نعيش في هذه الدنيا بين رجاء وأمل مع إيماننا التام بقضاء الله وقدره؛ فلولا الرجاء والأمل لانقطع العمل.

قبل الحديث عن الرجاء في الفلسفة والدين يجب أن نوضح مفردات البحث كالآتى:

تعريف الرجاء.

في اللغة (رجّ) الشيءُ رجًّا اضطرب فهو أرجُّ- رجاء رجّ ورجّه هزّه وحركه بشده[1].

في الاصطلاح: هو الأمل، وهو تعلق القلب بحصول شيء محبوب في المستقبل[2]. وقيل: هو الاستبشار بجود الله وفضله، والطمع في إحسانه وعطائه، مع بذل الجهد وحسن التوكل.

يقول الشيخ أحمد زروق رحمه الله: الرجاء هو السكون لفضله تعالى بشواهد العمل في الجميع وإلا كان اغترارًا[3].

الفرق بين الرجاء والتمني.

الرجاء: يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، أما التمني يكون مع الكسل وترك العمل، فمن بذل الأسباب بفعل الطاعات وترك المحرمات منتظرًا لرحمة الله وكرمه وإحسانه، فهذا هو الراجي، أما من انتظر شيئًا بدون بذل الأسباب فهو متمنيًّا[4].

مراتب الرجاء.

يبين ابن عجيبة رحمه الله مراتب الرجاء بأنها: “رجاء العامة وهو حسن المآب بحصول الثواب، ورجاء الخاصة بحصول الرضوان والاقتراب، ورجاء خاصة الخاصة وهو التمكين من الشهود وزيادة الترقي في أسرار الملك المعبود”[5].

العلاقة بين الفلسفة والدين.

إن هناك تكاملًا بين العقيدة الدينية والمعرفة الفلسفية، فهذه تدعم تلك. ومعارف العقل لا يمكن بحال من الأحوال أن تتناقض مع المعارف الدينية القائمة على الوحي، ومن أجل ذلك يقول الإمام أبو حامد الغزالى: “العقل كالأساس، والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء، ولم يثبت بناء ما لم يكن أساس.. فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل وهما متعاضدان، بل متحدان”[6].

فإذا كانت الفلسفة تدعو الإنسان إلى المعرفة والتأمل وحب الاستطلاع، من خلال التأمل واكتشاف الحقائق، واكتساب المهارات العقلية وحل المشكلات ومواجهتها بعقلانية، نجد أن آيات القرآن الكريم تدعو إلى كل ذلك في كثير من الآيات الكريمة.

الرجاء في الفلسفة.

اختلفت نظرة الفلاسفة القدامى والمحدثين للرجاء والأمل؛ فاعتبره بعضهم من المشاعر الإيجابية مثل ثوسيديدس في كتابه “تاريخ حرب البيلوبونيز”، أو كما عبّرت عنه أسطورة باندورا وصندوقها المليء بكل الشرور، والذي حوى إلى جانب هذه الشرور الرجاء بوصفه خشبة الخلاص الوحيدة للبشر.

أما كانط ففي كتابه “نقد العقل المحض” تحدث عن الحمامة التي تحلق بسرعة وترتفع أكثر فأكثر في أعالي السماء، كما لو أن لا حدّ لسرعة تحليقها. والحمامة في نصّه رمزٌ للرجاء والأمل، لكنه سرعان ما قال لنا إننا إن أنعمنا التفكّر في طيران هذه الحمامة، لفهمنا أنها لا تطير، وذلك بسبب الضغط الجوي وكثافة الهواء الذي يحملها. هذا يعني أن كانط يذكرنا بأن الأمل والرجاء، على أهميتهما في حياة الإنسان، لا يلغيان الواقع. ولعله يحذرنا من ضرورة عدم الاستغراق في الآمال التي تقود الإنسان إلى عالم من الأحلام البعيدة عن الواقع، وتمنعه من عيش اللحظة الراهنة، ولو كانت هذه اللحظة في معظم الأحيان مساحة للتعبير عن الشكوى.

واعتبر سورين كيركغارد وغابريل مارسيل، أن الأمل هو الوسيلة الوحيدة للتغلب على قيود الحياة. ولئن ربط كيركغارد الأمل أو الرجاء بالإيمان الديني، فإنه حرص في الوقت عينه على التأكيد أن الأمل يتجاوز كل شيء. هو “ترياق اليأس” الذي يلعب دورًا إيجابيًّا في حياتنا، وهو أيضًا على علاقة باحتمال حدوث الخير.

أما الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ، الذي اضطر للهروب من ألمانيا النازية، فقد ألّف كتابًا من ثلاثة أجزاء بعنوان: “مبدأ الأمل” أوضح فيه أن الوعي الإنساني قادرٌ على تخطي واقعه المتعثر أخلاقيًّا، ورسم ملامح عالمٍ مثالي أفضل لمواجهة المشكلات والتوترات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية التي تواجه العالم المعاصر، ويرى أن الرجاء والأمل هما اللذان يدفعان الإنسان إلى الحلم والتخيّل، واستنهاض الوعي الإنسانيّ لإصلاح الواقع القائم.

وعلى الجانب الآخر، نجد بعض الفلاسفة الذين يرفضون الرجاء والأمل أمثال شوبنهاور ونيتشه وكامو لكونه – في نظرهم – يعبّر عن عجز في مواجهة متطلبات الحاضر.

الرجاء في الدين.

اعتبر الفلاسفة المسيحيون أمثال أُغسطينوس وتوما الأكويني الرجاء والأمل، أحد أهم الفضائل التي يجب على المؤمن التحلي بها.

وفي الإسلام، نجد القرآن الكريم في مواطن كثيرة يحض على الرجاء والأمل في الله، ويجعل ذلك من أهم صفات المؤمنين، وينهى عن اليأس والقنوط، وهذه بعض المواطن القرآنية التي تحض على الرجاء:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. (سورة الزّمر، الآية 53).

 ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. (سورة البقرة، الآية 218).

 ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾. (سورة الإسراء، الآية 57).

 ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 28).

 ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾. (سورة العنكبوت، الآية 36).

 ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ (سورة فاطر، الآية 29).

 ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (سورة النساء، الآية 104).

بل إن القرآن الكريم جعل اليأس من روح الله كفر، والعياذ بالله؛ قال تعالى: ﴿وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (سورة يوسف، الآية 87).

وقال تعالى: ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ﴾ (سورة الحجر، الآية 56).

وجاء في الأحاديث القدسية:

(أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما يشاء)[7].

(يا ابن آدم، إنّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)[8].

والسنة النبوية تحض في كثير من الأحاديث على ضرورة التحلي بالرجاء في الله؛ وهذه بعض المواطن:

(لا يموتن أحدكم إلّا وهو يحسن الظن بربّه)[9].

 (الأمل رحمة لأمتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرًا)[10].

 (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتّى يغرسها فليغرسها)[11].

ومن حكم الإمام على بن أبى طالب (ع):

(ما اشتد ضيق إلا قرب الله فرجه)[12].

(أعظم البلاء انقطاع الرجاء)[13].

(أعظم المسلمين إسلامًا من اعتدل خوفه ورجاه)[14].

الرجاء والعمل.

يؤكد العلماء على ضرورة اقتران الرجاء بالأخذ بالأسباب، وكذلك التوازن بين الخوف والرجاء مع الخالق عز وجل.

دخل النبي (ص) على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله (ص): لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف[15].

وقال الإمام علي (ع): حسن الظن أن تخلص العمل وترجو من الله أن يعفو عن الزلل[16].

وقال أبو حامد الغزالى رحمه الله: “الراجي من بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات، ونقى القلب من شوك المهلكات وانتظر من فضل الله أن ينجيه من الآفات، فأما المنهمك في الشهوات منتظر للمغفرة فاسم المغرور به أليق وعليه أصدق”[17].

وقال معروف الكرخي: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق[18].

وبعد:

فإن الرجاء في الله سبحانه وتعالى والأمل في لطفه وعفوه هما سلاح المؤمن في هذه الدنيا، المليئة بالصعوبات والعوائق.

[1] المعجم الوجيز: مجمع اللغة العربية، نسخة خاصة بوزارة التربية والتعليم، 1992م، الصفحة 255.

[2] التعريفات للجرجاني، الجزء1، الصفحة 146.

[3] قواعد التصوف لأحمد زروق، الصفحة 74.

[4] الرجاء عبادة قلبية: شبكة الألوكة، متاح على:

 https://www.alukah.net/sharia/0/111104/%D8%A7%D9%84%D8%B1

[5] عبد الله أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، الصفحة 6.

[6] محمود حمدي زقزوق، الدين والفلسفة والتنوير، القاهرة، دار المعارف، بدون تاريخ، الصفحتان 19-20.

[7] المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، الجزء 4، الصفحة 642.

[8]  المتقي الهندي، كنز العمال، الجزء3، الصفحة 146.

[9] محمد بن أحمد الشربيني، مغني المحتاج، الجزء1، الصفحة 331.

[10] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء1، الصفحة 102.

[11] كنز العمال، مصدر سابق، الجزء3، الصفحة 892.

[12] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 3، الصفحة 2386.

[13] المصدر نفسه، الجزء 4، الصفحة 3704.

[14] علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، الصفحة 123.

[15] محمد بن إسماعيل الكحلاني، سبل السلام، الجزء2، الصفحة 90.

[16] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، الجزء 11، الصفحة 252.

[17] الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء4، الصفحة 143.

[18] أبي الفرج بن الجوزي، (597هـ)، المقلق، حققه وعلق عليه: مجدي فتحي السيد، طنطا، دار الصحابة للتراث، الطبعة الأولى، 1411 هـ – 1991 م، مقدمة المؤلف، الصفحة 29.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.