مفتتح

ثمة مفاهيم ومصطلحات ثريّة من الناحية الفلسفية والمعرفية والسياسية، إذ إن البحث في مضمونها وآفاقها، يوصل الباحث إلى تخوم علوم ومعارف وتخصصات علمية عديدة. ولعل من هذه المفاهيم الثرية والغنية بحمولتها الفلسفية والمعرفية والسياسية مفاهيم الحرية والعدالة والمسؤولية، فهي من المفاهيم التي تُشكِّل حجر الأساس في منظومة الكثير من القيم والمبادئ الفرعية.

ولا يمكن أن نبحث أي مبحث فلسفي أو معرفي أو سياسي، دون الاقتراب من مضامين هذه المفاهيم، بل هناك العديد من النظريات والمذاهب الوضعية التي تَشكَّل واكتمل بناؤها المعرفي على قاعدة هذه المفاهيم، وإن بعض التباين أو الاختلاف بين هذه النظريات والمذاهب الوضعية يعود إلى التباين والاختلاف في طبيعة العلاقة بين مفهوم الحرية ومفهوم العدالة؛ فالحرية في بعدها الفردي تعني أن يعيش الإنسان الفرد حرًّا، أي دون قيد أو شرط يحدُّ أو يعوق حريته، أما إذا نظرنا إلى الحرية بمعنى مجموع الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية فنحن هنا بحاجة إلى تدابير أخلاقية ومؤسسية لحفظ حقوق الناس الذين يُشكِّلون مجتمعًا واحدًا، وهذا لا يتحقق دون العدالة. فالحرية كقيمة متداخلة في أبعادها وآفاقها مع العدالة كقيمة وممارسة، ولا يمكن على مستوى الواقع الخارجي من تحقيق أحدهما دون الآخر، فالحرية هي حجر الأساس لمفهوم العدالة، إذ لا عدالة دون حرية، كما أن العدالة هي التي تغني مضمون الحرية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ لا حرية حقيقية في أي تجربة إنسانية دون عدالة.كما أنه لا حرية حقيقية ولا عدالة ناجزة دون مسؤولية ذاتية.

وحتى تتضح صورة العلاقة بين الحرية والعدالة نقترب من المفاهيم والمعاني المتداولة لمفهوم الحرية؛ إذ ذكرت تعريفات عديدة للحرية وأوصلها (آيزايا برلين) في كتابه (حدود الحرية) إلى مئتي تعريف، إلَّا أن الجامع المشترك بين أغلب هذه التعريفات هو إزالة المعوقات من طريق اختيار الإنسان، وهو يقول في تعريفه لها: “إنني أعد الحرية فقدان الموانع من طريق تحقق آمال الإنسان وتمنياته”، ويرى في موضع آخر من الكتاب أنها تعني عدم تدخل الآخرين في أنشطة الفرد وأعماله. فالحرية وفق (آيزايا برلين) هي جزء من الذات البشرية، أي إن طبيعة الإنسان تنزع نحو الحرية، لأنها جوهر الإنسان، وهو (أي الإنسان) موجود ساعٍ نحوها، وهذا معناه أنها من لوازم إنسانيته. وحرية الأفراد بطبيعة الحال ليست مطلقة، لأننا لو أطلقنا حرية الأفراد فإن مجموع هذه الحريات ستتعارض وتتناقض مما يحول دون أن يعيش أحد مع أحد، أي إننا لا نستطيع أن نؤسس مجتمع، والمجتمعات الإنسانية لا تتأسس إلَّا على قاعدة التفكيك بين الحريات الفردية ومصالح الآخرين؛ إذ إن المجموع الإنساني يحتاج إلى صيانة وضمان حرياته الفردية، ولكن على نحو لا تضر بمصالح الآخرين النوعية، والمظلة التي تستظل بها مصالح الآخرين النوعية هي قيمة العدالة. وطبقًا لرؤية (جون ستيورات مل) فإن العدالة تتطلب تنعُّم الأفراد بالحد الأقل من الحرية، ومن هنا يجب في بعض الأحيان -ولو عن طريق الإجبار – منع صيرورة حرية بعض الأفراد مخلة بالحريات للآخرين. ويتحدث (آيزايا برلين) في كتابه الآنف الذكر عن هذه الحقيقة بقوله: “تنقلب الحرية السلبية أحيانًا إلى القول بتساوي حرية الشاة والذئب، فإذا لم تتدخل القوة القاهرة فإن الذئاب سوف تقوم بافتراس الأغنام، ومع ذلك لا يجوز أن يصنف هذا مانعًا للحرية. نعم، إن الحرية اللامحدودة للرأسماليين تُفضي إلى إفناء حرية العمال، والحرية اللامحدودة لأصحاب المصانع، أو الآباء والأمهات، تؤدي إلى استخدام الأولاد في العمل في مناجم الفحم الحجري. لا شك في أنه تنبغي حماية الضعفاء أمام الأقوياء والحد من حرية الأقوياء على هذا الشكل، ففي كل حالة يتحقق فيها القدر الكافي من الحرية الإيجابية لا بدّ من الإنقاص من الحرية السلبية، أي إنه يجب أن يكون هناك نوع من التعادل بين هذين الأمرين حتى لا يجري أي تحريف للأصول المبرهنة”. فللإنسان كامل الحرية في قناعاته وأفكاره واختياراته، ولكن ليس له الحق في التعدي على قناعات الآخرين واختياراتهم، وإذا كانت اختياراته تضر بالآخرين فإنه، ومن منطلق العلاقة الحميمة بين الحرية والعدالة، يمنع من اختياره الضار إلى المجتمع لصيانة قيمة العدالة. فالعلاقة جدُّ دقيقة بين الحرية والعدالة، وعليه لا يصح باسم المجتمع امتهان كرامة الإنسان الفرد أو التعدي على حريته، كما أنه لا يصح باسم حرية الإنسان التعدي على حريات الآخرين، فالحرية قيمة إنسانية كبرى ولا تُحدُّ إلَّا بقيمة إنسانية كبرى مثلها وهي العدالة.

من هنا لا يصح ولا يجوز لأي إنسان أن يجبر الآخرين على القبول بعقيدة معينة أو فكرة محددة، فمن حق الإنسان (أي إنسان) حق التفكير والتأمل، ولا يمكن لأي أحد أن يفرض رأيه أو عقيدته عليه، فاللإنسان كامل الحق في الاختيار، وهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية اختياره، فالله سبحانه وتعالى وهبنا حق الاختيار في ظل المسؤولية، فلنا حق الاختيار وفق الإرادة الربانية، وعلينا أن نتحمل كامل المسؤولية في الدنيا والآخرة لاختيارنا. والله سبحانه وتعالى لم يمنح أحد سلطة اتخاذ القرارات والتدابير نيابة عن أحد، فللإنسان كامل الحق والحرية في الاعتقاد والاختيار، ولكن ممارسة هذه الحرية تكون في نطاق العدالة والمسؤولية؛ لهذا هو وحده الذي يتحمل مسؤولية اختياره وعمله، وبهذا نخرج الإنسان من دائرة القوانين الجبرية، وندخله في دائرة الحرية والمسؤولية، فهو حر ومسؤول في آن واحد.

وفي تقديرنا، إن المجتمعات التي تتمكن من صياغة العلاقة على نحو دقيق بين الحرية والعدالة، هي المجتمعات التي تنعم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي. أما المجتمعات التي لا تتمكن لأسباب ذاتية أو موضوعية من صياغة العلاقة بين الحرية والعدالة على نحو إيجابي، فهي مجتمعات ستعاني من صعوبات كبرى في استقرارها وأمنها الاجتماعي والعام.

فعلى قاعدة الحرية بكل حمولتها القيمية وآفاقها الإنسانية يتحقق الإيمان العميق. بمعنى أن الإنسان كلما ازداد عبودية لله تعالى بوصفه القوة المطلقة والقادرة على كل شيء، تحرّر هذا الإنسان من عبودية العباد، وانعتق من كل الأغلال والإكراهات، لأنه اتصل وتعلق قلبيًّا وسلوكيًّا بقدرة لا متناهية، تمده، ويستمد منها القوة للتحرر المعنوي والمادي من كل الأغلال والقيود.

فالإيمان الحقيقي لا يُبنى إلَّا على قاعدة الحرية والقدرة على الاختيار، وبالتالي فإن الإنسان وحده هو الذي يتحمل مسؤولية خياراته وقراراته؛ فالعلاقة بين قيم الإيمان والحرية والمسؤولية وفق الرؤية الإسلامية علاقة عميقة ومتداخلة، ولا يمكن التفكيك بينهما، فالحرية هي التي تعيد للإنسان إنسانيته، وهي التي تقوده إلى الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى؛ لكون الإيمان وتشريعاته منسجمة وفطرة التكوين المركوزة في الإنسان، وبالتالي فإن هذا الإنسان الذي يصنع حريته ويمارس اختياره هو وحده من يتحمل مسؤولية اختياره.

والمسؤولية هنا مسؤولية ذاتية، بمعنى أن الإنسان الذي يتحرر من كل الضغوط والأغلال، ويمارس حريته بوعي، ويقرر خياراته بقصد، هو وحده من يتحمل كل المسؤوليات المتعلقة بخياراته وقراراته. وفي هذا السياق قد تكون قيمة العدالة هي الوجه الآخر لقيمة المسؤولية، أي لكوننا مسؤولين عن اختياراتنا، فالله سبحانه وتعالى سيحاسبنا على ضوء هذه الاختيارات الحرة، وهذا هو عين العدالة. بمعنى أن الإنسان لا يحاسب إلَّا على أعماله الذاتية، التي اتخذها بحرية تامة، ودون إكراهات وضغوطات.

لذلك نستطيع القول: إنه كلما تعمَّق الوعي السليم بمعاني الحرية الإنسانية تقدمنا إلى الأمام في هذا المسار الصعب والتاريخي. لذلك نجد أن القرآن الحكيم يدعو الإنسان المسلم إلى رفض القوى التي تحول دون رؤية الحق والحقيقة. قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[1]. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[2].

فالإنسان المسلم مطالب قرآنيًّا بالتحرر من كل أنواع التسلط، حتى يتسنى له اكتشاف الحقيقة، وتحديد المواقف، وتشكيل القناعات استنادًا على الفكر الحر.

والتاريخ الإنساني في مسيرته الطويلة، هو عبارة في أحد وجوهه، عن تاريخ الكفاح الإنساني للانعتاق من كل الموانع والعقبات التي تحول دون الحرية والكرامة. فالحرية ليست ضد الأخلاق، وإنما هي صنوها وهي أس الأخلاق الاجتماعية، وهي مع القوانين والضوابط المنسجمة وفطرة الإنسان ووجدانه، وهي شرط تحقيق المجتمع التاريخي ومحرك الفعل الحضاري، وهي أساس استقلال المجتمع كونه سيدًا على نفسه ومصائره المتعددة.

وحتى التعرُّف إلى الدين والدعوة إليه، تعتمد على حرية الاختيار المتجسدة في السبيل الموصل إلى الدين القائم على نفي الإكراه وعلى الاقتناع والدفع بالتي هي أحسن بعيدًا عن التشنج والقهر والقسر وكل أشكال الإكراه. قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[3].

والإيمان بالله سبحانه وتعالى يتأسس على قاعدة حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان عن فعله وكسبه، بحيث تكون ممارساته قائمة على اختياراته. قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[4]. وهذا السلوك والمنحى الذي لا يناقض العدالة في الدنيا والآخرة، ولا يفارق الحرية في مستوياتها المتعددة في المجتمع، هو الذي يجعل الإنسان فاعلًا، مختارًا، حرًّا، مسؤولًا عن اختياراته وأفعاله.

والحرية في الاختيار لا تعني -بأي حال من الأحوال- عدم تحمل المسؤولية، والهروب من آثار اختياراته وقناعاته. قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا *وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾[5]. فالإنسان ينبغي أن ينطلق في تحديد اختياراته من موقع التفكير والتأمل العميق، وذلك لأنه المسؤول الوحيد عن اختياراته. فإذا كانت سيئة أدت به إلى المزيد من الخضوع للأهواء والشهوات، وهذا هو طريق جهنم. وإذا كانت حسنة كان فيها نجاته في الدارين. فالحرية لا تعني إطلاق أهواء الإنسان وغرائزه، وجعلها دون ضوابط أخلاقية وقانونية. فإن الغرائز المنفلتة من كل الضوابط لا تسمى حرية، وإنما تحلّلًا وافتئاتًا على القانون والمنظومة الأخلاقية الإنسانية. فالحرية ليست تحقيق اللذة، وإنما تحقيق الحقوق والواجبات في كل الدوائر والمجالات والمساحات.

وبداية الحرية في المنظور الإسلامي هي نفس الإنسان، فينبغي لها أن تتحرَّر من كل القيود والأغلال والأهواء والنوازع التي تحول دون حريته وانعتاقه الحقيقي. فالحرية قبل أن تكون سلوكًا سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، هي قدرة نفسية تتخلص من كل الأغلال والقيود، ومن النزعات المخالفة لقيمة الحرية.

وهذا يعني “أن الله أعطى للإنسان خلقه وزوده بالوسائل اللازمة التي تكفل له استمرار الحياة. وهو قادر على أن يسلب ذلك منه في كل لحظة.. ومنحه، في نطاق ذلك، الإرادة الحرة التي يستطيع من خلالها أن يمارس حريته في سلوك الطريق الذي يحلو له بعيدًا عن كل ضغط تكويني. فإذا اختار الشر كان الشر فعله، من خلال الأدوات التي منحها الله له… فليس الشر مخلوقًا لله بنحو المباشرة، وليس مرادًا له بنحو الرضا. ولكنه فعل الإنسان، من خلال إرادة الله التي تربط بين السبب والمسبب، فتقتضي أن يوجد المسبب وهو الفعل إذا تعلقت إرادة الفاعل المختار به، مع توفر الشروط الأخرى لوجوده. وبذلك كانت علاقة الله بالأشياء من خلال خلقه للقوانين التي تنتجها، ومن جملتها إرادة الإنسان واختياره، فلا جبر للإنسان لأن الخيط الأول في المسألة مربوط بيده وهو حرية الإرادة، ولا تفويض له، لأن الخيط الثاني، وهو وسائل القدرة بيد الله، فهو القادر أن يبقيها حيث شاء، وأن يزيلها حيث يريد”[6].

فحجر الأساس في الحرية أنها لا تنجز إلَّا على أساس قوانين الحوار والاختيار لدى الفرد والجماعة. والحرية وفق هذا المنظور هي مفتاح التقدم، وطريق تعبئة الطاقات والإمكانات ومشاركتها جميعًا في البناء والعمران.

والمحيط الذي يحارب الحوار هو محيط مستبد وقمعي، حتى لو رفع راية الحرية. لأنه لا يمكننا أن نتصور حرية بلا حوار. فهو قرين الحرية، ووسيلتها في تعميم القيم ونشر القناعات والمبادئ. و”عملية الحوار تتنافر بطبيعتها مع الإجابات الجامدة، والمسلمات المتحجرة، والأنساق المطلقة، وهيراركية العارفين، وكهنوت الآباء المقدسين، فإن هذه العملية تنفي نقائضها التي تكبح حركتها، وتقاوم ما يحد من قدرتها بما تؤسسه من وعي ضدي، يرفض صفات الإطلاق والتسليم والتقليد، الخنوع والإذعان، وكل ألوان التسلط والإرهاب”[7].

وفي المقابل نستطيع القول: إنه “بقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الإرهاب. وإذا كان الإرهاب إلغاءً لوجود الآخر، ونفيًا لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدرات التسليم والتصديق، ومسكنات الإذعان والاستسلام، ومبررات بطريركية الفكر أو مطريكية الثقافة. إن الإرهاب يتولد من رفض لغة الحوار وشروطه، أي تسلطية الصوت الواحد، من الإيمان بأن ما تقوله وحدك هو الحق، وأن الحق ملك خاص لك، ومن التسليم بأن فردًا ما، فكرًا ما، زعيمًا ما، يمتلك ما يجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأننا إزاء مجلى النبي الملهم، أو الصورة البشرية للحقيقة الكلية”[8].

الحرية وحق الاختلاف.

لا يمكن مقاربة مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي المعاصر بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف. وأساس حق الاختلاف في المنظور الإسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدون ويستفرغون جهدهم في سبيل الإدراك والفهم. وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولًا للجميع.

“فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني، وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لا بدّ من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه. فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقًّا، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من ظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري، وكما تتجلَّى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلَّى بين الجماعات أيضًا. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة”[9].

ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصًا أو عيبًا بشريًّا يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيس من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار. حيث إن “الحرية أساس، والسلطة قيد ولكنها ضرورة اجتماع. ولكي تقوم السلطة دون الإخلال بأساس الحرية لا بدّ من أن تكون قيود السلطة مشتقة من قواعد الحرية. حيث لا يجوز تقييد الأخيرة إلَّا بقواعدها وليس بإرادة خارجة عنها. وبهذا التحديد تغدو شرعية السلطة ثمرة لاختيار البشر الحر في تعيينها. وإذ ذاك يغدو الاختلاف (حقًّا) مصونًا بشرعية السلطة نفسها، وبنفيه تنفي السلطة شرعيتها أي تنفي ذاتها”[10].

والإيمان الديني لا يمكنه التخلي تمامًا عن أي تعاون مع الأفكار والمبادئ العقلية، ففهم القضايا والمفاهيم الدينية، وإيصالها رسالتها إلى الإنسان والعالم بطريقة مقنعة ومفهومة لكل الناس، يستدعي التوسل بوسائل عقلية والتواصل المباشر مع كل القضايا العقلية؛ لهذا لا يوجد على المستوى الواقعي مفكر ديني سواء كان مسلمًا أو مسيحيًّا يرفض العقل على نحو الإطلاق، فشخصيات مثل وترتوليان وبيتر دامين، ولوثر، وباسكال التي تعد من ألد أعداء العقلانية، لم ترفض العلاقة بين الإيمان والعقل رفضًا أساسيًّا وحاسمًا، وإنما اتخذت نمطًا معينًا من العقلانية، وفي المقابل في أنصار النص الديني لم يهدفوا عزل العقل عن مساحات الدين نهائيًّا.

“ومن المهم القول: إن للعقل استخدامات مختلفة، وفيما يتَّصل بعلاقته بالدين يمكن تصور ستة أدوار ومواقف متباينة له، وهي:

  1. دور العقل في مقام فهم معاني القضايا والعبارات الدينية.
  2. دوره في مقام استنباط القضايا الدينية من النصوص المقدسة.
  3. دوره في مقام التنسيق والملائمة بين العقل والدين.
  4. دوره في مقام تعليم القضايا الدينية.
  5. دوره في مقام الدفاع عن القضايا الدينية.
  6. دوره في مقام إثبات القضايا الدينية وتسويغها”[11].

فدائمًا الإنسان المؤمن وانطلاقًا من فلسفة الحياة وفق منظوره الإيماني، يرغب ويطمح أن تكون حياته بأطوارها المتعددة منسجمة وإيمانه، وغير متطابقة مع حياة غير المتدين أو المؤمن، وهذا لن يتأتَّى على الصعيد الواقعي دون الحرية التي توفر للإيمان فلسفة شاملة للحياة، وتخلق لديه الإرادة الإنسانية المستديمة لتحويل مفردات وحقائق إيمانه إلى واقع معيش.. و”إن غسل التعميد بالنسبة إلى المسيحي، وذكر الشهادتين بالنسبة إلى المسلم، بداية طريقهم إلى طلب الحقيقة، فهذه الممارسات تعني وضع الأقدام في الطريق والشروع بالخطوات الأولى، ولا تفيد الوصول إلى الغاية”[12].

فثمة آصرة لا انفصام لها بين الإيمان والعقل، بمعنى آخر بعث الله للبشر حجتين: إحداهما حجة ظاهرة، والثانية حجة باطنة، وبالتالي فالعقل والرسول كلاهما من سنخ واحد، ويصبان في سياق واحد، والعلاقة بين العقل والوحي كالعلاقة بين العين والنظارات، وليست من قبيل علاقات التضاد.

لهذا، فإن المطلوب باستمرار أن يعرض الإيمان الديني للإنسان (الفرد) دومًا على النقد والعقل النقدي، والغاية من هذا النقد هي تنقية الإيمان، ورفع الحجب، والوصول إلى الطبقات العميقة من التجربة والإيمان الدينيين، وهذا يعني على المستوى الواقعي والمعرفي أن هناك قابلية للإيمان على التحول والتطور من خلال التجارب الروحية والمعرفية والإنسانية، فالعقل بكل تجلياته يساهم مساهمة فعلية في صناعة الإيمان، أَوَلَم يُبعث الأنبياء العظام لتذكير العقل وإحياء مكتسباته الإنسانية “ويثيروا لهم دفائن العقول”؛ لهذا كان الأنبياء جميعًا يدعون الناس إلى الإيمان، ويستخدمون في دعوتهم كل البراهين والحكم البيِّنة. ومن الجلي أن الشيء إذا لم يكن معقولًا يقبل البرهنة فلن يقبل الدعوة العقلية. وتأسيسًا على هذه الرؤية فإن للمعارف العصرية والعقلية الراهنة مدخلية أساسية في تكوين الإيمان، أي إن “الركائز الفكرية لكل إنسان، والتي بواسطتها تُفهم فكرة الله وتُفسر، أو يتضح معنى الرسول ودورة النبوة، تستمد من العلوم والمعارف المتوفرة في كل عصر.. هذه العلوم والمعارف، أي المعارف الموجودة للعالم، سواء كانت معارف فلسفية أم تجريبية، هي الأدوات الوحيدة التي تجعل تصورات الإنسان وتصديقاته حول الله والرسول ممكنة، وأسس الفكر الديني لدى الإنسان لا ترتوي إلَّا من هذا المنهل”[13]. وهذا لا ينفي قدرة الإنسان من خلال فطرته المركوزة أن يتعرف إلى الخالق سبحانه من خلال إزالة أستار الغفلة والحجب المختلفة عن قلب وفطرة الإنسان السوي. وانطلاقًا من معنى الإيمان المفتوح على كل التجارب الذاتية والمعرفية فإن هذا الإيمان يتمحور حول حرية الإنسان؛ لأن الإيمان -كما اتضح أعلاه- هو عمل اختياري يقوم به الإنسان بفضل إرادته وحريته.

فالإيمان هو وليد اختيار الإنسان الحر دون إكراه أو تعسف من أحد، ولهذا فإن اختيارات الإنسان وخياراته في مختلف المجالات هو وحده الذي يتحمل مسؤوليتها. وبهذا يتشكل الثالوث الذهبي في الوجود الإنساني (الإيمان – الحرية – المسؤولية)، فأنت حر في عقائدك ومعتقداتك وخياراتك، وبمقدار حريتك أنت مسؤول عنها، وتتحمل وحدك مسؤولية اختيارك.

وحتى تتضح العلاقة الجدلية بين هذه الحقائق (الإيمان – الحرية – المسؤولية) نحاول أن نوضح النقاط التالية:

  1. معنى الإنسان الحر، وطبيعة علاقته بمفهوم الحرية.
  2. معنى الفردية، وطبيعة علاقتها بالإيمان والمسؤولية.
  3. الحرية والفكر الآخر.

 في معنى الإنسان الحر.

كل البشر الأسوياء يعشقون الحرية، ويأملونها، ويطمحون إليها. وكلهم أيضًا يرفضون الرق والعبودية وجعل الأغلال على حياتهم وعقولهم، ويأنفون من كل المحاولات التي تسعى للتضييق على حرية الإنسان أو تقييدها؛ وذلك لأن الحرية والقدرة على الحركة والاختيار منسجمة وفطرة الإنسان، وكل الحقائق والممارسات المضادة لذلك هي محل نبذ ورفض من قبل الإنسان؛ لأنها مخالفة لفطرته ومفارقة لطبيعته الإنسانية السوية.

فالحرية بالنسبة إلى الإنسان هي جزء من طبيعته وفطرته؛ لذلك فإن جميع البشر الأسوياء، بصرف النظر عن أديانهم وقومياتهم وأيديولوجياتهم ومناطقهم، ينشدون الحرية ويتطلعون إليها على المستويين الفردي والجماعي.

والحرية في هذا السياق، سواء في بعدها النظري أو بعدها التطبيقي، ليست مشروعًا ناجزًا، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية. ومن يتعامل مع الحرية في مستوياتها الإنسانية والسياسية والاجتماعية بوصفها حالة مكتملة أو ناجزة، فإنه لن يتمكن من تعميقها في واقعه الاجتماعي والعام، فهي دائمًا بحاجة إلى الإرادة الإنسانية المستديمة التي تعمل وتكافح من أجل تعزيز حقائقها في الفضاء الاجتماعي. وبمقدار ما تتوافر الإرادة الإنسانية الجمعية بالقدر ذاته ينعم الإنسان فردًا وجماعة ببركات وخيرات الحرية.

لهذا، فإن الحرية دائمًا وفي كل التجارب الإنسانية والتاريخية، ليست ادِّعاءً يُدَّعى، أو لقلقة لسان، وإنما هي رؤية وممارسة تتَّجه دومًا صوب إنسانية الإنسان، وإزالة كل الركام الذي يحول دون ممارسة الإنسان لحريته وإنسانيته.

وإن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الإصلاحية، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي: أن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف.

لهذا، فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي مرهون بحرية الإنسان وفاعليته الحضارية التي لا يمكن أن تنجز على الصعيد الواقعي دون أفق الحرية والإصلاح.

من هنا فإنه لا حرية دون أحرار، ولا ديمقراطية دون ديمقراطيين.

وإن كل حرية بلا أحرار حرية شكلية، وأن كل ديمقراطية دون ديمقراطيين هي شكلية وفوقية أيضًا.

 الفردية والحرية أية علاقة.

ثمة سؤال عميق ومركزي يُثار باستمرار في الدائرتين العربية والإسلامية، مفاده: لماذا لم نتمكن كشعوب وتجارب ثقافية وسياسية عديدة، من بناء مؤسسات عامة مستقرة، بحيث تنتقل مسؤولية إدارتها وتسييرها من جيل لآخر، بحيث ينطلق الجيل الجديد في إدارة هذه المؤسسة من نقطة النهاية التي وصل إليها الجيل السابق؟

وهل عدم قدرتنا على بناء العمل المؤسسي وطغيان الأعمال الشخصية والفردية، وقدرة بعض الذوات الشخصية على التهام المؤسسة وتوظيفها بما يخدم مصالحه وأغراضه الخاصة والشخصية، هو بفعل عوامل ثقافية، أو بسبب طبيعة التربية والتنشئة الاجتماعية، أم هناك أسباب أخرى تحول دون قدرتنا على بناء عمل مؤسسي مستقر وثابت؟ ولماذا تمكنت الشعوب الغربية من بناء مؤسسات مستقرة في كل حقول الحياة، بحيث انتقلت من طور حضاري إلى طور آخر أكثر تميزًا وحيوية وحضارة؟

في تقديرنا، أن الإجابة العميقة والدقيقة حول أسباب عدم قدرتنا على بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، تتجاوز مصالح الأفراد الضيقة، وتعمل من أجل المصالح العامة والموضوعية، هو أحد المداخل الضرورية لاكتشاف طبيعة الخلل الذي تعانيه مجتمعاتنا على أكثر من صعيد ومستوى.

فالتجربة الغربية الحديثة استطاعت أن تتخلص من حروبها الدينية والقومية، وتبني لنفسها نظامًا استيعابيًّا لكل تنوعها وقومياتها، بحيث تحوَّلت شعوب الدول الغربية من شعوب متخاصمة ومتحاربة بعضها مع بعض، إلى شعوب متعاونة بعضها مع بعض، ومتنافسة في طريق البناء والتقدم والعمران.

ونحن لا زلنا كشعوب عربية وإسلامية، نرزح تحت نير خلافاتنا ونزاعاتنا الدينية والمذهبية والقومية، ولا يلوح في الأفق أية قدرة حضارية لدينا لتجاوز هذه المحنة وحروبها بكل تداعياتها الكارثية ومآزقها الراهنة والمستقبلية، كما أن التجربة الغربية تمكّنت من صياغة رؤيتها الحضارية للسياسة وإدارة الدول وفق نسق حضاري – ديمقراطي، تجاوزت من خلاله نزعات الاحتكار والهيمنة والغطرسة واختزال الدولة في شخص الإمبراطور، فانتقلت -بفعل عوامل عديدة- من دولة الإمبراطور إلى دولة المؤسسات، ومن نظرية الحق الإلهي الذي كانت تحتكره الكنيسة إلى نظرية العقد الاجتماعي، التي تسمح وتطالب الشعب والمجتمع بممارسة دوره في اختيار حكامه وشكل نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

بينما لا زلنا نحن لم نتجاوز خلافاتنا التاريخية، ولا زلنا أسرى حروب وأحقاد آبائنا وأجدادنا.

لماذا استطاعت الشعوب الغربية أن تُغيِّر وضعها الحضاري وتنتقل إلى مرحلة أخرى، بحيث أضحت اليوم هي رائدة التقدم والتطور في أغلب مجالات الحياة؟

ولماذا لم نتمكن نحن أن نتجاوز عيوبنا ومآزقنا، ولماذا لا زلنا أسرى تخلفنا وتقهقرنا الحضاري؟

يبدو لي أن أحد الأسباب العميقة لهذه المفارقة الحضارية هو التالي:

أن الشعوب الغربية استطاعت عبر ثقافتها وتقاليدها الاجتماعية وأنظمتها السياسية أن تعيد الاعتبار للفرد/ المواطن في الشعوب الغربية، بعد أن ألغته الكنيسة بفعل نظامها الشمولي وكرهها للحرية ومزاولة الأفراد لمسؤولياتهم العامة.

ولقد أجاد الأستاذ (لويس دومون) في رصد حركة التطور الفكري والأيديولوجي اتجاه مفهوم الفردانية في التجربة الغربية في كتابه الموسوم بـ (مقالات في الفردانية – منظور أنثروبولوجي للأيديولوجية الحديثة)، والذي قامت المنظمة العربية للترجمة بترجمته وطباعته. فالتحول الحضاري في التجربة الغربية بدأ انطلاقته مع بداية التحول الأيديولوجي باتجاه الرؤية والموقف من الفرد والفردانية كمفهوم ودور وموقع.

فالفردية التي مورست على نحو إيجابي في التجربة الغربية، بعيدًا عن الأثرة والأنانية والتفلُّت من الأنظمة والقوانين، هي التي قادت التجربة الغربية إلى اجتراح فرادتها، وبناء مؤسساتها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية على أسس صلبة، بحيث ضمنت لهذه الشعوب الاستقرار السياسي مع حيوية اجتماعية ودينامية علمية، تراكمت فيه الخبرة والتجربة والعطاء، فأنتجت مؤسسات ذات جذور عميقة في مجتمعها، وحريصة على مصالحه الكبرى والاستراتيجية. فالفردية ليست نكرانًا للذات، أو إعدامًا لطموحاتها وآمالها القريبة والبعيدة، وإنما هي حضور دائم وحيوية مستديمة وطموحات لا حدود لها، مع قانون شفاف وواضح، ويساوي بين الجميع، ولا يُحابي أحدًا.

فالطموحات الفردية قادت إلى الاكتشاف والإنجاز والابتكار والاختراع والجد والاجتهاد في البناء والعمران.

والقانون العادل ضمن حقوق الجميع، ومنع التعديات، وحال دون الطغيان والاستئثار، فكانت النتيجة: التقدم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي، والاستقرار السياسي والمدني، وتداول مؤسسي للسلطة والقوة بين مختلف مكونات النخب في التجربة الغربية.

فالفردية وفق المفهوم الحضاري هي أحد العوامل الأساسية التي قادت الغرب للتطور وصناعة المنجزات الحضارية الرائدة.

من هنا، فإننا نعتقد أن الطريق إلى بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا وتجربتنا، يتطلب العمل على إعادة الاعتبار لمفهوم الفردية في بيئتنا الثقافية والاجتماعية؛ لأن قمع الأفراد وقتل طموحاتهم وتطلعاتهم لا يفضي إلى بناء مؤسسات، بل يؤدي إلى سديم بشري، ليس قادرًا على فعل شيء ذي بال على الصعيد الحضاري والمؤسسي.

ونكران الذات كقيمة لا تؤسس لحيوية مستديمة ودينامية قادرة على اجتراح فرادتها التاريخية. وإنما هي قادرة على تكرار تجارب الآخرين دون روحها وحيويتها، واستنساخ خطوات الآخرين ومبادراتهم دون ظرفها الاجتماعي والتاريخي، ودون الكتلة التاريخية التي تقف وراءها وتمدها بأمصال الحياة والحيوية والإنجاز.

فالعلاقة جدُّ ضرورية وحيوية بين إعادة الاعتبار إلى الفردية وممارستها على نحو إيجابي وحضاري والعمل المؤسسي. فالمؤسسات لا تُبنى على أنقاض الأفراد، بل تبنى على حضورهم وشهودهم وفعاليتهم الذاتية.

وحينما تغيب الفردية يبقى السديم البشري، ولا يمكن للسديم البشري أن يبني مؤسسة، أو يشيد تجربة متميزة.

والفردانية الحديثة في التجارب الحضارية المعاصرة، هي عنصر الحيوية والفعالية فيها، كما أنها منصة الانطلاق للإبداع والابتكار والتميز.

وحينما ندعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى مفهوم الفردية، فإننا ندرك أهمية أن تمارس هذه الفردية على نحو إيجابي بعيدًا عن الأنانية والانحباس في المصالح الضيقة.

والممارسة الإيجابية تستند إلى قيمة المسؤولية الذاتية والعمل الصالح، وأن الله سبحانه وتعالى لن يُثيبنا على عمل غيرنا، وإنما على عملنا، وإن الحساب الأخروي سيطال أعمالنا وأدوارنا بعيدًا عن أي اعتبار آخر. فإذا أردنا الفلاح الدنيوي والأخروي، ينبغي علينا كآحاد أن نقوم بدورنا في هذه الحياة، ونتحمل مسؤولية وجودنا. هذا في البيئة والخلفية الفلسفية والثقافية لممارسة الفردية على نحو إيجابي.

فتعالوا جميعًا إذا أردنا النجاح، واجتراح تجربتنا الذاتية، وبناء مؤسسات تتجاوز حدود ومصالح الأشخاص الضيقة، أو التي تدور مدار هؤلاء الأشخاص، أن نعيد الاعتبار للفرد في مجتمعنا، ونتعامل معه بوصفه هو حجر الأساس في كل مشروع.

وحدها الفردية الإيجابية هي التي تهيّئ الأرضية والمناخ لصناعة الفعل المؤسسي المتميز والمستقر في فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي.

 الحرية والفكر الآخر.

من الطبيعي القول: إن كل إنسان يحمل فكرًا وثقافة فهو سيعتز بهما، ويدافع عنهما، بصرف النظر عن قناعة الآخرين بهذا الفكر أو هذه الثقافة؛ فالإنسان بطبعه نزَّاع إلى الاعتزاز بفكره وثقافته والتقاليد والأعراف المترتبة عليهما.

وهذا الاعتزاز هو الذي يقوده للعمل على تعميم هذا الفكر، وتوسيع دائرة المؤمنين بالثقافة التي يحملها.

والبشر جميعًا يشتركون في هذه الحقيقة. فالإنسان بصرف النظر عن دينه أو معتقده أو بيئته الثقافية والحضارية، يعتز بأفكاره، ويدافع عنها، ويوضح بركاتها، ويسوق حسناتها.

وفي سياق اعتزاز الإنسان بفكره يعمل عبر وسائل عديدة إلى تعميمه، ودعوة الآخرين إلى تبني الأفكار ذاتها.

وهذه الطبيعة ليست محصورة في إنسان دون آخر، أو بيئة ثقافية دون أخرى، فالإنسان بطبعه يريد ويتمنى ويتطلع أن يحمل كل الناس الأفكار التي يحملها، ويتبنى كل البشر الثقافة التي يتبناها. وعلى الصعيد الواقعي والإنساني تتزاحم هذه الإرادات، وتتناقض هذه الدعوات، فكل إنسان وأمة يعمل على تعميم ثقافته ونمطه الحضاري، مما يولد الصدام والمواجهة، وإن تعددت أساليب الصدام والمواجهة، تبعًا لطبيعة الثقافة وبيئتها الاجتماعية والحضارية وأولوياتها.

وبفعل هذا الصدام سيعمل بعض الأطراف، للاستفادة من القوة لفرض رأيه، أو تعزيز منطقه وثقافته، وبالقوة ذاتها يمنع الطرف الآخر من بيان وتوضيح رأيه وثقافته.

وهذه الممارسة الإقصائية تأخذ أشكالًا عديدة ومسوغات متنوعة، فتارة يتم الحديث عن أنه لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية. فباسم الديمقراطية نُقصي الآخرين، ونقمع أفكارهم، ونمنعهم من ممارسة حقوقهم العامة، لكونهم في نظرنا من أعداء وخصوم الديمقراطية.

وتارة باسم مجابهة الباطل والضلال تتم عمليات الحرب الفكرية ومشروعات الإقصاء والتهميش. فنحن نحارب الفكر الفلاني لكونه في نظرنا من الباطل الذي يجب محاربته، وهكذا يتم قمع فكر الآخر، تحت عناوين ويافطات، لا تمت بصلة إلى المعرفة والثقافة والفكر.

فلا يمكن الدفاع عن الحق بالباطل، ومن يلجأ للدفاع عن حقه وفكره بأساليب ووسائل باطلة هو يشوه فكره، ويحرمه من حيويته وفعاليته.

فالجدال بغير التي هي أحسن لا يُفضي إلَّا إلى المزيد من الجحود والبعد عن الفكر الذي تدافع عنه بوسائل لا تنسجم وطبيعة الفكر الذي تحمل. فالإنسان الذي لا يمتلك الثقافة والعلم الواسع، فإنه يدافع عن قناعاته بطريقة تضر بها حاضرًا ومستقبلًا، فالأفكار لا تُقمع، والقناعات لا تُصادر، مهما كانت قناعتنا بها، ومن يقمع فكر الآخرين لأي اعتبار كان، فإنه يحوله إلى فكر مظلوم ومضطهد، سيتعاطف معه الناس وسيدافعون عنه بوسائلهم المتاحة.

لهذا فإننا نعتقد أننا نُعطي للفكرة الخطأ قوتها حينما نمنعها من حريتها، ونمارس بحقها عمليات القمع والحضر والمنع.

فالأفكار لا تمنع وتقمع، وإنما تناقش بالأساليب العلمية والموضوعية، ويتم الحوار معها بعيدًا عن نزعة الإلغاء والمنع.

فـ”أعطِ الحرية للباطل تُحجِّمه، وأعطِ الحرية للضلال تُحاصره؛ لأن الباطل عندما يتحرك في ساحة من الساحات، فإن هناك أكثر من فكر يواجهه، ويمنعه من أن يفرض نفسه على المشاعر الحميمة للناس، فيكون مجرَّد فكر، قد يقبله الآخرون وقد لا يقبلونه، ولكن إذا اضطهدته، ومنعت الناس من أن يقرؤوه، ولاحقت الذين يلتزمونه بشكل أو بآخر، فإن معنى ذلك أن الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة، وسيكون (الفكر الشهيد) الذي لا يحمل أية قداسة للشهادة؛ لأن الناس يتعاطفون مع المضطهدين سواء مع الفكر المضطهد، أو مع الحب المضطهد، أو مع العاطفة المضطهدة.

إنني أتصور أن الإنسان الذي يملك قوة الانتماء لفكره، هو إنسان لا يخاف من الفكر الآخر؛ لأن الذين يخافون من الفكر الآخر هم الذين لا يثقون بأفكارهم، وهم الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عنها؛ لذلك، لينطلق كل إنسان ليدافع عن فكره في مواجهة الفكر الآخر، ولن تكون النتيجة سلبية لصاحب الفكر في هذا المجال”[14].

ودائمًا الفكر الضعيف هو الذي يحتاج إلى ممارسة الظلم والعسف اتجاه الفكر المقابل.

أما الفكر القوي فهو لا يخاف من الحرية والحوار، ونصاعته ومتانته لا تبرز إلَّا في ظل الحرية التي تتناقش فيه الأفكار بحرية، وتتحاور فيه الثقافات بدون تعسف وافتئات.

فالفكر القوي يصل إلى كل الساحات من خلال غناه وثرائه، لا من خلال وسائل المنع والقمع والحضر، والفكر الضعيف هو وحده الذي يحتاج إلى القمع والقوة لفرض قناعاته على الآخرين؛ لهذا كله فإننا نرى أن التعامل مع الفكر الآخر ينبغي أن ينطلق من أساس الحرية، وحقه في التعبير عن نفسه وقناعاته في ظل القانون، وأن عمليات المنع والحضر هي مضادة للحرية الفكرية وطبيعة الاشتغال الثقافي والعقلي.

فللفكر الآخر حقه الطبيعي في التعريف بنفسه، وبيان متبنياته، وللآخرين حق النقد والمناقشة والتقويم والتفكيك.

فالقيم الحاكمة بين الأفكار وأهلها هي قيم الحرية والاحترام والنقد والتمحيص.

أما المنع والقمع والحضر فإنها ممارسات تميت الحياة الفكرية والثقافية، وتؤدي إلى غرس بذور أمراض خطيرة ومزمنة في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية.

ومن الضروري في هذا الإطار أن نتجاوز حالة الرهاب التي قد تصيبنا أو تصيب بعض مكوناتنا من الفكر الآخر ووسائطه الثقافية المختلفة. فالرهاب من الفكر الآخر لا ينتج إلَّا منطق المنع والإقصاء، وإطلاق الحروب على الفكر الآخر، أما الحرية والانفتاح والتواصل مع الفكر الآخر، فهو يُغني الساحة، ويُهذِّب الأفكار ويطوِّرها، ويحول دون عسكرة الحياة الثقافية والعلمية.

فالفكر الآخر لا يُخاف منه، وإنما ينبغي الحوار معه، والانفتاح على قضاياه، والتواصل مع مبانيه ومرتكزاته، حتى نتمكَّن من استيعابه والحؤول دون تطرُّفه واندفاعه نحو الدهاليز المظلمة، التي تحوِّله من فكر إلى حقائق بشرية، تمارس التشدد والتطرف على قاعدة أن أفكارها لم يُسمح لها بالوجود بالوسائل السلمية والحضارية.

فلكيلا ينزلق المجتمع صوب التطرف، نحن أحوج ما نكون إلى قيمة الانفتاح والحوار مع الفكر الآخر بعيدًا عن الرهاب ونزعات الإقصاء والنبذ.

ومجمل القول: حين التأمل في النصوص التأسيسية للإسلام نجدها تعتمد بشكل أساس على قيمة الحرية، وتعتبرها هي القيمة الأساسية التي تمنح تصرفات الإنسان معناها الحقيقي والجوهري. فلا عبرة لتصرفات الإنسان التي يقوم بها تحت الإكراه، كما أنه لا عبرة لأي ممارسة يقوم بها الإنسان دون حرية واختيار.

فالتصور الإسلامي للإنسان قائم على حريته وقدرته على الاختيار ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[15].

[1] سورة البقرة، الآية 170.

[2] سورة المائدة، الآية 104.

[3] سورة البقرة، الآية 256.

[4] سورة البلد، الآيات 8-10.

[5]سورة الإسراء، الآيات 29-31.

[6] ‏السيد محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، بيروت، دار الزهراء، الطبعة الأولى، 1984م، المجلد الرابع، الجزء (9ـ10)، الصفحة 174.

[7] جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير، بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994م، الصفحة 266.

[8] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[9] مجلة المنطلق، العدد 115، ربيع – صيف 1996م/1417هـ، الصفحة 13.

[10] مجلة المنطلق، المصدر السابق، ص17.

[11] محمد جعفري، العقل والدين في تصورات المستنيرين الدينيين المعاصرين، ترجمة حيدر نجف، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2010م، الصفحة 24.

[12] مصطفى ملكيان، التدين العقلاني، ترجمة عبد الجبار الرفاعي، وحيدر نجف، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، الطبعة الأولى، 2012م، الصفحتان 7 – 8.

[13] محمد مجتهد شبستري، مدخل إلى علم الكلام الجديد، بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 2000م، الصفحة 33.

[14] السيد محمد حسين فضل الله، كتاب الندوة، بيروت، دار الملاك، الطبعة الثانية، 2000م، الجزء الرابع، الصفحة 159.

[15] سورة الإنسان، الآية 3.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.