by الدكتور عبد الملك أبوبكر | يناير 23, 2024 8:31 ص
تهتم أكثر التحديات بالحديث عن جوانب الاحتكاك الفكري بين المسلمين والهندوس. ولا ريب أن التواصل العلمي بين المجتمعين الدينيين كان يلعب دورًا تاريخيًّا للتفاهم، يحسّن العلاقات متسامحة.
1 . عدم وجود تصور موحّد للدين في الديانات الهندوسية، بل تتميز بوجود مفاهيم متعددة حول الإلــــه والروح والوحي وغيرها من القضايا الدينية، ولا يفيد مناخَ تعدد الديانات تكييفُ موقف واحد يُعنى بكافة هذه الديانات ككل لا يتجزأ. فيجب على دارسي الأديان من المسلمين لمعالجة هذا التحدي أن يكوّنوا تصورًا خاصًّا بكل فريق من الفرق الهندوسية بما يُراعي مفهومه المستقل. ومما يستلزم توجيه العناية أن يتمكّن دارسو الأديان المسلمون من كسب الدراية العميقة بالخلافات البينية والتناقضات الداخلية بين الديانات الهندوسية، مما يسهّل مهمة صياغة ردود إسلامية دقيقة تخص موضوعاتها الدينية. ويشتهر النزاع العقدي مثلًا بين السيفية والوايشناوية، و”وبين يدانتا” والبوذية، وبين “فوروا ميمامسا” والبوذية.
ويظهر هذا الخلاف العقدي جليًّا بين ديانتي البراهمانية و”أتويدا ويدانتا”، وهما صادرتان عن كتاب واحد هو “ويدا”. وليس “ويدا” نفسه وحيًا موحّدًا متماسكًا، وينقسم إلى شقين مختلفين: واحد يركز على الأعمال والشعائر وتنبثق عنه البراهمانية، وآخر يتمحور على المعرفة العليا وتتمخض عنه ديانة “ويدانتا” التي تعتبر ديانة الشعائر والعبادة ناجمة عن المعرفة السافلة أو الجهل “أويديا”. وتنظر ديانة المعرفة العليا إلى تصور الجنة عند البراهمانية نظرة ناقصة، كونه مترتبًا على المعرفة الدنيا، وليست الجنة مأوى ثواب أخير ينهي تناسخ الروح من جسد إلى جسد إلّا أنها مرحلة مؤقتة تتلوها الولادات القادمة؛ إذ تعتقد ديانة “ويدانتا” بأن الظفر بالسعادة النهائية عن نيل الخلاص، الذي تنقطع معه الولادات اللاحقة[2][1].
وتنتقد الديانة البراهمانية نفسها قائلة بأنها ديانة آرية أصيلة ذات عبادة المظاهر الطبيعية، فسدت بانتحال أفكار دخيلة فيها من ديانات التصوف أو الحب الإلهي العاطفي لأعدائها الدراويديين[3][2]. وتأسست البوذية أصلًا على نفي فكرة الروح “أتمان” لديانة “ويدانتا”[4][3]، ولا تزال تنكر البوذية شعيرة القربان بالقول بأنها باطلة وقاسية تخالف الشفقة البوذية على جميع الخلائق[5][4]، ونظام الطبقات لـ”فوروا ميمامسا” باسم الواجب الخلقي المتفرع عن القانون الطبيعي “دارما”[6][5]، ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى التنافس التاريخي، الذي تحول أحيانًا إلى صراع ديني بين السيفية والوايشناوية، ويبدو جليًّا في علامات مختلفة يضعها أتباع هاتين الدياناتين على الجبين. وتمت إزاحة الوايشناوية على أيدي الملوك السيفيين أينما انتصروا أرضًا وايشناوية[7][6].
ووقع كثير من المثقفين المسلمين في سوء فهم “باكتي” الحب الإلهي الوايشناوي، واتخذوه علاقة حب بين الخادم والسيد فقط كما خدم “هانومان” قائد جيش القرود سيده الإله “راما”. وهذا المفهوم الغالب بلا ريب محسوب على المصلح الوايشناوي “راما ناندي” وطائفته، غير أن هناك معنًى ظاهرًا لهذا الحب يشير إلى الحب البشري بين العاشق والعاشقة، وتؤكد عليه الفرقة الوايشناوية “كاوديا”[8][7]. والأخطر من ذلك ما أوّلته فرقة “ساهاجيا” من أن هذه العلاقة علاقة اتصال جنسي مقدس[9][8]، وقوبل هذا التأويل بمعارضة شديدة من قبل “الوايشناوية “كاودييا”، ووصفته بأنه بذيء سافل يستفز اتجاه التصوف العاطفي[10][9].
وينبغي على الدعاة المشتغلين في بلاد الهندوسية أن يعوا بهذه الاختلافات الدينية والانتقادات البينية بين الطوائف الهندوسية وعيًا شافيًا يساعد على إقامة حوار مؤثر يتميز بالحكمة مع أي فرقة منهما، اقتداء بقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (سورة النحل، الآية 125). فيدرج عدم الإلمام بهذه التباينات العقدية على قائمة التحديات التي تجعل الطرف الإسلامي المحاور ناقصًا للتحضير، وفاقدًا للحكمة.
ومن نقاط الضعف الهندوسي العقدي أن الإله الأعلى كان عاجزًا عن السيطرة الشيطان “رواوانا”، كما أشرنا سابقًا. ويبدو أيضًا وَهْنًا عقديًّا ظاهرًا أن آلهة الدرجة الثانوية غير قادرة على الهروب من الولادات اللاحقة والمتكررة التي هي لب المعاناة الدنيوية، وكأنهم ضعفاء يستحيل أن يتفادوا دائرة الميلاد التالي، الذي يتسبب في تواصل الألم بالعالم[11][10].
ومما يتطلب حكمة المحاور المسلم أن يتيقظ إلى جوانب الضعف والقوة العقديين في الأديان الأخرى بما فيها الهندوسية حتى يكون عرضه في طاولة الحوار مؤثرًا، وتقديمه للإسلام جذّابًا.
2 . عدم معرفة اللغة الدينية الخاصة بالديانات الهندوسية. ويستمر عجز المسلمين في هذا المجال تحدّيًا عظيمًا ينتج إلمامًا سطحيًّا يُفقد التعمق في عقائد وشعائر هذه الديانات مما يقود المسلمين إلى تبني مواقف ناقصة وأحيانًا خاطئة. ويجب أن تحظى جهود الجامعات الغربية بتقدير الدارسين المسلمين من أجل أعمالها العلمية بهذا الصدد بعد أن يقضي باحثوها سنوات عديدة في تعلم اللغات الهندوسية الأصيلة مثل السنسكريتية أو الهندية أو التاميلية[12][11]، ويقدموا بحوثًا ثمينة توفر المعرفة المباشرة بالقضايا الدينية الهندوسية كما صدرت دراسات قيّمة لا نظير لها في تاريخ الطوائف الهندوسية على يدي أبي الريحان البيروني، إلّا أن هناك إشكاليات منهجية غربية تمس الحياد البحثي، ويفضي العدول عنها إلى غض النظر عن الموضوعية البحثية مثل المنهج المتأثر بالاستشراق، والذي كدّس الفرق متناقضة المحتويات ومتباينة الآلهة ومتضاربة التقاليد قلبًا وقالبًا، ووضعها باسم واحد ديانة واحدة هي الهندوسية. ويلتزم بعض علماء مقارنة الأديان في الغرب بهذا الرأي بعد أن أشار المستشرق الشهير إدوارد سعيد إلى معضلة البناء الفكري الاستشراقي، الذي لم يترجم شأنه واقعًا حقيقيًّا لدول آسيا، بل وخدم مصالح الاستعمار الغربي ووجهات نظره[13][12]. ولا ينكر أي عارف بمقارنة الأديان تأثر الكتابات العربية الحديثة في الهندوسية بالتناول الغربي للأفكار الهندوسية ونقل المؤلفين العرب بهذا الفهم الثانوي فيها. وهذا ما يبدو جليًّا في مؤلفات الأستاذ الكبير أحمد شلبي، وقد رسم نفس الإحاطة الاستشراقية بالهندوسية كأنها ديانة واحدة[14][13]. ولكن الوضع الحقيقي أن هناك ديانات عديدة يمكن أن يشترك فيها موضوعان فقط: تناسخ الأرواح[15][14]، والتقشف أو الزهد بشكليه العالي والسافل[16][15]. ويعود أصل الأخير إلى الرهبة المنبوذين الذين استقروا بجوار منصة إحراق الجثث وصدرت عنهم أدبيات “تانترا”[17][16]، وتأثرت بها الديانات السيفية والوايشناوية والشاكتية. وتعدها البراهمانية مبتدعة[18][17]، وتتبع حتى الآن التقشف العالي للطبقات العالية التي يتميز عضوها باللجوء إلى الغابات باسم “وانا فيراسادا” في آخر مراحل حياته[19][18].
ويتمثل ذلك في آراء إصلاحية للمصلح الهندوسي العظيم “رام موهان روي” (1772-1833م)، الذي أكد على تأسيس طائفة جديدة، بل وقصده بحركته “براهمو ساماج” أن يطهر الديانة القديمة من التراكمات اللاحقة غير المرغوب فيها[26][25]، ودعا فيها المجتمع الهندوسي إلى التشبث بالعقل والأخلاق. ورأى أنه ليس من العقل أن يلتجئ الهندوس إلى الإيمان بـ”كارما” وتناسخ الأرواح، وهما حجر الزاوية الذي تنبني عليه العقائد الهندوسية. وأهاب بترك عبادة الأصنام والأيقونات وهي منافية للعقل، وأنكر الطهارة الشعائرية التي تنجس الطبقات السافلة، ونادى الهندوس بالرجوع إلى “أوبانشاد” الجزء الأخير من “ويدا”، والذي يركّز على الإله الواحد[27][26].
وآخر أنكر عبادة الأوثان التي رأى الفيران تُلوثها، وهجر تقديسها هو “ديانانتا سارارسواتي” (1824-1883م)، ويضاف إلى قائمة المصلحين الكبار في العصر الحديث. ودعا إلى العودة إلى الصورة النقية للديانة الويدية التي ركّزت على إله واحد مجرد خالد عالم بكل شيء. وأراد الهندوس أن يرجعوا إلى الشرع الأبدي والأزلي “سانادانا دارما”؛ لأنهم انحرفوا عنه بعبادة الأيقونات والتجسدات، وبالحج لأماكن مقدسة، وتقديس القصص والإيمان بالملحمتين “رامايانا”، و”ماهاباراتا”، والاعتقاد بكتب “برانا” التي تمتلئ بالأساطير[28][27].
وقال: إن المسيحية ليست فقط ديانة باطلة، بل وكل ما أضيف إلى الهندوسية بعد تقنين كتب “ويدا” المقدسة ضلال. وقام أمام الرهبة جاهرًا بأن “تيلاك” العلامة التي وضعوها على الجبين دلالة على طائفتهم، وأن الاستحمام المقدس في النهر ليس لهما أي قيمة دينية. وأعلن أمام الحجاج الوايشنويين عن أن وحيهم كتاب “باكاواتام” المقدّس باطل وغير أخلاقي، إذ يعدّه الوايشناويون وحيًا أصيلًا وتكون أسفار “ويدا” تابعة له[29][28].
ويستفاد من هذه التوجهات النقدية بروز الإحساس المُلح بضرورة الإصلاح الديني الهندوسي لدى العقلاء والحكماء الهندوس الكبار. وتتفق آراءهم والإسلام. وينبغي على دارسي الأديان المسلمين أن يكترثوا بهذه المواقف الصائبة التي تخدم بلا شك الدعوة الإسلامية لكي يصوغوا خريطة الاحتكاك العلمي المنشودة بالهندوس.
وممن يشار إليه بكتاباته عن الإسلام المؤلف الهندوسي “تيواري”، الذي جمع آيات الكفر وقرأها، وانتهى إلى أن القرآن يأمر بإيذاء وقتل غير المسلمين، ومن يهرب من هذه العقوبة يرميهم الله في نار جهنم سواء أكانوا أعضاء من أهل الكتاب أو وثنيين بعد موتهم[31][30]. وقد أسيء كذلك فهم آيات القتال نتيجة الأخذ المباشر من ترجمة القرآن. وتضر مثل هذه الاتجاهات الخاطئة التي تصور المسلمين فاقدي التسامح ومتعطشي الدماء، وتخلق جوًّا مليئًا بالخوف والريب للتعايش السلمي بين الأقليات المسلمة والهندوس.
ختام … التوصيات
هذه بعض توصيات الدراسة:
[1][32] محاضر بقسم مقارنة الأديان، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية العالمية، إسلام آباد بباكستان.
[2][33] Paul Duessen, Translater: Charles Johnston, The System of Vedanta, p455. مصدر سابق
[3][34] Gavin Flood, An Introduction to Hinduism, p-32. مصدر سابق
[4][35] Ananda Coomaraswamy, Buddha and the Gospel of Buddhism, (London, George G Harrap and Company,1916), p203.
[5][36] Stutely, Margarret ,Hinduism Eternal law: An Introduction to the Literature, Cosmology and Cults of Hindu Religion,p25.
[6][37] Margret and James Stutley, A Dictionary of Hinduism, Its Mythology, Folklore and Development 1500 BC-!500AD, p76.
[7][38] Monier Monier Williams, Brahmanism and Hinduism; or Religious Thought and Life in India, p66.
[8][39] Gavin Flood, An Introduction to Hinduism, p146 . مصدر سابق
[9][40] Ibid-p-140. Gavin Flood, An Introduction to Hinduism مصدر سابق.
[10][41] O. B. L. Kapoor, The philosophy and Religion of Sri Caitanya, (New Delhi, Munshi Ram Manohar Lal Publisher Pvt.Ltd,1976), pp216-217.
[11][42] Laws of Manu, Tra.by Georg Buhler, Sacred Books of the East, Ed. by Max Muller (New Delhi, Motilal Publishers,1989), xii:42-50, pp493-495.
[12][43] Robert Caldwell, A Comparative aagrammer of The Dravidian or South Indian Family of Languages,(London, Trubner & Co, Ludgate Hill,1875).
هذا الكتاب الموسوعي الذي ألفه الباحث الكبير القديس “روبرت كالدويل” (1814-1891م) المنتمي إلى “أيارلاندا” خير مثال للتأثير اللغوي الواقعي على الدين، وقد درس مؤلفه لغات مجتمعات دينية أخرى دراسة عميقة الأثر وفصلها عن الديانة البراهمانية للأغلبية الهندوسية. ويناقش أصل لغات قوم “دراويدا” بجنوب الهند وهي “تاميل” و”مالايالام” و”تيلونكو” و”كانّادام”. ويثبت أيضًا الاختلاف الكامل بينها وبين اللغة السنسكريتية وعدم نشأتها عن الديانة البراهمانية ولغتها الدينية السنسكريتية. وهي لغات مستقلة عن أصل درايودي مستقل. وقد خلف هذا البحث أثرًا لا نظير له، وكأنه مرجعية أصيلة لأرومة هذا العرق، إذ يلتزم مثقفو قوم “دراويدا” في إقليم “تاميل نادو” الهندي بأن البراهمانية أو الهندوسية ليست ديانتهم ولا تنحدر حضارتهم وثقافتهم عنها، ويرون أنها ديانة الغزاة الآريين.
[13][44] Klaus K. Klostermeir, A Short Introduction Buddhism, p12. مصدر سابق
[14][45] أحمد شلبي، مقارنة الأديان والاستشراق، القاهرة، مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية، الصفحات 241-265.
[15][46] دين محمد، المسلمون الخريطة الدينية العالية المعاصرة، مصدر سابق، الصفحة 130.
[16][47] Gavin Flood, An Introduction to Hinduism, p148. مصدر سابق
[17][48] Ibid, p161. Gavin Flood, An Introduction to Hinduism مصدر سابق .
[18][49] Ibid,pp158-159. Gavin Flood, An Introduction to Hinduism مصدر سابق.
[19][50] Gualtherus H. Mees, Dharma and Society, p74. مصدر سابق
[20][51] Monier Monier Williams, Brahmanism and Hinduism; or Religious Thought and Life in India, p190.
[21][52] Gavin Flood, An Introduction to Hinduism, p189. مصدر سابق
[22][53] Andrew J. Nicholson, Unifying Hinduism Philosophy and Identity in Intellectual History,(Ranikhet, permanent Black,2011)pp196-197.
[23][54] Klaus K. Klostermeir, A Short Introduction Hinduism, p13. مصدر سابق
[24][55] Hinduism During the Mughal of India of the 17th century, Translated by David shea and Anthony Throyer.
[25][56] Gavin Flood, An Introduction to Hinduism, p251. مصدر سابق
[26][57] Stutely, Margarret ,Hinduism Eternal law: An Introduction to the Literature, Cosmology and Cults of Hindu Religion, p142.
[27][58] Gavin Flood, An Introduction to Hinduism, pp 252-253. مصدر سابق
[28][59] Ibid, pp254-255 Gavin Flood, An Introduction to Hinduism مصدر سابق.
[29][60] Klaus K. Klostermaier, A Short Introduction Hinduism, p141. مصدر سابق
[30][61] Shaikh Nikhat Mohammed Rashid, Hindu Perception of Islam in Modern Times, Ph. D Thesis, p 306.
[31][62] Ibid, p308. Shaikh Nikhat Mohammed Rashid, Hindu Perception of Islam in Modern Timesمصدر سابق.
[32][63] Eric J. Sharpe, Comparative Religion: A History, (London,Duckworth,2009), p2.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16456/muslims-in-india-3/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.