دلالات الرحمة
البحث في معنى ودلالات الرحمة ينقسم في الأدبيات والكتابات الإسلامية إلى قسمين: “الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم؛ وقد تستعمل تارة في الرقة المجرَّدة، وتارة في الإحسان المجرَّد عن الرقة، نحو: رحم الله فلانًا… وإذا وصف به الباري فليس يُراد به إلا الإحسان المجرَّد دون الرقة، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعامٌ وإفضال، ومن الآدميين رقة وتعطف”[1].
فالرحمة معنى يصدق على أنعم الله وإحسانه على خلقه، كما إنه يصدق على الناس في علاقتهم المبنية على طبائع العطف والحنان والحب، والتي تستقي من قيم الرحمة الإلهية، قيم التراحم بين أفراد الناس وجماعاتهم وأممهم.
وكما أن الله سبحانه وسعت رحمته كل شيء، فإن على الذين يلتزمون القيم الإلهية أن يطووا في نفوسهم قيم الرحمة لكل شيء.. وكما أن هناك رحمة خاصة من الله يصيب بها من يشاء من أهل الاستحقاق لما جاء في الكتاب العزيز: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾[2].
كذلك كانت الرحمة الخاصة من رسول الله (ص) للذين يتقون ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[3].
ويمثّل الرسول (ص) أعظم تجلٍّ من تجلّيات قيم الرحمة الإلهية فهو الولي الكامل الذي أودع فيه الباري فيض رحمته الواسعة حتى اتسعت أخلاق الرسول (ص) ليكون صنو القرآن.
وليكون في كلماته وحركاته وسكناته، وخفقات روحه ونفسه وقلبه، رحمة للعالمين فيما ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[4].
فائتلاف قلوب الناس والمجتمع الذي لطالما عاش على التناحر والحروب العشائرية والقبلية، ثم تحول إلى أعظم حضارة عالمية، إنما كان التحول بسبب الخلقيات النبوية التي سادت فيهم وجمعت بينهم، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن طبيعة الرحمة وأصولها القيمية القادرة على صنع أمة الاقتدار ورسالة انبعاث النهوض الكوني.
لكن قبل أن نشرع بمعالجة هذه النقطة علينا أن نميّز بين معنى الرحمة النبوية المحمدية العامة والتي وردت بقوله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[5]، وبين كونه (ص) ﴿وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾[6]؛ إذ الأولى تشير إلى عموم شأنية النبي (ص) ورسالته الإسلامية التي جاءت للعالمين دون تفاضل وتمييز عرقي أو قومي بينهم، أما الثانية فهي رحمة الهداية والنصرة والقيادة الخاصة بأهل الاستحقاق الذين التحقوا بمسيرة الولاية المحمدية ورسالة الإسلام.
من هنا، فإن النبي (ص) يبقى دعوةً مفتوحة لكل العالم بأعراقه واعتقاداته وأديانه وأممه وشعوبه.
وهو دعوة رحمة مفتوحة على هدف وغاية إلهية عبّر عنها القرآن الكريم بالقول: ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[7]، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور يحتاج إلى يقظة وتخطيط وإرادة قيام وعمل نهوضي مقاوم يجابه الصعاب ويثبت رغم الزلازل، ويعتبر أن كل خدمة للناس، هي سبيل الله، بل يعتبر أن تقديم حياة أعظم الخلائق من الأنبياء والأوصياء والصديقين والصلحاء في سبيل الجماعة ورفع الضيم والذل والجهل والضلال والقهر المظلم الظالم عنها، هو سبيل الله المودي والموصل إلى النور، إلى الهداية، إلى الله، أن يقدم أعظم الناس وأقدسهم ذاته في سبيل عباد الله هو البر الذي ليس فوقه بر، وهو الشهادة التي ليس فيها إلا الحياة.
عليه، كانت رسالة المسلمين إلى العالم شهادة حياة يشهد عليها أعظم شهداء خلق الله، رسول الله محمد (ص)، ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾[8].
فرحمة محمد بن عبد الله (ص) هي رحمة المقتدر، لا رحمة الضعيف الهزيل، من هنا فإن عفا فإنما يعفو عن قدرة ورحمة، إن رحمته (ص) هي رحمة نهج الاقتدار المتمثل بشريعة الإسلام المفتوحة على كل من في العالم من أفراد وجماعات وحضارات، هي رحمة الاقتدار لأنها توقظ معالم صراط الفطرة الإلهية المودعة في جبلة الناس، وهي رحمة الاقتدار لأنها ترسم للمستضعفين سبل قول الحق وإن عز الناصر وقل المعين، وتدفع نحو الالتزام.
وبناء عليه، فإن من يلتزم هذا النهج يكون قد حكم على نفسه بأن يكون موضع تأثر وانفعال واستفادة من فيض القدرة والنصرة والتسديد النابعة من عطاءات الرحمة الإلهية المحمدية.
والمتابع للنص القرآني الكريم سيلحظ أن الرحمة الإلهية التي تمثلت في خط رسالة رسول الله محمد (ص) اقترنت بجملة قيم وأفعال وسلوكيات إنسانية منها:
أ. التوبة بما تعنيه من تخلٍّ عن كل عناصر الضعف البشري من معصية فردية، أو عصيان تمرد اجتماعي على قيم الحق والعدل ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[9].
وهو الأمر الذي يقتضي الاستغفار بتغيير حال السوء وتبديله بالارتباط بالله سبحانه كمصدر لكل قوة وعزة ورفعة ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[10].
وهذه التوبة والاستغفار هما اللذان يشكّلان عنصرا الصلاح البشري الذي يستدعي الرحمة الإلهية الخاصة ﴿إِلاَ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[11].
﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[12].
ب. الصبر في التزام نهج الحق والاقتدار وترك الباطل والاسترخاء بما يشكل هوية الأمة القادرة على اجتراح المعجزات ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[13]، ومثل هذا الصبر ينبغي أن يكون مبنيًّا على وعي حقيقة الأمور، بمعنى أن الذي يستحق منَّا أن نخشاه فعلًا هو الله فنصبر على ألم الدنيا القليل كي لا نلقى مصير الألم الأليم، وإذا ما توفرت هذه الخشية المقرونة بالصبر كان استحقاق الرحمة، ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[14].
ج. الإحسان وهو العطاء الذي إنما يكون لوجه الله لا يريد منه المعطي جزاء ولا شكورًا، وهو خُلق إذ اتصف به الإنسان كان في حصن رحمة الله وجميل عنايته ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[15].
وأهل الإحسان هم: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾[16]، وهم الذين تمتد يد العناية الإلهية إليهم إذا ما اشتدت الصعاب وتزاحمت الخطوب ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾[17].
إنهم أصحاب رسول الله محمد (ص) ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[18]، الذين خاضوا مع النبي (ص) كل اللجج والذين وصفهم الإمام زين العابدين (ع) في الصحيفة السجادية بالقول: “اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القُرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، وكانوا مع رسولك دعاةً لك وإليك”[19].
ومثل هذا الوفاء والإخلاص والصدق والثبات لدى الأصحاب والمناصرين هو الذي جعل واديًا قفرًا في مكة تستوحشه الطير محجَّةً وكعبة لأحرار العالم والباحثين عن صلة رحمة السماء بتزاحم عَدْوِّ أهل الأرض لبناء جسور الألفة والوحدة تحت فيض التوحيد بحيث ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[20].
وهو الوفاء والثبات الذي تناقلته الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، فتجلَّى إحياء لذكر رسول الله محمد (ص) وديمومة لنشر رحمة انبعاثه في الأمة والعالم اليوم ملحمة كربلاء الكبرى والتصدي الاستشهادي فيها، وليستمر الوفاء والثبات والدفاع عن حرمات رحمة الله التي بها ومنها وفيها بعث الله رسوله بالهدى ودين الحق إلى يومنا هذا بكوكبة صدقت ما عاهدت الله عليه فمنهم من قضى نحبه راغبًا لقاء ربه شهيدًا على صراطه مدافعًا عن المستضعفين والمحرومين في الأرض، بل وعن الأرض المغتصبة والحقوق المنتهكة، فحقق بشهادته استحقاق النصر الإعجازي، الذي قلب كل الموازين وأرهق كل الأفهام، واستنزف كل قدرات الباطل وإرادات القهر الإجرامي الأمريكي– الإسرائيلي.
فكان انتصار الرحمة الإلهية في لبنان عام 2000م، تدشينًا للألفية الثالثة بعهد من الانتصارات الإلهية والتي شهدنا كذلك واحدًا من أعظم وجوهها الإعجازية مع الانتصار الإلهي في حرب تموز 2006 م.
ومن تلك الكوكبة الطاهرة من ينتظر لقاء ربه، وقد نشر معالم الصدق بين الناس، وعمل بجد وثبات على تمهيد الأرض ليوم موعود بالخلاص ترفرف فيه راية الحمد المحمدية المعلنة سيادة قيم السلام والرحمة، بقيادة حفيد رسول الله (ص)، ووارث إمامة رحمة الله المهداة الحجة بن الحسن (عج).
وأن هذا المستقبل المأمول ما كان ليتسنّى لولا قيام رسالة محمد (ص) على أصول من الرحمة العالمية التي استقرت في قلب المشروع الإسلامي، بل وفي قلب كل محب وموال لرسول الله (ص).
ولعلنا من هذه الزاوية ندرس أسباب الهجوم الاستكباري الدائم على رسول الله (ص) شخصيًّا، وقيمًا، ونهجًا، والعمل على كسر القدسية التي تمثلها شخصية النبي (ص)؛ كما وتشويه معالم وحقيقة الرحمة التي تمتاز بها قيم نهج النبي (ص) بإلصاق صور الإرهاب والتدمير والبطش بسلوكية الرسول (ص)، وبفعل موقعه وتأثيره في مجريات حركة التداول الحضاري الحاصلة اليوم في الصراع الذي تخوضه الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها الكيان الغاصب والكثير من بلدان وجماعات الغرب.
هذا، فمن غير الصحيح أن نفصل هنا وجه الصراع عن خلفياته الدينية، وبالتالي فلا يمكن لنا أن نستقيل من مهامنا التاريخية والدينية في تقديم الصورة الحضارية التي أرادتها قيم النهوض المحمدية، سواءً منها تلك القيم القائمة على أصل التواصل والتراحم مع الأمم والشعوب على قواعد الوفاق الإنساني في الحقوق الإنسانية التي احترمها وقدّسها الإسلام والتي كان بموجبها مشروع المقاومة الإسلامية المطالب وبأغلى الأثمان استعادة الكرامة المهدورة، والأرض المغتصبة، والسيادة المستباحة، أو تلك القيم الجهادية القائمة على التضحية والإيثار وبذل الذات والأهل والمال في سبيل رفع لواء الحق وبسط العدل في أرض الله، وصولًا إلى اليوم الذي تشرق فيه الأرض بنور ربها، ويجتمع فيه أهل الإخلاص تحت ظل رحمة رسول الله محمد (ص) ليكونوا مصداق قوله سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[21].
[1] مفردات الراغب، الصفحة 191.
[2] سورة الأعراف، الآية 156.
[3] سورة التوبة، الآية 128.
[4] سورة آل عمران، الآية 159.
[5] سورة الأنبياء، الآية 107.
[6] سورة التوبة، الآية 61.
[7] سورة المائدة، الآية 16.
[8] سورة البقرة، الآية 143.
[9] سورة البقرة، الآية 54.
[10] سورة البقرة، الآية 199.
[11] سورة آل عمران، الآية 89.
[12] سورة المائدة، الآية 39.
[13] سورة النساء، الآية 25.
[14] سورة المائدة، الآية 98.
[15] سورة التوبة، الآية 91.
[16] سورة الفرقان، الآية 70.
[17] سورة الأحزاب، الآية 43.
[18] سورة الفتح، الآية 29.
[19] الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (ع)، دار المحجة البيضاء، الصفحة 42.
[20] سورة الأنفال، الآية 63.
[21] سورة الفتح، الآية 29.
المقالات المرتبطة
خلق الإنسان في تفسير الميزان
يرى العلامة الطباطبائي أن الوصول إلى مغازي القصص القرآني، وبخاصة ما يرتبط بفهم قصة خلق آدم
الخير والشر في الحكمة المتعالية
تتناول الدراسة التالية نظرة صدر المتألهين الشيرازي صاحب الحكمة المتعالية إلى إشكالية الشر،
الآثار الإيجابية للصيام في حياة المسيحيين والمسلمين
وظيفة الصوم هي ضبط هذه القوى الموجودة في النفس البشرية ليرتقي الإنسان في سلّم الكمال، ويرتقي بوجوده ويكون استخدام كلا البعدين في وظيفته المرسومة له من قبل ﷲ جل وعلا