لغة القرآن الكريم والشبهات المثارة حولها
سنتطرق في هذا البحث إلى ما يختص بلغة القرآن الكريم وما يتعلق بها، وذلك ضمن خمس فقرات مهمة لسير البحث، وذلك لنرسم صورة إجمالية واضحة حول لغة القرآن والآراء فيها، وكل ما يتعلق بذلك، والفقرات هي:
أولًا: الأعجمي والمُقترَض في القرآن الكريم
ظهرت دعوات كثيرة إلى وجود كلمات غير عربية في القرآن الكريم، أو اقتراض ألفاظ غير عربية من قبل القرآن الكريم. إن هذا الاقتراض المزعوم، والذي يدور حوله الكلام يقال له: (المعرّب)؛ أي الألفاظ الأعجمية التي دخلت على القرآن الكريم من لغاتٍ شتى.
- لقد ذهب بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ)، وتبعه جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) إلى أن وجود بعض الكلمات من غير العربية لا يخرجه عن عربيته، وقد تبعهم جمع غفير من العلماء فيما ذهبوا إليه من رأي.
- أما وعلى الجانب الآخر، وكون القرآن الكريم عربيًّا خالصًا فهو قول الإمامية الاثني عشرية بعامة، وذهب إلى ذلك معهم كل من أبي عبيدة معمّر بن المثنى (ت 210 هـ)، وابن جرير الطبري (ت 310 هـ)، وابن فارس (ت 395 هـ)، ومن علماء الشيعة يمكن أن نذكر الشيخ المفيد (ت 413 هـ)، والسيد المرتضى (ت 436 هـ)، والشيخ الطوسي (ت 460 هـ).
فنجد أن ابن أوس يقول: (لو كان فيه ـ يعني القرآن ـ من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهمٌ أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها)([1]).
ثانيًا: القرآن الكريم عربي خالص
إن هذا القول يذهب إلى عدم وقوع أي لفظ غير عربي في القرآن الكريم، ويتبنّى هذا القول كلٌ من: الشافعي (ت 204 هـ)، والطبري (ت 310 هـ)، والباقلاني (ت 403 هـ)، والسيد المرتضى (ت 436 هـ)، والشيخ المفيد (ت 413 هـ)، وابن فارس (ت 395 هـ).
وأدلتّهم قائمة على نص آيات القرآن الكريم الدالّة على عربيته والتي منها:
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. (سورة يوسف، الآية 2).
كان الشافعي (ت 204 هـ) من أوائل الذين أنكروا وقوع ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم، وشدّد النكير على القائل به، ورد زعم من قال: (إن في القرآن عربيًّا وعجميًّا، والقرآن يدل على أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب)([2]).
وقال أبو عبيدة (ت 210 هـ): (إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية، فقد أعظم القول)([3]).
وكذلك ابن فارس (ت 395 هـ) القائل: (إن القرآن ـ كما زعم أهل العربية ـ ليس فيه من كلام العجم، وأنه كله بلسان عربي… وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها، وفي ذلك ما فيه)([4]).
ثالثًا: في القرآن أعجمي فرضته ظروف التداخل والحاجة البشرية
وهذه الدعوى الثانية قد ذهب القائلون بها إلى وجود الأعجمي في القرآن الكريم، ولكن على نحوين هما:
النحو الأول: توافق اللغتين أو اللغات في توارد بعض الألفاظ في دلالتها على معين في لغات شتى، وهو أمر يرجحه الطبري: (ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد)([5]).
النحو الثاني: ما حاوله ابن عطية من ربط الجانب الاجتماعي والاقتصادي في رحلات العرب ومخالطتهم بغيرهم من الشعوب بنقل ألفاظ أعجمية إلى العربية، وقَرَبها العرب حتى جرت عندهم مجرى العربي الفصيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن)([6]).
وهذا الاقتراض قد يصح معه البحث عن الدلالة الاقتراضية بحدود. وقد أيدت الدكتورة بنت الشاطئ هذا الاتجاه واعتذرت عن العرب باستعمالهم هذه الألفاظ المعرّبة فقالت: (ولا يعنون بذلك أن هذه الألفاظ لم تكن في أصولها من لغات رومية أو سريانية أو حبشية أو فارسية، ولكنهم يعنون أن العرب عرَّبتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن الكريم وقد دخلت هذه الحروف في كلام العرب)([7]).
رابعًا: القول بوقوع المعرّب في القرآن الكريم
ذهب القائلون بهذا الرأي إلى وقوع المعرّب في القرآن الكريم، ورأوا أن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيًّا، وهو رأي يميل إليه السيوطي، ويستند فيه إلى ما أخرجه الطبري عن أبي ميسرة التابعي القائل: (في القرآن من كل لسان)، فلا بدّ أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالًا([8]).
وقد اعتمد السيوطي في رأيه هذا على جملة من آراء القدماء، ومن جملتهم (ابن النقيب) القائل: (ومن خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير)([9]).
وقول ابن النقيب ـ المتقدم ـ مردود وقابل للنقاش من وجهين:
الوجه الأول: الادعاء بأن القرآن الكريم احتوى على جميع لغات العرب باطل، لأنه نزل بلغة قريش وحدها، وهي لغة القوم الأدبية.
الوجه الثاني: الادعاء بأن فيه من لغات غير العرب الشيء الكثير لا أصل له، فالألفاظ المدعاة قليلة، وهو معارض بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. (سورة إبراهيم، الآية 4).
خامسًا: في رد دعوى وجود الألفاظ الأعجمية في القرآن الكريم
لو سلمنا بذلك نقول:
أولًا: إن أسماء الأشخاص، وبالخصوص أسماء الأنبياء: وكذلك أسماء الأماكن، وأسماء بعض الأشياء وما يشاكلها قد ذكرها القرآن الكريم – عند تعرضه لها – بمسمياتها الأصلية، وهذا هو الصواب، ومسلك العقلاء، بل مسلك البشـرية جمعاء، فهل يصح مثلًا أن ننادي شخصًا ما اسمه (س) بـ(ما يدل عليه معنى الاسم عند المنادي)، أكيد لن يسمعنا، بل لن يفهم، ولن يعرف بأنّه هو المنادى، فإذا كان مسلك العقلاء هو إبقاء الأشياء على مسمياتها الأصلية ليتحصل منها الفهم، والتواصل، فكيف بالقرآن الكريم.
ثانيًا: إنّ الأسماء المذكورة في القرآن الكريم بالأصل مأخوذة من ألفاظ عربية أصيلة، فـ(آدم) اسم عربي مشتق من (الأدَمَة) وهي السمرة؛ لأنّه خُلق من أديم الأرض، وكذلك باقي الأسماء، أما أسماء الملائكة المختومة بلفظ (إيل) فإن هذا اللفظ، أو هذا المقطع عربي أيضًا، لكنه مما قل استعماله عند عرب الحجاز، وإن كان باقيًا عند غيرهم ولم يندثر.
قال ابن دريد([10]): (قال ابن الكلبي: كلّ اسم في العرب آخره إل، أو إيل فهو مضاف إلى الله عزّ وجل نحو: شرحبيل، وعبد ياليل، وشراحيل، وشهميل، وما أشبه هذا… وقد كانت العرب ربما تجيء بالآل في معنى اسم الله جل وعز)([11]).
فـ(الأصل السامي للغات هو الأصل العربي، وأن اللغة العربية هي الأولى في اللغات السامية قدمًا على فرض وجود السامية في اللغات)([12]).
ثالثًا: الآيات القرآنية التي صرّحت بعربية كل ما في القرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾. (سورة الشعراء، الآيات 192 – 195).
وقال تعالى: ﴿قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾. (سورة الزمر، الآية 28).
وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. (سورة يوسف، الآية 2).
هناك طائفة كبيرة من علماء المسلمين تذهب إلى عدم وقوع أي لفظ غير عربي في القرآن الكريم ـ كما اسلفنا ـ منهم: الشافعي([13])، والطبري([14])، وابن فارس([15])، والباقلاني([16])، وأبو عبيدة([17])، وكذلك الشيخ المفـيـد([18])، والسيد المـرتضى.
وشاهد هؤلاء العلماء على عربية القرآن الخالصة قوله تعالى: ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾. (سورة يوسف، الآية 2).
وغيرها من الآيات القرآنية المباركة. كما ويشير فريق منهم بأنّ ألفاظ القرآن الكريم عربية صرفة، ولكن ربّما غابت بعض معانيها أو بعض أصولها عن بعض العلماء.
قال أبو عبيدة([19]): (إنّما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أنّ فيه غير العربية فقد أعظم القول)([20]).
يقول الدكتور محمد حسين الصغير: (إنّ ما ادَّعوا وروده في القرآن من ألفاظ غير عربية اقترضتها اللغة العربية، ثمَّ استعملها القرآن العظيم تبقى بها حاجة ماسة إلى التفسير والتعليل والتاريخية الصادقة في الأقل)([21]).
([1]) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء 1، الصفحة 288.
([2]) الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر: 41.
([3]) الزركشي، البرهان، الجزء1، الصفحة 287.
([5]) ينظر: السيوطي، الإتقان، الجزء2، الصفحة 105.
([6]) ينظر: ابن عطية، المقدمة: 1.
([7]) بنت الشاطئ، لغتنا والحياة: 45.
([8]) السيوطي، الإتقان، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 106.
([9]) المصدر نفسه، الجزء2، الصفحة 106.
([10]) ابن دريد، أبو بكر محمد بن الحسن (ت321هـ).
([11]) ابن دريد، جمهرة اللغة، الجزء 1، الصفحة 59.
([12]) محمد حسين الصغير، دعوى اقتراض الألفاظ من غير العربية في القرآن الكريم، مجلة المصباح، العدد 13، الصفحة 19.
([13]) أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي الشافعي الحجازي المكي المصري (150 – 204هـ) (767 – 820م)، إمام ومؤسس المذهب الشافعي أحد المذاهب السنية الرئيسية، ولد في غزة، ونشأ في مكة، ولازم مالك بن أنس في المدينة ودرس عليه، توفي في مصر وقبره معروف في القاهرة بسفح جبل المقطم، له تصانيف كثيرة أشهرها: (الأم، المسند، السنن، الرسالة).
([14]) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري (224 – 310هـ)، ولد بآمل طبرستان، ذُكر أنّه حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، فقد كان شديد الحفظ، سريع الفهم، رحل إلى الري وما جاورها من البلاد وهو ابن اثني عشر عامًا في طلب العلم والمعرفة، ثمَّ سافر إلى بغداد والبصرة والكوفة، ثمَّ رجع إلى بغداد وأخذ عن أئمة الشافعية واتخذ الشافعية مذهبًا وأفتى به عشر سنين، ثمَّ رحل نحو الشام وبيروت ثمَّ مصر فبلغها سنة (253هـ)، ثمَّ رجع إلى بغداد حتى توفي فيها سنة (310هـ)، له من المؤلفات: (آداب المناسك، آداب النفوس، اختلاف علماء الأمصار، تاريخ الرسل والملوك، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجامع في القراءات، كتاب الوقف).
([15]) أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي (ت395هـ) لغوي وأديب.
([17] ) معمر بن المثنى البصري (110 – 209هـ).
([18]) أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري البغدادي (336 – 413هـ)، شيخ المشايخ، ورئيس رؤساء الملة، فخر الشيعة ومحيي الشريعة، المعروف بابن المعلم، كان والده من أهل واسط، وكان يعمل بها معلّمًا، ثم انتقل إلى عكبرا وأقام فيها بمكان يدعى سويقة ابن البصري، وهناك ولد الشيخ أبو عبد الله المفيد في الحادي عشر من ذي القعدة عام (336هـ)، وتوفي رحمه الله ليلة الثالث من شهر رمضان ببغداد سنة (413هـ)، وصلى عليه الشريف المرتضى بميدان الأشنان ودفن في داره سنين، ونقل إلى مقابر قريش بالقرب من مرقد الإمامين الجوادين 8 في الكاظمية، من مؤلفاته: (المقنعة في الفقه، أحكام أهل الجمل، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، أمالي المفيد، أوائل المقالات، الاختصاص،…).
([19]) أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمي (110 – 209هـ) لغوي وأديب من أهل البصرة.
([20]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 1: 287.
([21]) محمد حسين الصغير، دعوى اقتراض الألفاظ من غير العربية في القرآن الكريم، مجلة المصباح، العدد: 13، الصفحة 19.
المقالات المرتبطة
مفهوم اليسار الإسلامي في فكر الدكتور حسن حنفي
بدأ مشروع المفكّر حسن حنفي – على ما نعلم – من الوجهة الأُعلومية (الإبستمولوجية) مع ترجمته لكتاب سبينوزا “رسالة في
حوار الدهشة والرهبة بين لحظتي انبثاق
الوقوف على الحوار الإسلامي-المسيحي، يقتضي الرجوع إلى اللحظة الأولى لانبثاق الدعوة الإسلاميّة، فهي جاءت في محيط جاهليّ، ولكنّه لم يخلُ
من أجل نسق عقدي انفتاحي مطارحة في البراديغم التأويلي الأوسطي
تشكل الثقافة الدينية بما هي مجموعة معطيات وطقوس ومناسك تجليات للفكرة الدينية العظمى الحاكمة على غيرها من التفصيلات