في زمنٍ تتكاثرُ فيهِ الشِّعاراتُ، يكادُ المرءُ لا يُفرِّقُ بينَ الحريةِ بوصفها قيمة أصيلة تنبعُ من جوهرِ الكرامةِ الإنسانيَّةِ، وبينَ الحريةِ بوصفها سلعة مُعلَّبة تُعرَضُ في واجهاتِ الأيديولوجيَّاتِ المُهيمنةِ. لقد غدتْ “الحريةُ” كلمةً سحريَّةً، تستدعي في المخيالِ العامِّ صورةَ الإنسانِ المُتحرِّرِ من القيودِ، المُستقلِّ في قرارِهِ، السَّيِّدِ في اختيارِهِ. لكن، هل هذا الإنسانُ موجودٌ حقًّا؟ أم أنَّهُ كائنٌ مُتوهَّمٌ، صُنِعَ في مختبراتِ الفلسفةِ الغربيَّةِ الحديثةِ، ليُقدَّمَ بوصفِهِ المعيارَ الوحيدَ للكرامةِ والتحرُّرِ؟
لسنا هنا في معرضِ التهوينِ من قيمةِ الحريةِ؛ فإنَّنا نُدركُ أنَّها من أنبلِ ما يَصبو إليهِ الإنسانُ، لكنَّها لا تُفهَمُ خارجَ سياقِها القِيميِّ والوجوديِّ. فالغربُ الذي صدَّرَ مفهومَ الحريةِ للعالمِ بوصفِها أحدَ أعمدةِ مشروعِهِ الحداثيِّ، هو ذاتهُ الَّذي حوَّلَ الحريةَ إلى أداةِ هيمنةٍ على الشُّعوبِ، والوعيِ، وهيمنةٍ على الذاتِ نفسِها. وما يُسمَّى اليومَ بـ “الإنسانِ الحرِّ” في المجتمعاتِ الليبراليَّةِ ليسَ إلّا كائنًا مُراقَبًا، ومُعدّ مُسبقًا، تُشكِّلُهُ الخوارزميَّاتُ، وتُعيدُ توجيهَهُ وسائلُ الإعلامِ والإعلانِ، ويُقنَّنُ وجودُهُ ضمنَ نماذجَ سلوكيَّةٍ مُعدَّةٍ سلفًا.
أمَّا في الرؤيةِ القرآنيَّةِ، فإنَّ الحريَّةَ لا تبدأُ من الفردِ، وإنَّما تبدأُ من الانعتاقِ من عبوديَّةِ ما سوى اللهِ. فهي – أي الحريةُ– مقامٌ روحيٌّ وخُلُقيٌّ لا يُنالُ إلَّا بالتزكيةِ والوعيِ، قبلَ أن تكونَ حقًّا قانونيًّا يُمنَحُ، أو امتيازًا اجتماعيًّا يُكتسَبُ؛ فهي تحرُّرٌ من الدَّاخلِ قبلَ أن تكونَ فكًّا للقيودِ الخارجيَّةِ.
في هذه الافتتاحيَّةِ، نفتحُ هذا النِّقاشَ عبرَ ثلاثةِ محاورَ: نبدأُ بتفكيكِ مفهومِ الحريةِ في الفلسفةِ الغربيَّةِ، ثمَّ ننتقلُ إلى تتبُّعِ آليَّاتِ التَّحكُّمِ الخفيِّ التي تُمارَسُ باسمِها في عالمِ اليومِ، ونختِمُ بالتَّأصيلِ الإسلاميِّ لفكرةِ الحريةِ باعتبارِها تحرُّرًا أخلاقيًّا من العبوديَّاتِ كلِّها، ما عدا عبوديَّةَ اللهِ وحدَهُ.
أوَّلًا: حفريَّاتُ المفهومِ.
تشكَّلتِ الحريةُ في الغربِ تاريخيًّا ضمنَ مساراتٍ متشابكةٍ من الصِّراعِ مع الدِّينِ والمَلَكيَّةِ والسُّلطةِ الكنسيَّةِ؛ فقد ارتبطت نشأتُها الحديثةُ بمطلبِ تحريرِ الفردِ من الإكراهِ الخارجيِّ، لا سيَّما من سُلطةِ الكنيسةِ، ما أدَّى إلى تصوُّرِها بوصفِها انعتاقًا من كلِّ قيدٍ، بما في ذلك القيودُ الخُلُقيَّةُ أو الغائيَّةُ.
هكذا تحوَّلتِ الحريةُ في الفلسفةِ الليبراليَّةِ إلى مبدأٍ فردانيٍّ محضٍ، يُعلي من شأنِ الإرادةِ الذاتيَّةِ باعتبارِها أصلًا في كلِّ تشريعٍ، ومعيارًا للحقيقةِ. والنَّتيجةُ: أنَّ الحريةَ أصبحت تُساوى بالاختيارِ، أيًّا يكن موضوعُهُ أو غايتُهُ.
هذه النَّقلةُ الفلسفيَّةُ جذَّرَتْها مدارسُ الحداثةِ الغربيَّةِ، من (جون لوك-John Locke) إلى (جان جاك روسو-Jean-Jacques Rousseau)، ثمَّ (إيمانويل كانط-Immanuel Kant)؛ حيث جرى تقديسُ “الفردِ العاقلِ” وجعلُهُ مرجعًا للحقيقةِ والحقِّ، في قطيعةٍ مع كلِّ مرجعيَّةٍ خارجيَّةٍ، سواءٌ أكانت دينيَّةً أم مجتمعيَّةً.
لكنَّ هذه الذاتِ التي جرى تبجيلُها بوصفِها حرَّةً، ما كانت في الحقيقةِ إلا كائنًا مُفرَّغًا من الغايةِ، ومُنفصلًا عن الجماعةِ، ومطوَّقًا بهاجسِ السِّيادةِ الفرديَّةِ. وهنا يكمنُ الوهمُ الأوَّلُ: فالحريةُ التزامٌ بمعنى، والمعنى غائبٌ في الرؤيةِ الليبراليَّةِ التي جرَّدتِ الإنسانَ من بُعدِهِ الغائيِّ، وتركَتْهُ يتخبَّطُ في فردانيَّةٍ مفرطةٍ.
هذا الاختزالُ للحريَّةِ بوصفِها “حريَّةً من” (freedom from) دونَ أن تكونَ “حريةً لأجل” (freedom for)، أفرزَ مآزقَ حضاريَّةً عميقةً؛ فالفردُ الذي تحرَّرَ من الدِّينِ والأسرةِ والتَّقاليدِ، وجدَ نفسَهُ أسيرًا لنزواتِ السُّوقِ، وإملاءاتِ الثقافةِ الاستهلاكيَّةِ، وعنفِ التَّنافسيَّةِ الاقتصاديَّةِ. وهكذا انقلبتِ الحريةُ إلى قيدٍ غيرِ مرئيٍّ، وتحوَّل “الاختيارُ” إلى آليَّةِ تضليلٍ تُمارَسُ باسمِها كلُّ أشكالِ الإكراهِ النَّفسيِّ والتَّسليعِ الوجوديِّ.
لقد باتَ الإنسانُ الغربيُّ “حرًّا” في اختيارِ نمطِ حياتِهِ، لكنَّهُ غيرُ قادرٍ على الخروجِ من القالبِ الذي صاغَهُ له النِّظامُ الرأسماليُّ؛ يُخيَّلُ إليهِ أنَّهُ يختارُ، بينما هو يتحرَّكُ داخلَ دائرةٍ مُغلقةٍ من الإغراءاتِ المصمَّمةِ، والحريَّاتِ الموجَّهةِ، والمساراتِ المُسبقةِ. وهذا ما يجعلُ من مفهومِ الحريةِ –في صورتِهِ الغربيَّةِ– شعارًا مُضلِّلًا، لا يكشفُ عن الواقعِ بقدرِ ما يحجبُهُ.
إنَّ نقدَنا هنا ينطلقُ من مساءلةِ البنيةِ الفلسفيَّةِ التي أُقيمَت عليها في المشروعِ الغربيِّ، وليسَ رفضًا مُطلَقًا لمبدأِ الحريَّةِ؛ حيث جعلَ الغربُ من الحريةِ أداةَ تفكيكٍ بدلًا من أن تكونَ وسيلةَ تحرُّرٍ، وأفضت إلى نوعٍ من التَّحرُّرِ العدميِّ الذي يهدمُ كلَّ شيءٍ دونَ أن يؤسِّسَ لبديلٍ قيميٍّ أو خُلُقيٍّ.
ثانيًا: الحُريَّة المراقَبة.
إذا كانتِ اللّيبراليَّةُ قد صاغتِ الحُرِّيةَ نظريًّا على قاعدةِ الفَردانيَّةِ وسيادةِ الإرادةِ، فإنَّ الممارسةَ الواقعيَّةَ كشفتْ عن مُفارقةٍ صادمةٍ؛ فالإنسانُ الّذي ظنَّ نفسَهُ حُرًّا، باتَ اليومَ أكثرَ خضوعًا من أيِّ وقتٍ مضى، لا لسوطِ السّلطةِ، وإنّما لِرقابةٍ ناعمةٍ تُمارَسُ عليهِ باسمِ حُرِّيَّتِه نفسِها.
لقد دخلنا عصرًا أضحتِ الرّقابةُ فيهِ تُمارَسُ من كلِّ مكانٍ؛ حيث تُعيدُ الآلاتُ والتقنيّاتُ صياغةَ الذّاتِ والوعيِ والمعنى، وتُخضعُ الأفرادَ لأنماطٍ سلوكيّةٍ غيرِ مرئيّةٍ تحتَ لافتةِ الحُرِّيةِ الشخصيَّةِ.
إنَّنا اليومَ بإزاءِ نمطٍ جديدٍ من الاستعبادِ: استعبادٍ رقميٍّ، وعاطفيٍّ، ونفسيٍّ، تُنتِجُهُ ثلاثُ قُوى متداخلةٌ:
١– الخوارزميّاتُ: حيثُ صارت تطبيقاتُ الهواتفِ ووسائلُ التّواصلِ تُصمِّمُ سلوكَ المستخدمِ، وتضبطُ انتباهَهُ، وتوجِّهُ رغباتِه. فالحرِّيةُ هنا تعني التّفاعلَ ضمنَ نطاقٍ ضيّقٍ من الخياراتِ المصمَّمةِ بعنايةٍ لخدمةِ رأسِ المالِ. والإنسانُ لا يُدركُ أنّهُ داخلَ قَفَصٍ؛ لأنَّ القَفَصَ شفّافٌ، وجذّابٌ، ومليءٌ بالمتعةِ اللحظيَّةِ.
٢– الدّعايةُ والإعلانُ: أصبحتِ الحُرِّيةُ اليومَ أداةً أيديولوجيَّةً ضخمةً تُدارُ من قِبَلِ شبكاتِ الإعلامِ والتّسويقِ؛ حيثُ تُغذَّى العقولُ بمفاهيمَ جاهزةٍ عن الحُرِّيةِ، تُختَزَلُ غالبًا في “حُرِّيَّةِ اللّباسِ، حُرِّيَّةِ المُتعةِ، حُرِّيَّةِ الجسدِ”، بينما يتمُّ تغييبُ القضايا الكبرى كالعدالةِ، والكرامةِ، والسّيادةِ، والمقاومةِ.
٣– الرّقابةُ الذّاتيّةُ المُبرمَجةُ: وهي أخطرُ أشكالِ الاستعبادِ؛ حينَ يُعيدُ الفردُ إنتاجَ قيدِهِ بيدِهِ، ويمارسُ الرّقابةَ على ذاتِهِ وفقَ ما جرى تلقينُهُ مسبقًا عن طريقِ الثّقافةِ العامَّةِ. إنَّهُ الفردُ الّذي يتوهَّمُ حُرِّيتَهُ، بينما هو يعيشُ داخلَ نظامٍ من الانضباطِ الذّاتيِّ المُصمَّمِ بعنايةٍ ليجعلهُ مُطيعًا دونَ أن يشعرَ.
من هنا، فإنَّ ما يُقدَّمُ في الغربِ بوصفِه فضاءً حُرًّا للفردِ، هو في جوهرِهِ فضاءٌ مُراقَبٌ، ومُوجَّهٌ، وخاضعٌ لمنطقِ السّوقِ والسّلطةِ التّقنيَّةِ. فالحرِّيةُ تُمارَسُ ضمنَ بيئةٍ تُصوغُ الخياراتِ مُسبقًا. والمواطنُ “الحُرّ” في المجتمعِ الليبراليِّ ليسَ أكثرَ من مُستهلِكٍ تُغذَّى رغباتُهُ بوسائلَ خفيَّةٍ، وتُحدَّدُ قناعاتُهُ دونَ وعيٍ منهُ، ويجري دفعُهُ لاتِّخاذِ قراراتٍ يظنُّها مُستقلَّةً، وهيَ في الحقيقةِ مُصمَّمةٌ ضمنَ بنى هيمنةٍ ناعمةٍ.
إنَّ مأساةَ الإنسانِ الحديثِ تكمنُ في غيابِ الوعيِ بأنَّهُ غيرُ حُرٍّ، وفي تسليمِ العقلِ، والضّميرِ، والذّوقِ لمراكزِ تصنيعِ الرّأيِ والموقفِ. وهنا، تنقلبُ الحُرِّيةُ إلى وَهْمٍ مُضاعَفٍ: وَهمِ الحُرِّيةِ في الفكرِ، ووَهمِ الحُرِّيةِ في السّلوكِ. وبينَ هذينِ الوهمَينِ، يُعادُ إنتاجُ الاستعبادِ بأكثرِ صورِهِ تقدُّمًا وخِداعًا.
وهذا ما يجعلُ من “الحُرِّيةِ” في زمنِ التّكنولوجيا الليبراليَّةِ مفهومًا خادعًا، يخدمُ مصالحَ كبرى تتخفَّى خلفَ شعاراتِ المساواةِ والانفتاحِ، بينما هيَ في جوهرِها مشاريعُ تطويعٍ، وتحويلِ الإنسانِ إلى رقمٍ، وسلوكٍ، ومنتَجٍ قابلٍ للتسويقِ والاستبدالِ.
في هذا السّياقِ، تُصبحُ الحاجةُ ماسَّةً إلى رؤيةٍ بديلةٍ للحُرِّيةِ، لا تنخدعُ ببريقِ الاختيارِ، وإنَّما تُفتِّشُ عن جوهرِ التَّحرُّرِ الحقيقيِّ؛ تَحرُّرِ الإنسانِ من العبوديّاتِ الخفيَّةِ، ومن القوالبِ الجاهزةِ، ومن الانقيادِ الغريزيِّ؛ وهيَ رؤيةٌ لن تتأتَّى إلّا من مرجعيَّةٍ تتجاوزُ السّوقَ، والتّقنيةَ، والإعلانَ.
ثالثًا: عبودية الله وطريق التحررّ.
في مقابلِ التَّصوُّرِ الغربيِّ الّذي جعلَ الحُرِّيةَ انفلاتًا من كلِّ قيدٍ، تطرحُ الرؤيةُ الإسلاميَّةُ مفهومًا نوعيًّا مُغايرًا للحُرِّيةِ، يقومُ على التَّحرُّرِ من كلِّ عبوديَّةٍ ما عدا اللهِ. فالإنسانُ في القرآنِ ليسَ كائنًا حُرًّا على نحوٍ مُطلقٍ، كما أنّهُ ليسَ مُقيَّدًا قهرًا بالطَّبيعةِ أو القَدَرِ، وإنَّما هو كائنٌ مُكلَّفٌ، يعيشُ بينَ الإمكانِ والاختيارِ، وبينَ القَيدِ والمسؤوليَّةِ، وتتحقَّقُ حُرِّيتُهُ عندما يتحرَّرُ من طغيانِ الهوى، وسطوةِ الجماعةِ، وإملاءاتِ السُّلطانِ، ليخضعَ فقط لمرجعيَّةٍ ربَّانيَّةٍ واحدةٍ هيَ اللهُ تعالى.
إنَّ جوهرَ الحُرِّيةِ في التَّصوُّرِ القرآنيِّ هو في تحريرِ الإرادةِ من أهوائِها، وتوجيهِها نحوَ الحقِّ. فالقرآنُ لا يُمجِّدُ الحُرِّيةَ بوصفِها مُطلقًة، وإنَّما يربطُها دومًا بالهدايةِ، والعقلِ، والتَّقوى، ويجعلُ من عبادةِ اللهِ ذروةَ التَّحرُّرِ. وفي هذا السِّياقِ، يمكنُ فَهمُ قولِ أميرِ المؤمنينَ (ع): “لا تَكُنْ عبدَ غيرِكَ وقد جعلَكَ اللهُ حُرًّا”[3]. وهذهِ دعوةٌ لتحريرِ الذَّاتِ من التَّبعيَّةِ العَمياء، والدُّخولِ في أفقِ العُبوديَّةِ الواعيةِ الّتي تُخرجُ الإنسانَ من ذُلِّ الخُضوعِ للنَّاسِ إلى عزِّ الطَّاعةِ للهِ.
وهكذا، لا تقومُ الحُرِّيةُ في الإسلامِ على مبدأِ “افعلْ ما شِئتَ”، بل على قاعدةِ “كُنْ حُرًّا في طاعةِ الحقِّ”، وهذا جوهرُ الفرقِ بينَ الحُرِّيةِ الخُلُقيَّةِ، والحُرِّيةِ العَدَميَّةِ. فالحرِّيةُ الّتي لا تقودُ إلى الخيرِ، ولا تنتهي إلى معنى، هي مجرَّدُ انحرافٍ في الإرادةِ، أو عبَثٍ باسمِ الإرادةِ.
وهذا يعني أنَّ الحُرِّيةَ الحقيقيَّةَ تبدأُ من الدَّاخلِ؛ من أن تكونَ سيِّدَ نفسِكَ لا عبدَ شهوتِكَ، وأن تتحرَّرَ من الحاجةِ إلى الاعترافِ الخارجيِّ، أو الانتماءِ إلى قطيعٍ يُزوِّدُكَ بالشُّعورِ بالأمانِ.
أمَّا على المستوى الاجتماعيِّ، فإنَّ الإسلامَ لا يفصلُ الحُرِّيةَ الفرديَّةَ عن المسؤوليَّةِ الجماعيَّةِ، وإنَّما يرى أنَّ الحُرِّياتِ يجبُ أن تُمارَسَ ضمنَ أفقِ العدالةِ، وحفظِ كرامةِ الإنسانِ، وصَونِ المصلحةِ العامَّةِ. فحرِّيةُ القولِ لا تعني تدميرَ الثَّوابتِ، وحرِّيةُ الجسدِ لا تعني تفكيكَ الأسرةِ، وحرِّيةُ الاعتقادِ لا تعني التَّرويجَ للإلحادِ والفسادِ. فالحرِّيةُ تُقاسُ بمدى ارتباطِها بالحقِّ، والرَّحمةِ، والعَدلِ، وهذهِ هي مقاييسُ الوحيِ.
ولأنَّ الحُرِّيةَ علاقةٌ تأسيسيَّةٌ بينَ الإنسانِ والحقِّ، فإنَّ الإسلامَ لا يُطلِقُ للفردِ العِنانَ ليُعيدَ تعريفَ الخيرِ والشَّرِّ وفقَ هواهُ، وإنَّما يُرشِدُهُ إلى المعاييرِ الّتي تجعلُ حُرِّيتَهُ طريقًا إلى الارتقاءِ لا إلى السُّقوطِ. فالمجتمعُ الحُرُّ في المنظورِ الإسلاميِّ هو ذلكَ الّذي تُبنى فيهِ الحُرِّياتُ على أساسِ التَّكليفِ، وتُمارَسُ ضمنَ ميثاقٍ أخلاقيٍّ، وتنتهي إلى مقصدٍ إنسانيٍّ لا فردانيٍّ.
من هنا، فإنَّ ما يسمِّيهِ الغربُ “قيودًا دينيَّةً” هو في حقيقتهِ ضوابطُ للتَّحرُّرِ من عبوديَّةِ العالمِ، وما يسمِّيهِ “تحرُّرًا فرديًّا” هو في كثيرٍ من الأحيانِ تسليمٌ ناعمٌ لسلطةِ المالِ، والإعلامِ، واللَّذَّةِ. وبينَ الوهمَينِ، تُضيءُ الرُّؤيةُ الإسلاميَّةُ طريقًا ثالثًا: طريقَ العُبوديَّةِ للهِ الّتي لا تُقيِّدُ الإنسانَ بل تُحرِّرُهُ؛ لأنَّها لا تستنزفُ إرادتهُ بل تُهذِّبُها، ولا تُعزِلُهُ عن الجماعةِ وإنَّما تُؤنسِنُهُ فيها.
وهكذا، فالحُرِّيةُ في الإسلامِ سبيلُ نجاةٍ أُخرويَّةٍ، لا تكتملُ إلّا بالاختيارِ الواعي، والطَّاعةِ الصَّادقةِ، والانخلاعِ من كلِّ سُلطانٍ سوى سُلطانِ الحقِّ. ومَن لم يذقْ هذا النَّوعَ من الحُرِّيةِ، فقد يبقى طليقًا في الظَّاهرِ، لكنَّهُ عبدٌ من حيثُ لا يدري.
خاتمة.
ففي زمنٍ تُختزلُ فيهِ القِيَمُ إلى منتجاتٍ دعائيَّةٍ، تبدو الحُرِّيةُ – كما يُروَّجُ لها اليوم – أقربَ إلى الوهمِ منها إلى الحقيقةِ. فالإنسانُ المعاصرُ، وهو يتباهى بما يملكهُ من “خياراتٍ”، لا ينتبهُ إلى أنَّ هذه الخياراتِ قد صيغت سلفًا، وأنَّ “إرادتَهُ” قد خضعت لإعدادٍ ثقافيٍّ وتكنولوجيٍّ دقيقٍ، جعلهُ يُقدِّمُ على نفسهِ تصوُّراتٍ لا تخصُّهُ، وقراراتٍ لم تنبع من أعماقِه، إنَّما زُرِعَت فيهِ باسمِ التَّحرُّرِ.
لقد فضحتِ التَّجربةُ الغربيَّةُ تناقضاتِها؛ فالليبراليَّةُ الّتي طالما تغنَّت بالحُرِّياتِ، كانت – في عمقِها – مشروعًا لإعادةِ هندسةِ الإنسانِ خارجَ أيِّ أفقٍ غائيٍّ أو خُلُقيٍّ، الأمرُ الّذي أدَّى إلى نوعٍ من الفراغِ الوجوديِّ، والاستسلامِ لمراكزِ قوًى خفيَّةٍ تتحكَّمُ بالوعي والسُّلوكِ تحتَ قناعِ “الحُرِّيةِ الشَّخصيَّةِ”. وها هو الإنسانُ الغربيُّ اليومَ يعيشُ داخلَ سجنٍ بلا جدرانٍ، يُحاصرُ من الدَّاخلِ لا من الخارجِ، ويُقايضُ حُرِّيتَهُ الحقيقيَّةَ بجرعاتٍ مُصمَّمةٍ من التَّسليةِ، والاختيارِ، والمُتعةِ المؤقَّتةِ.
في المقابلِ، يُقدِّمُ الإسلامُ رؤيةً تحرُّريَّةً أصيلةً، لا تبدأُ من الجسدِ وإنَّما من الرُّوحِ، وتُبنى على وعيِ العُبوديَّةِ للهِ. فعلى الحُرِّيةِ – في ضوءِ الوحيِ – أن تختارَ القيدَ الّذي يسمو بكَ، لا الّذي يستعبدُكَ من حيثُ لا تدري. وهنا يكمنُ الفارقُ الجوهريُّ: الحُرِّيةُ في الإسلامِ مشروعُ تزكيةٍ، لا مشروعُ تَفَلُّتٍ، ومسارٌ نحوَ الكرامةِ، لا سقوطٌ في العَدَميَّةِ.
إننا بأمسِّ الحاجةِ إلى تفكيكِ الأُسُسِ الفلسفيَّةِ الّتي اختزلت الحُرِّيةَ في الفردِ المعزولِ، بعيدًا عن الغايةِ، والمجتمعِ، والقِيَمِ. ولسنا نملكُ في هذا السِّياقِ منظومةً أعمقَ وأصدقَ من الهَدي القرآنيِّ الّذي يربطُ الحُرِّيةَ بالحقِّ، ويجعلُ من عُبوديَّةِ اللهِ وحدَهُ الطَّريقَ الوحيدَ للتَّحرُّرِ من سائرِ العبوديَّاتِ.
والحمد لله أولًا وآخرًاTop of FormBottom of Form
[1] هذا البحث هو افتتاحيّة العدد الثامن من مجلة (أمم) للدراسات الإنسانيّة والاجتماعيّة والتي تصدر عن مركز براثا للدراسات والبحوث في بيروت.
[2] مفكّر لبناني، مدير مركز براثا للدراسات والبحوث، ورئيس تحرير مجلة “أمم“.
[3] الشريف الرضي، نهج البلاغة، الجزء3، الصفحة51.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
