by رسول حسين | يوليو 12, 2024 9:19 ص
بدايةً إنَّ أيّ حدث تاريخيّ، مهما كان عظيمًا، ينتهي بغياب أصحابه عن مسرح الحياة، ويصبح حديث تاريخ، ويدوّن في كتبه، وتذكر دلائل تواجد أشخاص الحدث، أو حدوث أحداث معينة يتم تخليدها، وبعض منها يخفت مع الزمن، لكن هناك من المحطات والأحداث في التاريخ ما لا يخبو ضوؤها ولا تشيخ أبدًا مع الزمن، بل على العكس، هي في تجدّد مستمرّ، وإنَّ أبرز هذه الأحداث التاريخية هي ثورة كربلاء، فتلك الثورة، رغم بُعدها الزمنيّ، لم تخمد نارها، بل نراها تتّقد أكثر كلَّما استعيدت سيرة الإمام الحسين (ع)، وكلَّما حطَّت المناسبة برحالها كذكرى وعبرة بين يدي مريديها وعاشقيها، قد نبالغ خلال إحياء الذكرى في تأكيد الجانب التاريخي وسرد الأحداث، وهذا لا يعني أننا ضد الحزن والعاطفة، فهذا ضروري أن يحصل، لكن الأهم، وهو الهدف الأساس في إحياء هذه الذكرى وإحياء أمر أهل البيت، هو أن نشدّهم إلى عصرنا، أن نؤكد أنهم ليسوا تاريخًا، بل حاضرًا ومستقبلًا، وأن نحاكم الوقائع، ووقائع العصر، وفق معايير كربلاء، ومن منظار رؤيتهم لقضايا الحق والعدل والظلم، والإيثار والعطاء، وإبراز الجانب الأخلاقي من هذا الحدث المهم، وجعله نقطة تلفت انتباه الجميع دون تحديد.
إن قيمة المرء الحقيقية تقدر بما يمتلك من الأخلاق أولًا، ومن ثم أعماله وعلمه ومنجزه في جميع مرافق الحياة، وعلم الأخلاق واحد من أهم العلوم إن لم يكن أشرفها، فهو يهتم بأن يكون الإنسان ذو خلق قبل أن يكون عالمًا أو فقيهًا أو رياضيًّا مشهورًا، أو حتى لاعب كرة محترف، أو طبيب أو مهندس أو تربوي، فبقاء وسمو أية أمة مرهون بوجود الأخلاق في سلوكيات أبنائها، وأن الكثير من الدراسات الإنسانية سيما التربوية والاجتماعية اهتمت بدراسة الأخلاق كسلوك يحكم الطبيعة الإنسانية عبر التأريخ منذ أن خلق الإنسان حتى يومنا الذي نعيش، وهذا الاهتمام منحدر من ارتباطها بسلوكيات الإنسان في جميع تفصيلاتها، كما اهتمت جميع الأديان السماوية والمذاهب الفلسفية والفكرية بدراستها والعمل على توظيفها لتكون ضابطًا للسلوكيات العامة والخاصة للإنسان.
إنَّ ثورة عاشوراء على الرغم مما حصل فيها من هتكٍ وقتلٍ وتشريدٍ لعترة النبي المصطفى (ص)، فإنّها حوت معاني لا يمكن احتواؤها في أسطرٍ قليلة أو مقالاتٍ مقتضبة، بل إنّها معينٌ لا ينضب؛ إذ كلّما نهلت منها أعطتك العِبر والدروس التي من شأنها أن تنظِّم حياتك وتوصلها إلى شاطئ الأمان والنّجاة في يوم المحشر.
كانت ثورة الإمام الحسين بن علي (ع) في كربلاء أحد الأساسات الصلدة التي نشأت بدافع أخلاقي بحت، إذ رأى من الأخلاق أن يتصدى بنفسه للظلم ويدافع عن دين نبيه، وعن المستضعفين الذين لم يتمكنوا من رفضه والوقوف بوجهه؛ لأن السلطة الأموية قوية ودموية، فكان سلوك سيد الشهداء (ع) وسيرته الأخلاقيّة تعكس سمو نفسه وتربيته في حجر جدّه محمّد (ص) وأبيه علي (ع)، وتجسيده للقرآن الكريم في عمله وأخلاقه.
إنَّ كربلاء ونهضة الحسين عطاءات مباركة في كلِّ عصر تعطي وتثمر عند تحوّلها إلى طاقة دفع وشحذ همم. إنَّ كلًّا منا، ومن موقعه، مدعو، بل نحن جميعًا مدعوون إلى إعادة إنتاج عاشوراء، وفي هذه الثورة الكثير الكثير مما علينا إعادة إنتاجه للاستفادة والعبرة، بأن نأخذ عاشوراء كلًّا متكاملًا، إننا غالبًا ما نأخذ من عاشوراء التضحية والفداء والاستشهاد، وهذا ضروري لاستنهاض الهمم وتعزيز روح التضحية، لكن من دون أن نأخذ منها أبعادها الأخرى، وأن أهم بعد فيها هو البعد الأخلاقي الذي كان أساسًا لهذه الثورة وعند عدم ذكر هذا البعد فإننا بذلك لا نعي عاشوراء، ولا نعطيها حقها.
إننا اليوم في إطار موسم عاشوراء، وسنتوقف عند البُعد الأخلاقي عند واحدة من القيم التي عاشها الحسين وأصحابه، وهي قيمة الأخلاق، وسنتطرق لبعض من أخلاقيات الإمام الحسين (ع) في ثورة عاشوراء، فقيمة الأخلاق هي من أكثر القيم التي نحتاج إلى إعادة إنتاج دورها ومواصفاتها، لأنَّ هذه القيمة هي عمق الإسلام، فلا إسلام بدون أخلاق، وهذا ما عبَّر عنه رسول الله عندما اعتبر الدين هو حسن الخلق، وعندما قال، “إِنّما بُعثتُ لأُتمَمَ مكارمَ الأخلاق”، وفي الحديث، “عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلُقه”، “إنّ العَبدَ لَيَبلُغُ بحُسنِ خُلقِهِ عَظيمَ دَرَجاتِ الآخِرَةِ وشَرَفَ المَنازِل، وإنَّهُ لَضَعيفُ العِبادَةِ”.
عندما نتمعن بأخلاق الإمام الحسين (ع) وسجاياه الكريمة في الطف نجدها تجسدت في ميادين ومواقف مختلفة كقيم أخلاقية سامية منها: الرفض القاطع لمبايعة يزيد، ورفض المغريات والامتيازات، متمسك بالأخلاق والمبادئ والقيم النبيلة، كذلك الإيثار الذي تفرّد به الإمام الحسين (ع) هو أحد أبرز أوجه الأخلاق ومن أعظمها الإيثار؛ يعني الفداء وتقديم المصلحة العامة على النفس والمصلحة الشخصية، ومن أخلاق الإمام الحسين (ع) وفي ليلة عاشوراء حيث رفع عن أنصاره التكليف لينجوا بأنفسهم برضا منه محاولًا أن يبعدهم عن الحرج فيما لو أرادوا الانسحاب حين خاطبهم (ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعًا في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملًا)، لكنهم لوفائهم وإخلاصهم للمبدأ وصاحبه رفضوا الانسحاب وكان لهم جزاء من الله فهم خالدون في نفوس الأحرار في كل مكان وزمان، أيضًا المروءة والشهامة من الصفات الأخلاقية التي جسدها الإمام الحسين (ع) وأنصاره في كربلاء عبر رفضه للطغاة وعدم الانصياع للظلم والبذل من أجل الحرية وتجنب الغدر والدفاع عن الضعفاء وعدم التعرض للأبرياء، ويعترف بالحق الإنساني للآخرين.
وبالعودة لعنوان المقال فإن الأخلاق في ثورة الحسين تجلَّت في شفافية دعوته ووضوحه وعدم مواربتها، فالحسين (ع) منذ خروجه من المدينة، حدَّد في وصيته أهداف نهضته طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يعتبر قمة الأخلاق الثورية والسياسية والإنسانية، فالحسين لم يُخفِ وراء الستار أهدافًا أخرى لنهضته ليعلنها فيما بعد أو يعمل على تحقيقها في السر، كان صادقًا وواضحًا مع المسلمين، ومع الذين يخرج عليهم، ومن هذا المنطلق ندعو أن لا تكون عاشوراء تخصّ الذين ينطلقون إلى ساحات القتال فقط، بل إلى جميع السّاحات لتغيّرها، إننا نحتاج إلى القيم والأخلاق لضمان شرعية التغيير وسلامته، ولتحصين قوى التغيير من الانحراف، وحتى لا تسم المصالح والشهوات والأطماع طابع الحياة، ولا يحصر الدين فقط في الطقوس والعبادات.
في هذه الذكرى؛ ذكرى عاشوراء، فلتكن الدَّعوة إلى نبذ الفساد باسم الحسين (ع)، ونبذ انتهاك المحرمات والحرمات والكرامات الإنسانية باسم الحسين (ع)، ورفض الغشّ والازدواجيَّة والصفقات والمحصاصات. هذه المفردات كلها يجب أن تختفي أمام طهر عاشوراء وطهر الحسين.
خلاصة القول: إن ثورة عاشوراء ملحمة تاريخية سطّرت بسلوكيات أخلاقية، تعد منهجًا مكمّلًا لأخلاق بيت النبوّة لتمتد إلى جميع مفاصل الحياة التربوية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والاقتصادية، كما إنها عكست الواقع الأخلاقي الذي عاشه الإمام وحاول أن يجعله منهجًا حياتيًّا لمن بعده وقد أفلح في ذلك إلى حد بعيد، وهذا هو النتاج الجميل.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16775/hussein1/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.