العقيدة اليهودية
تواجه الباحث في مجال العقيدة والدراسات اليهودية مشكلة منهجية كبرى تتمثل في عدم وجود مصادر يعتمد عليها، هذا الشح في المصادر يحول دون تكوين مادة دراسية تشمل كل جوانب ومراحل العقيدة اليهودية. لذا يحتاج الباحث في هذا المجال إلى بذل جهد كبير في البحث والاستقصاء في سبيل جمع ما أمكن من جوانب هذه العقيدة. ولعل من أهم المصادر المتوفرة لهذه الغاية هو القرآن الكريم.
يشكل القرآن الكريم مادة غنية وكبيرة جدًّا في فهم كثير من مناحي العقلية اليهودية والإسرائيلية، حيث إن القرآن جاء فيه إشارات واضحة ومهمة بالنسبة لموضوع بني إسرائيل، ولم يُذكر في القرآن حديث عن أقوام أو عن أنبياء مثلما ذُكر عن أنبياء وبني إسرائيل.
إن القرآن الكريم ليس مصدرًا معتبرًا بالنسبة للحالة اليهودية عند المسلمين فحسب، بل إننا نجد من المؤرخين الغربيين من اعتمد على القرآن في هذا المجال فهذا “وول ديورانت” صاحب قصة الحضارة يقول في هذا الصدد ما مفاده: إن القرآن يعتبر مصدرًا موثوقًا في هذا المجال، وقد اعتمد عليه- أي على القرآن- وول ديورانت أكثر من التوراة.
إن هذا الكلام لا يعني أن القرآن، وإن كان المصدر الأفضل، أنه المصدر الوحيد، حيث إن هناك فجوات تاريخية في حياة اليهود لم يتعرض لها القرآن الكريم، وهنا يأتي دور المصادر الأخرى لردم هذه الفجوة، هذه المصادر الأخرى تعتمد على “العهد القديم”، ولكن تنقصها المصداقية التاريخية.
ومن المصادر أيضًا في مجال الدراسات اليهودية وفي عقائد اليهود “التلمود” الذي وللأسف الشديد غير مترجم إلى اللغة العربية بالكامل، حيث تُرجم منه نصوص قليلة لا تكاد تكفي لتكوين مادة يمكن من خلالها فهم جزء كبير من العقائد اليهودية.
إذن، نحن لدينا إشكالات منهجية كبيرة في دراسة العقيدة والتاريخ اليهودي، وهنا وقبل الدخول في صلب الموضوع، أود أن أسجِّل ملاحظة، بل أسف أنه ورغم الصراع المركزي الموجود بين العرب والمسلمين من جهة، واليهود من جهة أخرى، فإننا لا نجد على امتداد العالم العربي والإسلامي مركز دراسات يهتم بالشؤون اليهودية والذي يُعتبر نقص لا بدَّ وأن يسعى الجميع لإصلاحه وترميمه.
إنَّ أول مسألة تطالعنا في الموضوع الإسرائيلي هي وجود مجموعة من الأسماء والمصطلحات، فهناك العبرانيين واليهود والإسرائيليين. إن تعدد الأسماء يشكِّل مشكلة اصطلاحية مهمة، وتتجلى أهمية هذه المشكلة من الخلط الناشئ عن عدم فهم المصطلح والذي ينعكس كمشكلة في فهم القضية نفسها. وسنحاول فيما سيأتي مناقشة كل من هذه المصطلحات كي ينجلي مفهوم التسمية وسببها.
- العبرانيون
إن أول اسم أطلق على اليهود هو اسم العبرانيين، هذا الاسم الذي أُختلف في معناه، ولكن لم يكن هناك اختلاف في دلالته وكونه يدل على اليهود الأوائل.
تعددت الآراء حول سبب تسمية اليهود بالعبرانيين، فمنهم من قال: إن سبب التسمية هو أن أحد أجداد النبي إبراهيم (ع) كان اسمه “عبر” وإليه نُسب اليهود.
هناك رأي آخر يقول: إن كلمة عبري مشتقة من الفعل الثلاثي “عبر” باعتبار أن اليهود الأوائل كانوا رعاة وبدوًا، فكانوا ينتقلون من مكان إلى مكان؛ وصفة العبور من مكان لآخر هي أكثر صفة يتصف بها البدو، إن الذين أطلقوا هذا الاسم “العبريني” على اليهود في تلك الآونة هم المصريون والكنعانيون وذلك لعلاقة بني إسرائيل أو العبرانيين بالصحراء وكثرة تنقلهم وعبورهم من مكان إلى مكان.
هناك رأي ثالث حول تسمية اليهود بالعبرانيين مفاده أن كلمة عبرانيين لها علاقة بالفعل الذي أتى به النبي إبراهيم (ع) وهو فعل العبور، حيث عبر(ع) الفرات عندما كان موجودًا في “أور”، وهناك من ردَّ الاسم إلى العبور الثاني للنبي إبراهيم (ع) عندما عبر إلى الأرض المقدسة من نهر الأردن.
مما لا شك فيه أن العبرانيين اسم أطلق على اليهود الأوائل، وبقي هذا الاسم ملازمهم حتى استقرارهم في أرض كنعان عندها تغير الاسم والمصطلح ليطلق عليهم اسم الإسرائيليين، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن اليهود وفي الدراسات اليهودية لا يحبون أن يتسموا بالعبرانيين، ولكنهم وفي نفس الوقت يقبلون أن تسمى لغتهم بالعبرية!
بالعودة إلى استقرار اليهود في أرض كنعان، فقد كان، وكما هو معروف، موطن النبي إبراهيم (ع) في أور جنوب العراق التي نشأ وترعرع فيها، ويعتبر النبي إبراهيم (ع) وهو إبراهيم بن تارح أبو العرق السامي الذي يتفرع منه اليهود والعرب، وينتهي نسب نبيينا إبراهيم (ع) إلى النبي نوح (ع). جاءت هجرة النبي إبراهيم (ع) من أور بعد قصته المعروفة مع قومه حينما كسر الأصنام، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القصة بالتفصيل، حيث قام قومه بإلقائه في النار التي جعلها الله عليه بردًا وسلامًا، بعد هذه الحادثة أقفلت أبواب الدعوة بوجهه (ع) فبدأ رحلته، تلك الرحلة المهمة والمثيرة جدًّا والتي تفسر جزءًا من تاريخ المنطقة وتاريخ النبوة وحتى تاريخ العالم.
مضى النبي إبراهيم (ع) في رحلته آخذًا معه زوجته سارة وابن أخته لوط(ع) متجهين شمالًا حتى مناطق الآراميين؛ أي سوريا وشمالها، ثم جنوبًا إلى أرض كنعان وهي فلسطين، وحسب أرجح الأقوال فقد تمت هذه الرحلة عام 2000 ق.م.
إذن، دخل العبرانيون بقيادة إبراهيم (ع) إلى الأرض المقدسة أرض كنعان (فلسطين) والتي عاشوا فيها كما في غيرها في مجتمعات من العزلة، هذه العزلة التي تشكل أحد المعالم الرئيسية التي وسمت الفكر اليهودي وتاريخ بني إسرائيل.
لقد كان اليهود دائمًا يعتبرون أنفسهم أصحاب رسالة ينزلون بين وثنيين، كما أنهم كانوا كلما نزلوا أو عاشوا في منطقة تحالفوا مع الأقوى فيها ذلك التحالف الذي كان يأتي دائمًا على حساب المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، مما أدّى بالتالي إلى حالة من الكره كرَّست عملية العزلة، فتحولت العزلة عندهم إلى نمط حياة ولتصبح جزءًا من التقاليد الفكرية والدينية عند اليهود، وإلى هذه المسألة يشير أحد المفكرين اليهود المدعو “سلامون شختر” والذي كان مدرِّسًا في مدرسة اللاهوت اليهودية العليا في ألمانيا، حيث قال: “إن معنى الاندماج في الأمم هو فقد الذاتية، وهذا الاندماج مع ما يترتب عليه من النتائج هو ما أخشاه أكثر مما أخشى المذابح والاضطهاد”.
يبدو جليًّا مما تقدم أن موضوع العزلة في العقيدة والفكر اليهودي يشكل مسألة رئيسية وأساسية، فنرى أن العزلة والانفصال عن المجتمعات قد صبغ كل العقائد الدينية اليهودية، وسبّب لهم الكثير من المآسي كما للناس الذين عاشوا بينهم على أيديهم هم. ومن الجدير ذكره في هذا المجال أن هذه العزلة جعلت كل المجتمعات التي عاش فيها اليهود ينظرون إليهم نظرة عداء وريبة، مما أدى إلى جعل العزلة تزداد وكانت النتيجة أنه وللمرة الأولى في التاريخ أن تتحول العقائد الدينية إلى قومية، لذلك نجد أن الدين الوحيد على وجه الأرض الذي يعتبر قومي من ناحية وديني من ناحية ثانية هو الدين اليهودي؛ إذ انطبقت القومية على الديانة اليهودية، ومن أجل ذلك فإننا لا نرى للديانة اليهودية أي شكل من أشكال التبشير بحجة أنهم يدعون أنهم يحافظون على العرق اليهودي ومن له نسب من دم باليهود، ومن الجدير ذكره أن هذا الأمر شكَّل مشكلة ما تزال مستمرة لديهم حتى الآن، حيث نجد أنه وفي الدستور الإسرائيلي اليوم لم يعرف بعد من هو اليهودي باعتبار أن هناك بعض المدارس اليهودية الإصلاحية قد سمحت بدخول غير اليهود إلى الديانة اليهودية، ولكن اليهود الأرثوذكس لا يعترفون بهذا التحول معتبرين أن اليهودي هو من جاء بنسبه من الأسباط والذين هم أبناء يعقوب.
إذن استقر بنو إسرائيل في أرض كنعان مع النبي إبراهيم (ع) حتى أصابها القحط والجفاف فهاجروا منها إلى مصر التي كانت تحت الحكم الهكسوسي. تحالف اليهود مع الهكسوس ضد المصريين أهل البلاد الأصليين، وكما تقول التوراة (العهد القديم) إن ملك مصر أنعم على إبراهيم (ع) بكثير من النعم والهدايا والأموال فأصبح ثريًّا، ولكنه – ملك مصر- أراد أن يستأثر بسارة زوجة النبي إبراهيم (ع) مما حدا بإبراهيم (ع) بالعودة مرة ثانية إلى فلسطين أرض كنعان، فعاد ومعه زوجته سارة وجاريتها هاجر التي ولدت له إسماعيل(ع)، وهنا في هذه الحقبة يبدو الفراغ في رواية العهد القديم لقصة النبي إبراهيم وهو ذهابه (ع) إلى مكة المكرَّمة، إن مصادر العهد القديم لم تتحدث بشكل واضح عن أن النبي إبراهيم (ع) ذهب إلى مكة إلا إذا اعتبرنا ما ذُكر عن فاران إشارة إلى ذهابه (ع) إلى مكة، ولكن القرآن الكريم أشار إلى هذه المسألة بشكل واضح ويتحدث عن وجود وإقامة النبي إبراهيم (ع) في مكة، ومن ثم تركه هاجر وإسماعيل(ع) في مكة.
إذن غادر النبي إبراهيم (ع) مصر وعاد إلى أرض كنعان، ويبدو حسب رواية القرآن أنه ذهب في رحلة إلى مكة وهناك ترك إسماعيل، ولكن الروايات اليهودية تقول: إن إسماعيل (ع) ولد في الأرض المقدسة فلسطين وهو أمر مرجح حيث إن القرآن الكريم لم يذكر مكان ولادة إسماعيل.
إذن عندما ذهب إبراهيم (ع) إلى مكة كان إسماعيل معه، وقد كان في سن اليفاعة؛ أي بين الحادية عشرة والثانية عشرة تقريبًا. بعد 14 سنة من ولادة إسماعيل (ع) ولد إسحاق (ع) من سارة زوجة إبراهيم (ع) الأولى، ويبدو أن إسحاق (ع) ولد في فلسطين، وقد أنجب إسحاق (ع) عيسو ويعقوب (ع) والذي معه-أي يعقوب- تبدأ قصة بني إسرائيل. فيعقوب اسمه إسرائيل، ومن هنا بدأ إطلاق بني إسرائيل على العبرانيين.
ولد ليعقوب في فلسطين أثني عشر ابنًا، والذين يسمون أسباط بني إسرائيل؛ والسبط هو الحفيد. لم يطل ابتعاد بني إسرائيل عن نمط البداوة فهم بعد إقامتهم بأرض كنعان عادوا لينتقلوا منها إلى مصر، فعادوا بذلك إلى نمط البداوة، فكانوا دائمي التنقل بين أرض كنعان ومصر.
كما وقد ذكرنا فقد ولد ليعقوب اثني عشر ابنًا، ولعل أبرز ولدين ليعقوب هما يوسف(ع) وبنيامين، وقصة يوسف(ع) وما حدث له على يد إخوته معروفة ومشهورة ولا بأس في إيراد ما يفيد موضوعنا منها مما يشكل حلقة من حلقات التاريخ اليهودي.
فالنبي يوسف (ع) وعندما كان في فلسطين غدر به إخوته، حيث أخذوه معهم وقد كان صغيرًا، ليلقوه في بئر ليصل بعدها إلى عزيز مصر، وقد أسهب القرآن في قصة يوسف (ع)، إذن وصل النبي يوسف (ع) إلى قصر العزيز، والذي لم يكن أحد الفراعنة المصريين، بل كان أحد القادة الهكسوس. خلال تلك الفترة كان يعقوب (ع) لا يزال في فلسطين مع أبنائه، ويقال إنهم كانوا يقيمون في منطقة بئر السبع وهي منطقة صحراوية، وحصل أن أصاب هذه المنطقة القحط فوفد عليه إخوته وفعل النبي يوسف (ع) معهم ما فعل، حيث خبأ الكيل في رحل أخيه ثم يعتقله ليأتي إليه والده عندها خرج يعقوب (ع) وقومه أي بني إسرائيل من فلسطين إلى مصر.
إلى هنا يتجلى لدينا مسألة مهمة لا بدَّ من الإشارة إليها، وهي أننا نجد مراوحة في علاقة بني إسرائيل بالأرض المقدسة فلسطين، فهي لم تكن وبحسب ما يظهر أرض مستقر كما يروج الآن في الأدبيات اليهودية، ولم تكن يومًا أرض ميعاد، فحتى إبراهيم (ع) عندما خرج من أور في العراق واتجه نحو فلسطين لم يقصدها كأرض ميعاد، بل كل الأمر كان هروبًا من الاضطهاد الذي تعرض له بعد تحطيمه الأصنام، والدليل أنه (ع) غادر فلسطين وتركها عندما أصابتها المجاعة والقحط ليحط رحاله في مصر، ثم ليعود من مصر إلى فلسطين التي تركها بعد ذلك ليقصد مكة ثم يغادرها مخلِّفًا فيها هاجر وإسماعيل (ع) عائدًا إلى فلسطين.
إذن، نعرض هذه الأمور ونكررها لنقول: إن ما يقال حول الارتباط التاريخي بين اليهود وفلسطين وأنها أرض ميعاد هو أمر ليس بحقيقي البتة، وسنرى تأكيد ذلك فيما سيأتي من أحداث.
نعود إلى بني إسرائيل الذين وبعد أن تركوا فلسطين برفقة يعقوب (ع) مكثوا في مصر وتكاثر بنو إسرائيل ولكنهم حافظوا كما دائمًا على نمط العزلة التي كانت ديدنهم وطريقتهم في التعاطي مع المجتمعات، ومن نتائج هذا التكاثر الذي حصل أن تحول بني إسرائيل إلى طبقتين طبقة غنية وطبقة فقيرة، ويبدو أن الطبقة الفقيرة كانت تمثل الأكثرية اليهودية.
بعد يوسف (ع) وبفترة طويلة ولد النبي موسى(ع)، جاءت ولادة النبي موسى (ع) في ظل أزمة بين بني إسرائيل وبين فرعون مصر، والذي ترجح بعض المصادر التاريخية المعتدة على البحث الأثري أنه كان رمسيس الثاني.
في ظل هذه الأزمة المشتدة ولد النبي موسى (ع) وقد أورد القرآن الكريم قصته (ع) منذ ولادته، ذاكرًا كل مراحل حياته، حيث نشأ وترعرع في بيت الفرعون، وبقي في كنفه إلى سن الشباب دون أن يعرف كونه إسرائيليًّا حيث كان كل ظنه أنه مصري. ولكن هناك حادثة تكوينية في قصة موسى(ع) وقد رواها القرآن عندما رأى أحد المصريين يضرب أحد الإسرائيليين فتدَّخل موسى (ع) الذي كان صاحب بسطة في الجسم وذا قدرة جسمانية فوكز(ع) المصري وقتله ليهرب على أثر الحادثة إلى أرض مدين، والتي يقال إنها على حدود الأردن في الصحراء الأردنية. في مدين تم التعارف بين موسى وشعيب عليهما السلام حيث استأجر شعيب (ع) موسى(ع) لمدة ثماني حجج كما يذكر القرآن الكريم، بعد انقضاء المدة أراد موسى (ع) العودة إلى مصر وفي أثناء عودته إلى مصر مرَّ على طور سيناء؛ والطور هو الجبل، ولعل طور سيناء ما زال واضحًا في معالمه حتى اليوم، في أثناء محاولة موسى(ع) العودة إلى بيئته الأولى مصر حصلت معه وفي طور سيناء قصته المشهورة حيث نزلت عليه الرسالة وكلمه الباري جلّ وعلا. بعد أن كلم الله موسى(ع) عاد موسى إلى مصر وكأنه صار مهمة يجب أن يقوم بها وهي تحرير بني إسرائيل من الأسر الفرعوني، والذي كان يعتبر أول أسر تعرَّض له بني إسرائيل في مصر. وفي هذا المقام يجب أن نشير إلى الفارق بين إبراهيم وموسى(ع) كنبيين للعبرانيين؛ فإبراهيم (ع) يعتبر الأب المؤسس للإسرائيليين أو العبرانيين، ولكن الرسالة في طورها التشريعي كانت رسالة موسى (ع). فبناءً عليه يعتبر موسى هو نبي بني إسرائيل وإبراهيم (ع) كما هو أب لليهودية فهو أب للإسلام أيضًا، حيث إن النبي محمد (ص) هو من نسل إسماعيل بن إبراهيم.
إذن ذهب موسى إلى مصر لإتمام مهمته وجرت له مع فرعون محاولات كثيرة لإخراج بني إسرائيل، وقد ورد في القرآن ما جرى بين موسى(ع) وفرعون من محاججات وتحدٍ دون جدوى؛ إذ لم يسمح فرعون لموسى(ع) بالخروج فاضطر(ع) للخروج هربًا، وقد ذكر القرآن أن الخروج كان سريًّا إلا أنه خرج وخرج معه بني إسرائيل من مصر رغم الضغط الذي تعرضوا له للبقاء حيث كانوا يشكلون قوة عاملة لدى المصريين.
لقد كان خروج بني إسرائيل من مصر هو الحد الفاصل في موضوع النقاء العرقي، فقد كان الإسرائيليون ومنذ وجودهم في مصر إلى حين الخروج منها يحافظون على ما يسمى بالعرق؛ أي أن كل هؤلاء المسمين بالعبريين أو بالإسرائيليين هم أبناء إسرائيل ومن الأسباط حتى موسى وهارون(ع) يعتبران من سلالة أسباط بني إسرائيل، إلا أن خروج بني إسرائيل من مصر وهربهم منها يعتبر بداية انتهاء النقاء العرقي، حيث التحق بهم عدد من العبيد، ومن أجل ذلك نجد أن بني إسرائيل قد اختلطوا بأقوام أخرى وظهرت هناك سحن ووجوه وأشكال تختلف عن الأشكال المعهودة لبني إسرائيل. هذه المسألة إن دلت على شيء فهي تدل على خرافة النقاء العرقي الذي يتذرع به اليهود.
خلال رحلة النبي موسى(ع) ومعه قومه إلى فلسطين مرَّ من مصر إلى سيناء والتي فيها أي سيناء حصل التمرد عليه من قبل الإسرائيليين، عندها دُعي (ع) للذهاب إلى طور سيناء مرة ثانية حيث كانت الأولى عندما كان عائدًا من مدين باتجاه مصر. إذن صعد موسى الطور وتم تلقينه الوصايا العشر والتي تعتبر أساس الشريعة. أثناء صعوده الطور ترك موسى(ع) الإسرائيليين مع أخيه هارون ليعود فيجدهم وبعد غياب له دام أربعين يومًا وثنيين يعبدون العجل دون الله، حاول (ع) أن يثنيهم عن عبادة العجل فأفلح في التأثير على بعضهم ولم يفلح مع البعض الآخر، حينها طلب منهم (ع) أن يقفوا معه وفي جانبه لدخول فلسطين مرة ثانية، ذلك الدخول إلى فلسطين الذي لم يكن سهلًا وذلك لسببين:
السبب الأول: أن بني إسرائيل تاهوا في الصحراء أربعين سنة.
السبب الثاني: أن الفلسطينيين كانون قد تنبهوا إلى خطورة عودة بني إسرائيل مرة ثانية إلى فلسطين فصنعوا خططًا دفاعية تحول دون دخول بني إسرائيل مرة ثانية إلى فلسطين، وقد حاول موسى(ع) بكثير من الجهد حثهم على القتال وكان جوابهم دائمًا، كما يقول القرآن: ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إن هاهنا قاعدون﴾، وقولهم: ﴿إن فيها قومًا جبارين﴾.
إذن، تمرد الإسرائيليون على موسى(ع) وتاهوا أربعين عامًا في صحراء سيناء، ثم توفي موسى(ع) وتوفي هارون(ع) ليتولى أمر بني إسرائيل يوشع بن نون(ع) والذي هو وصي موسى(ع).
يوشع (ع) بدوره أراد دخول فلسطين عن طريق سيناء أي عن طريق العريش ورفح ، وسيناء هي الجسر الذي يوصل أي مسافر من مصر إلى فلسطين.
لم يستطع يوشع (ع) أن يدخل فلسطين عن طريق سيناء فاضطر أن يدخلها عن طريق الأردن أي عن طريق العقبة، ثم منها عبر أريحا، ويقال: إنه عندما دخل أريحا صنع فيها مقتلة عظيمة وكبيرة جدًّا بالفلسطينيين، ولوول ديورانت عبارة تلخِّص ما حدث ولعلها تكون خاتمة لهذا الفصل؛ فقد قال: “كانت هزيمة العبرانيين للكنعانيين مثلًا واضحًا لانقضاض جموع جياع على جماعة مستقرين آمنين وقد قتل العبرانيون من الكنعانيين أكثر ما استطاعوا قتلهم منهم، وسبوا من بقي من نسائهم، وجرت دماء القتلى أنهارًا، وكان هذا القتل كما يقول الكتاب المقدس فريضة الشريعة التي أمر بها الرب موسى وزكاة الرب. ولما استولوا على إحدى المدن قتلوا من أهلها اثني عشر ألفًا وأحرقوا وصلبوا حاكمها، ولسنا نعرف في تاريخ الحروب مثل هذا الإسراف في القتل والاستمتاع به، وقد كان موسى كما هو معروف من رجال السياسة المتصفين بالصبر والأناة، أما يوشع فلم يكن إلا جنديًّا فظًّا، وقد حكم موسى حكمًا سليمًا لم تسفك فيه دماء، أما يوشع فقد أقام حكمه على قانون الطبيعة الذي يقول: إن أكثر الناس قتلًا هو الذي يبقى حيًّا وبهذه الطريقة الواقعية الوحشية التي لا أثر فيها للعواطف استولى اليهود على الأرض الموعودة”. انتهى كلام
المقالات المرتبطة
قصيدة نزار قباني عن الإمام الحسين (ع)
القصيدة من بحر الكامل والقافية الباء الساكنة، وهي عبارة عن حوار دار بين أحد الروافض ومخالف له، وتقع في سبعة عشر بيتًا.
الفكر العربي الحديث والمعاصر | قراءة غورية في فكر زكي نجيب محمود وشخصيته (5)
آثر فيلسوفنا الأديب على أن يبدأ مذكراته بالحديث عن “تغريدة البجع”، وسوّغ اختياره بقوله: “هو عنوان ينطوي على دلالة غنية بمضموناتها.
قراءة في كتاب “الإمام الحي”، دراسة حول حياة الإمام المهدي(عج)
القضيّة التي عالجها هذا الكتاب هي قضيّة الإيمان بالإمام المهدي (عج) ليس من رؤية دينيّة عقائديّة فقط، بل من رؤية عقلائيّة ماديّة، تعتمد على الأحاديث والروايات