الفكر العربي الحديث والمعاصر | أركون والدين والتراث والحداثة
بعد أن رأينا في الجزء الأول من البحث المنهج ومميزاته ومصادره عند محمد أركون، ننتقل الآن للحديث عن التطبيقات العملية التي قام بها على الإسلام وقطاعاته المعرفية عبر إظهار قراءة أركون للدين والإسلام الحداثة.
- أركون والدين
ينطلق أركون من مسلمة أساسية، تقوم على تصور حداثي للدين صاغته العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو لا يتفق مع الميتافزيقا والرؤية الكلاسيكية، لأنّه يرى: “أنّ الإنسان ليس مبدءًا تفسيريًّا وليس جوهرًا تأسيسيًّا ثابتًا، وإنّما هو نتاج متدرج للفعالية المعقدة للفاعلين البشريين، فهذه الفعالية هي التي تصوغ البشر وإنسانية الإنسان”(38). فالدين من خلال هذا الفهم قابل للدراسة والفهم والفحص، فهو إنتاجٌ إنسانيٌ وصورةٌ عنه، وكلّ تغيّر يطرأ على الإنسان ومعارفه يؤدي إلى تغيّر في نظرة الإنسان للدين.
فالدين(39) في التصور التقليدي انبثق في لحظة محددة من حياة الإنسان، وسعى إلى إقامة ميثاق بين الله والإنسان من خلال بنية لغوية بلاغية تتكئ على الأسطورة والمجاز من أجل: “أن يظهر لأول مرة في التاريخ إنسان الميثاق المتعاقد مع الله الحي المتكلم الفاعل في التاريخ الأرضي من أجل إغناء وتوسيع العلاقة المتبادلة بين الإنسان والله، والله والإنسان إنّه يغنيها ويوسعها عن طريق منهجية تربوية مليئة بحب الخير وبفضل الغنى الكاشف للخطاب النبوي فإن الإنسان يرتقي إلى مرتبة الشخص وكرامته عن طريق استبطان الله كمقابل حميمي[…] ويحصل هذا الاستبطان عن طريق الصلاة وعمل الخير والتأمل في كل آيات الله في خلقه وفك رموزها، كما أنّه يتم عن طريق هذه النعمة التي خصّ بها الله الإنسان من جميع المخلوقات وحمّله تلك المسؤولية الثقيلة لإدارة وتسيير شؤون النظام العادل بصفته خليفة الله في الأرض”(40)، وهذا ما أدى إلى جعل الإنسان مستعيرًا للمعنى المتعلق بأقواله وأفعاله خارج عالمه الأرضيّ. ولكن هذا التصور، تعرض للانحياز، فعندما جاءت الحداثة ثارت على هذا الفهم التقليدي، وقامت بإعادة هيكلة الفعل الإنساني، فاستعادته وأعطته للإنسان باعتباره هو الأصل المؤسس لكلّ فعل. بالتالي، قامت بموضعة الدين في سياق إنساني عام متعال على كلّ المشروطيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية، ونقلت الدين إلى مرحلة اجتماعية فردية، أصبح فيها الكائن الفرد منتجًا لمعانيه.
وهكذا، يؤشر أركون إلى وجود فهمين للدين، أحدهما تقليدي والآخر حداثي، وهما لا يمكن أن يتعايشا في زمان واحد دون إحداث تناقض بين ما يعيشه الإنسان وماهية الأفكار التي يحملها، فالراهن في حياة لا يسمح ببقاء المعنى الأول للدين، لأنّ روح الحداثة تقتضي تجديد المعنى والخروج به من الدوغمائية إلى الانفتاح والتسامح، والسيطرة على منافذ العنف في النظرات الكونية الأرثوذكسية سواء أكانت دينية أو علمانية(41)، وأولى الخطوات في هذا المجال تبدأ بفحص حضور المفاهيم في السياقات الدينية والعلمانية التقليدية ومتابعة كيفية تطورها في السياقات العامة الخاصة بها.
فالتسامح الذي يتحدث عنه أركون ليس المتعارف عليه في المنظومات الدينية التقليدية، إنّما هو يعني: “الاعتراف للفرد-المواطن بحقه في أن يعبر داخل الفضاء المدني عن كلّ الأفكار الدينية أو السياسية أو الفلسفية التي يريدها، ولا أحد يستطيع أن يعاقبه عن آرائه اللهم إلا إذا حاول فرضها عن طريق القوة والعنف على الآخرين”(42)، وهذا المعنى لا يمكن أن يوجد في عقل ديني لاهوتي، من هنا: “لا معنى للتحدث عن التسامح في التراث الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي لأن المفهوم بالمعنى الحديث للكلمة لم يكن موجودًا أصلًا، وأي حديث عن التسامح في تلك العصور يعني الوقوع في الإسقاط أو المغالطة التاريخية؛ أي إسقاط تجربة الحاضر ومفاهيمه وخبراته على عصور سابقة لم تعرفها وما كان بإمكانها أن تعرفها”(44).
فالأديان أنظمة دوغمائية، تقوم على مبدأ الاستبعاد لكلّ ما يخالف يقينياتها، وهذا الأمر يجعلها متناقضة مع نزعة الحداثة التي تقوم على لازمتين أساسيتين هما:
– الدولة الراعية للحريات: ويتمثل في وجود دولة حق وقانون تضمن الحصانة المتساوية لحرية التعبير لكلّ المواقع الفكرية والعقائدية دون استثناء، أي لكلّ الأديان والفلسفات والمذاهب، كما وتضمن لكلّ الأعمال الأدبية والفنية حرية النشر حتى ولو مسَّت موضوعات مقدسة من قبل الزمن وتوالي القرون، أقصد مقدسة بالنسبة لدين ما أو لطائفة ما أو جماعة معينة أيًّا تكن، بالطبع فإنّ هذه الحرية المعطاة المعترف بها لا تنفي التفحص النقدي للمسؤولية الثقافية للمؤلف”(44).
– المجتمع المدني: وهو شريك وضرورة للدولة، لذلك لا بد من السعي إليه: “[فـ]وجود مجتمع مدني متماسك ومتقدم ومشبع إلى حدّ الكفاية بالثقافة الفلسفية القانونية المتسامحة، وذلك لكي يلعب الدور الأساسي للشريك الحر والمتشدد مع الدولة، دولة القانون، وعندئذ لا تسقط هذه الأخيرة تحت إغراء التحيز والمحاباة لطرف ما بأيّ شكل، فالمساواة ينبغي أن تنطبق على الجميع، ويحق للرأي العام أو المجتمع المدني أن ينبه الدولة إلى ذلك إذا ما أخطأت”(45).
وكما نرى كلام أركون يحيلنا إلى الدين باعتباره ظاهرة كسائر الظواهر الاجتماعية، لا يشكل بنفسه فاعلية مستقلة، وهو وإن حمل في طياته بعض العناصر التي تؤشر إلى التسامح والغفران وحقوق الإنسان لكنّه يبقى مرتبطًا بنزعته الإقصائية ورؤيته التي لا تسمح للإنسان بإنتاج المعنى.
- أركون والإسلام
يموضع أركون الإسلام في خانة الأديان الكتابية مع المسيحية واليهودية، هذه الديانات التوحيدية التي تقوم على الوحي، وتؤمن بالتاريخ الخلاصيّ أو النجاتيّ (النجاة في الدّنيا والآخرة) الذي ابتدأ مع أول الأنبياء واستمر بعد ذلك في التاريخ على مراحل، وهذا ما يعبر عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(46)، وهذا ما دفع أركون إلى التميّيز بين معنيين للإسلام:
- المعنى التزامني: وهو المعنى الذي يتعدى البعد الاعتقادي الذي تشكل مع العصور الإسلامية، وهو يعني الخضوع والتسليم لله، ويتجسد في حياة دينية تسعى لتكون قدوة ومثالًا، وبهذا المعنى يشمل الإسلام سائر الديانات الكتابية، وهو: “يعبر عن العلاقة الروحية للإنسان مع الله”(47)، وهذه النظرة لم تخلُ منها الديانتين الكتابيتين المسيحية واليهودية، وعُبِّر عنها في التوراة والإنجيل(48)، مما يعني أنّ الإسلام لا ينقطع عن هذه الأصول بل يتواصل معها، وهو جزء من مسيرتها.
- المعنى التيويولوجي: وهو المعنى المخصوص، والذي يقصد به المسلم بمعناه الخاص، وهذا المعنى نتج عن سياقات الحياة الإسلامية كما فرضه الفاعلون الاجتماعيون.
ويستهدف أركون من هذا التقسيم الحديث عن كيفية تطور الظاهرة الدينية الكتابية التي ينتمي إليها الإسلام، فهي تبدأ بنظرة عامة شمولية ثم تنتقل إلى مرحلة تيويولوجية، والمرحلة الأولى هي المرحلة التأسيسية التي تحتوي في مضمونها العناصر الميثاقية التي تشكل جوهر الدين ورؤيته للحياة، هذه الرؤية التي تفرق بين الدين والحداثة.
فالرؤية الدينية، كما رأينا سابقًا ميثاقية، وهذا ما نجده في الإسلام، الذي ركز على مصطلح الميثاق، وهو يعني: “أنّ هناك تحالفًا، أي ميثاقًا، يربط بين الخالق والمخلوق، وهذا الميثاق مؤسس على مبادرة الله، الذي أولى للإنسان مكانة متميزة بين المخلوقات كلّها، فقد وهب للإنسان امتياز تلقي كلام الله لكي يعيش حياته كلّها طبقًا لهذا الكلام فيجسده حيًّا واقعًا في سلوكه، ثم يلتحق بالله في نهاية المطاف حيث النعيم الأبدي وجنة الخلود”(49)، بالتالي فهذه الرؤية محكومة للمعنى المنزل من الله، وهي وإن كانت في مراحل تاريخية معينة قد حققت إنجازات كبيرة إلا أنّها لا تستطيع أن تكون بديلًا عن الرؤية المدنية، وفي حالة الإسلام: “توجد هنا ترقية حقيقية للشخص البشري بالقياس إلى وضعه في الجزيرة العربية قبل الإسلام ينبغي أن نموضع ذلك داخل التاريخ وإلا فلن نفهم شيئًا حول مسألة حقوق الإنسان، ولن تطرح ضمن المنظور الصحيح. حقوق الإنسان في القرآن أكثر تقدّمًا إلى جو محبط وتاريخ سابق. وحقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة الفرنسية بعد عصر التنوير الأوروبي سوف تكون شيئًا مختلفًا تمامًا، لأن التاريخ اختلف والمجتمع اختلف، ولأنّ الفكر البشري قد حقق إنجازات لم تكن ممكنة في القرن السابع الميلادي”(50).
فأركون من خلال مشروعه يتحدث عن تطور تاريخي، أدى إلى تبدّل المفاهيم المتعلقة بالإنسان. فالأديان ومنها الإسلام، وإذا كانت تمتلك رؤية إنسية، ولكنّها بقيت محكومة لمرادات الدين الخلاصية، ولتوضيح هذا يقوم بتقسيم الأنسنة إلى أربع مراحل:
– الأنسنة الدينية Humanisme religieuse: وهي تقوم على الوثوقية والورع لله، والالتزام بأوامره ونواهيه، لأنّ الله هو الذي يحدد فاعليته المعرفية والأخلاقية، أي خارج فرديته الإنسانية.
– الأنسنة الأدبية Humanisme littéraire : وهي أنسنة ترتبط بأرستقراطية الروح والمال والسلطة، التي تنتشر في زمن الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، وتكون القصور والصالونات مركزها الأساسي، ولكن هذا النوع من الأنسنة زائف وإسمي Humanisme formelleلأنّه يكتفي بالتلاعب اللفظي في الصالونات الأدبية المنفصلة عن الحياة اليومية للطبقات الكادحة والمهمشة(51).
– الأنسنة الفلسفية Humanisme philosophique: هي نوع يمزج الرؤية الدينية بالفلسفية، وتمتاز بالبحث والقلق والمنهجية عند معالجة العلاقة بين العالم والإنسان والله، ولكنّها تحمل في طياتها إشكالية أساسية، تتمثل في عدم تقديم نفسها باعتبارها فلسفة محايثة تعارض التعالي والمفارقة، وهذا الأمر لا يسمح لها بالتعرف على التضاد بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية.
– الأنسنة الكونية Humanisme Universelle: وهي النزعة التي تنفتح على الإنسان دون تمييز أو تفرقة، انطلاقًا من كون: “جميع أفراد الجنس البشري بغض النظر عن أصولهم الجغرافية أو الدينية أو المذهبية أو العرقية أو اللغوية[…] فأنسنة العلاقات الاجتماعية أمر ضروري ولا يمكن أن يتم إلا من خلال بيئة محسوسة ومحددة بدقة[…] الموقف الإنساني لا يعترف إلا بالإنسان”(52). اتبع الرابط لقراءة البحث الكامل: أركون والدين والتراث والحداثة- الدكتور أحمد ماجد
(38) محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي (جيل مسكويه والتوحيدي)، الصفحة 19.
(39) والمقصود هنا الديانات الكتابية الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية.
(40) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل(نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي)، مصدر سابق، الصفحة 208.
(41) بالنسبة إلى محمد أركون تتشابه الأديان والدولة الحديثة العلمانية بإدانتها للعنف أخلاقيًا، وبمباركتها ودعوتها إليه عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الحقيقة كما تفهمها، والاختلاف بينهما لا يتعدى التسميات فما تطلق عليه الديانات اسم الجهاد والحرب المقدسة تُسميه الدولة الحديثة باسم الحرب العادلة. أنظر: محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل (نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي).
(42) أركون، قضايا في نقد العقل الديني(كيف نفهم الإسلام؟)، الصفحة 243.
(44) المصدر نفسه، الصفحة 240.
(44) أركون، قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، الصفحة 245.
(45) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(46) سورة آل عمران الآية 67.
(47) محمد أركون، الأصول الإسلامية لحقوق الإنسان، ترجمة هشام صالح، (بيروت، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، عدد62-63، 1989)، الصفحة 112.
(48) انظر المصدر نفسه.
(49) محمد أركون، الأصول الإسلامية لحقوق الإنسان، مصدر سابق، الصفحة 112.
(50) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(51) محمد أركون، نزعة الأنسنة، مصدر سابق، الصفحة 9.
(52) المصدر نفسه، الصفحة 38.
المقالات المرتبطة
شرح قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي في رثاء الإمام الحسين (ع)
لكَ في الأَرضِ وَالسَماءِ مَآتِمْ قامَ فيهـــا أَبو المَلائِكِ هاشِمْ
حضور صدر الدين الشيرازي في الدراسات الفلسفية العربية (المرحلة الثالثة -2)
وتابعت الدراسات الصدرائية طريقها، فناقش “رياض سحيب روضان” رسالة ماجستير في جامعة المستنصرية، وحملت عنوان: “علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي: دراسة في الإلهيات”
الصلة بين العلوم الشرعية ونظرية المعرفة/الإبستمولوجيا
تبدو حاجة الأمة الإسلامية ماسة وضرورية لبناء منهاج جامع لعلوم الوحي/القرآني، وعلوم الإنسان/البشري…