يتجلى النغم في الكلمة الصوفية، في نثرهم وشعرهم، وأدعيتهم وابتهالاتهم، وشروحهم وتعليقاتهم ومنظوماتهم (1)، وهذا التجلّي ينفرد به الصوفية عن غيرهم من الناس، كل كلمة لها سر، وإيحاء، وومضة خيال، تتشوف بها نفوسهم عن فنائهم في الحب الإلهي.

والصوفية يستعملون ألفاظًا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معاينتهم لأنفسهم والإجماع والسر والستر على من باينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معان أودعها الله تعالى قلوب قوم، واستخلص حقائقهم أسرار قوم (2).

إن تعريف واشتقاق مصطلح كلمة صوفي يوحي بماورائها من أسرار. يقول عبد الوهاب الشعراني (3): “إن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنّة، فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرار وحقائق تعجز الألسنة عنها نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا من عمله العلل وحظوظ النفس”…

ونرى بوضوح ما في تعريف الشعراني للتصوف من إشارات نثرية تحمل دلالات رمزية مثل آداب وأسرار وحقائق، وهو ما أكّده أبو حامد الغزالي بقوله عن الصوفية بأنهم (4) “أرباب أحوال لا أصحاب أقوال”؛ فالأحوال التي يقصدها الغزالي هي درجات الترقي الروحاني عن الصوفية، أو ما يسمونها بمقامات الأولياء، وما يختص به كل مقام من أول تمام الابتداء، وحتى مقام التجلي، مرورًا بمقامات المكاشفات والمشاهدات، ويعبّر الصوفية عن حالاتهم بالحب، والحب لديهم لا يتعلق بالأجساد وصور المادة، بل هو حب للمعاني العقلية الكاملة، وتعلق بالمثل، وهيام بمصدر الكمال والجمال، فالحب لديهم طريق إلى الزهد في متع الدنيا جميعًا، وحرب على النفس، وسبيل إلى العزوف عن مغرياتها، وأن العبادة ليس من أجل الجنة أو النار، ولكن للتقرب إلى الله جلّ وعلا، كما عبّر الشبلي عن التصوف شعرًا بقوله (5):

علم التصوف علم لا نفاذ له      علم سني سماوي ربوبى

وهو تعريف لا يخلو مما يشير إليه المتصوفة من علوم الباطن وأسرار المعاني سواء في الكلمات أو في الإشارات، ومعظم الصوفية يرفضون نسبة أصل تسميتهم إلى غير ما قاله الشعراني في طبقاته مثل ما يقولون بأن التصوف يرجع إلى لبس خرقة من الصوف أو من الصفاء، وإن كانوا يقولون بأن أول من لبس خرقة الصوف هو الإمام علي بن أبي طالب، ولكنهم يستدركون بأن التصوف كعلم ينفردون به هو علم الإشارة الذي يضم الخواطر وعلوم المكاشفات لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد (6).

على أننا لسنا بصدد الحديث عن أصول الصوفية وفلسفاتها وأوائل زهادهم وعلمائهم، ولكننا سنقتصر في البحث عن الكتابة عن نغمة الكلمة أو جرسها عند المتصوفة من خلال أدبياتهم المدونة، ومن خلال مشاهدتنا لموالدهم وأناشيدهم عن الأولياء الصالحين، وكذلك في المدائح النبوية التي شغلت حيّزًا كبيرًا في تراثهم الفكري، ولذا سنتحدث عن الكلمة وصدى الأنغام فيها في تراثهم النثري والشعري وفي شطحاتهم الفكرية.

أولًا: النغمة في النثر الصوفي.

النثر الصوفي يتجلّى في الأدعية والابتهالات والوصايا من الشيوخ للمريدين، لقد كان الرسول (ص) والصحابة والتابعون وما تنطوي عليه حياتهم الروحية بين أقوال وأفعال تعتبر منبعًا أصيلًا ومصدرًا حقيقيًّا للتصوف الإسلامي، ويمكن اعتبار التصوف في بداياته الأولى علم الأخلاق والسلوك، ولكن مع انتشار الإسلام، وتوسع المسلمين في الأخذ من الثقافات الأخرى، وبروز حركات الزندقة والكشوفات الإلهامية الباطنية، ومن ثم الخروج من العزلة والدعوة إلى ترك الدنيا والانشغال بالآخرة، يقول الحسن البصري الذي يعتبره الصوفية رأسهم بعد الإمام علي في رسالة له إلى عمر بن عبد العزيز (7): “اعلم يا أمير المؤمنين أن الدار دار ظعن، وليست بدار إقامة، وإنما أهبط إليهم آدم من الجنة عقوبة وقد يحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب، ومن لم يدر ما عقاب الله أنها عقاب، ولها كل حين صرعة فهي تهين من أكرمها، وتذل من أعزّها، ولها في كل حين قتلى، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه، وفية حتفه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه، يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء… فانظر يا أمير المؤمنين إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر إليها نظر المبتلى العاشق.. فاحذرها فإن أمانيها كاذبة وأمالها باطلة…”. وتبدو الرسالة في غاية التعبير عن الزهد، وقد جاءت عباراتها قصيرة دالّة معبّرة، وجاء الطباق الموجب يبرز المعاني التي صاغها ويؤكدها ليظهر الكلمة وضدها كما في دار ظعن ودار إقامة، ثواب وعقاب، وزاهد مفارق، ومبتلى عاشق، بالإضافة إلى ما في الرسالة من إطناب في المعاني والموسيقى الداخلية فيها يوحي بالحالة النفسية الروحية التي عاشها الحسن أثناء كتابتها، ومدى صداها في نفس الخليفة عمر بن عبد العزيز، ويخطو أبو هاشم الصوفي (8) خطوة كبيرة في الدفع بخصائص الكلمة الصوفية فيقول: “لفلح الجبال بإبرة أيسر من إخراج الكبر من القلوب”؛ وهي عبارة عن صوفية، ونفحة ربانية، كما أطلق عليهم فيما بعد، ومما يوحي بالجرس الموسيقي دعاء معروف الكرخي (9) “حسبي الله لديني، حسبي الله لدنياي، حسبي الله الكريم لما أهمني، حسبي الله الحكيم القوي لمن بغى علي، حسبي الله الشديد لمن كادني، حسبي الله الكريم عند الصراط، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم”. وسوف نجد الكثير من أمثال هذه المناجاة والمناداة في أهل الطريق جميعهم عند بشر الحافي، والحارث المحاسبي، والجنيد، والغزالي، ورابعة العدوية، وذي النون المصري، والسهروردي، وعمر بن الفارض.

ومع استقرار النصوص كعلم وعمل على الذين يحبون الأولياء الصالحين والذين قصروا القطبية على أربعة أولياء هم: الجيلاني والرفاعي بالعراق، والبدوي والدسوقي بمصر، ومن لهم ولاية كبرى مثل أبي الحسن الشاذلي، وأبي العباس المرسي والشيخ الشرقاوي، فقد اختص كل أهل طريق بأوراد معينه تشمل أدعية وابتهالات وصلوات على رسول الله (ص)، وجميعها توحي بما يطلقون عليه (المدد)، والذي يطلبه المريد من شيخه أو شيخ من شيخ، والمدد هو شفاعة روح الوالي لطالب المدد، ولذلك في حلقات الذكر يرددون كلمة الله حي بمد حروف كلمة الله، وعندما يقولون الله يديرون وجوههم إلى اليمين ويظلون يمدون كلمه الله وهم يصرفون وجوههم ناحيه الشمال، ثم يخطفون كلمة حي، ومن ثم ينادون كلمة مدد بمد حروفها طويلًا بنغمات حانية رقيقة، وهم يتمايلون يمينًا وشمالًا حتى يصلون إلى حالة التواجد، الوجد كما يقولون هو وارد يرد على القلوب من كشف أسرار الذات وأنوارها، وتدهش الروح فيظهر ذلك على الجوارح (10)، ويرجع ذلك ما رواه الحافظ أبو نعيم أحمد بن عباس الأصبهاني في مسنده عن علي بن أبي طالب (ع) أنه وصف الصحابة يومًا فقال (11) “كانوا إذا ذكروا مادوا كما تميد الشجرة في اليوم الشديد الريح وجرت دموعهم على ثيابهم”، ومن الصلوات على النبي (ص) التي يرددونها في حلقات الذكر (12):

اللهم صلّ على نور الأنوار

وسر الأسرار

وترياق الأغيار

ومفتاح باب اليسار

سيدنا محمد المختار

وآله الأطهار

وأصحابه الأخيار

عدد نعم الله وأفضاله.

ومنها هذه الابتهالات (13):

يا ودود يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد

يا مبدي يا معيد، يا فعال لما يريد

أسالك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك

وبقدرتك التي قدرت بها على خلقك

وبرحمتك التي وسعت كل شيء رحمة علما

لا إله إلا أنت

يا مغيث أغثني

يا مغيث أغثني

يا مغيث أغثني

وتقول رابعة العدوية (14): “إلهي أنارت النجوم، ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك”. وينصح السيد إبراهيم الدسوقي مريده بأسلوب بلاغي خفي فيقول (15): “وإذا تجلى عروس الظلام على رتبة الإلهام في سرائر الأفهام، ولاح من الغيب لائح العناية الأبدية والسعادة الأولية، طلعت شموس المعارف، وتجلى البدر المنير في الليل البهيم فهم سكرى الظواهر، صحوى البواطن والضمائر والسرائر، وإذا جن عليهم الليل باتوا قائمين متهجدين، فاذا هب عليهم نسيم السحر مالوا مستغفرين، قطعوا البيداء في المجاهدة فأصبحوا واصلين، فلما رجعوا عند الفجر بالأجر نادى منادي الهجر: ياخيبة النائمين”.

ويظهر النغم الصوفي في كلمات الدسوقي طاغيًا، فهو ليس مبهمًا، ولكنه نصح مبطن بالأخبار عن الأخيار الذين يقومون الليل ويصومون النهار، ومثلها مثل الابتهالات السابق ذكرها، والأوراد المنسوبة إلى أبي الحسن الشاذلي، وأبي يزيد البسطامي، ومحي الدين بن عربي وغيرهم من أساطين الصوفية، تمثل ذروة الإبداع في الكلام الصوفي، من أوراد سهل بن عبد الله التستري “الله معي…. الله ناظر إلي، الله شاهدي (16)”.

ولا بدّ من القول: إن كل المتصوفة يدينون بالولاء لأهل البيت (ع)، وكل شيخ طريقة لا بدّ أن ينتهي نسبه إلى الزهراء وعلي (ع) من نسل الحسن أو الحسين، وهم يلتقون في كثير مع أفكار مدرسه أهل البيت من حيث الولاء والحب والمجاهرة بهذا الحب، ويأخذون كثيرًا من أدعية الصحيفة السجادية للإمام السجاد (ع)، بحيث يمكن إضافة الكثير من العلم السجادي إلى علوم أهل الطريق.

ثانيًا: النغمة في الشعر الصوفي.

 المتصوفة في الشعر أكثر منهم في النثر، وبلغوا ذروة المعاني الروحية بموسيقي شعرية خلّابة نحو السمو الروحي والبلاغة الشعرية حدًّا لم يبلغه سواهم خاصة ذلك الشعر الذي يذوب صبابة في الحب الإلهي، وتتبدّى صورة السماوية في إبداع صور شعرية خاصة بهم ومصطلحات مثل الذوق والذوبان، ورؤية الخالق في بديع صنعه، وسنحاول أن نقتصر على بعض الشعر لرابعة العدوية وعمر بن الفارض وإبراهيم الدسوقي ومحي الدين بن عربي كنماذج متعدّدة للكلمة الصوفية في النغمة الشعرية.

أ. تقول رابعة العدوية (17):

أحبـك حبيـن حـب الهوى وحــب لأنـك أهــل لذاكا
فأما الـذي هو حـب الهوى فشغلـي لذكرك عمـن سواكا
وأمـا الـذي أنـت أهل له فكشفك لي الحجـب حتى أراكا
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمـد في ذا وذاكا

لقد وجدت رابعة نفسها مستغرقة في حب الله، لا خوفًا من النار ولا حبًّا في الجنه، وأروع مما كتبه العشاق المشهورين في التاريخ العربي مثل قيس بن الملوح، وكثير عزة، وجميل بثينه وغيرهم، تقول رابعة أيضًا(18):

وزادي قليل ما أراه مبلغي أللزاد أبكي أم لطول مسافتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي فيك أين مخافتي

وتردّد رابعة(19):

إنى جعلتك في الفؤاد محـدثي

وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجـسم مني للجليس مؤانس

وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسـي

إن هذه العابدة الواصله قد فنى كل ما حولها ومن حولها في عينها فلم تر غير الله سبحانه، القوم يزورونها، وهي تضطر إلى لقائهم لتجلس معهم بجسمها فحسب، أما كل مشاعرها فمع الله وحده، هو حبيبها الذي يؤنسها في خلوتها، كما يؤنسها مع الناس، إذ هم لا شيء هم في واد وهي في واد.

شعر رابعة يمتاز بالصراحة والعذوبة، بالبحث عن المطلق في صيغة امتزاج كامل، وفيها تبدو الكلمة ممتزجة مع النغم الروحي بإطلاق الروح تتحدّث عن مكنون النفس في تطور شعري نفض عن نفسه حب الجسد أو روح إنسان فان، ويلاحظ تردّد كلمة الفؤاد والرجاء والخوف والأنس والمحبة والحجب والذكر والزاد والمنى يبدو كل كلمة في مكانها كأن أي كلمة أخرى لا تعبر عنها.

ب. عمر بن الفارض.

   ينطلق عمر بن الفارض في أجواء الواقع الخيالي، يرى الله في صنعه وخلقه يراه في نغمة العود الشجي، ويراه في مسارح الغزلان، وفي بساطة الزهر الممتد وقد نقطه المدى فتفاوح عبيره وامتد شذاه، يراه في النسيم وفي كل شيء.

يقول ابن الفارض (20):

تراه إن عنى كل جـــــارحة               في كل معنى لطيف رائق بهج

في نغمة العود والناي الرخيم إذا             تآلفــا بين ألحان من الهرج

وفي مسارح غزلان الخمـائل في               برد الأصائل والإصباح في البلج

وفي مساقط أنداء الغمـام علـى              بساط نور من الأزهـار منتـشج

وفي مساحـب أذيـال النسيم إذا              أهدى إلى سحيرًا طيـب الأرج

وفي التثامي ثغر الكاس مرتشفًا              ريق المدامة في مستنـزه فرج

هذا الشعور الدقيق في التصور قد تغلغل بالشاعر العاشق إلى معان عميقة تخدع الناس بظاهرها الواضح عما في أعمق أعماقها من لآلىء نفيسة لا يجيد الغوص فيها غير صائد موهوب.

وكما يبدو الشعور الرقيق في التصور، يبدو النغم الصوفي رائعًا في كلمات ابن الفارض، نغمة العود والناي الرخيم، ألحان الهزج، النور البساطي من الأزهار، أن وحدة الوجود تثبت وحدة الصانع، ودقة الوصف لأشياء اعتادها الإنسان هي قمة معجزة الخالق، يراه ابن الفارض جيدًا فتوحي إليه بنورانية الرؤية، فلا يجد بدًّا من أن يقول:

تحيرت لما صار حبك مذهبي                فوا حيرتي إن لم تكن فيك حيرتي

إنه لا يحتار رغم ما يبدو في شعره، لأنه وصل إلى اليقين فلا حيرة طالما صار الحب مذهبًا لابن الفارض.

إن الشعر عند ابن الفارض تصوف وطريقة، وهو من أهل الطريق، يطلق الشعر لا ليمتع الناس ولا ليتنغموا به، وإن تمتعوا وتغنوا به، ولكنه قال الشعر بوحًا بما في نفسه، فجاءت أشعاره طبيعية لا تكلف فيها، وفي قصيدته الرائعة (ته دلالًا) يحدث الخالق(21):

فعلـى كـلّـي حاله أنت مني                   بي أولـى إذا لم أكن لولاكا

وكفـانــي عزًّا بحبـك ذلي                      وخضوعي ولست من أكفاكا

وإذا ما إليك بالوصـل عزت                 نسبـتي عزةً وصـح ولاكا

فاتهامي بالحب حسبي وإني                 بين قومي أعد من قتـلاكا

بانكساري بذلتــي بخضوعي                 بافتقاري بفـاقتـي بـغناكا

لك قرب منــي ببعدك عنـي                  وحنو وجـدته في جفاكـا

من جديد يتوحد ابن الفارض في الخالق، وبمسافة البعد يقترب منه حتى يذوب فيه، ويفنى جسمه، وتسمو روحه، ومفردات التصوف الروحانية في القرب والبعد والحنو والجفاء والضعف والقوة، وإنكار النفس طالما أنه لم يعد هو.

ج. إبرهيم الدسوقي.

وهو أحد الأقطاب الأربعة، وله مريدون في كل العصور، وتعرف طريقته بالبرهانية وضريحه في مدينة دسوق بمصر، وله كرامات وفيوضات، وله أشعار صوفية مليئة بالأسرار والإشارات يقول في إحداها(22):

سقاني محبوبي بكـأس المحبـة              فتهت على العشاق سكرًا بخلوتي

ونادمني سرًّا بسـر وحـكمـة                   فما كـان أهنى جلوتي ثم خلوتي

ولاح لنا نور الجــلالة لو أضا                لشم الـجبال الـراسيات لـدكت

وكنت أنا الساقي لمن كان حاضرًا           أطوف عليـهـم كـرة بعد كرة

وتزداد كلمات الحب والمحبة والكأس والعشق والحكمة والسر والنور، وهي جميعها مفردات صوفية، وبلغت النغمة الصوفية أعلاها في التجلي سواء في المخلوقات أو في الفناء، يقول الشيخ الدسوقي(23):

حجوا إليّ فذاتي كعبة              والسر فيها كسر البيت والحرم

فإن للكعبة رجال يطوفون بها، ولله رجال يطوفون بالكعبة، ويا أولياء الله أشهدكم بالله من زاره فقد زارني، فإنه من نور، واعلموا يا أولياء الله أن الله قد ولاه درك الثلث في السماوات والأرضين، ومن زارني فقد زاره، ويكون حج حجة مقبولة(24).

د. السيد محي الدين بن عربي.

على يد ابن عربي بلغت الفلسفة الصوفية أوجها، وإن لم تخفت النغمة الصوفية في شعره الذي جاء بالإيحاء والإشارة أكثر من التصريح والإعلان، ولكن في شعره نرى الإشراقة الصوفية تعلن عن نفسها من خلال الفلسفة، يقول ابن عربي(25):

أدين بدين الحب أني توجهت               ركائبه فالحب ديني وإيماني

ابن عربي حريص على الرمزية في حبه شأنه في ذلك شأن غيره من الصوفية حرصًا على المعاني والأسرار، وصونًا للقداسه والروحانية التي أدركها، ثم إنه لم يترك فنًّا من فنون التصوف إلا وكتب فيه شعرًا، في مدح النبي (ص)، وفي الدعوة إلى الأخلاق والزهد وإيثار الآخرة على الأولى، ولابن عربي قصيدة شعرية تعينه على الارتجال، فقد حدّثوا أنه قال مرة هذا البيت(26):

يا من يراني ولا أراه                          كم ذا أراه ولا يراني

فأنكر عليه أحد تلامذته ذلك وقال له:كيف تقول: إنك تراه ولا يراك فأنشد ابن عربي على الفور مرتجلًا:

يا من يراني مجرمًا               ولا أراه آخــذًا

كم ذا أراه منعّمًــا              ولا يراني لائــذًا          

 أبدع ابن عربي وفاق فيه الكثير من الكثير من أهل الطريق، مثله مثل ابن سبعين وأبي يزيد البسطامي، فينظر ابن عربي إلى أثر رسول الله (ص) في نفسه فينشد(27):

مدحت المصطفى فمدحت نفسي                   ولي قسم وما جاوزت قسمي

فأعــمـــالي ترد عليّ منه             ولـو أرمــي فعينـي منه أرمي

وهــذي رحمـة منه توالت            لدي بـهــا يعود على سهمي

إنه حريص على الرمزية في حبه للنبي وحبه لله سبحانه وتعالى، ومن أجل هذا الحب الخطر الذي لا يهدأ قلب صاحبه، ولا ينال في طريقه راحة لأنه حب محفوف بالخطر، فلم يكن لديه سوى اللجوء إلى الرمزية للتعبير عن الحقيقة السرمدية، فذاق من معارضيه الكثير من التهم التي تصل إلى حد التفكير، ولأننا لسنا في معرض نقد التصوف، فإننا فقط نحاول إبراز ما في الكلمه الصوفية من نغم، وما فيها من إشراق ووصف.

ثالثًا: النغمة في شطحات الصوفية.

إن الحديث عن الشطحات الصوفية لا يعني أننا ندين هذه الشطحات، ولكنّا نكتب بعضها فيظهر فيها بعض النغم الذي يتميز به التراث الصوفي على إطلاقه.

إن ظاهرة الشطح تحتاج إلى شدة الوجد، وأن يكون الصوفي في حالة السكر، وتمتاز بالاضطراب والحركة، والانفعال الجامح، ويأتي الكلام من الصوفي في حالة سكره بأصوات تخرج عن الرمز، وعن الإشارة فلا يكون لأكثره معان تستقيم مع الشريعة أو مع العقول، وهو الذي يسمي الشطح الصوفي، وهو ما يصدر عن الذين يفنون أو يتفانون عن أنفسهم في أثناء التواجد كما يرون.

ليست هناك قاعدة بين القوم للشطح الصوفي حتى يزنوه على ميزان القاعدة وقياسها، ولكنه أمر فردي يخص صاحبه، ولكن تأتي الكثير من الأصوات والكلمات أثناء السكر وفي الشطح مليئة بالنغم، وسنرى بعض هذه الشطحات عند أبي يزيد البسطامي والشيخ إبراهيم الدسوقي وذي النون المصري وغيرهم، يقول أبو يزيد البسطامي كما روي عنه (28): رفعني مرة فأقامني بين يديه، وقال: يا أبا يزيد، إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زينّي بوحدانيتك وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا”، وعندما اتهم الفقهاء أبا يزيد بكلامه هذا، حاول الجنيد أن يفسر شطح أبي يزيد فقال: هذا كلام من لم يلبسه حقائق وجد التفريد في كمال حق التوحيد، فيكون مستغنيًا بما ألبسه عن كون ما سأله.

وذكر عن أبي يزيد أيضًا أنه قال(29): أشرفت على ميدان الليسية فما زلت أطير فيه عشر سنين حتى صرت من ليس في ليس بليس، ثم أشرفت على التضييع وهو ميدان التوحيد، فلم أزل أطير بليس في التضييع حتى ضعت في الضياع ضياعًا، وضعت فضعت عن التضييع بليس في ليس في ضياعة التضييع، ثم أشرفت على التوحيد في غيبوبة الخلق عن العارف، وغيبوبة العارف عن الخلق”.

ويشرح الجنيد هذا الشطح البسطامي فيقول: إن هذا كله وما جانسه في علم التوحيد عن الغيبوبة في استدراك الشاهد وفيها معان عن الفناء بتغييب الفناء عن الفناء، ومعنى قوله أشرفت على ميدان الليسية حتى صرت من ليس في ليس فذاك أول النزول في حقيقة الفناء والذهاب عن كل ما يرى وما لا يرى، وفي أول وقوع الفناء وانطماس آثارها”.

رغم ما في أقوال البسطامي من إبهام وتغييب، إلا أننا نلمس أثر النغم في حديثه حتى غير المفهوم منه، فهو في شطحه يستخدم اصطلاحات صوفية توحي بالأسرار المطلسمة التي لا يريد لأحد أن يطلع عليها مثل ألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، والضياع والتضييع، والغيبوبة والعارف والخلق، وميدان الليسية، كلها توحي بالتمييز الروحاني الغامض عند حقيقة التجلي كما يراها الصوفية على إطلاقهم.

وفي الحزب الكبير للشيخ إبراهيم الدسوقي يقول بعد الحمد والصلاه على رسول الله (ص)(30):

“آلم نووا فلووا عمّا نووا، ثم لووا عما نووا فعموا وصموا عما نووا، فوقع القول عليهم بما ظلموا…، اللهم آمنا من كل خوف وهم وغم وكرب…كد كد كردد كردد كرده كرده ده ده ده ده الله رب العزة كتب اسمه على كل شيء….”.

ورغم أن هذا الحزب الكبير من ضمن الدعاء الذي تميز به الدسوقي والدسوقيون إلا أن فيه بعض شطحات أهل التصوف مثل كد كد كردد… إلى آخره، ولكنه يشمل نغمات متوالية يشعر بها السامع أو المريد مباشرة، نووا فلووا عما نووا ثم لووا عما نووا.. ففيها السجع والطباق غير المتكلف، ونقرأ أيضًا هذه الصلاة على النبي (ص) للدسوقي فهي صلاة فيها نغم وفيها شطح وفيها تواجد يمكن إدراكه جميعًا من قراءتنا لها(31):

(اللهم صل على الذات المطلسم، والغيث المطمطم، والكمال المتمم، لاهوت الجمال، وناسوت الوصال، طالعة الحق، كنز عين إنسان الأزل في نشر من لم يزل من أقمت به نواسيت الفراق في قاب ناسوت الوصال الأقرب إلى طريق الحق فصل اللهم به منه عليه وسلم).

إنها صلاة رمزية تحتاج إلى ذوق بالغ الرفاهية ليدرك مقاصدها، ويحقق طرائفها، وربما كان ذوقًا خاصًّا لا يشاركه فيها إلا القليل، أو لا يدركها أحد سواه، وجميعها تتمثل فيها الموسيقي الناغمة الحافلة بالأسرار.

ويُروى عن الدسوقي أقوال كثيرة قصيرة تعبّر عن شطحة الأمثل مثل(32): “وأفناني عن فناي”، و”ناجيته لا بإصغائي”، و”فهو المراد وأنا المريد”، وجميع هذه الشطحات القصيرة معبّرة عن ذات صاحبها في حالة سكر، ويلاحظ كما أن كلمة الفناء والمناجاة دومًا ما تأتي متناغمة أثناء الشطح الصوفي. يقول أبو الحسين النوري في إحدى شطحاته التي يدعو خلالها(33): “اللهم قد سبق في علمك ومشيئتك وقدرتك عقوبه أهل النار الذين خلقتهم، اللهم فإن يكن قد سبق في مشيئتك التي لا تخلف أن تملأ النار من الناس أجمعين، فإنك قادر على أن تملأها بي وحدي وأن تذهب بهم جميعًا إلى الجنة”؛ وهذا القول ليس فيه من باب الجود والإيثار والسخاء بمعنى الكلمة، ولكنها أنانية في الحقيقة، أنانية العاشق الولهان الذي يريد القرب من محبوبه – وحيدًا – حتى ولو في العذاب، ويعبرون عن هذا العشق بمثل هذه الكلمات التي نجدها مستقاة من سكرهم وتوحيدهم في محبوبهم.

وعندما سُئل ذو النون المصري عن الأنس في حالة وجده وهيامه قال (34): “أن تأنس بكل وجه صبيح، وكل صوت فصيح، والله تبارك وتعالى فيما بينك وبين ذلك”، ويقول الشبلي: “الحب إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك”؛ وهذا يعني أن الحب الواله لا بدّ له من الشكوى، ويهيج من المحبة حتى ليكاد أن يحترق لو لم يبد ما عنده، ولا يستطيع الصبر على غيبة محبوبه، لذلك قال الله في حق أم موسى (ع) عند إلقائه في اليم وغيبته عنها: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾. (سورة القصص، الآية 10). ولو كان بين يديها لكتمته حرصًا عليه، وكذلك العارف إذا وصل إلى المعرفة بمحبوبه كتم سره حرصًا على البقاء في حضرته، وأدبًا من هيبته، وخشوعًا في حضرته، ولأنه بات في حضرة الفناء المطلق مترقيًا في الأسرار العلية فلا ينظر ما سواه وقد أغناه عن طلب غيره، وتلذذ بسريان السر فيه.

يروى أن يحيى بن معاذ كتب إلى أبي يزيد البسطامي قائلًا (35): سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السماوات والأرض وما روي بعد، ويقول هل من مزيد؟

 التصوف الإسلامي – كما يرى زكي مبارك(36) – له نثر شعر يمتاز بميزة عجيبة هي أنه لا يشغلك بالألفاظ، وإنما يشغلك بالمعاني، إنه يخفي دلالته الإيجابية المستمرة على الرغم من مظهره السلبي الخادع وطابع تشاؤمه الموغل في الحزن، ذلك أن هذا الأدب في مجموعه كان هروبًا من الحياة، وانسحابًا من الواقع المثقل بالأسى والظلم والتخلف، ولكن الصوفية عرفوا كيف يضفون على هذا الهرب أبعادًا تتجاوز مجرد الشكوى والأنات، وحزن الضعف والتواني عندما هربوا بفكرهم إلى الطبقات العليا من أجواء الروح المتعالية والنفس المتسامية والخيال الحر الطليق.

 النغم في الكلمة الصوفية عامر بنغمات الوجد وحرارة المعاناة وفرح المعاينة والانكشاف، وهي دليل على امتداد خيوط التجربة الصوفية في العشق الإلهي، وكيف أن التألق في التعبير عنها رهن بتوافر الصدق الشعوري الذي يتوهج من خلال قيم التعبير لتكتمل لهذه التجربة أبعادها في الحس والتذوق، وآثارها في القلب والوجدان، ولسوف تبقى هذه الخيوط والروافد مستمرة وممتدة في رحلة أهل التصوف مع الكون والحب الإلهي.

مراجع البحث

  • فاروق شوشه، أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهي، القاهرة، مكتبة الأسرة، 1997، الصفحة 17.
  • د. محمد جلال شرف، التصوف الإسلامي في مدرسة بغداد، الإسكندرية، دار المطبوعات الجامعية، 1975، الصفحة 255.
  • الشعراني، الطبقات الكبري، القاهرة، طبعة قديمة، الصفحة 4.
  • أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق جميل إبراهيم حبيب، بغداد، دار القادسية للطباعة، 1984.
  • الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف، طبعة القاهرة الأميرية، 1933، الصفحة 58.
  • التصوف الإسلامي، مرجع سابق، الصفحة 30.
  • د. محمد رجب البيومي، أشواق العارفين، إصدارات مجلة الأزهر، 2003، الفصل الخاص بالحسن البصري، الصفحة 32.
  • أبو هاشم الصوفي أول من أطلق علية لقب صوفي وكان من المالي، عاصر هارون الرشيد وفتكه بالبرامكة، أنظر: كمال مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، بغداد، طبعة كلية الآداب، 1963، الصفحة 291.
  • التصوف لمذهب أهل التصوف، مرجع سابق، الصفحة 96.

(10) عبد الحميد أحمد عبد الوهاب، سبيل النجاة في محبة أولياء الله، القاهرة، الشركة المصرية للطباعة والنشر، 1976، الصفحة 162.

(11) المصدر نفسه، الصفحة 164.

(12) دعاء منسوب إلى السيد أحمد البدوي، مأخوذ من كتاب مفاتيح الفرج، القاهرة، مطبعة النصر، 2001، الصفحة 74.

(13) المصدر نفسه، الصفحة 38.

(14) أشواق العارفين، مرجع سابق، الصفحة 46.

(15) جلال الدين الكركي، لسان التصريف بحال الوالي الشريف، تحقيق عاطف وفدي، المنصورة- مصر، مكتبة الرحمة المهداة، 2004، الصفحة 23.

(16) مفاتيح الفرج، مرجع سابق، الصفحة 30.

(17) أشواق العارفين، مرجع سابق، الصفحة 46.

(18) المصدر نفسه، الصفحة 47.

(19) المصدر نفسه، الصفحة 48.

(20) المصدر نفسه، الصفحة 159.

(21) أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهي، مرجع سابق، الصفحة 115.

(22) جوهرة الدسوقي، من أقوال الشيخ إبراهيم الدسوقي، القاهرة، مكتبة العلم والإيمان، بدون سنة نشر، الصفحة 101.

(23) المصدر نفسه، الصفحة 96.

(24) إنه يتحدث عن نفسه شارحًا البيت السابق.

(25) عبد الحفيظ القرني، سلطان العارفين، مصر، مكتبة الأسرة، 1997، الصفحة 155.

(26) المصدر نفسه، الصفحة 104.

(27) المصدر نفسه، الصفحة 107.

(28) التصوف الإسلامي، مرجع سابق، الصفحة 315.

(29) المصدر نفسه، الصفحة 34.

(30) إبراهيم الرفاعي، الحزب الكبير والصغير لسيدي إبراهيم الدسوقي، قنا- مصر، دار الرفاعي، 1993، باختصار.

(31) المصدر نفسه، الصفحة 34.

(32) لسان التعريف، مرجع سابق، الصفحة 199 وما بعدها.

(33) التصوف الإسلامي، مرجع سابق، الصفحة 270.

(34) أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهي، مرجع سابق، الصفحة 24.

(35) المصدر نفسه، الصفحة 33.

(36) المصدر نفسه، الصفحة 60.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.