by طيبة أيوب | مايو 15, 2024 8:53 ص
مقدّمة*
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[1][1].
من ضمن الوصايا التي دعا إليها دميتري إتسكوف رجل الأعمال الرّوسي “أن يتجاوز الإنسان طبيعته البشريّة، ويصبح إنسانًا خارقًا، خالدًا، فضائيًّا، ثم يصبح (الإنسان الإله) و (مبدع الأكوان والعالم) الإنسان الجديد من حيث الجوهر هو محرّك الألفيّة الثالثة، إنّه يدمج بين زهد العقل والروح من جهة، وتطوّر العلم والتكنولوجيا”.
منذ القدم، والإنسان يسعى إلى الخلود، لكن هناك من غالى في هذا السعي وصولًا إلى المشاركة حتى في الذّات الإلهيّة، وهو الأمر الذي اتُّخذ كمبدأ من قبل مجموعة من الفرق والمذاهب الروحانيّة التي تنتسب إلى فلسفات وديانات وضعيّة وإلهيّة، تسعى من ضمن ما تسعى إليه إلى إعادة بعث العادات الميتافيزيقيّة والروحانيّات الشرقيّة.
هذه المذاهب والحركات الروحانيّة تسعى إلى التغلغل في حياة الشعوب وثقافتها، حتّى لم يعد بإمكان الإنسان فصلها وتمييزها، وهو خلط مقصود بحدّ ذاته، لأنّ نشر الأفكار المطلوبة والمرغوبة لا يكون عبر كنس الفكر القديم ومحوه، وتحويل العقول إلى صفحات بيضاء يُكتب عليها ما يُراد؛ فما نشاهده اليوم من ممارسات وتطبيقات للروحانيّة المعاصرة، وغيرها من الحركات الروحانيّة، تغزو بيوتنا وأحاديث أبنائنا، عبر شبكات الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي، والبرامج الصباحيّة التي تُبث في القنوات الفضائيّة، وفي المقاهي والأندية… وما تعكسه من أفكار ومعتقدات وفلسفات قد استقرّت في وجدان الناس الفردي والجمعي.
وإذا كان من الأهداف المُعلنة لهذه الحركات إلغاء الدين ومحاربة الخالق، فإنّ أوّل التصدّي يكون من خلال التعرّف عليها.
من هنا كانت هذه الأوراق، محاولة خجولة لتسليط الضوء على الروحانيّة المعاصرة: تعريفها، نشأتها، فلسفتها، مصادرها، رؤيتها الإلحاديّة، ارتباطها بعلم النفس والحداثة، وغيرها من العناوين التي كان لا بدّ من التطرّق إليها.
الروحانيّة المعاصرة (تعريفها، نشأتها، مصادرها)
التعريف
قد يكون من الصعب تحديد تعريف واضح للروحانية المعاصرة، وذلك لما تشتمله من عقائد غامضة ومتناقضة أحيانًا، وأيضًا لما تختزنه من طقوس وثنية وشركيّة تعود في غالبها إلى ديانات الشرق الأقصى، وإلى توجهات ذات طبيعة فلسفية.
ولذا، ولمزيد من الفهم عن الروحانيّة نبدأ بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي للكلمة.
“الرُّوح” بالضم: ما به حياة الأنفس، وجاء أيضًا: الرّوح: القرآن والوحي، وجبريل وعيسى عليهما السلام، والنفخ، وأمر النبوّة، وحكم الله تعالى وأمره”.
وعليه، يمكن تعريف الروحانيّة المعاصرة بأنّها مذاهب فكريّة، فلسفيّة إلحاديّة روحيّة، تعتمد على مزيج من مفاهيم الديانات الشرقيّة والوثنيّات والفلسفات الغربيّة الملحدة، وتدعو لكثير من طقوس الأديان الشرقيّة ووثنيّات الهنود الحمر في قوالب عصريّة وصورة تطبيقات حياتيّة، أو رياضيّة وصحيّة.
نلاحظ أنّ الروحانية تسعى إلى ستر الحقيقة الإلهيّة، وتهميش الوحي الإلهي الذي تكمن قيمته، بالنسبة إليها، في طبيعته الشخصيّة فهي تتوقّف عند شخص النبي محمد (ص) ولا تستمرّ بعده، ذلك أنّ البشر وصلوا إلى مرحلة لم يعودوا بحاجة إليه، وتكفيهم التجربة الشخصيّة للتواصل مع البعد الروحاني في هذا الكون.
يتبيّن لنا مما سبق، أنّ الروحانية المعاصرة لم تأت بمذهب جديد، بل هي لفّقت مذاهب ومعتقدات متنوّعة في قالب روحاني وعمليّ “جديد ومعاصر” قِوامه عقيدة مركزيّة موحّدة، هي خليط من المبادئ الروحيّة والباطنيّة والعلوم الكونيّة، إضافة إلى عدد من الطقوس الدينيّة التي يهدف أتباعها إلى التوصّل إلى الحقيقة الكونيّة بهدف تحقيق أعلى درجات القدرات البشريّة الكامنة من خلال تطبيقاتها، ولعلّ أهم ما تتميّز به هذه الحركة هو السعي إلى اكتساب الروحانيّة الباطنيّة دون التقيّد بالعقائد الدينيّة السائدة.
يقول أوشو أحد أهم زعماء التيّار الروحاني المعاصر: “إيّاك أن تكون جزءًا من نظام المعتقدات، لا تكن هندوسيًّا، ولا مسلمًا، ولا بوذيًّا…”.
النشأة
لم تكن الروحانيّة المعاصرة – كما يوحي اسمها – وليدة عصرها الراهن، بل إنّ بعض معتقداتها ضارب في القدم، ويرجع إلى الفلسفات اليونانيّة القديمة، وإذا أردنا تتبّع جذور “الروحانيّة المعاصرة” فلا بدّ لنا من الرجوع إلى القرن التاسع عشر، نقطة الانطلاق الفعليّة للحركات الوثنيّة والفلسفيّة التي أخذت تتبنّى ما يسمّى بـ “الاعتقدات البديلة”، و”الحركات الوثنية الجديدة”.
ومن أبرز الفلسفات التي ساهمت في تبلور الروحانيّة المعاصرة:
ومن أهم النقاط التي عمل عليها مذهب الثيوصوفيا:
وتؤكّد بلافاتسكي في تصريحاتها دائمًا على وحدة الأديان جميعها في الجوهر، وما على الإنسان سوى السعي باتجاه هذا الجوهر الذي هو باطن الديانات.
ويمكن القول بأنّ حركة العصر الجديد هي حركة تجديديّة منبثقة من حركتي الثيوصوفيا وحركة الفكر الجديد، ومن أهم ما يميّز هذه الحركة إيمانها بأنّ عصر التلقّي من مصدر خارجي (الله) قد انتهى، وبدأ عصر جديد يكون فيه التلقّي مباشرًا.
ومن أهم التعاليم التي دعت إليها حركة العصر الجديد:
يتّضح مما سبق، أنّ نشأة الروحانيّة المعاصرة نبعت من عدّة اتجاهات ومصادر مختلفة انتهت إلى ما يشبه الفلسفة أو الفكر، دون الاتفاق على أصول كليّة يرجع إليها الجميع، بل على العكس من ذلك، فإنّ الروحانيّة المعاصرة لم ترَ في الأديان مانعًا من نشر وتطبيقات أفكارها.
الأفكار والممارسات
تدعو الروحانيّة المعاصرة إلى عدد كبير من الأفكار والمعتقدات، والممارسات والتطبيقات، يمكن تصنيفها ضمن الدعاوي الأتية:
نلاحظ أنّ هذه الدعاوي تتّكئ في معظمها على مصطلحات جديدة بعضها لم يستطع أن يثبت نفسه أمام المناهج العلميّة مثل (البرمجة اللغويّة العصبيّة)، فلقد جاءت نتائج تقارير المتخصّصين في جامعات عريقة كجامعة ساكرامنتو ويوتا في أمريكا، وجامعة شيفيلد في بريطانيا، لتؤكّد على أنّ برنامج البرمجة اللغويّة العصبية انتقائي وخليط من الفلسفات والفرضيّات وبعض النظريّات المنتحلة من علوم متعدّدة.
ولقد أوصت الأكاديميّات القوميّة الأمريكيّة للعلوم والهندسة والطبّ والبحث العلمي بإيقاف وتهميش ومنع
تقنيّات البرمجة العصبيّة.
وبعض هذه الدعاوي يحمل في طيّاته الوهم والزيف والخداع، مثل: دعوى الإسقاط النجمي، ودعوى الاستشفاء بالأحجار الكريمة، أو محاولة قراءة الغيب بالتنجيم وغيره، وقد أشار القرآن الكريم إلى كذب هذا العالم في أكثر من موضع:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ﴾[3][3]. ﴿وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُون﴾[4][4]. ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾[5][5]. ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً﴾[6][6].
وقد ورد عن النبي (ص) أنّه قال: “من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله من كتاب”[7][7].
وقال أيضًا: “من أتاه وصدّقه فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله”[8][8]. وهو ما يؤكّد حرمة العرّافة والكهانة، وحرمة تصديق العرّاف والكاهن والساحر.
خلاصة
هي إذًا شبكة ضخمة جدًّا، تهدف إلى إحياء التيّارات الروحانيّة القديمة بطابع جديد سِمته العالميّة والمعاصرة، وظاهره التوافق مع جميع الأديان. وتسعى إلى إلغاء الهويّة العقديّة، وتشكيل مجتمعات مثاليّة يغيب فيها الاعتزاز بالدين وما يتضمّنه من التزامات أخلاقيّة أو شرعيّة، وذلك من خلال نشر شعارات المحبة والسلام والأخوّة والإنسانيّة.
أما المنهج فهو معاكس لما ألِفناه، إذ يبدأ بالممارسات وينتهي بالفلسفات، فالذي يساهم في نشر معتقدات هذا التيار هو التطبيق العملي لممارسات رياضيّة وحياتيّة متنوّعة تغرس عقائده المنحرفة في النفوس بتدرج وخفاء.
وفي الختام، أسئلة متعدّدة، يشكّل البدء في البحث عن إجابات لها نواة وعي وبصيرة لا بدّ لنا من كليهما:
*[9] ملف من إعداد طالبات في معهد المعارف الحكمية، وبإشراف الدكتور أحمد ماجد، وهو عبارة عن سلسلة مقالات ستنشر على موقع المعهد، وسنترك ذكر المصادر التي استخدمتها الطالبات إلى نهاية السلسلة.
[1][10] سورة الأعراف، الآية 16.
[2][11] العلاج بالطاقة.
[3][12] سورة الطور، الآية 29.
[4][13] سورة الحاقة، الآية 41.
[5][14] سورة الجن، الآية8.
[6][15] سورة الجنّ، الآية 9.
[7][16] الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، الجزء 17، الصفحة 150.
[8][17] المصدر نفسه، الجزء 11، الصفحة 371.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16684/spirituality/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.