزمون هذا الطريق الوسطي في فتاواهم، حيث إنهم تربوا على الوسطية، وعلى معرفة الآراء المختلفة للمذاهب الإسلامية المختلفة، كما أنهم تربوا على اللين والتيسير، لا التشدد والتعسير.

الاجتهاد والتقليد

الاجتهاد هو بذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي عن طريق الاستنباط من الأدلة التفصيلية.

وقد تحدث العلماء عن تكييف الاجتهاد، فقالوا بأنه فرض على الكفاية، فلا بدّ أن يكون في كل عصر مجتهدون، ليستخرجوا الأحكام الخاصة بما يجد من أمور في هذا العصر.

وذلك لأن نصوص القرآن والسنة عامة ومتناهية، والأحداث التى تتكرر على مر العصور غير متناهية.

والله عزّ وجل عندما أنزل القرآن الكريم كان في جملته أحكام عامة، ليندرج تحتها أحكام تفصيلية يستخرجها الفقهاء في كل عصر، وبذلك كان القرآن الكريم صالحًا لكل زمان ومكان، فلم يذكر القرآن الكريم تفصيلًا كل القضايا التى يعيشها الإنسان منذ بعثة النبي (ص) إلى يوم القيامة، وإلا لأصبح كتابًا كبيرًا، ولتناول قضايا عديدة لم يسمع بها من نزل عليهم القرآن، بل ربما تعجبوا من الحديث عن هذه الأمور.

وقد ظهر بعض المتشددين في العصر الحديث يذمّون المقلدين، ويتهمونهم بالفسق، وأحيانًا بالكفر استنادًا إلى قول الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾، فقالوا بأنه لا ينبغي على العامّي أن يقلّد أحدًا، وإنما ينبغي عليه أن يصل إلى الحكم والأدلة بنفسه.

وقد كان للأزهر موقف واضح وجلي في هذا الموضوع، وهو موقف منطقي ووسطي.

فليس من المعقول أن نطالب عوام الناس ومن يعملون في أعمال مختلفة.. الطبيب، والمهندس والبناء، والعامل… إلخ.

ليس من المعقول أن نطالب كل إنسان بأن يجتهد ويتعلم الأدلة، ليصبح عالمًا مجتهدًا يستطيع استخراج الأحكام بنفسه، وإلا لانشغل الناس عن الحياة، وقعدوا يطلبون العلم، وهذا مستحيل لأنه بذلك تتوقف الحياة، فضلًا عن أن كثيرًا منهم لن يستطيع أن يصل إلى هذه العلوم، فالله عز وجل لم يخلق الناس كلهم على قدر واحد من الاستيعاب والذكاء والتذكر، بل إن البعض لا يعرف أصلًا القراءة والكتابة فضلًا عن معرفة العلوم الشرعية.

وقد كان العلماء قديمًا يوقّرون أئمة الاجتهاد، وما ينادي به هؤلاء المتشددون هو سفه وجهل، لأنه لو اجتهد كل إنسان بما في وسعه لأصبح الدين والآراء الفقهية مرتعًا لكل من هب ودب، ولأصبحت الآراء كثيرة، والمذاهب بالآلاف.

ولم نسمع أن أحدًا أنكر تقليد الأئمة في الفروع قديمًا، إلا هؤلاء الذين خرجوا علينا بكل بدع من القول.

وقد أجمع العلماء على مشروعية التقليد للعامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد في الأحكام، فيجب عليه أن يتبع قول المجتهدين وأن يأخذ بفتواهم، وذلك لأن العامة في زمن الصحابة كانوا يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في إفتاءاتهم وفيما بينوه لهم من أحكام، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب على العامى أن يلتزم بمذهب معين، بل له أن يعمل في مسألة بقول أحدهم، وفي مسألة أخرى بقول مجتهد آخر، فقد كان المستفتون في زمن الصحابة يستفتون مرة أحد الصحابة وبعض آل البيت، ويستفتون مرة أخرى صحابيًّا آخر، أو أحدًا من آل البيت، ولا يلتزمون بمفت واحد، وقد أجاز العلماء التلفيق (وهو العمل في حادثة بمذهب، وفي أخرى بمذهب آخر)، وتتبع الرخص بشرط ألا يكون ذلك في مسألة واحدة[53].

وقد كان رسول الله (ص) يبعث الرسل إلى هنا وهناك ليعلم الناس أمر دينهم، ولم يكن هؤلاء المبعوثون يذكرون الدليل في كل أمر يعلمونه للناس.

ولو كان كل إنسان يستطيع أن يصل إلى الحكم بنفسه لما أمر الله عز وجل أحدًا أن يسأل أهل الذكر، فقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

وعندما يسأل المستفتي أهل الذكر يسألهم عن حكم الشريعة في ذلك، وذلك بخلاف من كانوا يأخذون ويتبعون الأحبار والرهبان، لأن هؤلاء كانوا يحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله بأهوائهم وبأنفسهم.

والسؤال هو: هل نطلب من كل رجل من العوام أو امرأة أن يعرف العام والخاص من القرآن، ويعرف المطلق والمقيد، ويعرف الناسخ والمنسوخ، ويعرف درجات الحديث من حيث القوة والضعف ومن حيث المناسبات، ويعرف المجاز والحقيقة من اللغة، ليتعرف على مراد الله ومراد رسول الله (ص)، ويعرف القياس والعلل؟ إن هذا شيء مستحيل أن يلم به كل عوام الناس.

وهل العامي هذا يتدخل في أمور الطب إذا كان يريد أن يعالج، ويتدخل في أمور الهندسة إذا كان يريد أن يبني دارًا، ويتدخل في أمور الصناعة إذا كان يريد أن يصنع شيئًا، ويتدخل في أمور السياسة؟

إن هذا شيء لا يتصوره عقل، ولا يقول به عاقل.

إن الإفتاء والرجوع إلى أهل العلم باستفتائهم هو ما سار عليه المسلمون طيلة أربعة عشر قرنًا بغير نكير.

حتى إن المحُدّثين ـ رواة الحديث ـ كانوا يلجأون على مر العصور إلى الفقهاء والمجتهدين ليتعرفوا على حكم الله في مسألة من المسائل، لأنهم يعلمون أن رواية الحديث لا تكفي للاجتهاد وللوصول إلى الحكم، فقد قال الإمام أبو حنيفة: المحدث كالصيدلاني، والفقيه كالطبيب.

فهو الذي يعرف العلة ويصف الدواء، والصيدلاني عنده الدواء ولكنه لا يستطيع أن يصف الدواء للمريض، لأنه غير عالم بالعلة والوصف، ومقدار ما يأخذ هذا المريض ليتم له الشفاء.

وإن ما دون وكتب في كتب الفقه الصحيحة التى اعتمدتها الأمة ما هو إلا شرح وتفصيل للكتاب والسنة وفهم لهما.

[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة غلا، نسخة من الكمبيوتر، ح2، الصفحة 245.

[2] سورة النساء، الآية 171.

[3] سورة المائدة، الآية 77.

[4] أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، سنن ابن ماجه، القاهرة، دار الريان للنشر، 1987، الجزء2، الصفحة 37.

[5] أخرجه أحمد عن أنس بن مالك، مسند الإمام أحمد بن حنبل، القاهرة، دار الريان للنشر، 1987.

[6] عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

[7] أخرجه النسائي عن أبى هريرة، سنن النسائي، المنصورة- مصر، مكتبة السلف، 2005، الجزء4، الصفحة 59.

[8] أخرجه مسلم، نسخة من الكمبيوتر، بدون رقم صفحة. ويراجع مواقع مختلفة نشرت صحيحي البخاري ومسلم.

[9] في الأصل لزورك، لزورك وهم الضيوف، جمع زائر، وزور بضم الزاي وفتح الواو، وقد وُرد الحديث بروايات وألفاظ متعددة.

[10] الحديث أخرجه البخاري، نسخة من  الكمبيوتر، بدون رقم صفحة. ويراجع مواقع مختلفة نشرت صحيحي البخاري ومسلم.

[11] سورة البقرة، الآية 143.

[12] سورة النحل، الآية 42، وسورة الأنبياء، الآية 7.

[13] سورة غافر، الآية 56.

[14] سورة الفرقان، الآية 73.

[15] سورة السجدة، الآية 15.

[16] سورة التوبة، الآية 122.

[17] سورة النساء، الآية 18.

[18]  الشيخ جاد الحق علي جاد الحق ومجموعة من العلماء، بيان للناس من الأزهر، القاهرة، مطبوعات دار الإفتاء، 1985، الجزء 1، الصفحتان 103، 104.

[19]عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، القاهرة، دار الشعب،1977، الصفحة 615.

[20] ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، 1983، الجزء 1، الصفحة 133.

[21] ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، مصدر سابق، الصفحة 703.

[22] سورة النحل، الآية 116.

[23] الشيخ جواد رياض، فقه الحج وفتاواه، نسخة على نفقة المؤلف، 2006، الصفحة 8.

[24] سورة النساء، الآية 59.

[25] بيان للناس من الأزهر الشريف، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 105.

[26] سورة الفتح، الآية 10.

[27] سورة المائدة، الآية 64.

[28] سورة يس، الآية 71.

[29] سورة طه، الآية 5.

[30] سورة القمر، الآية 14.

[31] سورة طه، الآية 39.

[32] سورة الملك، الآية 16.

[33] سورة آل عمران، الآية 7.

[34] الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر، مصدر سابق، الجزء4، الصفحة 1209.

[35] سورة التوبة، الآية 11.

[36] الحديث أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدرى،  مكتبة نور الإلكترونية، بدون رقم صفحة.

[37] الحديث أخرجه الترمذي عن أنس، سنن الترمذي، مصدر سابق، الجزء3، الصفحة 375.

[38] سورة النساء، الآية 48.

[39] سورة آل عمران، الآية 97.

[40] الحديث أخرجه البخاري عن جرير، مصدر سابق، الجزء3، الصفحة 178.

[41] الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن عباس، مصدر سابق، الجزء4، الصفحة 513.

[42] سورة المائدة، الآية 73.

[43] سورة المائدة، الآية 17.

[44] ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، مصدر سابق، الجـزء 4، الصفحة 246.

[45] أخرجه البخاري، مصدر سابق، الجزء3، الصفحة 243.

[46] رواه البخاري، مصدر سابق، الجزء3، الصفحة 286.

[47] سورة آل عمران، الآية 104.

[48] سورة النحل، الآية 125.

[49] أخرجه البخاري ومسلم، مصادر سابقة. البخاري، الجزء4، الصفحة 228 ، ومسلم، الجزء3، الصفحة 192.

[50] أخرجه البخاري ومسلم، مصادر سابقة، البخاري، الجزء3، الصفحة 222.

[51] سورة النور، الآية 46.

[52] سورة الشورى، الآية 52.

[53] ارجع إلى: الفتاوى الإسلامية، إصدارات دار الإفتاء المصرية، الجـزء 4، الصفحات 1453 – 1460، الجـزء 7، الصفحات 2585 – 2590، الجـزء 20، الصفحات 7469 – 7470.

الشيخ جواد رياض

الشيخ جواد رياض

من علماء الأزهر الشريف



المقالات المرتبطة

“حول أطروحة الميتافيزيقا البعدية” المثنّى أم علاقة التناقض؟!

كتبنا سابقًا عن دعوة المفكّر الدكتور محمود حيدر- في محاضراته وكتاباته – إلى التأسيس لمشروع حضاري وثقافي بديل للمشروع الثقافي الغربي…

المسلمون في الهند والتمييز العنصري والدينيّ (2)

مما يلفت انتباه دارسي الأديان أن تنجرّ الديانات الهندوسة بشكل سريع إلى تبني أيديولوجيات عنصرية تحل محل العقائد الرئيسية

مطالعة في كتاب الإسلاموقراطية: السلفية وامتحان الديمقراطية

يُبرز الكاتب موقف الإخوان المسلمين (مسثنيًا سيد قطب من القراءة)، فبالرغم من غياب الديمقراطية في حياة التنظيم الداخلية إلا أنه انخرط في الواقع السياسي وارتضى الديمقراطية شكلًا ومسارًا للوصول إلى السلطة.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<